|
ثورة 14 أكتوبر الخلفية،المسار، الاستقلال 4-5
قادري أحمد حيدر
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 00:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م، ثورة التحرير والاستقلال الوطني الكامل غير المنقوص أرضًا وسيادةً، نستحضر بكل فخر واعتزاز ملحمة النضال التي تُوِّجت بتحقيق وحدة الجنوب في إطار دولة وطنية جنوبية يمنية مستقلة، ولأول مرة منذ قرون طويلة.
•- ثورة 14 أكتوبر.. الخلفية، المسار، الاستقلال (5-4)
الاقتتال الداخلي.. بين لذة السلطة وحلم الاستقلال: في تصوري أن البعض يخطئون حين يكتبون أن الاقتتال الداخلي بين الجبهتين: (القومية/ التحرير) في الأشهر الأخيرة من العام 1967م، بأنه "حرب أهلية" أو "اقتتال أهلي"، وهو إسقاط اصطلاحي مفهومي خارجي لا علاقة له بالواقع ولا بحقيقة ما كان يجري بين الجبهتين. ولذلك يوصفه البعض خطأً بـ"الحرب الأهلية"، وهو توصيف ومفهوم غير واقعي وغير دقيق، هو – كما أرى – اقتتال داخلي محدود بين الجبهتين ليس له أبعاد مذهبية/ طائفية أو قبلية أو جهوية مناطقية، وليس له خلفيات سيكولوجية اجتماعية ثقافية تاريخية، هو اقتتال لا يتجاوز حدود مناطق جغرافية صغيرة/ محدودة، مناطق لها أهمية في الجغرافيا السياسية الصراعية بين الجبهتين، يسعى كل طرف لتكون هذه المنطقة الجغرافية أو تلك تحت سيطرته. اقتتال محدود ودام لأشهر قليلة من النصف الثاني من العام 1967م.
اقتتال داخلي لم يتورط المجتمع فيه، ولم تتعرض بسببه أي فئة من فئات وشرائح وطبقات المجتمع للعنف والقتل على الهوية السياسية أو المناطقية أو القبلية، والتي هي من سمات وملامح أي حرب أهلية. فالبنية الاجتماعية والثقافية التاريخية في جنوب البلاد تشكلت تاريخيًا إلى حد بعيد ضمن حالة سوسيولوجية/ سياسية/ ثقافية ليست صراعية حد التناقض الاجتماعي السياسي الثقافي الحاد، إلا في حدود بسيطة ومحدودة. كما أنها لم تعش الحالة المذهبية/ الطائفية الصراعية، بسبب وحدة المجتمع من الناحية المذهبية، ولم يتحول المذهب الشافعي إلى "شافعية سياسية سلطوية" تحت أي ظرف، أي لم يتحول إلى سلطة سياسية طائفية بيد هذا الطرف أو الآخر في أي مكان أو منطقة من مناطق جنوب البلاد. كما أن التركيبة القبلية تخلصت تدريجيًا وتاريخيًا إلى حد بعيد من الكثير من عوامل الصراع التي شهدها شمال اليمن في ظل الإمامة، حيث كانت القبيلة تشكل وتمثل الذراع العسكري للإمامة بعد تلبسها بغطاء مذهبي، وهو ما نتج عنه في واقع الممارسة: زيدية هادوية عدنانية، وزيدية قحطانية، وهي بعد الثورة والجمهورية – أي القبيلة – هي من ورثت الإمامة في كل شيء، في صورة "دولة القبيلة" و"الجمهورية القبلية". وهي قضايا وأمور لم تعرفها تجربة السياسة والاجتماع والثقافة في جنوب اليمن.
قطعًا عرف المجتمع في جنوب البلاد، وفي جنوب الشمال، صراعات قبلية وعشائرية ومناطقية استمرت حتى المرحلة المتأخرة، ولكنها لم تكن العامل الحاسم، بل عاملًا متغيرًا/ ثانويًا في الصراع، بما فيه الصراع السياسي الكارثي الذي جرى في 13 يناير 1986م.
ولذلك أقول وأؤكد على أن ما جرى في جنوب البلاد بين الجبهة القومية وجبهة التحرير هو اقتتال بين أطراف سياسية مجردة. من مقدماته، أو من (أسبابه):
أولًا: وعود بريطانيا المتكررة منذ النصف الثاني من الستينيات بالانسحاب وتسليم السلطة عبر التفاوض للأطراف السياسية المتحاورة معها، وبشروطها المعروفة والمعلنة (بقاء القاعدة البريطانية أو تأجيرها)، وهو ما أشعر البعض باقتراب موعد استلامه السلطة "لذة السلطة".
وثانيًا: أن الانسحاب من الدمج في 12/12/1966م، وجه ضربة لشعار التسوية السياسية في اليمن جنوبًا وشمالًا، هذا من جهة، كما أنه راكم من العوامل الذاتية للصراع حتى الاقتتال بين الجبهتين من جهة أخرى، وهو ما كان.
على أن لا ننسى هنا أهمية كثافة حضور بعد السيطرة السياسية على السلطة (لذة السلطة)، من خلال التفاوض مع بريطانيا، أو من خلال الكفاح المسلح بدرجة أقل وأخف، حيث الهم السياسي الوطني التحرري المقاوم ضد الاستعمار كان هو الهم الطاغي، فمن يذهب لمقاومة المستعمر مقدمًا روحه فداءً للاستقلال عبر التحرير بالكفاح المسلح لا يمكنه أن يجعل هم السلطة في المرتبة الأولى، ومع ذلك بقي بعد الصراع السياسي قائمًا، في صورة: لمن تكون الغلبة في السيطرة على السلطة بعد الاستقلال.
وجاء إسقاط/ واحتلال مدينة كريتر بيد الجبهة القومية لأكثر من عشرين يومًا في 20 يونيو 1967م، بعد تمرد محدود للجيش والأمن. جاءت تلك السيطرة العسكرية والسياسية، أو بتعبير أدق إسقاط المدينة كريتر (عدن)، من قبل الجبهة القومية، وفرض حكمها الخاص القصير على المدينة، وكأنه من جهة (عربيًا) الرد اليمني الجنوبي على هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967م، ومن جهة أخرى (يمنيًا) وكأنه بمثابة البروفة السياسية والعسكرية والوطنية لاستلام الجبهة القومية للسلطة، ومن أنها الأكثر قوة وحضورًا وفاعلية على الأرض، وهو ما ضاعف أكثر من عوامل انفجار الصراع وهاجس الاقتتال على السلطة، في محاولة لاستفراد كل طرف بـ"لذة السلطة"، وكأن الاستقلال في لحظة من اللحظات السياسية تحول إلى مطية لتبرير وشرعنة الاقتتال الداخلي.
ومن هنا، حديثنا عن ثلاثية: الاقتتال الداخلي، ولذة السلطة، وحلم الاستقلال، الذي يشرح ويفسر حالة الاقتتال الداخلي بين الجبهتين.
وتقديري أن عوامل "الاقتتال الداخلي" عديدة، جميعها أسباب سياسية (لذة السلطة)، على أن أهم عوامل انبعاثها وتفجرها هو صاعق رفض الدمج والانسحاب من جبهة التحرير. اقتتال بدأ على الجبهة الدعائية الإعلامية "الحرب أولها كلام"، وقد حسم مؤتمرا الجبهة القومية الثاني "جبلة" يونيو 1966 والثالث "حُمر" أغسطس 1966م، اللذان أكدا على خيار الخروج من جبهة التحرير.
وجاءت حركة/ انتفاضة 14 أكتوبر 1966م تتويجًا لذلك المسار. وليس اعتقال واحتجاز المخابرات المصرية لقيادات الجبهة القومية ومنع الدعم المالي والعسكري عنها، حتى حرمان قيادات الجبهة القومية المقيمين في مصر من الحركة السياسية (1)، في الوقت الذي ارتفعت فيه درجة التنسيق والتفاهم والدعم المصري عبر جهاز المخابرات لجبهة التحرير، الذي وصل إلى ذروته السياسية والأمنية قبيل وبعد انسحاب الجبهة القومية من جبهة التحرير.
وجدت جبهة التحرير نفسها على الأرض في مواجهة مباشرة مع الجبهة القومية، وفي واقع اختلال موازين القوة العسكرية والسياسية لصالح الجبهة القومية، وخاصة بعد أن بدأ السند الخارجي المصري يتراجع دوره أكثر فأكثر بعد هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967م، لصالح العامل الذاتي/ الداخلي في الصراع، وهو ما سرّع بوتيرة الاقتتال الداخلي بين الجبهتين لأسباب صراعية ذاتية وسياسية وعسكرية، لأن السبب الحقيقي للاقتتال يكمن في الرغبة في السيطرة على السلطة في الأرض، كمقدمة للسيطرة على سلطة الاستقلال ودولة الاستقلال بعد ذلك، على خلفية عدم الإقرار بالتعدد والتنوع (القبول بالآخر). وهنا نقرأ ونرى ثلاثية الاقتتال الداخلي بين لذة السلطة وحلم الاستقلال.
إن معظم قادة جبهة التحرير، ولا أقول جميعهم، كانوا يفكرون باستلام السلطة عبر التفاوض مع المستعمر، وآخرها المؤتمرات الدستورية اللندنية 1963-1964-1965م التي فشلت.
فقد كان الاستعمار البريطاني كلما تصاعد مد الكفاح الفدائي المسلح في عدن والأرياف السلاطينية، يرفع من حمى سقف اجتماعات ما يسمى بـ"المؤتمرات الدستورية اللندنية" للإعلان عن أن هناك مفاوضات سياسية يمنية/ بريطانية لتسليم السلطة عبر المفاوضات، حتى تحولت المؤتمرات الدستورية إلى لعبة سمجة رفضها بعض الأحرار الوطنيين من أبناء جنوب اليمن، بعد أن تزايدت الضغوط السياسية الاستعمارية على الوفد اليمني المفاوض لانتزاع مكاسب سياسية مطلقة للاستعمار، وعدم القبول بالمطالب السياسية للجانب اليمني المفاوض، وكان على رأس الرافضين المناضل عبدالقوي مكاوي، حتى كان خروج السلطان أحمد بن عبدالله الفضلي الذي لجأ إلى مصر الثورة، وتبعه عدد من الوزراء، وكان عبدالقوي مكاوي على رأسهم (2).
كان الأستاذ المناضل عبدالقوي مكاوي، ومعه محمد سالم باسندوة، هما الأكثر وطنية ووضوحًا في موقفهما الوطني، وقد وصل الأمر بالمناضل عبدالقوي مكاوي حد تبرير وشرعنة الكفاح المسلح للدفاع عن مدينة عدن، حسب تعبيره، ومن أن العمل الفدائي المسلح ضد المحتل لمدينة عدن ضمن الحكم الذاتي لعدن حق مشروع وليس إرهابًا. هذا ما تحدث به في واحدة من ردوده الاستجوابية على بعض أسئلة أحد أعضاء المجلس التشريعي، هو هنا يتحدث عن الدفاع عن مدينة عدن، وهو بكل المعاني والمقاييس موقف سياسي ووطني متميز ومتقدم، بالقياس لآخرين، مقارنة بموقف الأستاذ عبدالقوي مكاوي، خاصة وأنه كان يدلي بهذا الكلام والحديث الناري من تحت قبة المجلس التشريعي تحت الهيمنة الاستعمارية البريطانية، وهو في موقع رئيس وزراء عدن. ومن هنا تمييزنا لدور ومكانة عبدالقوي مكاوي في قلب قيادة جبهة التحرير بعد ذلك، وفي كل مسيرته الوطنية اللاحقة.
في حديث مع مراسل صحيفة "أوبزرفر"، أعرب الأصنج عن موقف مسالم للغاية مع السلاطين والاستعمار، معلنًا أنه "لا يرغب أن يراهم أمواتًا أو مسجونين، وأن كل ما يسعى إليه هو إقامة نظام أكثر تحضرًا، وأن تنقل بريطانيا السلطة بطريقة سلمية" (3). أي أن همّ استلام السلطة من الاستعمار البريطاني عبر المفاوضات هو كل ما يعنيه. هذا الحديث كان في العام 1967م، وهو ما يزال يفكر بـ(لذة السلطة)، وبـ"الجلاء" عبر التفاوض مع المستعمر البريطاني. وهنا يكمن الفارق بين قيادة جبهة التحرير وقيادة الجبهة القومية، ولذلك كان أو بدأ الاقتتال الداخلي وكأنه ضرورة سياسية. ومع ذلك لا يتحرج البعض من "اتهام الجبهة القومية علنًا بالتعاون وبالتآمر مع السلطات الاستعمارية" (4)، مع أنها القوة الأولى المحركة لفعل الكفاح المسلح في الواقع، حسب تعبير د. محمد عمر الحبشي.
الاقتتال الداخلي جريمة سياسية ووطنية، من غير الممكن تبريره، بقدر ما كان يصعب ضبطه والتحكم فيه وتحديد من بدأ بالاقتتال هنا أو هناك، لأنه حقيقة "يصعب (...) أن تصدر حكمًا قاطعًا يحمل أحد الأطراف وزر بدء إذكاء الاقتتال الأهلي الذي كان محصلة ظروف موضوعية وذاتية معًا" (5).
إن التأخر أكثر في عدم إعلان الانسحاب من الدمج، إلى جانب عوامل ذاتية صراعية أخرى، كان يمكن أن يفجر الجبهة القومية بالخلافات (6) من داخلها، خاصة بعد حركة 14 أكتوبر 1966م، التي انتفضت ضد الدمج وكل ما يجري في البلاد.
العامل الإيجابي الهام، أن جبهة التحرير بعد أن تجمدت حركتها وشلت إرادة قوتها على الأرض، شكلت تحت الضغط فصيلًا ثوريًا مسلحًا مقاومًا تحت اسم "التنظيم الشعبي للقوى الثورية" (7) التحقت به مجاميع من الذين خرجوا من الجبهة القومية، ومن المؤيدين للكفاح المسلح في جبهة التحرير والفصائل الأخرى ومن عناصر من "حزب الشعب الاشتراكي"، وشكل هذا الفصيل الوطني المسلح قوة دعم حقيقية للثورة المسلحة من خارج وداخل جبهة التحرير (8)، وهي التي في تقديري خففت من وطأة عنف الاقتتال الداخلي باتجاه توحيد الجبهة المقاومة ضد الاستعمار وعلى طريق الاستقلال.
يشير راشد محمد ثابت في كتابه أنه جرى "تنسيق عسكري بين الجبهة القومية وعناصر من التنظيم الشعبي للقوى الثورية في المعارك ضد الإنجليز استمرت حتى الاستقلال" (9).
لقد فشلت جميع المباحثات في الداخل والخارج (القاهرة) بين الجبهتين، وتأكد الحسم لصالح الجبهة القومية على وجه الخصوص بعد استيلائها على العديد من المناطق في الريف، وسيطرتها على معظم المدن الاستراتيجية، وتحديدًا "بعد سقوط عدن صار البلد كله – حسب تعبير محمد عمر الحبشي – تحت إشرافها، وسقوط النظام الاستعماري" (10).
"وفي 13 تشرين الثاني (نوفمبر) أعلنت الحكومة البريطانية عن موافقتها على بدء المفاوضات مع الجبهة القومية، وفي اليوم التالي أعلنت القوات البريطانية أنها ستغادر عدن لا في 30 نوفمبر بل في 29 نوفمبر، تشرين الثاني" (11). وهنا بدأت مفاوضات الاستقلال الوطني وليس الجلاء (12)، كما كان يريدها جماعة الجلاء عبر المفاوضات. وتأكد ذلك أكثر بعد انحياز الجيش والأمن للجبهة القومية، وتحميل الجيش جبهة التحرير مسؤولية استمرار "الاقتتال"، وفي "مساء ذلك اليوم – 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 – أصدر قواد الجيش والبوليس بيانًا بالاعتراف بالجبهة القومية وتأييدها"، وهنا تأكد للداخل والخارج أن الجبهة القومية هي القوة الفعلية على الأرض، دون إنكار أو تجاهل دور القوى السياسية الأخرى في الكفاح السياسي والوطني المسلح في مقاومة الاستعمار البريطاني.
وبناءً على ذلك قرر المندوب السامي في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر الاعتراف بالجبهة القومية كممثل شرعي وحيد للشعب اليمني الجنوبي (13)، وصولًا لإعلان بدء مفاوضات الاستقلال مع الجبهة القومية في البداية في 20 نوفمبر حسب المقترح البريطاني ثم في 22 نوفمبر حسب رأي الجبهة القومية.
في تقديري ليس مهمًّا البحث لمعرفة من بدأ القتل/الاقتتال في المرحلة الأولى أو الثانية، ومن قتل عبدالنبي مدرم، أو بدر بعد ذلك، أو حسين القاضي، أو عبدالله عبدالمجيد السلفي، أو غيرهم من كوادر جبهة التحرير... إلخ، وهو ما يصعب تحديده في هكذا حالات: اغتيال هنا وآخر هناك، كمين هنا وآخر هناك، تفجير موقع أو منزل هنا أو هناك، كما حدث مع منزل القائد الوطني عبدالقوي مكاوي، والذي ذهب ضحيته منهم ثلاثة من أبناء عبدالقوي مكاوي (14). هو اقتتال له علاقة بمسألة السلطة (لذّة السلطة)، ومن يستلمها، ومن هنا محاولة الجبهتين السيطرة على العدد الأكبر من المناطق التي دارت فيها خريطة الاقتتال تقدّم وتراجع بين الطرفين.
قبل الاقتتال الداخلي الثاني، كانت توزعات موازين القوة في مدينة عدن والشيخ عثمان بين الجبهتين متقاربة نسبيًّا في بعض المدن، وفي قلب المعارك القتالية وتطوراتها المتسارعة، خاصة في الأرياف تحت حكم السلاطين والأمراء، كان يحدث الاختلال لصالح الجبهة القومية، وخاصة بعد " زحف الجبهة القومية على الإمارات السلاطينية لإسقاطها"(١٥), فقد كان جزءا كبيرا من قوة جبهة التحرير اتياً من فرض حالة الدمج القسري، وتضاعف الدعم السياسي والإعلامي والدبلوماسي المصري، وكذا من نظام صنعاء، خاصة بعد انقلاب الخامس من نوفمبر،١٩٦٧م، فضلاً عن دعم الجامعة العربية.
وتغليب كفّة الجبهة القومية في الحسم يعود – في تقديري – إلى خمسة أسباب أو عوامل: الأول: أنها رائدة حمل راية الكفاح المسلح والمتواجدة على الأرض منذ ما قبل ذلك، أي منذ تأسيس حركة القوميين العرب كتنظيم سياسي عام 1959م، أقرت نظريًّا وسياسيًّا في وثيقة فكرية خيار الكفاح المسلح، وصولاً إلى تأكيد حضورها أكثر منذ 1963–1966م.
الثاني: هزيمة 5 يونيو/حزيران التي أضعفت جبهة التحرير بعد أن أنهكت النظام المصري، اقتصادياً وعسكرياً بتوزيع القوات المصرية بين جبهتي، الكيان الصهيوني، وبين اليمن، على بعد المسافة من ناحية الإمداد العسكري، والتكلفة الكبيرة لذلك من جميع النواحي، وهو ما أشار اليه، الفريق، صلاح الدين الحديدي، في مواضع مختلفة من كتابه: ( شاهد على حرب اليمن).
الثالث: انتفاضة 20 يونيو/حزيران، واحتلال أو إسقاط الجبهة القومية لمدينة "كريتر"، وكانت سياسيًّا وعمليًّا بمثابة البروفة الأولى لإعلان انهيار النظام الاستعماري البريطاني. الرابع: إسقاط الجبهة القومية العديد من الإمارات والسلطنات والمشيخات في الضالع وحضرموت وفي غيرها من المناطق، وهو ما تشير إليه أغلب المصادر التاريخية.
الخامس: انحياز الجيش والأمن إلى صف الجبهة القومية.
وجميعها هي التي ساهمت في حسم الأمر سياسيًّا وعسكريًّا لصالح الجبهة القومية، وصولاً لتفاوض الجبهة القومية باسم جنوب اليمن المحتل مع المستعمر البريطاني من موقع المقاومة والتحرير.
وعند هذه اللحظة/المرحلة، صارت أو أصبحت الجبهة القومية على المسافة صفر من إنجاز الاستقلال الوطني، وهو السبب السياسي والعملي لاعتراف الاستعمار البريطاني بالجبهة القومية، وهو ما سنناقشه في الحلقة الختامية الخامسة.
الهوامش:
(1) فقد اعتُقل واحتُجزت العديد من القيادات المقيمة في مصر: قحطان الشعبي، فيصل عبداللطيف، وحتى عبدالفتاح إسماعيل الذي اعتُقل كذلك في تعز ونُقل إلى صنعاء، بسبب تحركهم السياسي والإعلامي، والأهم بسبب مواقفهم الرافضة للدمج بين الجبهة القومية وجبهة التحرير.
(2) أنظر: عبدالله عوض ناصر جيزل، اليمن الجنوبي من الاحتلال البريطاني عام 1839م إلى الاستقلال 30 نوفمبر 1967م، إلى الوحدة اليمنية مايو 1990م، (أوراق يمنية)، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، دمشق، سلسلة دراسات كل شهر العدد (55)، نوفمبر 2009م، ص52. بتصرف لا يخل بالسياق ولا بالمعنى.
(3) راشد محمد ثابت: مرجع سابق، ص334، "وفي لقاء مع وكالة سوفيتية مع علي حسين القاضي في فبراير 1963م، أجراها مندوبها في صنعاء (أناتولي بيسمن)، أجاب معلنًا أن موقف حزب الشعب الاشتراكي والمؤتمر العمالي بالقول: «إني أعلن باسم مؤتمر عدن للنقابات، وحزب الشعب الاشتراكي، أننا ضد الحرب والكفاح المسلح، وضد الإرهاب، ولهذا السبب لن نستخدم السلاح في النضال من أجل تحرير الجنوب اليمني المحتل، ونريد حل هذه القضية بالطرق السلمية، طريق المفاوضات»". أنظر سعيد الجناحي: ممهدات، مرجع سابق، ص449.
(4) محمد عمر الحبشي: مرجع سابق، ص586.
(5) أحمد عطية المصري: مرجع سابق، ص502.
(6) الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية 14 أكتوبر، ط(1)، 1993م، إعداد وتوثيق مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ص35.
(7) "التنظيم الشعبي للقوى الثورية"، تشكّل في أكتوبر 1966م، أي بعد الدمج بين الجبهة القومية والتحرير بحوالي عشرة أشهر، وقبل حوالي سنة من إنجاز الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م، ولعب دورًا مشرفًا في الكفاح الوطني المسلح خلال هذه الفترة.
(8) الندوة الوطنية التوثيقية: مرجع سابق، ص55.
(9) راشد محمد ثابت: ثورة 13 أكتوبر اليمنية، ص430.
(10) محمد عمر الحبشي: مرجع سابق، ص593.
(11) هناك فارق سياسي ووطني نوعي بين مصطلحي أو مفهومي الاستقلال والجلاء: الاستقلال عبر التحرير الوطني المسلح هو الذي ينجز الاستقلال الكامل والناجز عبر الثورة الشعبية الوطنية التحررية كما في الجزائر وجنوب اليمن، أما الجلاء فهو الذي يتم عبر المفاوضات السياسية مع المستعمر، أو عبر الانقلاب العسكري (مصر)، وفي غيرها من التجارب في المنطقة العربية: تونس، المغرب، أو في تسليم السلطة من قبل المستعمر بالتفاهمات الفوقية مع بعض الأمراء والمشايخ، بدون مقاومة مسلحة وحتى بدون مفاوضات سياسية، وفق ما تم التعارف عليه بين المستعمر والمشايخ، ونموذج ذلك هو حال دولة الإمارات العربية المتحدة في بداية السبعينيات.
(12) ناؤومكين: مرجع سابق، ص209.
(13) محمد عمر الحبشي: مرجع سابق، ص592، أنظر كذلك فيتالي ناؤومكين: مرجع سابق، ص205.
(14) بعدجريمة تفجير منزل عبدالقوي مكاوي بتاريخ 27 شباط/فبراير 1967م، وجّهت السلطات البريطانية مباشرة التهمة للجبهة القومية، "هلك من جرّائه – التفجير – 6 أشخاص من بينهم 3 من أصل 4 من أبناء زعيم جبهة التحرير عبدالقوي مكاوي، الذي لا يشك أحد في وطنيته وثوريته". أنظر حول التفجير، فيتالي ناؤومكين: مرجع سابق، ص176، وهي جريمة سياسية ووطنية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، المستفيد الوحيد منها الاستعمار، والمتوقع أنه من يقف خلف هذه الجريمة. ١٥ محمد عمر الحبشي: مرجع سابق، ص٥٨٤
#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثورة14 أكتوبر الخلفية المسار الاستقلال 3-5
-
• ثورة 14 أكتوبر.. الخلفية المسار الاستقلال. 2-5
-
ثورة 14 أكتوبر...الخلفية،المسار،الاستقلال 1-5
-
ثورة 26 سبتمبر والسعودية 2-2
-
ثورة 26 سبتمبر..والسعودية1-2
-
جار الله عمر في مذكراته...وفي ذاكرتي 3-3
-
الشهيد جار الله عمر في مذكراته...وفي ذاكرتي 2-3
-
جار الله عمر في مذكراته... وذاكرتي 1-3
-
أحمد محمد نعمان. قراءة فكرية وسياسية 4-4
-
أحمد محمد نعمان،قراءة فكرية سياسية 4-4
-
أحمد محمد نعمان،قرآءة فكرية سياسية 3-4
-
أحمد محمد نعمان، قراءة فكرية سياسية 3-4
-
أحمد محمد نعمان قراءة فكرية سياسية 2-4
-
الأستاذ محمد احمد نعمان بين المقابلة ولمذكرات والسيرة 1-4
-
الأستاذ أحمد محمد نعمان سيرة عطرة لم تكتب 1-4
-
ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3
-
ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 2-3
-
ناجي العلي، الوطن والفن
-
الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 2-2
-
الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 1-2
المزيد.....
-
عرض مبهر لـ -Anyma- في مصر وانطلاق موسم الرياض.. الأبرز في أ
...
-
مصر تتحرك لتعويض فجوة الطاقة.. والسيسي يلتقي ممثلي -أباتشي-
...
-
بعد إدانته في قضية التمويل الليبي.. ساركوزي إلى السجن في 21
...
-
العاهل الأردني لبي بي سي: -الشرق الأوسط سيُواجه مصيراً مظلما
...
-
قمة شرم الشيخ: الوسطاء يوقّعون اتفاق دونالد ترامب لوقف إطلاق
...
-
قمة شرم الشيخ.. قادة الولايات المتحدة وقطر ومصر وتركيا يوقعو
...
-
بين الدفاع الجوي وصواريخ -توماهوك-.. زيلينسكي يزور واشنطن هذ
...
-
نهاية -كابوس طويل ومؤلم-.. توقيع وثيقة وقف الحرب في قطاع غزة
...
-
قمة شرم الشيخ: اتفاق تاريخي حول مستقبل غزة
-
فرنسا: ساركوزي يودع السجن في 21 أكتوبر تنفيذا لحكم في قضية ا
...
المزيد.....
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
المزيد.....
|