أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قادري أحمد حيدر - ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3















المزيد.....


ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3


قادري أحمد حيدر

الحوار المتمدن-العدد: 8408 - 2025 / 7 / 19 - 09:03
المحور: الادب والفن
    


ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية


(3-3)


3- ناجي العلي والفن، في الممارسة السياسية:



عملية فصل الأدب والفن عن السياسة، والممارسة السياسية، لها تاريخ طويل في الوعي الاستبدادي التاريخي العالمي.

وهي في التحليل الأخير محاولة لاستمرار اجترار فكرة قديمة – جديدة، (الفن للفن) التي جاءت كرد فعل، أو احتجاج رومانسي على الرأسمالية لحظة تحولها إلى عنف وقهر لإرادة الإنسان، واستلابه واغترابه عن قواه الحية التي ينتجها.. وتحت غطاء وشعار نقاء الأدب، والفن، واعتبارهما عملية ذاتية مطلقة، وحالة داخلية فردية مجردة، مفصولة ومعزولة عن الواقع والعالم، جرت محاولة بلورة وتعميم فكرة وقضية فصل الأدب والفن عن الواقع، وعن الفكر السياسي، والممارسة السياسية الاجتماعية تحديداً.

والهدف البعيد لذلك تجريد الأدب والفن، والفكر من روح النقد وفكرة مقاومة العفن السائد، وتحويل الأدب والفن إلى عملية أدبية لغوية، جمالية فنية، صرفة لا صلة لها بقضية تجديد الحياة وتغييرها. وتلك العلاقة الضدية التناقضية الموهومة بين الأدب والفن، والممارسة السياسية، هي ما تمرد ناجي العلي عليها ورفضها، وهو ما يفسر القيمة الأخلاقية والفنية لإبداع ناجي العلي، واستمرار الهجوم عليه – من القلة الرسمية الفلسطينية والعربية – حتى بعد استشهاده النبيل.

إن الجمع الخلاق لناجي العلي بين الرسم والفن والسياسة، ورفضه تحويل فنه الكاريكاتيري إلى وسيلة إضحاك، وتنكيت وتبكيت، إضحاك من أجل الإضحاك، وسخرية شخصية لا معنى لها، هو ما جعله مرفوضاً، وغير مرحب به من قبل البعض، ومن جانب آخر حوله إلى أسطورة فنية وثقافية، ومدرسة جديدة في فن الكاريكاتير.

لقد جسد ناجي في فنه وسلوكه وحياته العملية وحدة الفن والسياسة، ووصل إلى ما يريده من الفن، ومن الموقف السياسي، وفي ذلك ينطبق عليه ما قاله الفنان التشكيلي عدلي رزق الله، في واحدة من أجمل كتاباته النثرية عن قضية الوصول إلى الفن: "الوصول إلى حدي الأقصى حلم حياتي في الفن (...)، والفن بداية أبداً، الفنان على طريق البداية حتى موته الجسدي، الوصول خدعة لو اعتقدها الفنان، كان في هذا الاعتقاد نهايته. والفنان خارج على القانون، وخالق لقانون فوضوي وملتزم في آن واحد!! كيف؟ هذا سر جمال الفن" (1).

ناجي فنان الفقراء والبسطاء، فنان الشعب، وانحيازه الأخلاقي واضح على جميع المستويات.
لم يكفه الاحتلال، وتشريد شعبه في مناطق الشتات المختلفة، وإبداع فنه وأعماله الكاريكاتيرية الخالدة في مناخات الاستبداد، وفي شروط غاية في الصعوبة والقسوة، والحصار (...) حصار الاستعمار الداخلي – دون وطن ولا دولة – وحصار الاحتلال الصهيوني العنصري، بقي معها الأدب والفن والكتابة عموماً في حالة حصار مركبة، بعد أن طردته المنافي العربية ولم تقبله منافي عربية أخرى، اضطر معها إجبارياً ومكرهاً على الهجرة إلى خارج الشتات العربي كله – لندن – وحتى المنافي الأوروبية لم تسع ريشته وحلمه، فلحقه كاتم الصوت العربي إلى هناك.

"لقد أدى التضييق على التفكير والكتابة إلى هجرة المفكرين والمثقفين من العالم العربي، ثم هجرة الصحف والمجلات، فهجرة دور النشر، وأخيراً هجرة الكتابة بالعربية، ووصل الأمر إلى أن يقول أحدهم – (...) إنني لا أؤمن بسبعين بالمائة مما أكتب بالعربية، (...) إذا كنت تريد أن تعرف حقيقة رأيي فاقرأني بالإنكليزية" (2).

وفي هذا الواقع العربي الاستبدادي والمتخلف أبدع ناجي العلي فنه الكاريكاتيري النقدي الساخر، لم تخنه إرادة التحدي والمقاومة لحظة، وبقي يتحرك صوب ذرى القمم العالية في الفن والممارسة والموقف السياسي، لم يزده الاستبداد إلا مقاومة وإصراراً على مواصلة الرحلة، وكأن التاريخ عنده خطٌ صاعد أبداً، لا يعرف الالتواء والانحراف والتراجع.

وحدة الفكر والفن والسلوك في حياته العملية حيرت من يختلف معهم، وحيرت أكثر أصدقاءه من حوله، إنه فنان وسياسي وإنسان قلّ نظيره في الحياة الواقعية.

كان من قلب كفاحه السياسي اليومي، يطور ذاته، وفكره السياسي، بقدر ما كان يرفع من مستوى أدائه الفني.. بدون وعي مسبق، كان يمارس مهمة تكريس قيم ومثل عليا، ويؤدي وظيفة ودور مراكمة رأس المال المعرفي والثقافي والسياسي.

كان مفتوحاً على كل فضاءات الفكر الإنساني. من خلال حساسية فنية عالية بالحياة والوجود من حوله.

جعل من فنه الكاريكاتيري منصة إطلاق، توازي إن لم تعدل منصة إطلاق الصواريخ الحية.

إن فن ومواقف ناجي العلي، وسلوكه اليومي في الفن والحياة، أسقط وهم جناية السياسة على الأدب والفن، كما أسقطها قبلاً غسان كنفاني، وصلاح جاهين، والبردوني، والمقالح، ولوركا، وبابلو نيرودا... إلخ.

يقول إميل حبيبي في تقديمه للسداسية: "إني أحترف السياسة، وأتذوق الأدب، فأسند الواحد بالآخر، وأكتب القصة في أوقات متباعدة حين يضيق صدري عن آهة لا يقوى على حبسها" (3).

وقوفه في اصطفافه إلى جانب البسطاء، والفقراء، وانحيازه المطلق للخيار الأخلاقي، كانا عاملين مساعدين له على رفع القيمة الأخلاقية والإنسانية في الفن غالباً، بقدر ما ساعده ذلك على تطوير أدواته الفنية في حقل الإبداع الكاريكاتيري.
وبذلك جمع بشكل خلاق بين السياسة والفن، وبين المثقف والسياسي. كان ناجي فناناً عظيماً يلتقط المعاني الجميلة من المعاناة اليومية للناس، وفي الفكر اليومي، وسخافات الفكر السياسي الرسمي، كان يهندس رؤية نقدية بديلة للراهن السياسي القائم.

فناناً تشكيلياً وكاريكاتيرياً أصيلاً، حصر نفسه في إبداع فن الكاريكاتير، وأبدع أكثر من أربعين ألف لوحة كاريكاتير، أكدت جميعها وحدة السياسي والفني.

مبدعاً كان في الأصل وليس طارئاً على الفن، وهو ما أهله لإضافة شيء جديد لفن الكاريكاتير.
قال عنه جورج البهجوري: إنه "رأس من الأحجار الكريمة، وقلب يبرق بالنبل والشجاعة، كأنه قطعة نحت في متحف الإنسان بباريس، أو تمثال من تماثيل مايكل أنجلو في فلورنسا" (4).

أثار ناجي العلي بفنه ومواقفه الجميع: فنانين تشكيليين، ونقاد أدب وفن، شعراء وروائيين، ومسرحيين، مثقفين وسياسيين، سلطة ومعارضة، في جميع أقطار العالم، وغيابه الإجباري – عبر كاتم الصوت – ترك فراغاً كبيراً، لم يُملأ حتى اللحظة، ولزمن قد يطول، فمثله لا تجود به السنون سوى عبر حقب متباعدة. وكتابتنا حوله بمثابة تعزية للنفس، ومحاولة لاستعادته عبر الذكرى، بعد أن تحول إلى ذاكرة قومية وإنسانية تساعدنا على الحياة والبقاء والمقاومة.

يقول ناجي عن مهمة الكاريكاتير: "وعندي أن مهمة الكاريكاتير ليست إعلامية مجردة، بل مهمة تحريضية تبشيرية، تبشر بالأمل، والمستقبل، وعليها واجب كسر حاجز الخوف بين السلطة والناس، إن على الرسام أن يحك عقل القارئ، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أرسم عن نفس الأفكار والمبادئ (...) والكلمة عندي هي نوع من الأذان والصراخ ووسيلة التواصل مع الناس، وفي بعض الحالات أشعر بأنني بحاجة للصراخ، وإلى تثبيت موقف سياسي واضح كالشمس، فأستعمل التعليق ليصل إلى البسطاء الذين أخصهم بالدرجة الأولى.. إيصال الموقف لجميع الناس الذين لهم مصلحة في التغيير" (5).

لم يستثنِ ناجي العلي في نقده الكاريكاتيري أحداً: مؤسسة السلطة الفلسطينية، والعربية، ولا ثقافة السلطة، من (كتاب، وشعراء، وروائيين، واتحادات كتاب، وصحفيين).

ويرى البعض أن أحد كاريكاتيراته حول اتحاد الأدباء والكتاب الفلسطينيين هو الذي أودى بحياته.

وكثيرة هي الكاريكاتيرات التي تناولت اتحاد الأدباء والكتاب الفلسطينيين، وفي إحدى هذه الكاريكاتيرات يعلق ناجي قائلاً على لسان أحد رموز السلطة الفلسطينية:

"أنت جاي تعطينا دروس بالوطنية، وجاي تطلب منا نحسن خطنا.. وله.. أنت لا كاتب ولا صحفي، ولا شاعر ولا ناقد..، ولك انت، شو ومين؟؟!"
يأتي الجواب: "أنا القارئ".
كانت رسوماته الكاريكاتيرية، بمثابة حكم بات ونهائي، لقاضي قضاة محكمة عليا، وكأنه حكم الشعب، ينتظره القارئ صباح كل يوم معلقاً على صدر الصفحة الأخيرة في الصحف التي يرسم فيها (الطليعة الكويتية، والسفير اللبنانية، والقبس، والسياسة الكويتيتين، إلى القبس الدولي في لندن).

في جميعها كان يصدر أحكامه الباتة والنهائية صباح كل يوم في اللصوص والفاسدين، والقتلة، والطغاة، والجامعة العربية، والأمم المتحدة، وأمريكا، والاستعمار الجديد، وضد التطبيع والسلام الكاذب، والمفاوضات، وأصحاب الكروش من الأمام ومن الخلف، وعن الصراع الفلسطيني الفلسطيني، والفلسطيني العربي، وصباح كل يوم في بيروت الغربية كنا نصحو على قراءة الصفحة الأخيرة من السفير، وكاريكاتيرات ناجي، ونترك ما تبقى منها لقراءته بعد ذلك.

لم يسلم حتى محمود درويش من نقد ريشته الجارح، حين قال عنه: "محمود خيبتنا الأخيرة"، وكان رد محمود درويش عليه: "مهما جرحتني فلن أجرحك بكلمة، لأنك قيمة فنية نادرة".

وبالعودة إلى أعمال ناجي نرى بوضوح أنه مسّ الكثيرين في رسومه: من الدول إلى الأحزاب، إلى الهيئات السياسية، إلى العديد من الشخصيات السياسية، وكم يبدو الشاعر محمود درويش محقاً عندما يتساءل في مقدمته لكتاب ناجي الأول – دار السفير 1997م – "من دله على هذا العدد الكبير من الأعداء الذين سينهمرون من كل الجهات، ومن كل الأيام، وحتى تحت الجلد أحياناً" (6).

لذلك تحالف وتوحد الجميع لاغتياله (سلطة فلسطينية، وأجهزة أمنية عربية، وموساد إسرائيلي).

يبقى الاختلاف هنا بينهم في اختيار اللحظة، المكان، وهوية كاتم الصوت...
رسوماته الكاريكاتيرية شفافة، صادقة، صافية، بلورية كالماء، لا ترى من خلالها الواقع فحسب، بل تريك المسكوت عنه، وما لم تقله الحكاية، والقصيدة، والرواية، رسومات، وكتابات مغايرة، ولا تقبل بأقل من فكرة التغيير حلاً، وبديلاً، لذلك تأتي رسومه صاعقة، داهشة، مرعبة، تقول ما لديها دفعة واحدة، و... نقطة.. على السطر.

رسومات لا تقبل إلا بتسمية الأشياء والأشخاص بأسمائها، وعناوينها الكبيرة والبارزة، خادشة حياء الزيف المبرر لها، لا هدف لها سوى تحرير العقل، وتنوير الروح..
لوحات كانت وما تزال مؤكدة حضور الذات الإنسانية الفاعلة في التأريخ، وبقيت بعد استشهاده النبيل، تؤدي رسالتها الفنية والسياسية حيثما تواجدت، وانتشرت، معلنة استمرار المقاومة وحضور ناجي العلي في التاريخ، وأنه الحي/الشهيد، حين "هددوه بحرق أصابعه بالأسيد، رد عليهم ناجي بشجاعة: يا عمي لو قطعوا أصابع يدي سأرسم بأصابع رجلي".

لا أعتقد أن هناك أبلغ من ذلك الوصف في التحدي والصلابة، والقدرة على المقاومة.
في واحدة من مقالاته النادرة يتحدث ناجي عن الوضع الفلسطيني قائلاً:

"قبل إعلان قيام الثورة الفلسطينية كانت هناك رؤية سياسية واضحة، وبعد إعلانها تحول المخيم إلى غابة سلاح..، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدت المخيم أصبح قبائل، ووجدت الأنظمة تمزقه، ودولارات النفط لوثت بعض شبابه (...) الأنظمة العربية جنت علينا، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها" (7).

وهو أصدق نقد وتوصيف لقيادة منظمة التحرير التي تكرشت، وللأنظمة العربية التي تحولت الثورة الفلسطينية عندها إلى غطاء أو شعار أيديولوجي وسياسي لا أقل ولا أكثر، ورقة مساومة في لعبة الصراعات الإقليمية والدولية، وعلى جذرها أو مشجبها علقت حل المسألة الديمقراطية وقضايا الحريات وحقوق الإنسان، ولم تقدم حلاً للمسألة الاجتماعية، والعدالة، والتنمية، وبقي الشعار القومي ورقة في حرب المساومات والتسويات والمفاوضات التي لا سند مقاومة وتحرري يسندها، وهو ما وصل إليه حال المقاومة اليوم من تمزق وتفتت، وانقسام إلى فتح وحماس، وضفة وقطاع.

وبدون حق العودة، واللاجئين، وبدون قدس، مفاوضات وتسويات تجري خارج قرارات الشرعية الدولية، وما دون سقف حدود 5/يونيو/1967م (دولة قابلة للحياة)، دولة معلقة في فراغ الخطاب الإعلامي الأمريكي – الصهيوني المجرد.
كان في العديد من رسومه الكاريكاتيرية يكشف، مقتنعاً وموضحاً، نقطة التقاء ووحدة القيادة الفلسطينية المفاوضية، والنظام السياسي العربي الرسمي التابع للمشيئة الأمريكية، والقيادة الإسرائيلية الصهيونية، وهي نقطة التقائهم حول تجاوز قضية حق العودة – وهي جوهر القضية الفلسطينية – وإيجاد حل سياسي مالي لقضية حق العودة.

ولا أدري كيف كان سيكون حال ناجي فيما لو عاش إلى اللحظة السياسية الفلسطينية/العربية الراهنة..، فذلك أقسى عليه من الاغتيال مليون مرة، كان سينتحر برسومه الكاريكاتيرية في وجه مشاريعها السياسية الصغيرة التي تختزل القضية الفلسطينية إلى مجرد خيمة موزعة على مناطق الشتات.
لقد جاءت رسومه الكاريكاتيرية قبل سنوات عدة على اغتياله، وحتى لحظة استشهاده مشيرة ومعلنة تآكل المشروع السياسي الفلسطيني واضمحلاله، وتحديداً منذ أوسلو وإعلان السلطة الوهمية تحت الاحتلال.
تنبأت قبل استشهاده بانتفاضة الحجارة في فلسطين، بقدر ما جاءت كاشفة وفاضحة لجذور الظاهرة "الدحلانية" وبدايات إعلانها عن نفسها ووجودها في قلب السلطة الفلسطينية.

ومن هنا كانت حتمية اغتياله، ومنذ بدأ يتنبأ ويكشف بذور وجذور الظاهرة "الدحلانية"، بدأت ملامح كاتم الصوت تكتمل من حوله مهددةً حياته.

فالظاهرة الدحلانية عمرها أكبر من عمر العقيد الشاب محمد دحلان، ولذلك ليس غريباً أن تتفق جميع جهات الأجهزة على تصفيته الجسدية – فلسطينياً، عربياً، وإسرائيلياً – وليس غريباً ولا سراً إن كان اسم ناجي العلي مدرجاً على قوائم الإرهاب الإسرائيلية حتى بعد استشهاده.

ثم كيف نفسر، وبعد سنوات على اغتياله واستشهاده، قيام جهات أمنية فلسطينية في الضفة بمداهمة أماكن نشر أعماله، ومصادرة المجموعة الكاملة لأعماله، وكأنها تدرك أن اغتياله الجسدي لم يفِ بالغرض، وما زال ناجي شهيداً يطاردهم بأشخاصهم وهوياتهم السياسية، ويلعن مشاريعهم الذاتية الحقيرة. وكيف نفهم ونفسر جنون اقتلاع تمثال ناجي العلي من مكانه في بوابة مخيم "عين الحلوة"، وإطلاق الرصاص على عينيه، ويديه، مع أنه أخبرهم حين كان حياً، تحت التهديد بقطع أصابع يديه، أنه سيرسم بأصابع رجليه. وقد أفهم أن جثمانه الطاهر لم يُدفن في قريته الشجرة في فلسطين، مسقط رأسه، ولكن لا أفهم لماذا لم تُنفذ وصيته بدفن جثمانه في مخيم عين الحلوة، وجرى دفن جثمانه في مقبرة "بروكوود" تحت رقم "230190"؟ لقد حُرم حتى من حقه في اختيار مكان قبره.
إن وحدة السياسي المقاوم بالفنان، ووحدة المثقف العضوي بالفنان المستقل والحر، والملتزم بقضيته فلسطين، أمر أزعج أصحاب المشاريع الصغيرة فلسطينياً وعربياً. لم يكن ناجي حزبياً بالمعنى التنظيمي والعقائدي، بقدر ما كان ملتزماً بالقضية الفلسطينية في جوهرها العميق، لذلك كان حراً في خياراته، ولذلك جسد في حياته العملية والفنية وحدة الفني والسياسي، وحدة المثقف والسياسي.

وفي هذا السياق يقول ناجي العلي: "دور الكاريكاتير كشف عيوب المجتمع، فالكاريكاتير ضمير أمة (...) والفنان الملتزم يعبر عن هموم شعبه.. فأنا منطقة محررة، ليست مجيّرة لأي مؤسسة أو نظام، (...) وأنا بالتالي لست حزبياً، ولا أُحشِر القارئ وأدفعه لتبني موقفي السياسي والأيديولوجي، فالمعركة واضحة جداً". (8)

في واحدة من كاريكاتيرات ناجي العلي المعبرة عن أزمة السلام بين العرب وإسرائيل، والتطبيع، يأتي الكاريكاتير مصوراً باصاً من طابقين يقوده السائق "هنري كيسنجر". في الطابق الأول الجالسون وجوههم باتجاه السائق، وهم الموافقون على السلام الأمريكي، وفي الطابق الثاني ركاب جالسون ووجوههم بالاتجاه المعاكس. وهو أصدق تعبير عن أزمة السلام العربي - الإسرائيلي - الأمريكي حتى اللحظة.

ولوحة كاريكاتير أخرى تصور مواطناً راكعاً على ركبتيه، رافعاً يديه إلى السماء، داعياً الله: (اللهم احفظ دولنا العربية، وأنظمتنا، وحكامنا، وقادة ثورتنا)، ويأتيه الجواب نازلاً من السماء: (بلا هبل).

إجمالاً، يمكن القول إن الكاريكاتير فن سياسي بامتياز، فن النقد، فن جارح، فن يمتلك القدرة على إيصال رسالته بسرعة، على عكس المقال الذي يحتاج منك إلى قراءة المقال كاملاً لتكون انطباعاً أو رؤية عنه، وحول ما يريد.

النقطة الأخيرة التي أحب أن أختم بها موضوعي هذا، هي أنه ومن خلال العودة إلى قراءة إجمالي الإنتاج الإبداعي الكاريكاتيري لناجي العلي، والتي تصل إلى حوالي أربعين ألف لوحة..، يمكن الخلوص إلى حقيقة هامة، وذات دلالة فكرية وسياسية وتاريخية تميز أعمال ناجي الفنية، وهي أن رسوماته غدت وأضحت بمثابة وثيقة، بل ومحاولة جدية للتأريخ للفكر السياسي الفلسطيني والعربي، وتأريخ للمقاومة، ولحركة التحرر الوطني والقومي العربيين.

يقولون إن رسومه وفنه الكاريكاتيري سياسي مباشر، أو يغلب عليه الطابع الأيديولوجي السياسي الصرف على حساب الفكرة الفنية. فمن يستطيع أن لا يكون سياسياً في قلب ذلك الجحيم السياسي، والاستعمار الاستيطاني المفروض على تفاصيل حياة الإنسان الفلسطيني.. من الاحتلال، وقضم الأرض، والاستيطان، وتجريف الأرض ومزارع الفلاحين الفقراء، وقلع الزيتون، إلى حصار السكان بالكهرباء، والماء، والأدوية، والأغذية، إلى القتل اليومي، والاغتيال الفردي بالطائرات، ووضع أحد عشر ألفاً من سكان الضفة وغزة في السجون لسنوات طويلة وبدون محاكمات، بل ووضع الشعب الفلسطيني كله رهينة، ورفض حقه بالعودة، وبناء دولته الفلسطينية المستقلة وفقاً لقرارات الشرعية الدولية.

باختصار، حين تكون فلسطينياً، فأنت سياسي بامتياز، السياسة هي أحد مشتقات ومفردات المعاناة الفلسطينية، والاسم الآخر للفلسطيني. فلسطين في تحولاتها الديموغرافية، والجغرافية، والسياسية طيلة أكثر من ثمانية عقود هي سياسة، ولكنها استحالت من خلال ريشة ناجي العلي، وشعر درويش، إلى قضية فنية كبرى، وقضية سياسية وإنسانية بلا حدود. وليس من فراغ أن يقول محمود درويش عن ناجي العلي: "أنا أكتب وهو يرسم".

إن رسومات ناجي العلي الكاريكاتيرية تأريخ حي متحرك، إذا أردت أن تقرأ محاولات إعادة كتابة التأريخ من خلال الريشة، والحبر، والخطوط، وخلال الأربعة عقود المنصرمة، فلن نجد أصدق ولا أدق منها قدرة على ذلك من أعمال ناجي الكاريكاتيرية. إنها من أجمل الأعمال الفنية التي قدمت القضية الفلسطينية وأرخت لها، وهي بمثابة وثيقة تاريخية لكفاح شعب على كافة الصعد. فأعماله الكاريكاتيرية هي خير ما يمكن العودة إليه للكتابة عن المراحل الفاصلة، والحلقات المسكوت عنها في تاريخ كفاح الشعب الفلسطيني تحديداً، والعربي عموماً.

كان ناجي العلي يقرأ ويكتب تاريخ الشعب الفلسطيني والعربي بالريشة، والخطوط، والحبر، ويدونها بصورة يعجز معها أي باحث أو كاتب مقتدر عن تقديم ما يقدمه ناجي العلي في رسومه الكاريكاتيرية.

بل إنني أستطيع القول إن الباحث المعرفي، والسوسيولوجي، والمفكر السياسي الفلسطيني والعربي، يجد في المادة الكاريكاتيرية لناجي ما يمكن أن يشكل مادة أولية عن الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وعن تأريخ الصراع الفلسطيني العربي/الإسرائيلي، وتناقضاته، تأريخ الهزائم والانتصارات، تأريخ معاناة المواطن العربي من الأنظمة الاستبدادية.

رسوماته وتعليقاته على ما يرسم، كانت صورة مغايرة للفكر السائد (فلسطينياً وعربياً)، أقصد من حيث خطاب الفكر الرسمي. كان متى يرسم، يقدم كتابة بديلة لواقع يراه مقلوباً، ويعمل على إعادة تركيبه. كان نقده مزدوجاً، بل ومركباً، ومتعدد الأبعاد: نقداً للذات، ونقداً للواقع، ونقداً للآخر؛ الآخر في الداخل الاستبدادي، والآخر في الخارج الاستعماري. كان مفتوح التفكير على جميع الاتجاهات والجهات.. كان ناقداً لجميع مظاهر وظواهر النقص فينا وفي الواقع من حولنا.

ذلك هو ناجي الوطن والفن في جدل الممارسة السياسية.

الهوامش:

1- عدلي رزق الله، كتاب "الوصول إلى البداية في الفن وفي الحياة"، ص 13–15، مكتبة الأسرة، مهرجان القراءة للجميع، 2003م.
2- خالد القشطيني، من مقدمة كتاب "السخرية السياسية العربية"، د. كمال اليازجي، دار الساقي، بيروت، ط ثانية، 1992م.

3- إميل حبيبي، من مقدمة "سداسية الأيام الستة"، ص 7، مطبعة الاتحاد، حيفا، نقلاً عن كتاب محمد دكروب "شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة"، ص 238، مؤسسة الأبحاث العربية، ط أولى، 1978م، بيروت.
4- جورج البهجوري، مجلة الآداب اللبنانية، العدد 9–10، سبتمبر – أكتوبر 2002م، السنة الخمسون.
5- ناجي العلي، من كتاب "الشاهد والشهيد"، ص 32 و35، مصدر سابق.
6- يوسف عبد لكي، مقالة مطولة مأخوذة من الإنترنت، نقلاً من أحد أعداد مجلة العربي، تحت عنوان "عام على رحيل ناجي العلي".
7- ناجي العلي، مادة من الإنترنت.
8- ناجي العلي، كتاب "الشاهد والشهيد"، ص 37، مصدر سابق.



#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 2-3
- ناجي العلي، الوطن والفن
- الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 2-2
- الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 1-2
- سوريا بين النظام العائلي الاستبدادي والمستقبل المحهول الخلقة ...
- سوريا بين الاستبداد الأسدي العائلي وسوريا المستقبل المحهول
- مصطلحا اليمين واليسار في تجربة الحزب في جنوب اليمن 2-2
- اليمين واليسار في الحزب في تجربة جنوب اليمن
- المقاومة الفلسطينية في الواقع والخطاب الاستعماري 2-2
- المقاومة الفلسطينية في الواقع وفي الخطاب الإستشراقي 1-2
- المقاومة الفلسطينية بين الببطولة والنقد الخائن 3-3 الحلقة ال ...
- المقاومة الفلسطينية بين البطولة والنقد الخائن 1, 2 من 3
- محمد المساح إنسان فوق العادة
- الثورتان اليمنيتان سبتمبر وأكتوبر الحلقة الثانية 2-2
- جدلية السياسي والتاريخي في الثورة اليمنية 1-2
- اليمن التاريخ والهوية الحلقة الأخيرة 4-4
- لمناسبة 8 مارس اليوم العالمي للمرأة الحلقة الأولى 1 -2
- لمناسبة8 مارس يوم المرأة العالمي الحلقة الثانية والأخيرة
- اليمن التاريخ والهوية 3-4
- اليمن التاريخ والهوية الحلقة 2-4


المزيد.....




- إيشيتا تشاكرابورتي: من قيود الطفولة في الهند إلى الريادة الف ...
- فرقة موسيقية بريطانية تؤسس شبكة تضامن للفنانين الداعمين لغزة ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- -ميتا- تعتذر عن ترجمة آلية خاطئة أعلنت وفاة مسؤول هندي
- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...
- -بعد 28 عاما-.. عودة سينمائية مختلفة إلى عالم الزومبي
- لنظام الخمس سنوات والثلاث سنوات .. أعرف الآن تنسيق الدبلومات ...
- قصص -جبل الجليد- تناقش الهوية والاغتراب في مواجهة الخسارات
- اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
- الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قادري أحمد حيدر - ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3