أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - قادري أحمد حيدر - الشهيد جار الله عمر في مذكراته...وفي ذاكرتي 2-3















المزيد.....


الشهيد جار الله عمر في مذكراته...وفي ذاكرتي 2-3


قادري أحمد حيدر

الحوار المتمدن-العدد: 8457 - 2025 / 9 / 6 - 04:55
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
    


الشهيد، جار الله عمر في مذكراته.. وفي ذاكرتي

(٢ ـ ٣)

من المفارقات السياسية والواقعية حول قضية الديمقراطية والتعددية في بلادنا اليمنية في تاريخنا المعاصر، أن قيادة صنعاء وعدن اتفقتا على محاربة فكرة وقضية التعددية وهاجموها مباشرة أو من خلال أقلامهم السياسية والإعلامية بدرجات وصور مختلفة".(3)

وهو ما أشار إليه جار الله عمر، في مذكراته في الفقرة السابقة.

إن الموقف السلبي من التعددية الحزبية، أي القبول بالآخر/ المختلف، في قيادة الحزب هو الذي أضعف الحزب، وجرّأ البعض من داخل الحزب على توسيع الحملة العدائية/ الصحافية ضد جار الله عمر، وضد التعددية، لأنها قيادة مرتبكة ومتحجرة، وقفت من جانب، غالبيتها عند المحطة الأيديولوجية "السوفيتية"، من الجمود، ومصادرة التعددية، ومن جانب آخر وقفت إلى جانب صف تاريخ التعطيل العربي التاريخي للعقل "الاجتهاد"، ولذلك تبدت في اللحظة التاريخية الحاسمة من تاريخ صناعة المجد السياسي والوطني اليمني الوحدوي، ضد التعددية، وبدون رؤية واضحة للواقع وللمستقبل، ما كان يهمها ـ البعض منهم تجنباً للتعميم ـ فقط هو السلطة والسيطرة على قيادة الحزب كيفما اتفق، ولو بإعادة إنتاج دورات العنف داخل الحزب، التي بدأت بإزاحة الرئيس قحطان الشعبي ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وقتل فيصل عبداللطيف الشعبي، وإعدام الرئيس سالم ربيع علي، حتى إجبار الأمين العام للحزب عبدالفتاح إسماعيل على تقديم استقالته، وصولاً لكارثة أو بتعبير أدق جريمة الثالث عشر من يناير 1986م .. جميعها يقف خلفها الموقف السلبي من التعددية والديمقراطية.

قيادة تركت المجتمع المدني والسياسي يعيشان حالة صخب عنيف ضد التعددية وتنشر في صحافة الدولة والحزب وفي صحافة الجيش كلاماً سياسياً عنيفاً ضد التعددية، وضد من يدعون لها، بل وتترك قائداً سياسياً كبيراً، عضو مكتب سياسي فيها، يتعرض وحيداً للتهديدات التي تمس حياته الشخصية وحياة أسرته ولا تقول كلمة. وحول ذلك يمكنكم العودة إلى مذكرات جار الله عمر نفسه، وهي تجربة صعبة وقاسية عشناها جميعاً.

هي حقاً قيادة سلطوية بامتياز، لا تقبل بالتعددية لأن أصل الجذر المعرفي في عقلها السياسي، واحدي/ أحادي، لا يقبل بالآخر/ المغاير. قيادة بدون رؤية لراهن البلاد السياسي ناهيك عن مستقبلها السياسي المنشود.

ومثل هكذا قيادة حزبية لا نراها مؤهلة في حينه لقيادة البلاد نحو الوحدة. فعلاً هي هربت – القيادة – نحو الوحدة الاندماجية الفورية، من مواجهة الاختلافات والتحديات الداخلية بصورة ديمقراطية لأنها غير مؤهلة ذاتياً: معرفياً وفكرياً وسياسياً ونفسياً لذلك.

وليس موقفها السلبي من التعددية السياسية/ الحزبية سوى عنوان للجمود الأيديولوجي والتحجر العقائدي في الممارسة السياسية، خاصة تجاه فكرة وقضية التعددية، الأمر الذي كان يعني تراجع دور الحزب كقيادة جماعية للدولة وللمجتمع، وهو الذي اتضح وانكشف أكثر بعد جريمة أحداث 13 يناير 1986م، التي نتحمل مسؤوليتها جميعاً، بدرجات متفاوتة. وهنا كنا نلحظ كيف يتراجع دور الحزب السياسي العقلاني النقدي أكثر فأكثر، وكيف تتسرب وتكبر النزعة الفردية والمزاجية إلى رأس قيادة الحزب، وكذا كيف تتقدم الفردية والمزاجية السلطوية، والمؤسسة العسكرية والأمنية تحديداً كسلطة سياسية في فترات معينة – فترات الحرب أو الصراعات الداخلية – على حساب دور العملية السياسية الديمقراطية في الحزب وفي السلطة والمجتمع.

ولذلك كان الهروب إلى الوحدة كيفما اتفق خياراً سياسياً للبعض في القيادة، وليس لجميع بنية وهيئات الحزب، التي أقرت عبر اللجان المختلفة المتخصصة للحزب في صورة توصياتها لكيفية الدخول إلى مشروع الوحدة، بعد أن تغلبت الفردية والمزاجية على إرادة وقرار هيئات الحزب.

ولذلك بدأت انفجاراتها الداخلية، أقصد الوحدة الفورية الاندماجية، مع أول ستة أشهر على إعلان دولة الوحدة، ولم تكتمل السنة إلا وبدأت الاعتكافات والتأزمات، دليل على أزمة القيادة الحزبية التي وقفت مرتبكة، وشبه مشلولة على رأس صناعة قيادة دولة الوحدة.

قامات قصيرة وصغيرة، أمام حدث سياسي ووطني وتاريخي عظيم وكبير هو الوحدة. ومن هنا أزمة الوحدة السياسية الاندماجية الفورية التي شارك في إنتاجها معظمنا، إن لم أقل أغلبنا، بما فيها الحالة الجماهيرية/ الشعبوية، في طابعها الوطني اليمني، في الجنوب قبل الشمال، وليس أدل على ذلك من الاستقبال الحاشد والجماهيري الواسع لأبناء جنوب البلاد للرئيس علي عبدالله صالح عند وصوله إلى عدن قبيل الوحدة.

لقد اتفقت ضمنياً القيادتان في الجنوب والشمال قبل قيام الوحدة على رفض التعددية، من مواقع أيديولوجية/ سياسية طبقية مختلفة، وبصور ودرجات متفاوتة، حتى البشائر الجنينية للتعددية التي فرضت نفسها قبيل إعلان الوحدة، في جنوب البلاد في صورة إعلان قيام "حزب التجمع الوحدوي اليمني" يناير 1989م، بزعامة عمر الجاوي، وبداية الحديث عن التعددية والديمقراطية، جميعها تم حصارها ووئدها كمشروع سياسي وطني بالذهاب للوحدة الفورية الاندماجية.

وهو ما يشير إليه صراحة، وليس تلميحاً، جار الله عمر في مذكراته.

إن غياب موقف فكري وثقافي وسياسي من قيادة الحزب من التعددية وعدم تحديد موقف واضح منها، لا معنى له سوى أنه ارتباك وشلل في قدرة عقل الحزب الديمقراطي القيادي على تحديد المسار السياسي الصحيح لما كان راهناً وللمستقبل في ذلك الحين، أي لما نريد بشكل واضح. وكأن كل ما تبقى من هموم سياسية واجتماعية واقتصادية في الرأس القيادي للحزب، انحصر وتحدد في البقاء أطول فترة في قمة قيادة الحزب الذي يضمن لها/ لهم السلطة والمكانة، "وجاهة اجتماعية"، ليس إلا، لأن مسألة الثروة والسلطة كفساد مالي ولصوصية كانت خارج عقل وتفكير وممارسات القيادة في ذلك الحين، أقصد قيادة الحزب قبل الوحدة.

يمكن ظاهرة الفساد ظهرت لاحقاً عند القلة القليلة بعد الوحدة، بحكم الطبيعة السياسية البنيوية الاستبدادية والفاسدة التي طغت وسيطرت وهيمنت على بنية سلطة النظام والدولة بعد الوحدة، بتفكير وتوجه سياسي منظم وممنهج ومقصود.

تحول معها الحزب إلى مجرد مصدر للوجاهة الاجتماعية، في مرحلة جديدة لا علاقة لها بتاريخ الحزب السياسي والكفاحي والوطني وخاصة من بعد قيام دولة الوحدة مباشرة، بعد أن طغى وهيمن على جميع مفاصل بنية سلطة دولة الوحدة طابع ومضمون نظام علي عبدالله صالح، من خلال فرض نموذج الأخذ بالأسوأ من تجربة شمال البلاد، وليس الأخذ بالأحسن.

قيادة حزب لم تقف قبل الوحدة بجانب عضو مكتب سياسي فيها، هو الجميل والكبير والكثير، جار الله عمر، لأنه قال رأياً فكرياً وسياسياً حول قضية سياسية ووطنية بل وتاريخية/ مستقبلية، ولم يكلفوا أنفسهم بمناقشة الفكرة ـ التعددية ـ في المكتب السياسي كما يفعلون مع كل أزمة، إلا بعد أن أصبح العالم كله يرفع راية وشعار التعددية في كل مكان، وترك جار الله عمر خلال تلك المرحلة الحرجة والصعبة وحيداً تتلقفه رصاص الشائعات والاتهامات السياسية التي وصلت حد اتهامه من قبل البعض بالخيانة للوطن وللحزب، بل ووصلت من البعض حد المطالبة من عسكريين ومدنيين بفصله من الحزب ومحاكمته.

وهو ما أعلنه بوضوح جار الله عمر في مذكراته. فهل قيادة كهذه مؤهلة حقاً لأخذ الحزب إلى وحدة سياسية فورية واندماجية مع نظام ودولة أخرى؟!!

مع نظام مبني وقائم على الفساد والنهب واللصوصية والقتل، وعلى الانقسام السياسي والوطني والطائفي والقبلي والمناطقي، مع نظام تحكمه قوى حرب ومنتجة في أصلها وبنيتها الداخلية العميقة للحروب الداخلية، ومعادية في الجوهر ليس للدولة الحديثة، بل لمعنى فكرة الدولة من حيث المبدأ. وقد كان الرائي العظيم، عبدالله البردوني، مبادراً وصادقاً ومحقاً وسباقاً إلى التحذير من خطورة هكذا إجراءات في الذهاب للوحدة، وهو نقد ليس للوحدة في حد ذاتها وإنما للإجراءات والترتيبات والمفاهيم التي سبقت ذهابنا للوحدة، في واقع أنظمة شمولية، معادية في جوهرها للتعددية السياسية والحزبية.

وحول ذلك يكتب جار الله عمر في مذكراته: "أعضاء مكتب سياسي لم يكن منهم من فاه ببنت شفة، بمن فيهم الأمين العام علي سالم البيض. قلت أنا والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذه الدعوة لما تركتها ـ أي التعددية، ونشر الديمقراطية
ـ الباحث ـ ربما من يسمع هذا يقول هناك مبالغة لكني قد وصلت إلى هذه الحالة العصية ولدي استعداد لأي شيء على أن لا أتراجع عن هذا الأمر".(4)

وهذا الكلام ـ وغيره ـ لجار الله عمر مدون في مذكراته في المقابلة المطولة التي أجرتها معه الباحثة ليزا ودين.

"أتذكر هنا – والكلام لجار الله عمر في مذكراته – أنه حتى في المذكرة التي دعوت فيها إلى التعددية، راجعت بعض الأفكار وأجلتها بمقترح من الأستاذ علي محمد الصراري. كنت قد طرحت في المسودة الأولى أن مقولة "المركزية الديمقراطية"، التي طرحها لينين هي سبب كل المشكلات وكل الإخفاقات في البلدان الاشتراكية والأحزاب الاشتراكية والشيوعية، لأن هذه الفكرة أو المقولة كانت تعني الالتفاف على الديمقراطية وإلغاءها وإبقاء المركزية، وهي التي أدت إلى انعدام الشفافية، وإلى السيطرة الإدارية، وإلى خلق أحزاب إدارية، وإلغاء العمل المؤسسي داخل الأحزاب، واستبدالها بالأمين العام في نهاية المطاف والذي بدوره ألغى المكتب السياسي، والمكتب السياسي يُلغي اللجنة المركزية، واللجنة المركزية تلغي المجتمع، وفي النهاية يبقى الأمين العام وحده الذي يصدر القرارات.. إلخ.(5)

وهو ما تم تنفيذه وممارسته في حالتنا في الحزب الاشتراكي مع خيار الذهاب إلى الوحدة الاندماجية، ضداً على قرار هيئات الحزب.

هذا هو جار الله عمر، الذي وهو يكتب تسمعه وهو يحاور نفسه بعقل نقدي مفتوح، حول ما يكتب، ويشرك من يراه من رفاقه في الحوار معه بصوت عال، حول ما يكتب، بهدف رؤية كيف ينظر ويفكر الآخرون، أو من هم حوله، تجاه هذه المسألة أو تلك.

وهي صفة وسمة طيبة، تعكس روح انبساطية، وعقلاً نقدياً مفتوحاً على الآخر، وعلى الرؤى الأخرى، لا يتعصب لما يراه أو يعتقده من أفكار ومفاهيم وتصورات، وهو ما رأيته وأنا أحاوره حول مسودة كتيبه: "القيمة التاريخية لمعركة حصار السبعين يوماً"، وحول غيرها من الأفكار والقضايا، منها على سبيل المثال سلسلة مقالاته حول قضية الحرية والديمقراطية في مسارها الفلسفي، والسياسي التاريخي، كما تبدت وظهرت فيما نشره في صحيفة المستقبل.

جار الله عمر، شخصية وذاتية حرة، تجمع بين الديناميكية (الحركية) والحوارية الجدلية حول كل شيء، وذلكم في تقديري هو ما ساعده ذاتياً على القيام بتلك الانتقالات النوعية في مسيرته الذاتية الخاصة: المعرفية والفكرية والسياسية والثقافية.

كان جار الله عمر، كاتجاه عام في التفكير، يميل لفكرة الحرية في زمن تعطيل العقل وإغلاق باب الاجتهاد، الذي كان يعني تحريم الفكر الحر، وتجريم النقد، ومن هنا خروج جار الله عن التفكير السائد، وبالنتيجة عدم تقدير واهتمام من حوله بما كتبه عن "التعددية في مرحلتها الثورية، وعن التعددية الديمقراطية المفتوحة على الجميع"، بل وصمت القيادة على تخوينه السياسي من قبل جماعة تعطيل العقل والاجتهاد والنقد، الذين كانوا يجدون لهم مرجعية في رأس البعض من قيادة الحزب، في تدعيم ذلك التوجه، ولو بالصمت السلبي.

هي رحلته مع المعرفة والفكر والثقافة بمعناهم العميق؛ الثقافة الوطنية، والثقافة الإنسانية.. هي رحلة إبداعية عقلانية نقدية. ففي خلال عقدين ونصف من الزمن، موزعة على مراحل عمره المختلفة، من 1968م – 1988م، تجده وكأنه يسابق الزمن في قراءة ومتابعة الجديد في المعرفة والفكر، وهو ما جعل انتقالاته من السياسة الصراعية المحتدمة إلى الفكر النقدي العقلاني المفتوح عملية سهلة وميسورة أمام ذاته النقدية الحالمة بالتعددية وبالقبول بالآخر.

رحلة متوجة بالصدق، لأنه لم يكن يبحث عما يشابهه ويماثله، بل ما يؤكد حقيقة شرعية الاختلاف، ولو بالافتراق عما كان يتصوره ويعتقده من مسلمات وبديهيات ومطلقات.

وهنا في تقديري يكمن سر تطوره الذاتي باتجاه التقدم. فهو على معارضته للوحدة الاندماجية "الفورية" والذهاب مع رأي الجماعة، أي الأغلبية في الحزب، إلى الوحدة، شأن الكثير من قيادة الحزب وكوادره العليا، إلا أنه لم ير أن هناك سلوكاً سياسياً انتهازياً في خيار ذهاب الحزب إلى الوحدة، لأن "الحزب الاشتراكي/ كقاعدة اجتماعية عريضة" كحزب في كليته أقدم على تحقيق الوحدة بما هي خيار سياسي جماهيري ـ هو في عقل جار الله ـ خيار لممارسة الحرية، ولم يكن مدفوعاً بالضرورة بانتهاء المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفيتي، بل كان مدفوعاً بالطموحات والأحلام السابقة".(6)

كان جار الله عمر، صورة حية ونموذجية لبُدابات عقل نقدي موضوعي تاريخي، متحللاً من نرجسية تضخم الأنا إلى حد بعيد، ومن عصبوية الذاتية السياسية التجريبية، التي تكرر ذات الفعل وتنتظر نتائج مختلفة.

كان يدرك، وهو ما أشار إليه في مذكراته، أن الوحدة في عقل علي عبدالله صالح ليست إلا ضماً وإلحاقاً للجنوب، وأنه يجب حسب تفكير علي عبدالله صالح، التخلص بالوحدة من ثلاثة أشياء، حسب رأي جار الله عمر في علي عبدالله صالح:

"1- ألا يكون هناك شخصية دولية لدولة الجنوب، 2- ألا يكون هناك جيش جنوبي، 3- التخلص من الحزب الاشتراكي اليمني. هذه ثلاثة أشياء مهمة والباقي سهل. إلى جانب ذلك اعتبر المسؤولون الشماليون أن الشمال هو الأصل بسبب كثرة عدد سكانه وأنه سيتم استيعاب الجنوب واحتواؤه"(7).

أي على قاعدة الضم والإلحاق، والفرع والأصل.

وهي رؤية مشائخ، وعسكر الشمال، والقوى السياسية والاجتماعية التقليدية؛ الدينية والسياسية، التي عوقت حركة ومسيرة التقدم في شمال البلاد منذ انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م.

ومع ذلك تصور جار الله عمر، في غمار فرحته بالوحدة، وحلمه بالعودة إلى قريته، كما ذكر ذلك في مذكراته، أن بإمكان الحزب الاشتراكي بتجربته الطويلة وخبرته في الصراعات ـ الحزب الذي وصل إلى السلطة عبر الثورة في مقاومة الاستعمار وطرده حتى نيله الاستقلال الوطني ـ أن يتجاوز أحلام وأوهام علي عبدالله صالح، التي تحولت – مع الأسف – في سياق التجربة السياسية إلى حقيقة قاسية ومرة،.. إلى حرب أهلية، التهمت الوحدة السلمية، بالوحدة بالحرب وبالدم، تحت شعار زائف "الوحدة أو الموت".

ذهبت الوحدة، وبقي الموت يغطي وجه البلاد بالدم وبالسواد حتى اليوم.

أتذكر أنني عرضت عليه كلمتي التي كلفت بكتابتها من قبل أعضاء اللجنة المركزية وكوادر الحزب في الشمال، قبل أن ألقيها في قاعة دورة اللجنة المركزية التي عقدت قبل يومين من إعلان دولة الوحدة، وإعلان الحزب عن موافقته على قيام الوحدة. وكان رأيه مع الكلمة مع تخفيف لغة الخطاب السياسي الحادة ضد نظام علي عبدالله صالح، لأن ذلك لا يتناسب مع الدخول إلى مشروع الوحدة، مع أن رأيه كان ضد الوحدة الاندماجية الفورية. وهو الوحدوي والوطني اليمني. كتب مقالة حول الوحدة في مجلة الحكمة، ورد عليه عمر الجاوي منتقداً رأيه في المقال. جاءت الحياة أكدت صدقية رأيه وموقفه، لأن الأستاذ الجليل عمر كان من رموز الوحدة الاندماجية والفورية، وهو ما كان يعلنه ويكتبه عمر بن عبدالله الجاوي في كل حين.

وقد سمعت هذا الرأي من الصادق العظيم والوطني اليمني الجميل، عمر الجاوي، حول رأي جار الله عمر في الوحدة.

في ذاكرتي، حدث قربني إلى جار الله عمر أكثر، وعرفته أعمق عن قرب، كان ذلك بعد عودتي من الاتحاد السوفيتي/ موسكو 1987م، بعد استكمال دراستي في "معهد العلوم الاجتماعية"، حيث صدر قرار من المكتب السياسي بتشكيل لجنة لكتابة الجزء الخاص بفرع الشمال المتعلق بالوثيقة النقدية للحزب، وشُكّلت لجنة من التالية أسماؤهم: د. عبدالخالق عبدالمجيد، د. عبده محمد المعمري، قادري أحمد حيدر، تحت إشراف الرفيقين والأستاذين: يحيى الشامي، وجار الله عمر، واقترح علي جار الله أن أتولى الكتابة عن تجربة الجبهة الوطنية الديمقراطية، في سياق تطورها من الكفاح المسلح، إلى خيار نهج التطور السلمي الديمقراطي، وحدد مكان إقامتنا في "المعاشيق" والبقاء هناك طيلة فترة كتابة وإنجاز الجزء المخصص بكل منا، وكنا نلتقي عصر كل يوم في مقر سكننا المؤقت "المعاشيق" بالرفيقين، يحيى الشامي، وجار الله عمر، ونتداول الحديث حول كل شيء، واستفدت من الرفيق جار الله عمر الكثير، ليس في الموضوع الذي أبحث وأكتب فيه، بل وفي أشياء أخرى. حينها عرفت كم هو إنسان جميل ونبيل، وكم هي القفزات المعرفية والفكرية والثقافية التي وصل إليها وكانت، هي قفزات رؤيوية تقدمية نحو المستقبل، تعكس توقاً إنسانياً في ذاته للبحث عن الأجمل للذات وللوطن.

وكلمته/خطابه في مؤتمر حزب الإصلاح، حول الديمقراطية، وضرورة مواصلة الأعمال المشتركة، تجسيد عميق لتلك الانتقالة المعرفية والفكرية والسياسية.

أدرك خلالها الإرهاب الرسمي، السياسي، والديني/الجهادي التكفيري الإسلاموي، خطورة الممارسات، والرؤى والأفكار التي يحملها جار الله عمر في عقله وروحه، فقررا معاً (علي عبدالله صالح، وشيخ التكفير الديني عبدالمجيد الزنداني، كما تشير إلى ذلك بوضوح محاضر تحقيقات النيابة العامة التي تم القفز عليها وتجاهلها)، والتي تؤكد ضمناً على اتخاذهما معاً قرار تصفيته الجسدية، وقد تمكنا من ذلك، على أن أفكاره المنيرة ما تزال حية وحاضرة في خطاب الديمقراطية والسلام وتفرض نفسها على الجميع في جميع الأحوال.

لم أتفق مع رأي جار الله عمر، ورؤيته لانتقال الحزب الاشتراكي في قلب الوحدة إلى المعارضة، والحزب أحد أهم ركني الوحدة ودولة الوحدة، وفي ذلك الزمن المتوتر والصعب، وهو رأي لم يجد ترحيباً ولا قبولاً من الكثيرين، وهو ما يشير إليه ـ كذلك ـ جار الله عمر في مذكراته، بما لا يعني خطأ رأيه، فقط لأنه لم يكن حلاً للأزمة، بل قد يكون تعقيداً أكبر ومبكراً للأزمة.

كما أنني لم أكن مع رأيه في المشاركة في انتخابات 1997م، لأن الجرح السياسي والاجتماعي والوطني كان ما يزال مفتوحاً ونازفاً، وممارسات الفيد والغنيمة لجنوب البلاد كانت قائمة ومستمرة وبقوة، والحديث عن دخول الانتخابات في هكذا أوضاع قد لا يساعد على تماسك ووحدة الحزب واصطفافه من جديد. وستكون خسارة الحزب مزدوجة، وهذا ما كتبته في حينه.

دخول الحزب انتخابات 1997م، وفي تلكم الأوضاع المتوترة، ومع بداية ارتفاع بعض الأصوات المنادية بقوة بالانفصال، كان يعني هزيمة سياسية مركبة ومعقدة للحزب: هزيمة في الانتخابات لأن نظام علي عبدالله صالح الذي ذهب إلى خيار الحرب الأهلية، لن يسمح مطلقاً للحزب بعد فرضه الوحدة بالحرب والدم، وسقوط الآلاف من الشهداء والجرحى، بحصول الحزب الاشتراكي إلا على مقعد أو مقعدين أو ثلاثة على الأكثر، وستكون خسارة سياسية للحزب، أن يخرج من الانتخابات بهذه النتيجة، لأن حصول الحزب على نتائج طيبة ووازنة في الانتخابات يعني بالنسبة لعلي عبدالله صالح ونظامه رد سياسي ورفض عملي لمنطق فرض الوحدة بالحرب، ورفض لتحويل الجنوب إلى حالة فيد وغنيمة، وهو ما لم ولن يتم إلا بإعلان علي عبدالله صالح حرباً ثانية.

ولذلك رأيت وغيري كثير، أن المقاطعة السياسية والشغل في هذا الاتجاه هو الخيار الأسلم.

كما أن دخول الحزب الاشتراكي في هكذا أوضاع سياسية وأمنية وعسكرية يتراجع فيها بقوة ووحشية الحرب الحلم الديمقراطي/التعددي "الهامش الديمقراطي"، وفي ظل هيمنة وسيطرة سلطة الحرب والفساد والاستبداد على العملية السياسية الديمقراطية والانتخابية بصورة مطلقة، كان يعني هزيمة وخسارة سياسية وديمقراطية لنا أمام جماهيرنا، وأمام الخارج، تقول إن الحزب الاشتراكي خسر معركة الديمقراطية عبر الصناديق، كما خسر المعركة العسكرية، بسبب مشروعه "الانفصالي"، ومن أن كل قوته الانتخابية ـ أي الحزب الاشتراكي اليمني ـ إنما كانت من وجوده في قمة السلطة في الجنوب. والحقيقة أنه لم يتح لي فرصة الحديث مع جار الله حول هذه الفكرة والموقف تحديداً في حينه.

وختاماً لهذه الفقرة/الحلقة، حول ما علق في ذاكرتي مما يستحق الذكر، من علاقتي الحوارية مع القائد، الشهيد جار الله عمر، أنه اعترض بأدب الكبار على استخدامي في كتاباتي مصطلح ومفهوم أن السعودية هي "العدو التاريخي" لليمن واليمنيين، ومن أن هذا المفهوم أو المصطلح، حسب رأيه، عفا عليه الزمن، ومن أنه لم يعد له أي معنى سياسي وواقعي بعد التحولات التي شهدتها اليمن والمنطقة والعالم، وكان ذلك في مكتب د. عبدالعزيز المقالح، وكان ردي عليه كما أتذكر، ما معناه أن حاجتنا الذاتية: الفكرية والسياسية والواقعية والوطنية لاستخدام مصطلح "العدو التاريخي" تجاه السعودية، هي اليوم أكثر ٱلحاحاً مما كانت في الماضي، ومن أن المصطلح يكتسب اليوم حيويته ومصداقيته السياسية والواقعية أكثر مما كان في العقود الماضية، في ضوء ما هو حاصل من التدخلات السلبية السعودية في الشأن اليمني، ومن أن الدور السياسي "الوظيفي/التأمري" للسعودية تجاه اليمن لم يتغير، بل يتأكد ويتكرس أكثر في ذات الاتجاه العدواني ضد اليمن وضد مصالح اليمنيين. وما يزال الموقفان والرأيان على حالهما بعد رحيل/استشهاد جار الله عمر بالقتل الجبان.

ولنترك للأيام الإجابة على السؤال، فقد يكون رأي الشهيد الصديق، جار الله عمر، هو الأصح والأكثر واقعية وتاريخية، جرياً مع مقولة الإمام محمد بن إدريس الشافعي القائلة بما معناه: رأي غيري صحيح حتى يثبت خطؤه (يحتمل الخطأ)، ورأيي خطأ يحتمل الصواب، أي حتى يثبت صحته.

مع أنني، كرأي وقناعة، ما أزال حتى اليوم أكثر إصراراً على ما ذهبت إليه، من أن السعودية ما تزال هي "العدو التاريخي" لليمن واليمنيين، حتى تتغير رؤيتها وممارساتها العدوانية تجاه اليمن شعباً وارضاً وسيادة ودولة.

وكم أتمنى أن يخيب ظني وتصوري، من خلال الممارسة، لأن ذلك أفضل لنا جميعاً، بما يعني خروجنا من دائرة دوامة العنف الخارجي، الذي ينسق ويتكامل بل ويتحالف مع مسببات العنف الداخلي، بسبب الوحدة الجدلية السلبية القائمة بين الطرفين؛ الداخلي التابع، والخارجي الكفيل برعاية وحماية التابع الداخلي لصالح الخارج.

وهو ما نراه منظوراً أمامنا في صورة كل ما يحصل في البلاد شمالاً وجنوباً.

وإلى الحلقة الثالثة والأخيرة.



#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جار الله عمر في مذكراته... وذاكرتي 1-3
- أحمد محمد نعمان. قراءة فكرية وسياسية 4-4
- أحمد محمد نعمان،قراءة فكرية سياسية 4-4
- أحمد محمد نعمان،قرآءة فكرية سياسية 3-4
- أحمد محمد نعمان، قراءة فكرية سياسية 3-4
- أحمد محمد نعمان قراءة فكرية سياسية 2-4
- الأستاذ محمد احمد نعمان بين المقابلة ولمذكرات والسيرة 1-4
- الأستاذ أحمد محمد نعمان سيرة عطرة لم تكتب 1-4
- ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3
- ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 2-3
- ناجي العلي، الوطن والفن
- الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 2-2
- الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 1-2
- سوريا بين النظام العائلي الاستبدادي والمستقبل المحهول الخلقة ...
- سوريا بين الاستبداد الأسدي العائلي وسوريا المستقبل المحهول
- مصطلحا اليمين واليسار في تجربة الحزب في جنوب اليمن 2-2
- اليمين واليسار في الحزب في تجربة جنوب اليمن
- المقاومة الفلسطينية في الواقع والخطاب الاستعماري 2-2
- المقاومة الفلسطينية في الواقع وفي الخطاب الإستشراقي 1-2
- المقاومة الفلسطينية بين الببطولة والنقد الخائن 3-3 الحلقة ال ...


المزيد.....




- مصر: فيديو ما فعله رجل بزوجته وأهلها والداخلية تكشف تفاصيل
- لماذا تستهدف إسرائيل الأبراج السكنية في مدينة غزة؟
- غزة: -التهجير القسري- وخطوط مصر الحمراء
- لبنان: نائب عن حزب الله يؤكد تمسك التنظيم الشيعي بالسلاح وعد ...
- رشيد عبد الحميد:-الشعب الغزي شعب جبّار..يتألم، لكنه ينهض ويو ...
- فرق إزالة المتفجرات والألغام تواصل عملها في الخرطوم
- فتاة تنال شهادة البكالوريا الفرنسية في سن التاسعة
- 23 دقيقة من التصفيق.. ترقب لتتويج -صوت هند رجب- بمهرجان البن ...
- ما سر هذا الدعم الشرس من مودي وأمثاله لنتنياهو؟
- تونس تشيع -قتيل مرسيليا- وغضب وحزن يعم البلاد


المزيد.....

- واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!! / محمد الحنفي
- احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية / منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
- محنة اليسار البحريني / حميد خنجي
- شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال ... / فاضل الحليبي
- الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟ / فؤاد الصلاحي
- مراجعات في أزمة اليسار في البحرين / كمال الذيب
- اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟ / فؤاد الصلاحي
- الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية / خليل بوهزّاع
- إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1) / حمزه القزاز
- أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم / محمد النعماني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - قادري أحمد حيدر - الشهيد جار الله عمر في مذكراته...وفي ذاكرتي 2-3