منير حمود الشامي
(Munir Alshami)
الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 10:32
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
تُمثل فكرة المبادئ فوق الدستورية أحد أبرز الموضوعات إشكاليةً وإثارةً للجدل في الفقه الدستوري المعاصر، لما تنطوي عليه من مساس مباشر بطبيعة الشرعية الدستورية وحدود السلطة التأسيسية، ولما تُثيره من تساؤلات عميقة حول مدى إمكانية وجود قواعد قانونية أو معايير قيمية تعلو على نصوص الدستور ذاته، فتقيده توجيهاً أو تفسيراً أو تطبيقاً. فبينما تقرر النظرية التقليدية للقانون الدستوري أن الدستور يشكل قمة الهرم القانوني في الدولة ويُعد المرجع الأعلى للتشريع، تبلور في الفكر الدستوري اتجاه حديث يذهب إلى أنّ هناك مبادئ أساسية وقيماً عليا تتجاوز النصوص الدستورية شكلاً ومضموناً، بحيث تفرض قيوداً موضوعية على سلطة المؤسس الدستوري الأصلي سواء في مرحلة وضع الدستور أو تعديله. وتتمثل هذه المبادئ في جوهرها في تلك القواعد التي تعبر عن الضمير الدستوري للأمة، مثل حماية الكرامة الإنسانية، وصون الحقوق والحريات الأساسية، وضمان مبدأ الفصل بين السلطات، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، وحماية النظام الديمقراطي.
وقد اختلف الفقه في تحديد الأساس الذي تستمد منه هذه المبادئ قوتها الملزمة: فذهب اتجاه إلى أنها مستمدة من القانون الطبيعي والقيم الإنسانية الكونية؛ بينما رأى اتجاه ثانٍ أنها تستند إلى الالتزامات الدولية ذات الطابع فوق الوطني؛ في حين أكد اتجاه ثالث أنها نابعة من الخصائص الأساسية والجوهرية للنظام الدستوري ذاته، بما يجعله غير قابل للتخلي عن مقوماته الأساسية مهما تبدلت التوجهات السياسية أو تغيرت الظروف الاجتماعية. وقد اضطلع القضاء الدستوري في العديد من الدول بدور حاسم في تكريس فكرة المبادئ فوق الدستورية وتفعيلها، لا سيما عند مراقبة دستورية القوانين أو عند تفسير النصوص الدستورية. ففي القضاء الدستوري الألماني رسخت المحكمة الدستورية الاتحادية منذ حكمها في العام 1958م في قضية (Lüth) فكرة "القيمة المعيارية للدستور" وربطت تفسير النصوص الدستورية بمبادئ أساسية غير قابلة للمساس قوامها "الكرامة الإنسانية، والديمقراطية، ودولة القانون". كما نصت المادة 79/فقرة 3 من القانون الأساسي الألماني على ما يعرف بـ"بند الأبدية" الذي يمنع تعديل المبادئ الجوهرية للدستور ولو بإجراءات تعديل صحيحة. أما المحكمة الدستورية الإيطالية، فقد اعتبرت في العديد من أحكامها – ومنها حكمها الصادر في 27 كانون الأول 1973 – أن الانتماء إلى المنظومة الدستورية الديمقراطية يحول دون إدخال تعديلات تهدم الحقوق الأساسية أو تقوض الأسس الجمهورية للنظام السياسي. وفي القضاء الدستوري الهندي، كرست المحكمة العليا ما يُعرف بـ"نظرية البنية الأساسية للدستور" في حكمها التاريخي في قضية Kesavananda Bharati عام 1973، حين قضت بأن سلطة التعديل الدستوري ليست مطلقة وأن أي تعديل يمس جوهر الدستور وبنيته الأساسية يعد باطلاً لعدم الدستورية. وفي المقابل، بقيت هذه الفكرة محل تحفظ في بعض الأنظمة القانونية التي ورثت إرثاً تقليدياً جامداً للفكرة السيادية، إذ يُنظر إليها أحياناً على أنها قيود غير مشروعة على إرادة الشعب بمفهومها الدستوري، لاسيما في الدول التي لا تزال في مراحل انتقالية أو تواجه تحديات تتعلق ببناء دولة القانون والمؤسسات. ومع ذلك، فقد أخذت المحكمة الدستورية التركية والمحكمة الدستورية في جنوب إفريقيا بفكرة وجود مبادئ سامية ملزمة تُستمد من روح النظام الدستوري، وتم توظيفها في ضبط مسار الرقابة القضائية حمايةً لاستقرار النظام الدستوري وحفاظاً على جوهر الحقوق الأساسية. ومن ثم، فإن فكرة المبادئ فوق الدستورية لا تقتصر على بعدها النظري، بل تمثل آلية عملية فاعلة في ترشيد التفسير الدستوري ومنع الانحراف بالسلطة التأسيسية، سواء كانت أصيلة أو مشتقة. كما أنها تسهم في إيجاد توازن دقيق بين مبدأ سيادة الشعب من جهة، وبين حماية القيم الدستورية العليا التي لا يجوز المساس بها من جهة أخرى.
ويكتسب هذا الموضوع أهمية متزايدة في الأنظمة الدستورية الحديثة أو الانتقالية، ومنها دولنا في العالم العربي، حيث تعيش العديد من الدساتير حالة صراع بين مقتضيات الاستقرار السياسي ومتطلبات حماية الشرعية الدستورية ومبادئ دولة القانون. وعليه، فإن الدراسة المقارنة للمبادئ فوق الدستورية تفتح آفاقاً بحثية جادة لفهم الطبيعة القانونية لهذه المبادئ، وتحديد نطاقها ومعاييرها، وتقييم مدى مشروعيتها وحدود تدخل القضاء الدستوري في تكريسها. كما تُثير تساؤلات دقيقة حول ما إذا كانت هذه المبادئ تشكل ضمانة للنظام الدستوري أم تمثل مدخلاً لاستبداد قضائي محتمل يقيد الإرادة التأسيسية للشعب. وهي تساؤلات تستدعي معالجة علمية رصينة تجمع بين التحليل الفقهي والدراسة المقارنة والاجتهاد القضائي المقارن، للوصول إلى تصور متوازن يُحدد مكانة هذه المبادئ في بنية الدولة الدستورية المعاصرة. ومن خلال هذا النهج القضائي المتنامي، أرسى القضاء الدستوري المصري – دون إعلان مباشر – معالم نظرية ضمنية للمبادئ فوق الدستورية، إذ جعل من القيم الدستورية العليا ميزاناً حاكماً للشرعية الدستورية ومصدراً لضبط انحراف السلطات التشريعية والتنفيذية. وقد تجلى ذلك في أحكام المحكمة الدستورية العليا التي أكدت أن حماية الحقوق والحريات لا تُستمد من النصوص وحدها، وإنما من الأساس القيمي للدستور الذي يقوم على سيادة القانون، وصون الحرية الشخصية، واحترام مكانة الإنسان وكرامته. وبذلك أسهم هذا القضاء في ترسيخ قاعدة جوهرية مؤداها أن النص الدستوري لا يُفسَّر بمنطوقه فحسب، وإنما بروحه ومقاصده الكلية التي تعلو على النص وتوجهه، وأن أي تشريع، ولو استند إلى إجراءات صحيحة، يعد باطلاً إذا انطوى على انتقاص من جوهر الحقوق أو مساس بمقومات النظام الدستوري الديمقراطي. ففي حكمها الشهير في القضية رقم 131 لسنة 21 قضائية "دستورية" أكدت المحكمة أن حماية الحقوق والحريات لا تستمد وجودها فقط من النصوص، بل من "الثوابت الدستورية التي لا يجوز لأي سلطة أن تنال منها". كما قررت المحكمة في حكمها في القضية رقم 7 لسنة 8 قضائية "دستورية" أن الديمقراطية والتعددية السياسية ليست مجرد نظام للحكم بل "قيم دستورية عليا" لا يجوز تقويضها بأي تشريع.
وفي ضوء هذا التطور المقارن، يثور التساؤل المشروع في السياق الدستوري العراقي: ألا يُعد من مقتضيات السمو الدستوري وحماية الشرعية الدستورية أن تتبنى المحكمة الاتحادية العليا في العراق ذات المنهج القيمي في تفسيرها للدستور، المستند إلى فكرة المبادئ فوق الدستورية؟ فالدستور العراقي لسنة 2005، وإن خلا من نص صريح يستخدم هذا المصطلح، إلا أنه انطوى في مادته (2) بفقراتها التي تحظر سن أي قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية ،على مرتكز موضوعي يمكن أن ينهض أساساً لهذه الفكرة في التطبيق القضائي. فمؤدى هذه المادة ليس مجرد تقرير قيمة سياسية أو قاعدة تنظيمية، بل وضع قيود موضوعية على السلطة التشريعية تمنعها من إصدار قوانين تهدر جوهر النظام الدستوري أو تقوض المبادئ الأساسية التي يقوم عليها. وعليه فإن المحكمة الاتحادية العليا – بوصفها الحارس الأمين للدستور ومناط حماية بنيانه – مدعوة إلى ترسيخ اجتهاد دستوري يؤسس لمجموعة من المبادئ فوق الدستورية العراقية المستمدة من روح الدستور وثوابته وقيمه العليا، وعلى رأسها صيانة الحقوق والحريات، وضمان التداول السلمي للسلطة، وتكريس مبدأ المساواة أمام القانون، والحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها. فتبني هذا الاتجاه لا يمثل خروجاً على النص الدستوري، بل تفعيلًا لمضمونه القيمي وضمانة لحيويته واستمراره في مواجهة مخاطر الانحراف التشريعي أو التعديلات الدستورية الهدامة، بما يحقق التوازن بين سلطان الإرادة الشعبية من جهة، وضرورة حماية جوهر الدستور والدولة القانونية من جهة أخرى، وهو ذات المنهج الذي نهضت به التجارب الدستورية الرصينة في الدول الديمقراطية.
#منير_حمود_الشامي (هاشتاغ)
Munir_Alshami#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟