|
الأستاذ أحمد محمد نعمان سيرة عطرة لم تكتب 1-4
قادري أحمد حيدر
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 16:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الأستاذ، أحمد محمد نعمان.. بين المقابلة والمذكرات والسيرة قراءة فكرية سياسية*
(١– ٤)
أحمد محمد نعمان، سيرة عطرة لم تُكتب.
حقًا، هو سيرة عطرة في حياة اليمن واليمنيين. اسمه بحد ذاته سيرة وتاريخ، لا يحتاج إلى إضافة كلمة.
بطل تقليدي/كلاسيكي، حكيم مشرقي.. أب الكتابة السياسية والوطنية اليمنية المعاصرة، سواء اتفقت معه أو اختلفت مع بعض رؤاه ومواقفه السياسية حول هذه المسألة أو تلك، وخاصة في بعض رؤاه السياسية التي وردت في المقابلة/المذكرات.
في هذه التناولة، ستجدون اعتراضًا سياسيًا عابرًا يتصل بمسيرة رحلة الأستاذ النعمان السياسية كما عبّر عنها في بعض المواضع من المذكرات، دون الاقتراب من بحث وتناول شخصيته ومواقفه السياسية الكلية. ولذلك سيظهر الاعتراض واضحًا، لأن المقابلة/المذكرات المسجلة ركزت عليه أو أعطته اهتمامًا أكبر وأوسع، من خلال أسئلة المحاور/الباحث الموجهة جداً، مع أن حياة النعمان زاخرة ومفعمة وممتلئة بتفاصيل معنى المجتمع والإنسان، وبمعنى حياة الشعب اليمني، وتاريخه الكفاحي، ولذلك فرض اسمه ونفسه قائدًا، و"صانعًا أول لحركة الأحرار".
ذلك أنه لديه قدرة على اكتشاف وقراءة الأشياء بشكل مختلف.. لديه القدرة على التفكير بعقل الجماعة، نجح هنا، وهناك، ولم يُوفَّق هنالك، وهذه ميزة وصفة الرموز الفكرية والسياسية الريادية والتاريخية في حياة شعوبهم.
الأستاذ النعمان شخصية مؤثرة على أكثر من مستوى؛ ولذلك من المهم دراسة اسمه على مستويين: المستوى الشخصي كإنسان: طبيعته، ميوله، تعاطفاته الإنسانية؛ كما ودراسته على مستوى إنتاجه/مؤلفاته.
هذا ما تفرضه الكتابة على أي باحث يحاول الاقتراب من اسمه وشخصيته.
وأنا في هذه التناولة/القراءة، أقف عند حد بسيط من حدود اسمه، ودوره وتاريخه، مما ورد في المقابلة/السيرة، مطلًا على ما رأيت أنه يجب الإضاءة عليه، لسبب وحيد، هو أن المقابلة/المذكرات المسجلة ركزت عليه وأبرزته أكثر مما يجب، قد يكون هو من استدعاءات تداعيات اللحظة السياسية والاجتماعية والنفسية، لحظة التسجيل.
ـ مشكلة المذكرات، المقابلة، السيرة.
سيتم التعامل مع المفردات/الكلمات التالية: المقابلة، السيرة، المذكرات، بمعنى ومفهوم واحد في هذه القراءة/التناولة، تجاوزًا للمعنى والمفهوم الاصطلاحي الدقيق لكل منها، كما هي في الدرس الاختصاصي، ذلك أنها وردت في الكتاب المعنون بـ"مذكرات أحمد محمد نعمان: سيرة حياته الثقافية والسياسية"، حاملة المفردات والكلمات الثلاث بمعنى ومفهوم واحد، أو متقارب.
فالكتاب المسجل بالصوت مع الأستاذ النعمان، يحتوي في داخله، وفي سياقاته القولية/الشفاهية، المعاني والمفاهيم الثلاث بهذه الصورة أو تلك.
فلا هي مقابلة، ولا هي سيرة، ولا هي مذكرات خالصة، هي كل ذلك، موزعة على صفحات الكتاب.
الكتاب، الذي ضمَّن الأستاذ/نعمان فيه تداعياته القولية/الشفاهية المسجلة، قال فيها رأيه الفكري والسياسي بصرامة وإطلاقية، تصل حد الحدة.. أي حد انفعالات الذاتية الإنسانية. وهو ما أعلنه في العديد من الفقرات وفي مواضع مختلفة من الكتاب.
ذلك أن أواخر العام 68، ومنتصف وأواخر العام 1969م، هي من أشدها قلقًا واضطرابًا وتوترًا (انتقالية من حال إلى آخر): هزيمة يونية/حزيران 1967م التي فرح وابتهج لها البعض من الإسلاميين، وحكام المملكة في السعودية، وكأنها انتصارهم الذاتي الخاص، وبعدها انقلاب 5 نوفمبر 1967م، الذي مهّد لأحداث 23/24 أغسطس 1968م، مع استمرار الحرب في بعض المواقع (صعدة) تمهيدًا لإخراج صيغة وصفقة ما يسمى زورًا بـ"المصالحة الوطنية".
والأهم من كل ذلك بالنسبة للأستاذ أحمد النعمان، السجن الحربي، القاسي على النفس والروح.
ولم تقف مصائب ومتاعب الأستاذ النعمان الذاتية الإنسانية عند حد السجن الحربي في مصر، بل والأنكى والأقسى على العقل والروح الوطنية لديه، سحب الجنسية اليمنية عنه من أعز رفاقه/جماعته السياسية المنتصرة. وهي التي شكّلت صدمة نفسية وسياسية كبيرة غير متوقعة، ليس بالنسبة له فحسب، بل وبالنسبة لقطاع واسع من ناس المجتمع، وهو الذي يرى فيه قطاع واسع من أبناء المجتمع اليمني مهندسًا ورمزًا لمعنى الهوية الوطنية اليمنية المعاصرة.
إن سحب الجنسية من الأستاذ النعمان، كمن يسحب روحه عنه، ويجرده من اسمه وهويته وتاريخه.. هويته الوطنية اليمنية، التي ساهم في رحلته المعرفية، والسياسية والثقافية، في تشكيلها.
في هذا المناخ السياسي والوطني الصعب، كانت وتمت المقابلة/السيرة، المذكرات، ولذلك جاء رأي الأستاذ النعمان في الكثير من المواضع/الفقرات من الكتاب مثقلاً بمتاعب وضغوطات كل ما سبق الإشارة إليه. ومن هنا، في تقديري، فإن رأي الأستاذ أحمد النعمان، خاصة حول بعض المسائل السياسية الحساسة، لم يأتِ في سياق سياسي اجتماعي وطني وذاتي طبيعي، بل في مناخ مشحون بالعنف والاضطراب والتوتر السياسي والاجتماعي والوطني.
ومن هنا – كذلك – كانت الضرورة الذاتية والعملية والفكرية والسياسية لإعادة قراءة وصياغة المقابلة، السيرة، المذكرات في حياة النعمان، وحتى بعد رحيله.
هذا تقديري الخاص، من خلال القراءة المعمقة لما احتوته صفحات الكتاب ، خاصة وأن محتوى ما ورد في المقابلة، السيرة، المذكرات تم من خلال التسجيل بالصوت.
الشيء الواضح والأكيد أنه لم تكن هناك مسافة بين الكلام والإنسان.. أي بين النعمان المرسل للكلام "السارد"، بالصوت/شفاهة، وبين زمن التسجيل.. فالمسافة تكاد تكون غير مرئية، يضاف إليها الوضع النفسي والسياسي لمرسل الكلام بالصوت، ما يجعل المسافة بين الكلام والذات المتكلمة، الساردة، مسافة صفرية.
وهذا الأمر بقدر ما قد يكون جميلًا – أحيانًا – بالنسبة للكاتب الروائي، فإنه قطعًا مضر وغير مفيد بالنسبة للمفكر والمناضل السياسي.
كما هو واضح، أن "مذكرات" أحمد محمد نعمان تمّت أو سُجلت وما تزال العقول حامية ومتوترة، والنفوس مشحونة، ليس ذلك التوتر الإبداعي المطلوب في التفكير، بل هو التوتر السياسي الذي قد يشل القدرة على التفكير أو يحرفه عن مساره السليم.
مقابلة تمّت وما تزال ذاكرة السجن الحربي ومرارته وقسوته وبشاعته حاضرة وفاعلة، ليس في العقل، بل وفي الوجدان السياسي الفردي لكل من قاسى مرارة السجن وذله وإرهابه، فضلًا عن قرار سحب الجنسية اليمنية.. السجن الذي جعل النفسية الاجتماعية والوطنية، والتفكير خلال سنة عمل الحوار/التسجيل حول السيرة الذاتية/المذكرات، للنعمان، تخرج محمّلة بالكثير مما هو راسب في قاع النفس، والروح.. الذات الشخصية والوطنية الجريحة التي ذاقت بشاعة ووحشة السجن.
ليس مع أناس عاديين، بل مع مفكرين ورجال دولة كبار لهم مكانتهم في أوساط شعبهم.. مرارة لا يمكنها أن تذهب بسهولة، خاصة بعد سنة ونصف من الخروج من السجن، ومن صدمة سحب الجنسية اليمنية، من خلال رفاق العمر، أي والمشكلة اليمنية ما تزال طريّة كقضية، وموضوعة على طاولة البحث عن حل.
أتصور لو أن زمن سرد/تسجيل المذكرات تم في زمن لاحق، فيه مسافة زمنية/تاريخية كافية تفصل النعمان عن زمن الأحداث، لكان الكثير من الصياغات ورد بشكل آخر، بل وتعدلت العديد من الأفكار.
هي ذكريات جاءت معجونة بتعب وقهر الذات الفردية/الإنسانية، مع أحداث قاسية على المستوى الفردي، وما تزال رائحة عنف الأحداث طرية وراسبة في العقل والنفس والوجدان، ومن هنا حرارتها وقوتها وحدتها في التعبير عن نفسها، وحتى لامنطقية بعض سياقاتها، بل وحتى ارتباك تسلسل بعض ما ورد في السيرة، وتناقضها مع بعضها البعض في مواضع مختلفة، لا يتسع المقام والمقال للحديث حول ذلك.
وليس في ذلك عدم تصديق أو إنكار للعديد من الوقائع والأحداث، وإنما لأن تفسيرها وقراءتها والتعبير عنها وتأويلها تم في زمن ذاتي/إنساني صعب، على ومع مفكر ورجل دولة كبير، واجه بل وتعرض للإهانة لكرامته الشخصية والوطنية من قبل دولة مساندة داعمة للثورة، لها أوضاعها الداخلية الصعبة والمعقدة.
وليس في قولنا/قراءتنا هذه أي مساس بالدور القومي والإنساني لمصر في الدفاع عن الثورة اليمنية، بل والحفاظ عليها في زمن البداية الأولى وما بعدها، التي كان يمكن للعدوان السعودي/الملكي، والاستعماري أن يكسر الثورة في مهدها.
كما أنه، وهو ما يجب أن يكون مفهومًا وواضحًا، أن ليس في ما نذهب إليه أي تبرير أو شرعنة لسجن رجال الدولة اليمنية، ذلك العمل السياسي القذر الذي طال القيادات اليمنية في السجون المصرية.
والدليل على ما نقوله، أنه وبعد أقل من أسبوع على هزيمة يونيو/حزيران 1967م، وجد النعمان ورفاقه من السجناء من كانوا المشرفين المباشرين على سجنهم، يشاركونهم نفس السجن، من شمس الدين بدران، وزير الحربية، إلى حمزة بسيوني، مدير السجون، إلى عشرات من المسؤولين عن الهزيمة؛ من العسكريين والسياسيين. وقد أشار النعمان ذاته كيف كان يحيّي على شمس الدين بدران حين يمر أمامه. وهنا انقطع التسجيل...
إن مشكلة المقابلة/المذكرات هي أنها أُمليت ولم تُكتب، أي لم يكتبها أحمد النعمان - كما كان الأمر مع القاضي عبدالرحمن الإرياني - في مناخ نفسي واجتماعي وسياسي هادئ، هذا أولًا. ثم إنها، ثانيًا، تمت بالإملاء الصوتي، وللتسجيل بالإملاء الصوتي محاذيره، حتى في الظروف العادية، كون تسجيلات السيرة تمت في مناخ تداعيات نفسية وسياسية ذاتية وطنية وقومية، لا يحكمها ويضبطها التفكير المركز، والفكر النقدي التاريخي الواضح والهادئ، أي لم يتبع ذلك التسجيل للمذكرات/السيرة مراجعة فكرية ومباشرة لكل ما نُقل عبر التسجيل.
والأهم، بل والأخطر، أنها تسجيلات تمت – كما سبقت الإشارة – في ظروف سياسية وإنسانية غير طبيعية، فوق عادية. وهذا ما جعل مقابلة/سيرة أحمد النعمان مثقلة بهموم سياسية ذاتية/شخصية، كانت ما تزال طرية وجاثمة على صدره وتفكيره، ونفسيته لحظة تسجيل السيرة/المقابلة. علمًا أن السيرة الذاتية، حتى المذكرات على أي مستوى كان من الكتابة، تتطلب الهدوء والاستراحة النفسية، وعمق التفكير والتروي، والحاجة إلى العودة للمراجعة المستمرة لما قد يكون تم نسيانه أو القفز عليه من وقائع وأحداث، خاصة وأن المقابلة/السيرة مسجلة بالصوت، مع محاذير تفريغ التسجيل، وما يصاحبه من بعض التعثرات والثغرات التاريخية (في السرد التاريخي)، والفنية في فترة التسجيل، من انقطاع وعدم قدرة على ضبط سير عملية التسجيل، كما لاحظناها في مقاطع عديدة من تفريغ التسجيلات في المحطات المختلفة، خاصة أن التسجيل استمر لفترة متقطعة (أشهر).
والأهم، بل والأسوأ هنا، أن أسئلة المحاور غير منظمة ومرتبة ضمن تسلسل تاريخي لحياة الأستاذ أحمد النعمان، أي "لم يسبق التسجيل تقسيم الحديث إلى محاور محددة يتم على أساسها صياغة الأسئلة، ولم يتولَّ التسجيل وتوجيه الأسئلة شخص مرتبط بالموضوع، ويبدو أنه قد تُرك لشخص غير متخصص (...) بروز التكرار في المعلومة الواحدة، وهو أمر غير مرغوب في الرواية الشخصية (...) ولم يُدعَّم الكتاب بالوثائق والصور اللازمة التي ورد الحديث عنها في متنه" (1).
وسيلاحظ القارئ افتقاد المقابلة/المذكرات للتسلسل التاريخي، وتداخل الحدود بين المراحل، من بداية نص المقابلة/المذكرات حتى خاتمة الكتاب.
حتى إن مراجع ومحرر الكتاب/المذكرات يعلّق قائلًا: "وربما كان واضع الأسئلة الإضافية التي سُجّلت إجاباتها في آخر شريط – يقصد محمد أحمد نعمان – لأنها أسئلة صاغها شخص مطّلع، وتختلف عن الأسئلة السابقة التي يبدو من صياغتها أن من وجّهها شخص غير مطّلع على تفاصيل سيرة النعمان" (2).
وهذه الملاحظات المنهجية، والعلمية النقدية، لا تقلل من قيمة المذكرات/المقابلة، فقد حوى الكتاب الكثير من المعلومات النادرة، ومن التفاصيل السياسية والاجتماعية المهمة حول فهمنا للتاريخ السياسي اليمني المعاصر.
وفي تقديري، أن اختيار الباحث، د. علي محمد زيد، الذي أُوكل إليه أمر تحرير ومراجعة المذكرات/الكتاب، كان موفقًا وفي محله، والذي، قطعًا، من خلال معرفتي به الشخصية والطويلة كصديق، وباحث مقتدر، قد لعب دورًا طيبًا في المراجعة والتحرير والتدقيق، وضبط الأفكار والمعاني، ووضعها في السياق الذي أراده النعمان. ومقدمته العميقة والمكثفة للمذكرات/الكتاب تدل على ذلك.
إن السيرة أو المذكرات، كقاعدة، هي تدوين لبداية وخاتمة الرحلة. طبعًا هناك استثناءات نادرة، على أنها (السيرة) تأتي في مرحلة يحتاج فيها الراوي شخصيًا/ذاتيًا للاستراحة، ليبقى مع نفسه وتاريخه يجول فيه وحوله، بعقل هادئ، وببصيرة ذاتية/فكرية ناقدة تجعل من التاريخ خلفها لإعادة قراءته كما كان، ولتأخذ منه العبرة/والفكرة، وهي تنظر إلى المستقبل.
ووجد الأستاذ/أحمد النعمان نفسه في منعرج، بل معركة تسجيل بالصوت لسيرته/مذكراته، وهو في أشد أيام الرحلة ضبابية، وتوترًا، والتوقعات حول مستقبل اليمن مفتوحة على كل الاحتمالات.
يكفي حالة سحب الجنسية اليمنية عنه، وهو في زمن ينتظر التكريم ممن حوله، وهو أمر جلل، له تبعاته الفكرية والسيكولوجية على روحه.
إن المقابلة/المذكرات أو "الرواية الشفهية التي جاءت كإجابات عن أسئلة المحاور الموجهة، قد وجّهت محتوى هذه المذكرات، وحرمت القارئ من تفاصيل عديدة. وربما كان الحال سيختلف لو أن الأستاذ نعمان قد كتب تلك المذكرات بغير تلك الطريقة، بمعنى آخر، على وفق ما يهديه إليه تفكيره وما يعتقد أنه جدير بالتسجيل، ففي هذه الحالة سنكون أمام نص مختلف، ليس في المعلومات فحسب، بل وفي طريقة العرض، وفي الأسلوب واللغة" (3).
وكأن كتاب "السيرة" – تجاوزًا – الذي أُقحم أحمد النعمان فيه، جاء ليقطع الطريق أمام المذكرات/السيرة التي كنا في انتظارها منه، حول ذاته وحول تاريخ اليمن المعاصر.
ذلك أن الأستاذ النعمان هو الأجدر والأفضل لمن سيكتب تفاصيل تلك السيرة/الرحلة، في أجزاء مختلفة تستغرق مراحلها المختلفة في تفاصيلها التي يحتويها أرشيفه ومكتبته وذاكرته الحية والمتقدة، " سردينه الحياتية", التي تختزن الكثير والكثير منها، شريطة أن تكون هناك مسافة زمنية تاريخية كافية بينه وبين الأحداث، يكون فيها العقل والنفس في حالة استرخاء واستراحة وهدوء تام، لا يعكر صفوها سطوة حضور الماضي بثقله السلبي على الكتابة/السيرة، المذكرات، تخضع خلالها السيرة – كما سبقت الإشارة – للمراجعة المستمرة: تعديل وإضافة وحذف، وهو ما لم تحظَ به السيرة/المذكرات/المقابلة التي بين أيدينا، خاصة وهي سيرة تتصل وتتعلق باسم فكري وثقافي وسياسي يمني كبير، هو بذاته تاريخ خاص وعام في تاريخ اليمن المعاصر.
كان يمكن لهذه المعالجات أن تتم في حياة النعمان، وحتى بعد فقدانه بالرحيل، مع الاحتفاظ بتنفيذ وصيته أن لا تُنشر المذكرات إلا بعد وفاته.
يمكننا أن نرى ونكتشف حالة ردود الفعل ظاهرة أثناء عملية التسجيل الصوتي للمقابلة، في حديث الأستاذ النعمان عن الوجود المصري، حيث سعى جاهدًا لتحميل المصريين كامل المسؤولية عن الحرب، وعن الانقسامات التي حدثت في اليمن، بما فيها الانقسام إلى ملكي وجمهوري، بعد أن "لم يجدوا – حسب رأيه وتعبيره – أن هذا مسيحي وهذا مسلم، أوجدوا ملكي وجمهوري. يعني نقلوا لنا الوباء الذي صنعوه في البلاد العربية ليمزقوا به شعوبها. أرادوا أن ينقلوه إلى اليمن. لم يجدوا قوميات ولا ديانات مختلفة، ولا جنسيات (جماعات عرقية) مختلفة، لا أكراد ولا روم، لأن هذا مفقود في اليمن، الذي كله شعب واحد، ولا وجود فيه لِمِلَّة أخرى، ولا لجنس آخر.
كان اليمنيون متضايقين من هذا التقسيم. فلما نُحي السلال، بقيت هناك أسلحة مرتبطة أيضًا بالتعليم الخارجي وبالنفوذ الخارجي، حتى إن القيادة التي كانت، وعلى رأسها الإرياني، كانت مُسيّرة لا مخيرة، اتخذت القرارات ضدي (التجريد من الجنسية اليمنية) دون أن تكون راضية عنها، ولكنه لم يكن قادرًا على منعها. وظل الصراع الخفي بين القوى اليمنية الخالصة وبين القوى المتأثرة بالنفوذ الخارجي، لكنهم بدأوا يتراجعون شيئًا فشيئًا، ويطرحون الآراء التي تدعو المواطنين لأن يلتقوا على صعيد واحد" (4).
علمًا أن قرار تجريد الأستاذ/ أحمد النعمان من جنسيته، وهي سابقة سياسية خطيرة غير مقبولة ولا مفهومة، ومخالفة للدستور، تم بعد خروج المصريين، وبعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، بعد أن لم يعد للمصريين أي وجود ولا أي تأثير في مجرى العملية السياسية اليمنية الداخلية، وفي ظل القيادة السياسية التي يتوافق معها الأستاذ النعمان!! وعلينا أن نبحث عن الأسباب السياسية والواقعية، وحتى الشخصية/الخاصة، التي استوجبت واستدعت اتخاذ قرار سحب الجنسية عن اسم وطني كبير.
وعوضًا عن أن يقدّم الأستاذ نعمان القراءة الواقعية والسياسية لإصدار ذلك القرار، نجده في المقابلة/المذكرات، السيرة، يخفف من العتب/ النقد، ويرفعه عن رفاقه الذين أصدروا قرار سحب الجنسية عنه، ويحمله للمصريين، وهو قمة الانحياز السياسي ضد المصريين، في واقعة مشهورة من أن لا دخل للمصريين باتخاذ قرار سحب الجنسية عن الأستاذ أحمد النعمان.
هي محاولة ضمنية لتبرئة ساحة قادة انقلاب 5 نوفمبر 1967م من اتخاذ قرار سحب الجنسية.
وهذا الكلام يثير أكثر من علامة استفهام حول من كان يحكم اليمن في تلك الفترة؟!! أي بعد خروج المصريين من اليمن.
والجميع يعلم أن الأستاذ أحمد النعمان كان من أوائل من اعترضوا على إعدام العديد من الأسماء من المكوّن الهاشمي الكريم، لمجرد النسب، وليس للموقف السياسي.
وهو من رفض سحب الجنسية عن بيت آل حميد الدين بالجملة، ثم يجد نفسه في المرحلة الجمهورية/النوفمبريّة الانقلابية، بدون جنسية، ومن جماعته السياسية المنتصرة!!
أنا على ثقة تامة أن الرئيس السلال، حتى لو انفرد باحتكار السلطة المطلقة بيديه، لن يفكر مجرد تفكير في اتخاذ مثل هكذا قرار. لأنه يعرف من هو أحمد النعمان في الحكاية الوطنية اليمنية المعاصرة.
ختامًا لهذه الفقرة، حول المذكرات أقول: إننا لم نقرأ ولم نرَ النعمان كسيرة حياة في تفاصيله الدقيقة والعميقة، بل وجدنا أنفسنا أمام مناضل وقائد سياسي، لأن الأسئلة في الغالب ركّزت على السياسي في النعمان وليس الحياتي/الإنساني فيه، وما أكثرها وأعمقها.
وكما يرى ويكتب د. سالم علي سعيد: "نستطيع القول إن مذكرات النعمان قد استطاعت أن تضع أمامنا رجلًا مناضلًا وقائدًا سياسيًا في حركة الأحرار اليمنيين، ولكن النعمان الإنسان قد غابت شخصيته" (5) لأن السياسي في اسئلة المحاور/الباحث هو الذي برز وتعملق أكثر من هيئة المحاور/الباحث عن المعنى في حياة النعمان الإنسان، لأن "المذكرات جاءت إجابات على أسئلة هذا المتلقي (الأستاذ/ يوسف إبشى)، ومن ثم فهي مذكرات موجهة للإجابة على أسئلة المحاور أكثر من كونها تسجيلًا لوقائع حياته" (6)
وهي نواقص متوقعة تلاحق وترافق كل عمل فكري وسياسي وتوثيقي كبير وجميل، كما هو الحال مع مذكرات أحمد محمد نعمان، حول سيرة حياته الثقافية والسياسية.
---
الهوامش:
هذه المقابلة أو المذكرات سجلها الأستاذ النعمان للجامعة الأمريكية في بيروت.
1- د. أسمهان عقلان العلس: (ندوة إحياء الذكرى المئوية لميلاد الأستاذ المفكر أحمد محمد نعمان)، جامعة عدن، ص185.
2- مذكرات أحمد محمد نعمان: (سيرة حياته الثقافية والسياسية)، مراجعة وتحرير د. علي محمد زيد، تقديم: فرانسوا بورغا، نادية ماريا الشيخ، ط2004م، مكتبة مدبولي / القاهرة. من مقدمة د. علي محمد زيد، ص11.
3- د. سالم علي سعيد: (ندوة إحياء الذكرى المئوية لميلاد الأستاذ المفكر أحمد محمد نعمان)، جامعة عدن، ص105.
4- كتاب مذكرات أحمد محمد نعمان: مصدر سابق، ص127.
5- د. سالم علي سعيد: (ندوة إحياء الذكرى المئوية لميلاد الأستاذ المفكر أحمد محمد نعمان)، ص120.
6- د. سالم علي سعيد: المصدر السابق، ص104.
#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3
-
ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 2-3
-
ناجي العلي، الوطن والفن
-
الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 2-2
-
الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 1-2
-
سوريا بين النظام العائلي الاستبدادي والمستقبل المحهول الخلقة
...
-
سوريا بين الاستبداد الأسدي العائلي وسوريا المستقبل المحهول
-
مصطلحا اليمين واليسار في تجربة الحزب في جنوب اليمن 2-2
-
اليمين واليسار في الحزب في تجربة جنوب اليمن
-
المقاومة الفلسطينية في الواقع والخطاب الاستعماري 2-2
-
المقاومة الفلسطينية في الواقع وفي الخطاب الإستشراقي 1-2
-
المقاومة الفلسطينية بين الببطولة والنقد الخائن 3-3 الحلقة ال
...
-
المقاومة الفلسطينية بين البطولة والنقد الخائن 1, 2 من 3
-
محمد المساح إنسان فوق العادة
-
الثورتان اليمنيتان سبتمبر وأكتوبر الحلقة الثانية 2-2
-
جدلية السياسي والتاريخي في الثورة اليمنية 1-2
-
اليمن التاريخ والهوية الحلقة الأخيرة 4-4
-
لمناسبة 8 مارس اليوم العالمي للمرأة الحلقة الأولى 1 -2
-
لمناسبة8 مارس يوم المرأة العالمي الحلقة الثانية والأخيرة
-
اليمن التاريخ والهوية 3-4
المزيد.....
-
أوكرانيا تُعلق شباك الصيد لتعطيل هجمات طائرات الدرون الروسية
...
-
دموع لا تجفّ في غزة: وداع مؤلم لضحايا الغارات الإسرائيلية ال
...
-
معارك في الظل.. إيران تعلن إفشال مشروع خارجي يهدف لتقسيم الب
...
-
كيف أثّر فن وفكر زياد الرحباني في أجيال متعاقبة؟
-
محذرًا إيران من عودة نشاطها النووي.. ترامب: سنعمل على إنشاء
...
-
بعد إسقاط الحصانة: فرنسا تطلب مذكرة توقيف جديدة بحق بشار الأ
...
-
مؤتمر نيويورك لحل الدولتين: خطوة مهمة نحو السلام في ظل تحديا
...
-
ألمانيا تعلن عن إطلاق جسر مساعدات جوي إلى غزة
-
واشنطن تدعو مجلس الأمن إلى تعديل العقوبات على سوريا
-
المرصد يتناول أبشع فصول حرب الإبادة ضد نساء غزة وأطفالها
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|