|
مغامرة تأسيس دار نشر للكتاب الورقي
عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 22:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد الجبار الرفاعي بوصفي كنت قارئًا، وما زلت وسأبقى قارئًا ما دمت حيًا، فأنا مدين لكل معلم كبير من الكتّاب الذين قرأت لهم، ومدين أيضًا لكل من منحني فرصة اللقاء المباشر بمعلميّ من الكتّاب المبدعين، ورؤية الوجود في ضوء كلماتهم التي منحتني القدرة على العيش، وأهدتني بهجة معانقة النجوم. حدثني الصديق محمد عدنان سالم، مؤسس دار الفكر بدمشق، أنه كان يبيع من كل كتاب يطبعه سبعمئة نسخة لصاحب دار المثنى في بغداد قاسم محمد الرجب، خلال خمسينيات القرن الماضي، وكان يستلم ثمنها قبل صدور الكتاب.كما أخبرني قبل أربعين عامًا صاحب مكتبة جعفري تبريزي في طهران، وهو ناشر كان معروفًا قبل أكثر من نصف قرن بطهران، أن دار المثنى كانت تعيد بالأوفست طباعة ثلاثة آلاف نسخة من نشرات المستشرقين المحققة للتراث العربي، الصادرة في القرن التاسع عشر عن دار E. J. Brill في مدينة لايدن بهولندا، ومطبعة لايبزغ في مدينة لايبزغ بألمانيا، وغيرهما من المطابع ودور النشر الأوروبية العريقة المهتمة بالتراث الشرقي، فكان لا يوزع منها في إيران سوى ألف نسخة، ويرسل ألفي نسخة إلى دار المثنى في شارع المتنبي ببغداد. هذه أمثلة عاجلة على اقتصاديات سوق الكتاب في بغداد والعراق، حين كان عدد سكان العراق لا يتجاوز خمسة ملايين في خمسينيات القرن الماضي. أما اليوم، وقد بلغ العدد ستةً وأربعين مليونًا، فإن تسويق أفضل الكتب لا يتعدى في أحسن الأحوال ألف نسخة، يجري بيعها في سنوات عديدة. لا أنكر أن عدد القراء اليوم أكبر بكثير مما كان في القرن العشرين، كما أشرت إلى ذلك في كتابي: "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب"، غير أن نوع الكتاب تغيّر، وتبدلت أساليب القراءة والتلقي. أصبح اليوم أغلب مَن يملك هاتفًا ذكيًا أو جهازًا لوحيًا يقرأ إلكترونيًا، لذا يشهد الكتاب والصحافة الورقية انحسارًا متسارعًا في السنوات الأخيرة. لتوسيع قاعدة القراء وتقليل التكاليف؛ لجأت الصحف والمجلات في العالم إلى إصدار نسخة إلكترونية، والاحتفاظ بأرشيف دائم على الإنترنت. وأصبح عدد قراء النسخ الإلكترونية في معظم هذه الصحف أكبر بكثير من قراء النسخ الورقية، ما اضطر صحفًا ومجلات عريقة إلى حجب النسخة الورقية والاكتفاء بنسختها الإلكترونية. فمثلًا في الولايات المتحدة صدرت The Star-Ledger من نيوجيرسي عام 1832 وظلت ورقية نحو 190 عامًا قبل أن تتوقف مؤخرًا عن الطباعة وتتحول إلى إلكترونية. تليها صحيفة Seattle Post-Intelligencer التي تأسست عام 1863 وأصدرت طبعتها الورقية الأخيرة في 17 مارس 2009 لكن لم تختفِ تمامًا، بل تحولت مباشرة إلى نسخة رقمية عبر موقعها الإلكتروني، ومنذ ذلك التاريخ صارت صحيفة رقمية فقط، مع فريق تحريري أصغر بكثير مما كان في زمن النسخة الورقية. ثم The Atlanta Journal-Constitution التي تأسست سنة 1868 وما زالت تصدر ورقيًا، لكنها أعلنت أنها ستوقف الطباعة بنهاية 2025 بعد مسيرة تقارب 157 عامًا. وبعدها The News-Sentinel التي انطلقت عام 1911 وبقيت ورقية نحو 106 أعوام إلى أن صارت رقمية منذ 2017. ثم Houston Press التي ظهرت سنة 1989 وظلت أسبوعية ورقية حتى 2017 حين تحولت إلى النشر الرقمي فقط. ومن المجلات الأمريكية البارزة Newsweek التي تأسست سنة 1933 وأوقفت طبعتها الورقية في ديسمبر 2012 بعد ما يقرب من 79 عامًا، ثم عادت لاحقًا بطبعة محدودة لكنها ظلت تعتمد أساسًا على النشر الرقمي. وفي بريطانيا تأسست The Independent سنة 1986 وظلت مطبوعة ثلاثين عامًا حتى أصدرت عددها الورقي الأخير في 26 مارس 2016. وفي كندا تأسست Le Soleil سنة 1896 وأصدرت نسختها اليومية الورقية حتى 2020، ثم أنهت الطباعة كليًا في 2023، كما تحولت صحيفة La Presse (1884) إلى رقمية بالكامل منذ عام 2018. وفي آسيا توقفت The Nation التايلاندية، الصادرة منذ 1971، عن الطباعة في 28 يونيو 2019 بعد نحو 48 عامًا، لتصبح إلكترونية فقط. أما في أستراليا فقد صدرت The Morning Bulletin عام 1861، وبعد 159 عامًا أصدرت عددها الورقي الأخير في 27 يونيو 2020، وكذلك NewsMail التي تأسست عام 1925 وأوقفت نسختها المطبوعة في يونيو 2020 بعد 95 عامًا. هذه نماذج للتوقف عن إصدار النسخة الورقية للصحف والمجلات والتحول إلى النشر الرقمي، وهو ما حدث ويحدث باستمرار منذ ظهور الإنترنت في بلدان العالم المختلفة، وتتسارع وتيرته اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي. ومثل هذا التحول تشهده أيضًا دور نشر معروفة في العالم مثل Penguin Random House وHarperCollins وHachette وOxford University Press وCambridge University Press، غير أن دور النشر هذه لم تتوقف عن النشر الورقي، بل اتجهت إلى التوسع الرقمي إلى جانب استمرارها في الطباعة، بخلاف بعض الصحف والمجلات التي أنهت كليًا نسخها الورقية. أشفق اليوم على مَن تغويه مهنة النشر الورقي؛ إذ يستشيرني بعض الأصدقاء، بحكم خبرتي الطويلة في نشر أعمالي وصداقاتي مع الناشرين، واهتمامي بعالم الطباعة ودور النشر، بعزمهم على تأسيس دار نشر جديدة، فأصارحهم بأنها تجارة لا تخلو من مغامرة في العصر الرقمي، بعد تفشي النشر الإلكتروني، وحضور الكتاب على شبكة الإنترنت في مختلف بقاع الأرض. مَن يُقدِم على تأسيس دار نشر ورقية في هذه الظروف يحتاج إلى شغف بنشر المعرفة والتضحية من أجل ذلك قبل الانهمام بالربح المادي، بعد أن تبدلت طرائق نشر وتسويق الكتاب، وبدأ سوق النشر الإلكتروني يستحوذ على القراء، خاصة من جيل الأبناء وهم الأكثرية، وإن كان الآباء مازلوا يعشقون الورق، ويشعرون بمتعة ملمسه، وعبق رائحته الغاطسة في ذاكرة كل مدمن منهم على القراءة، ولا تغادرهم أطياف الكتب والمكتبات. في زيارتي الأخيرة لشارع المتنبي، ومعرض الكتاب في بغداد شهر أيلول / سبتمبر 2005، التقيت بعض الناشرين من الأصدقاء، فشكو بمرارة من انخفاض مبيع الكتب وتراجع الطلب عليها، وما ترتب على ذلك من انكماش حركة نشر المؤلفات الجديدة، حتى توقفت دور نشر شهيرة في الشارع عن إصدار عناوين جديدة، بعدما كانت تصدر عشرات العناوين كل سنة. أخبرني أحد أصحاب المكتبات بأن أكثر من ثلاثين مكتبة في المتنبي أغلقت أبوابها في الأشهر الأخيرة، فيما لا يستطيع بعض أصحاب المكتبات الباقين من تغطية إيجارات محلاتهم من مبيعات الكتب، فيضطرون إلى دفع الإيجار من مالهم الخاص أحيانًا. الأزمة في سوق الكتاب الورقي لم تعد مقتصرة على ضعف الإقبال، بل غدا شارع المتنبي يفقد شيئًا فشيئًا ألقه الثقافي، إذ إن غياب بائع كتب كل فترة صار خبرًا مألوفًا بين أهل السوق، والسبب يعود إلى تراكم الأعباء الاقتصادية، وتقلص المبيعات، وتوجه كثير من القراء نحو الكتاب الإلكتروني. في بيروت والقاهرة وسواهما من عواصم نشر الكتاب العربي لا يختلف المشهد كثيرًا، فالوضع هناك ليس أفضل حالًا من بغداد. شارع المتنبي من أوسع أسواق الكتاب في العواصم العربية، وقد أضحى أبرز منتدى ثقافي مفتوح في بغداد في السنوات الأخيرة، ينبض بالحياة نهارًا وليلًا. بموازاة مكتباته العريقة، اتسع هذا الشارع ليحتضن تجمعات ثقافية وندوات ومحاضرات وحلقات نقاشية، وحفلات فنية أسبوعية، يحضرها عدد كبير من عشاق الكتاب الذين يفدون إليه صباح كل جمعة من مختلف مدن العراق. في السنوات الأخيرة حظي المتنبي بتغطية إعلامية واسعة من الفضائيات العربية، مما جعله يستقطب السياح وزوار العراق من شتى أنحاء العالم. عندما أستضيف بعض الأصدقاء من المهتمين بالفكر من زوار العراق، يكون أول طلب لهم زيارة المتنبي، والتعرف على مكتباته ومرافقه الثقافية المتنوعة. لم يعد المتنبي شارعًا مجهولًا أو سوقًا تقليديًا لبيع الكتب، بل غدا أحد أهم المعالم الثقافية لبغداد، ورمزًا حيًا لذاكرتها الثقافية والأدبية والفنية. إن إغلاق بعض المكتبات، إثر التراجع الحاد في مبيعات الكتب، يعني عمليًا التضحية بهذا المعلم الثقافي الفريد، وتبديد ما نراه في المتنبي من ألق، واهدار قيمته الرمزية التي تشكلت عبر عقود من التراكم الثقافي والتفاعل الإبداعي. بغية حماية هذا الميراث الثقافي العراقي الثمين، أقترح أن تبادر وزارة الثقافة إلى شراء ما لا يقل عن 200 نسخة من كل كتاب تصدر دار نشر لكاتب عراقي، وتوزيعها على المكتبات العامة ومكتبات الكليات والجامعات، دعمًا للناشرين، وإنقاذًا لسوق الكتاب والنشر من الانهيار. المتنبي ليس مجرد شارع، بل هو فضاء رمزي يعكس نبض الثقافة العراقية، وحمايته واجب وطني، يتطلب رؤية استراتيجية تعيد للكتاب مكانته، وللمثقف دوره، وللمتنبي وهجه الذي لا يليق به أن يخبو. الصديق مضر شبر خاض مغامرة تأسيس دار لندن في العاصمة البريطانية، داره تتولى طباعة الكتاب وتسويقه من لندن، المعروفة بأنها من المدن الغالية، إلى بغداد وغيرها من العواصم العربية في الخليج وغيره. راكمت دار لندن عددًا لافتًا من الإصدارات الجادة في مدة قياسية. في أول مشاركة للدار بمعرض الكتاب في بغداد هاتفني الصديق الدكتور صلاح نيازي، وطلب دعم هذه الدار الناشئة بنشر أعمالي، فقلت له أعمالي تنشرها منذ سنوات دار الرافدين، ومؤلفاتي تصدر عنها وعن دور نشر أخرى في بيروت. قبل سنة، في معرض بغداد للكتاب، زرت جناح دار لندن، والتقيت للمرة الأولى الأخ مضر شبر، فشعرت بالفخر عندما رأيت مؤلفات ودواوين بعض الأدباء والكتّاب العراقيين معروضة في جناح الدار. أعجبتني أغلفة الكتب وإخراجها الفني وكيفية الطباعة والورق ونوع الحروف. وحين سألته عن حضور مطبوعاته في العراق، أخبرني بأن لديه مكتبة تبيع إصدارات داره في شارع المتنبي. ثم بدأ يتحدث عن مشاركته النشطة في معارض الكتاب العربية ببلدان متعددة، وأشار إلى إقبال القراء الجيد على شراء إصدارات دار لندن.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللغة مرآة للدين والهوية والثقافة
-
تتعدد اللغات بتنوع سياقات استعمالها ومجالات تداولها
-
تحديات اللغة في العصر الرقمي
-
اغتراب اللغة عن الواقع اغتراب للإنسان عنها
-
كتاب دروب المعنى
-
تجديد الرؤية للعالم يمر عبر اللغة
-
عجز العلوم عن قراءة لغة الغيب
-
الأسماء الإلهية في سياق لغة الغيب
-
لغة الغيب لغة رمزية
-
لغة الغيب غير لغة العلم
-
رؤيا الغيب في لغة الدين
-
الهوية الوطنية في شِراك الأيديولوجيا
-
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
-
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
-
الهوية المغلقة تتلاعب بالمعرفة
-
فلسفة ملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني
-
الهوية المغلقة تتلاعب بالذاكرة
-
الهوية في حالة صيرورة وتشكّل
-
تمركزُ الهوية الاعتقادية في الدرس الفلسفي كفٌّ عن التفلسف
-
فاعلية الحُبّ تتجلى في الصفح
المزيد.....
-
رئيس القضاء العراقي يدعو إلى خطاب وطني موحد بعيد عن الطائفية
...
-
وكالة معا الفلسطينية: فتح معبر رفح بعد أعياد اليهود بموجب ات
...
-
فوق السلطة.. ممثلة يهودية: هتلر من انتصر بغزة والسيسي يحذر م
...
-
دخول الاسلام الى بلاد السودان
-
انشاء ركن القدس في مركز الحضارة الإسلامية في طشقند
-
مقبرة الساهرة إحدى أقدم المقابر الإسلامية في القدس
-
اتفاق غزة يفضح صراع جبهات الإخوان.. مصر بمرمى المزايدات
-
اتفاق غزة يفضح صراع -جبهات الإخوان-.. مصر في مرمى المزايدات
...
-
بابا الفاتيكان يشيد بالصحفيين لنقلهم الحقائق من غزة
-
المستوطنون يستبيحون المسجد الاقصى وسط إجراءات عسكرية مشددة
المزيد.....
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
المزيد.....
|