|
الهوية الوطنية في شِراك الأيديولوجيا
عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 8364 - 2025 / 6 / 5 - 14:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد الجبار الرفاعي الهوية الوطنية بمعنى، والهوية الأيديولوجية العقائدية بمعنى آخر. نصابُ الهوية الوطنية الانتماءُ إلى رقعة جغرافية، ومصير واحد، ومصالح يلتقي فيها الكل، وتاريخ مشترك، وذاكرة جمعية، تتجسد في ثقافة جامعة، ورموز مشتركة، بغض النظر عن الاختلافات الدينية والمذهبية والقومية. تتمثل ملامح الثقافة المشتركة والرموز الجامعة في ما تراكم في العقل الجمعي من سردية تستحضر منعطفات نشأة الوطن، وتؤرخ لتحولاته، وتعيد وصل حاضره بجذوره الممتدة في الزمن.كما تتجلى في الشخصيات المؤسسة، وكل شخصية استثنائية تركت بصمة مضيئة في مسيرة الوطن، وأسهمت في بناء كيانه السياسي والرمزي والمعنوي. وتنعكس في: اللغة، والآداب، والفنون السمعية والبصرية، والأديان والمعتقدات، والأمثال، والأساطير، والعلَم، والشعار الرسمي للدولة، والنشيد الوطني، والمناسبات والأعياد، والفلكلور، والأماكن الأثرية والمعمارية التي تستفيق فيها الذاكرة، وتمنح ما هو جميل في الماضي حضورًا مستأنفًا. وتظهر كذلك في المطبخ وأنواع الأطعمة، واللباس والأزياء، والأذواق، والرياضات الجماعية، مثل كرة القدم اليوم، وكل ما يسهم في توليد الشعور بالاستمرارية التاريخية. ويغذّي الإحساس بالارتباط الوجداني العميق بالوطن، ويُعيد ترميم أواصر الألفة والتضامن، في إطار كيان سياسي، يلتقي فيه المواطنون على أنهم جزء حيّ من نسيجه، وأمناء على ذاكرته، ومشاركون في مصيره، ومسؤولون عن حمايته وتنميته. الهوية الوطنية هوية جامعة، لا تقبل الانغلاق على مكوّن واحد، ولا تسمح باحتكار الوطن لجماعة دون سواها. هوية تتسع لمختلف المواطنين، بتنوع أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ولغاتهم، وترى بأن العيش المشترك لا ينهض إلا على الاعتراف بالاختلاف في إطار كيان سياسي واحد، وشراكة الجميع في بناء الوطن وحمايته. تبتني هذه الهوية على المواطنة الدستورية، التي تُعلي من قيمة الإنسان بما هو إنسان، وتكرس المساواة في الحقوق، والمساواة في الفرص، على أساس "العدالة بإنصاف"، وفقًا لما عبر عنه جون رولز (1921 ــ 2002): في كتابه: "نظرية في العدالة". وتُخضع الجميع للقانون، وترفض التمييز بكل أشكاله، مهما كان تبريره. إنها هوية تُصغي إلى صوت العقل، وتحتكم إلى عقد وطني يضمن التعدد، ويحمي السلم الأهلي، ويعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمواطنين على أسس تُعيد بناء الانتماء، وتُحرّر الولاء من أسر الانتماءات الفرعية الضيقة، التي تعزل الإنسان في مضايق القومية أو الطائفة، وتعيدُ توجيه بوصلته نحو الوطن بوصفه الإطار الأوسع الذي ينتظم فيه التنوع، وتتكامل فيه الخصوصيات، من دون أن تتنكر للانتماءات للدين أو المذهب أو القومية، وتُرسخه في الهوية الوطنية الجامعة، ليغدو الانتماء للوطن أصلًا، وما عداه من انتماءات فرعًا. أما الهوية الأيديولوجية العقائدية، فهي انتماء إلى معتقد ما، بعد أن يتحوّل هذا المعتقد إلى أيديولوجيا مغلقة، سواء أكان دينيًا أم دنيويًا. تتسم هذه الهوية بالانغلاق، إذ تقسم العالم إلى: مَن ينتمي إليها، ومَن لا ينتمي إليها. وهي تتوهم الاصطفاء، وتكرّس شعورًا بالتفوّق الزائف، وتبني هويتها الجمعية على نفي الآخر وإقصائه. في ظل هذه الهوية، يُلغى الوطن لصالح الجماعة، وتُختزل الدولة في كيان هشّ، وتُستبعد المصلحة الوطنية لحساب الولاءات الضيقة. تنتج هذه الهوية خطابًا تعبويًا، لا يقبل التنوع، ولا يطيق الاختلاف، ولا يقرّ بحقّ الآخر في العيش المشترك. الهوية الوطنية مشروع بناء كيان سياسي، يتسع للجميع، ويقوم على العيش معًا بكرامة في ظل دولة القانون. أما الهوية الأيديولوجية العقائدية، فهي مشروع احتكار، يختزل الحقيقة في تفسير واحد، ويختطف الوطن لحساب جماعة، ويهدد وحدة المجتمع، ويقوّض أسس الدولة. حين يتحوّل الدين إلى أيديولوجيا، يُنتَزع من مجاله الروحي والأخلاقي والجمالي، ويُزج به في صراعات السلطة والثروة، كما هو حال الأيديولوجيات القومية واليسارية والأصولية. في سياق هذا التحوّل، يفتقد الدين رسالته السامية، ويتحوّل إلى وسيلة للاستحواذ، ويُختزل في صراع النفوذ والسيطرة، ويُستخدم لتعبئة الأتباع وتجييش مشاعرهم، باسم الدفاع عن العقيدة. وذلك ما نراه ماثلًا في تجارب الأصوليات في سائر الأديان، سواء أكانت هذه الأديان سماوية أم أرضية. الأصوليات تهبط برسالة الدين من معناه السامي وغايته في إرواء الظمأ الأنطولوجي وتحرير الإنسان من الاغتراب الميتافيزيقي، وإيقاظ الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، وتصيّره أداة أيديولوجية، لا تكترث بالهوية الوطنية، ولا تعترف بشرعية الدولة المؤسسة على هذه الهوية، وما تكفله من استيعاب للتنوع والاختلاف في فضاء العيش المشترك، بل تنزع إلى تجاوز حدود الوطن، وتقصي كل مَن لا ينتمي إلى حدودها الأيديولوجية. حدود دولة المواطنة الحديثة ترسمها خرائط الأرض التي يعيش عليها أبناؤها، وتنهض على المصالح المشتركة، والمصائر الوحدة، والشعور بالانتماء لهذا الوطن بوصفه الملاذ الذي يأوي إليه الجميع. وتتجلى دولة المواطنة في مساواة المواطنين في الحقوق وأمام القانون، وتكافؤ الفرص لكل منهم، وإناطة المسؤوليات بكل مواطن بحسب طاقاته وإمكاناته. أما حدود الدولة الأيديولوجية فيرسمها الانتماء للعقيدة والولاء لها، ووحدة المصير مع مَن ينتمي إليها، بغض النظر عن انتمائه لوطن آخر، حتى إن كان في أقصى أطراف الكرة الأرضية. الحدود الوطنية تحمي الدول من أيّ شكل من أشكال النفوذ لدولة أخرى مهما كانت، ولا تسمح باستغلال موارد الوطن وثرواته لغير أبنائه، تحت أيّة ذريعة. أما الحدود الأيديولوجية، فلا تحمي الأوطان، بل تجعلها كيانًا عامًا، لا يختص بمواطنيها، بل يتسع لكل مَن يعتنق أيديولوجيا حكّامها، كما حدث في الأنظمة اليسارية والقومية والأصولية، وكما يحدث اليوم في دولٍ متعدّدة. الحدود الأيديولوجية تعدّ الأجنبي الذي يتبنى الأيديولوجيا ذاتها شريكًا شرعيًا، يتمتع بالحقوق الكاملة في السلطة والحكم وإدارة الدولة، وربما تمادى هذا الشريك، فاستغل شراكته، وأضحى سيّدًا على الحاكم والمواطن. السياق الوطني لتشكّل الهوية ينبغي أن يتسلسل في ضمير كلّ مواطن في بلدنا على أساس أنه: عراقي أولًا، وعربي أو كردي أو تركماني ثانيًا، ومسلم أو مسيحي أو مندائي أو إيزيدي ثالثًا، وشيعي أو سنّي أو كاثوليكي أو بروتستانتي أو أرثوذكسي رابعًا، وهكذا. هذا هو التسلسل الذي يمكّننا من بناء مفهوم للوطن بمعناه الحديث، والمواطنة الدستورية بوصفها أساسًا لبناء دولة حديثة، تتوحّد فيها الأديان والمذاهب والقوميات في كيان سياسي، ينتمي فيه الجميع لأرض واحدة، وتاريخ ومصائر مشتركة، ويتضامن على مصالح جامعة. أما حين تنقلب معادلة الهوية، فتصبح الطائفة أو القومية أولًا، والدين ثانيًا، والوطن ثالثًا، فإننا نفشل في بناء دولة المواطنة بمعناها السياسي، ونخفق في إقامة الدولة الحديثة، مهما فعلنا. اختلال سُلّم الهويات ينتج وعيًا زائفًا بالانتماء، يُقصي الوطن لحساب الجماعة، ويحوّل المواطنة من انتماء جامع إلى ولاء خاص، محكوم بالعصبية، ومسكون بهاجس الدفاع عن الهوية الفرعية، لا الهوية الوطنية الأصلية. حين تغدو القومية أو الطائفة هي الهوية الأصلية، وتتفرّع عنها سائر الانتماءات، لا يعود للوطن معنى ينطبق على المواطنين كلهم، وليس للمصالح والمصائر والتاريخ المشترك أثرٌ في بناء الدولة. تختفي عندئذ المواطنة خلف الانتماء القومي أو الطائفي، وتتحوّل إلى استماتة في الذود عن مصالح الجماعة، لا عن مصالح الوطن. ويغدو حضور الدولة هشًّا، لأن الولاء لها مشروط بولاء موازٍ أو سابق للجماعة، لا يسمح ببناء عقد اجتماعي يجتمع عليه المواطنون. حين تتسيّد الهوية القومية أو الطائفية، وتختزل الهوية الوطنية فيها، تتفشى اضطرابات الهوية السياسية، ويتعذّر على المواطن أن يحقق ذاته السياسية في الوطن، أو يعثر على ما يوحّده بأبناء بلده. ويغدو الوطن ساحة صراع هويات فرعية، يتقدم فيها الانتماء للجماعة على حساب الانتماء للأرض والمصالح والمصائر المشتركة. تفشّت في جيلنا، والجيل الذي سبقنا، اضطرابات الهوية السياسية، فكان الشيوعي قبل أن ينتمي لوطنه ينتمي إلى الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية المنضوية في محوره، أو إلى الصين والدول الاشتراكية التي تدور في فلكها. وكان القومي العربي، قبل أن ينتمي لوطنه، ينتمي إلى القومية العربية بصيغتها الأيديولوجية، وزعيمها جمال عبد الناصر، الذي كان أكثر الحكّام العرب براعةً في تجييش الجماهير، وأمهرهم في ابتكار الشعارات الصاخبة. وأخيرًا، صار مَن ينتمي إلى الإسلام السياسي ينتمي إلى الدول الدينية، كلٌّ على وفق مرجعيته المذهبية، لا على وفق انتمائه الوطني. اضطرابات الهوية السياسية عشتها بمرارة في مراهقتي، كما عاشها كثير من أبناء جيلي، بعدما كنا نتخيّل أن الانتماء إلى الأيديولوجيا العقائدية هو الهوية الأصلية، وبأن العقيدة لا أرضَ لها كما تعلمنا في أدبياتها. لم نكن ننتمي إلى الأوطان بما هي أرضٌ وثقافة وتاريخ ومصالح ومصائر مشتركة توحّدنا مع أبناء بلدنا الذين نتقاسم العيش معهم.كان انتماؤنا يتجه إلى أيديولوجيا سياسية عابرة للجغرافيا والتاريخ والذاكرة والثقافة واللغة والمصير والمصالح المشتركة مع أبناء الوطن، حتى صار مَن يعتقد بهذه الأيديولوجيا، وإن كان في أقصى الأرض، أقربَ إلينا من ابن البلد الذي نشترك معه في الأرض والتاريخ والثقافة والمصالح والمصير الواحد. لم أكتشف هويتي الوطنية العراقية، ولم يتكرّس انتمائي الحقيقي إلى وطني، إلا بعد تشردي في المنافي، وعيشي سنوات طويلة في أكثر من دولة،كنت أعاني فيها كلها من نظرة الآخر إليّ كأجنبي. استفاقت هويتي الوطنية، حين تذوقت متعةَ الخلاص من الغربة تحت سماء وطني، وألهمني الشعور بالانتماء إلى أرض ولدت عليها ونشأت فيها. ليس بوسعنا بناءُ تفسيرٍ علمي لنشأة الهوية السياسية في مجتمعنا، من دون العودة إلى تجربة الخلافة، الممتدة عبر مراحل تاريخ الإسلام المختلفة، منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر، والكشف عن الكيفية التي جرى فيها استثمار الميراث الرمزي للخلافة في صناعة الهوية السياسية، بوصفها استمرارية عميقة لذلك الميراث العريق في الذاكرة، وتجسيدًا لهوية متخيلة، تتغذى على سلطة الماضي، وتستأنف حضورها عبر مقولاته ورموزه وتمثلاته، وما نتج عنه من مشاعر وأحلام ربما تتوارى في أزمنة لكنها لا تموت. تشكّلت الهوية السياسية في سياق دولة الخلافة، لا بوصفها مؤسسةً للسلطة فحسب، بل بما هي منبع للمتخيَّل الذي تشكّل وتضخم في فضائها، وصاغ مقولاتها حول المشروعية السياسية وغيرها، وولد فيه وتجذّر وعي الإنسان المسلم السياسي ولاوعيه الفردي والجمعي، وتوالد داخله تعريفه لهويته السياسية، والسلطة، والحكومة، وشكل الدولة. الخلافة، في ضمير أكثر المسلمين، تنبثق مشروعيتها من السماء، وهي وحدها ما يتخيّلون أنها تعبّر عن هويتهم السياسية، وقد تكرّست صورتها في المتخيّل الجمعي بوصفها الهوية الجامعة للأمة المسلمة، عبر رمزية الخليفة الواحد. وإن كانت خلافة الخليفة متصدعة متآكلة، يظل رمزًا، ما دامت تُلقى خطبة الجمعة على المنابر بعنوانه كخليفة، والدعاء يُرفع له، والنقود تسكّ باسمه، مما أسهم في تجذّر هوية الخلافة وترسيخها في الذاكرة السياسية. يتجلى حضور الخلافة في اللاشعور الجمعي بوصاية الماضي على الحاضر، وامتدادها بوصفها سلطة رمزية لا تزال تنتج تأثيرها عبر نظامٍ رمزي وشبكة متشعبة من المفاهيم، تستمدّ قوتها وفاعليتها من صور رومانسية للخلافة، بوصفها مرجعية متخيّلة، تعيد إنتاج عناصر حياتها في الوعي واللاوعي، وتؤطر تصورات الإنسان المسلم عن السلطة، والحكومة، والدولة، والهوية السياسية. في دولة الخلافة، كان بإمكان المسلم أن يتنقّل من بلد إلى بلد بحرية، ويقيم في أقاليمها المختلفة، الممتدّة من الأندلس إلى الهند، من دون أن يشعر بالغربة، مادام انتماؤه إلى دار الإسلام، وهويته السياسية هي عقيدته. هذا الانتماء الرمزي رسّخ في اللاشعور الجمعي عدم التمييز سياسيًا بين أرض وأخرى، ما دامت في إطار دولة الخلافة، وما دام الإسلام هو العقيدة السائدة لأهلها. هذه العوامل لا تزال تمارس ممانعة صلبة في تقبّل مفهوم الوطن، والمواطنة، والمشروعية السياسية، والسلطة، والحكومة، والدولة، بمعانيها المعروفة في الفكر السياسي الحديث. الذاكرة السياسية المشبعة بالصور الرومانسية المتخيّلة لدولة الخلافة مازالت تشكّل أرضية خصبة، ذات تأثير فعّال في التمهيد، لولادة أحلام الدولة الدينية في المتخيّل السياسي لعدد غير قليل من المسلمين. لم تسقط الدولة العثمانية، آخر تجليات الخلافة في عالم الإسلام، إلا عام 1924، وهذا يعني أن المسلم لم يمضِ عليه قرن واحد في التعايش مع المفاهيم الحديثة للدولة، ولم يدخل المفهوم الحديث للوطن والمواطنة كمكون أساسي للهوية السياسية. معنى "الوطن" في تراثنا يختلف عن معناه في الفكر السياسي والدساتير الحديثة، التي تؤسّس للمواطنة بوصفها علاقة قانونية وحقوقية، تربط الفرد بالدولة على أساس الانتماء لأرض وتاريخ وثقافة ومصالح ومصائر مشتركة. ما زال سقوط دولة الخلافة العثمانية يمثّل جرحًا نرجسيًا غائرًا للهوية السياسية لعدد غير قليل من المسلمين، ممن كانت الخلافة تمثّل لهم شعورًا بالتماهي مع كلّ مسلم يقطن أرضها، وتغذّي خيالهم بوحدة رمزية وعقائدية تتجاوز الحدود الجغرافية. ظلّ المتخيّل الجمعي، الذي تراكم واتسع عبر قرون، يعمل على ترسيخ صورة الخلافة بوصفها مكوّنًا أصيلًا في هوية المسلم السياسية، وبعد انهيارها استمر حضورها الرمزي في الذاكرة السياسية الجمعية. الخلافة لم تكن مجرّد نظام سياسي، بل غدت رمزًا مشحونًا بالدلالة، يتوارى فيه التاريخ خلف الأسطورة، وتتداخل فيه الوظائف السياسية بالدلالات الدينية. المتخيّل السياسي أسهم في بناء صورة مثالية مضيئة للخلافة، لا تعكس واقع المظالم التي وقعت في زمانها، ولا تكشف عن جور السلاطين وبطشهم، وما كان يعيشه رعاياهم من تمييز واضطهاد. جعلها هذا المتخيّل تمثّل ذروة اندماج السياسة بالدين، وملاذًا آمنًا لهوية سياسية مأزومة، تلجأ للماضي حين تعجز عن بناء الحاضر. بعد انهيار آخر دولة خلافة، لم تتبدد صورتها، بل ظلّ ميراثها الرمزي وشبكة مفاهيمها حيّة في اللاشعور الجمعي، تتجدد حضورًا في الذاكرة، وتعيد إنتاج نفسها في وجدان لم يتحرّر من قبضة الماضي، ولم يغادر الحنين إلى سلطة يتخيّلها ضامنًا لوحدة شاملة على أساس الدين الواحد. ظلّ المتخيَّل الديني يعمل على مدى قرونٍ على ترسيخ صورة الخلافة بوصفها عنصرًا أساسيًا من مكوّنات هوية المسلم السياسية، فتتشبع بها اللاشعور الجمعي، وأمست ملاذًا يستحضره المسلم، كلّما عجز عن تحقيق أحلامه في الواقع السياسي، وصار المتخيَّل وسيلة يعيد بها الإنسان إنتاج ما فشل في إنجازه في الواقع. وما يزال عدد غير قليل من المسلمين، إلى اليوم، عاجزين عن الانفصال عن الصورة المثالية للخلافة، والتحرر من سلطتها الرمزية، وهيمنتها على الذاكرة السياسية. ذلك ما جعلهم يقرأون المستقبل بعيون الماضي، ويقيسون الدولة الحديثة بمقاييس الدولة السلطانية، ويحاكمون السياسة والدولة الحديثة بأحكام دولة الخلافة. من أبرز آثار الجرح النرجسي للهوية السياسية، الذي نتج عن سقوط آخر دولة للخلافة، انبعاث أول حركة للإسلام السياسي في العصر الحديث، إذ لم تمضِ سوى أربع سنوات على نهاية الخلافة العثمانية، حتى بادر حسن البنا، في مدينة الإسماعيلية، إلى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، بوصفها مشروعًا يطمح إلى استعادة مجد المسلمين السياسي، عبر إعادة بعث دولة الخلافة. وصارت الخلافة ركنًا من أركان الإسلام، كما يصرح حسن البناء في رسالة المؤتمر الخامس: (الإسلام يجعل الحكومة ركناً من أركانه… فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف… أما الخلافة فهي رمز الوحدة الإسلامية، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في دفن النبي صلى الله عليه وسلم. والأحاديث الواردة في وجوب نصب الإمام كثيرة. لذلك فالإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها في رأس منهاجهم، وهم – مع ذلك – يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات الضرورية) . لم أجد فقيهًا أو متكلمًا في تاريخ الإسلام، قبل حسن البنا، يقول: إن "الحكومة ركن من أركان الإسلام"، أو إن الدولة ركن في الإسلام. أركان الإسلام معروفة لدى المذاهب والفرق. الماوردي "ت. 450هـ" يرى أن الإمامة، أو الخلافة، أو الحكم، واجب شرعي من واجبات الدين، لا من أركانه. ويذهب الجويني "ت. 478هـ" إلى أن الإمامة ضرورة لحفظ الشريعة، لا ركنًا من أركان الدين. لكن في العصر الحديث، جعل أكثر من منظّر من منظّري الإسلام السياسي، الحكم من أركان الدين. وفي سياق أدبيات هذه الجماعة، وشعاراتها، وأهدافها، تشكّلت رؤية تمجّد الماضي السياسي، وتدعو للعودة إلى نموذج الحكم الذي ساد عدة قرون في دول الخلافة. في فضاء هذا المتخيّل السياسي، توالدت سلسلة من الحركات الإسلامية في شتى أنحاء العالم الإسلامي، استلهمت نموذجها من الإخوان، وواصلت الأحلام السياسية ذاتها ببعث الخلافة، كلٌّ منها على شاكلتها، بوصف دولة الخلافة رمزًا لوحدة المسلمين، ومصدرًا للهوية السياسية، وأفقًا لاستعادة السيادة والكرامة المهدورتين. غير أن ما لم يُدركه الوعي المؤدلج أن الخلافة، بوصفها مشروعًأ سياسيًا تاريخيًا، لا يمكن استعادتها إلا في المتخيّل السياسي، وأن إحياءها لا يعني سوى إعادة انتاج ماضٍ لم يعد صالحًا لبناء دولة قائمة على المواطنة الدستورية، والقانون، والعدالة، وحقوق الإنسان وحرياته. حين يتحوّل الحنين للماضي السياسي إلى مشروع للخلاص، يفقد الحاضر قدرته على توليد معنى سياسي، ويُختزل المستقبل في صورة مثالية لماضٍ متخيّل، لا حضور له خارج الذاكرة.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
-
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
-
الهوية المغلقة تتلاعب بالمعرفة
-
فلسفة ملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني
-
الهوية المغلقة تتلاعب بالذاكرة
-
الهوية في حالة صيرورة وتشكّل
-
تمركزُ الهوية الاعتقادية في الدرس الفلسفي كفٌّ عن التفلسف
-
فاعلية الحُبّ تتجلى في الصفح
-
حُبّ الله يجعل الدين دواء وشفاء
-
الحُبّ يهزم قلقَ الموت
-
يتسع القلب للرحمة كلما اتسع بالمحبّة
-
السلفية حالة متفشية في كلِّ الأديان والمذاهب
-
إيمان الحُبّ يُطهِّر الأرضَ من الكراهية
-
الحُبّ ضرب من انكشاف الوجود
-
مَن يُلهِم المحبّة لغيره يعيش بسلام
-
يترجم القلبُ كلمات الحُبّ بمعنى واحد
-
يبقى الكاتب كاتبًا ما دام يفكر ويقرأ
-
قراءة تبعث المسرات وأخرى تثير الاكتئاب
-
الكتب التي توقظ الوعي نادرة
-
في الفلسفة كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده
المزيد.....
-
هل تصبح القدس بلا مسيحيين؟
-
غزة والمسجد الأقصى في صدارة خطب العيد بعدة دول عربية
-
سوريا.. مجلس الإفتاء الأعلى يصدر فتوى في حكم الثأر والانتقام
...
-
في أول أيام عيد الأضحى.. الاحتلال يرفض تسليم المسجد الإبراهي
...
-
فيديو.. صلاة العيد بين أنقاض المساجد المدمرة في غزة
-
عشرات الآلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى في المسجد الأقصى المبارك
...
-
عشرات الآلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى في المسجد الأقصى المبارك
...
-
الولايات المتحدة: المشتبه به في الهجوم على مسيرة يهودية في ك
...
-
دار الإفتاء المصرية توضح الفرق الجوهري بين صلاتي عيد الفطر و
...
-
“أغاني طول اليوم هتسلي أطفالك” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|