أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - قادري أحمد حيدر - ثورة14 أكتوبر الخلفية المسار الاستقلال 3-5















المزيد.....


ثورة14 أكتوبر الخلفية المسار الاستقلال 3-5


قادري أحمد حيدر

الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 02:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م، ثورة التحرير والاستقلال الوطني الكامل غير المنقوص أرضًا وسيادةً، نستحضر بكل فخر واعتزاز ملحمة النضال التي توّجت بتحقيق وحدة الجنوب في إطار دولة وطنية جنوبية يمنية مستقلة، ولأول مرة منذ قرون طويلة.


ثورة 14 أكتوبر.. الخلفية المسار الاستقلال


(5-3)
*- من الدمج القسري في 13 يناير 1966م، إلى حركة 14 أكتوبر 1966م:

إن الفترة من 1963م إلى 1965م، هي أخصب فترات تفاعل وتكامل الكفاح السياسي السلمي والمسلح، بعيدًا عن الاحتدامات والاشتباكات والتوترات الحادة بين الأطراف اليمنية المختلفة في جنوب البلاد، ففي هذه الفترة كان الجهد كله منصبًّا وموجَّهًا ضد الاستعمار البريطاني بصرف النظر عن التباينات الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية، والاختلاف حول وسائل وطرائق الكفاح ضد المستعمر، على عكس الفترة من أواخر عام 1965م، وبداية 1966م-1967م، فإن درجة التوترات والصراعات الداخلية وضد المستعمر ارتفعت وكانت على أشدها.

ففي هذه الفترة ارتفع شعار التسوية للقضية/ المشكلة اليمنية في الشمال والجنوب، وكان بدايتها السياسية الفعلية "اتفاقية جدة" 24/8/1965م، بين جمال عبد الناصر والملك فيصل، وقبل ذلك "مؤتمر الطائف" الانقلابي على المشروع الثوري الجمهوري، من 31 يوليو 1965م إلى 10 أغسطس 1965م – كما سبقت الإشارة في الحلقة السابقة – والذي أوصل خطاب التسوية السياسية الناقصة إلى ذروته الصراعية الحادة، بالتخلي عن الهدف والمبدأ الجمهوري، في محاولة من البعض استبدال الدولة الحديثة (الجمهورية) بـ"الدولة اليمنية الإسلامية".

وكأننا أمام حالة لعودة ثانية للدولة الدينية.

ففي الجنوب كان شعار "الوحدة الوطنية" وضرورة تجميع وتوحيد القوى السياسية في جنوب البلاد هو جسر العبور إلى تشكيل "منظمة تحرير الجنوب المحتل" بدون كلمة "اليمني" كهوية وطنية جامعة تؤكد على يمنية الجنوب المحتل، هذا أولاً، ووصولًا ثانيًا إلى تشكيل "جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل" وليدة الدمج القسري في 13 يناير 1966م (1).

إن ما أُسمي بالتسوية السياسية في اليمن، من نهاية النصف الأول من الستينيات، وبداية النصف الثاني منه، تحت شعارات "الوحدة الوطنية" في جنوب اليمن، وشعار "السلام وإيقاف الحرب" و"المصالحة" في الشمال، جميعها تعبير عن أزمة ذاتية مزدوجة/ ومعقدة؛ أزمة النظام السياسي العربي الرسمي من جهة، وهي بدرجة أقل – كذلك – تعبير عن أزمة القوى السياسية والثورية في الجنوب، وأزمة القيادة الجمهورية في صنعاء، التي كانت تعيش أو بتعبير أدق تتعايش ضمن حالة "ازدواجية السلطة" التي كانت قائمة في صنعاء.

هي حالة هروب للأمام على حساب الخيار الثوري في حسم الصراع مع الاستعمار والسلاطين والأمراء عملاء الاستعمار، ومع الأجنحة الإصلاحية/ التقليدية في صنعاء، التي كانت تسعى تدريجيًّا ومن تحت الطاولة للاقتراب من المشروع السياسي السعودي، كمدخل لحل المشكلة اليمنية، بعد أن رأت ووجدت في مصر عبد الناصر المعوق للتطور والتقدم في البلاد، وحتى قول البعض أن الوجود المصري احتلال واستعمار !!.

هي محاولة لضبط مدّ حركة التحرر الوطني في جنوب البلاد ضمن إيقاع الرقص على أنغام الموسيقى السياسية السعودية، ومن هنا كان قرار التوجه لإفراغ النظام الجمهوري في صنعاء من محتواه السياسي والاجتماعي والاقتصادي الوطني، بالحفاظ فقط على الشكل الجمهوري، بدون مضمون الجمهورية.

وكان الضغط هائلًا وصعبًا بل وقاسيًا، سياسيًا ونفسيًا، على عقل وفكر وروح الرئيس جمال عبد الناصر، من الجميع: من السعودية المعادية ليس الثورة في اليمن، بل ولكل حركات التحرر الوطني في المنطقة وفي العالم، بحكم ارتباطها وتوحدها بالمشروع السياسي الاستعماري، ومن المخابرات البيروقراطية المصرية المعروف دورها السلبي في مصر، ومن الغرب الاستعماري، ومن جماعات التفاوض مع المستعمر في جنوب البلاد الرافضة لنهج الكفاح المسلح إلا كشعار سياسي تكتيكي، ومن الجماعات المشيخية القبلية والعسكرية في شمال البلاد التي بدأت معارضتها للوجود المصري تدريجيًّا في البداية في مؤتمر "عمران"، وخاصة وتحديدًا في مؤتمر "خمر"، وكانت الخاتمة في مؤتمر "الطائف" بعد ذلك.

كانت الجامعة العربية، والمخابرات المصرية، واللوبي السعودي، مع القوى الاستعمارية – بصورة غير مباشرة – لهم الدور الأبرز في قضية تمرير مشروع التوحيد "الدمج" بين الجبهة القومية و"منظمة التحرير"، بعد أن عجزت "منظمة تحرير الجنوب المحتل" في فرض نفسها قوة فعلية مقررة وفاعلة في ساحة الجنوب، في وقت يتوسع فيه حضور وفعل الجبهة القومية أكثر في الميدانين السياسي والعسكري، وكذلك على مستوى العلاقة بالجماهير، حيث وجدت الجبهة القومية نفسها تتحرك خارج إيقاع الأوامر والنواهي للنظام السياسي العربي، وتحديدًا خارج أوامر المخابرات البيروقراطية المصرية، وبقي إطار "منظمة تحرير الجنوب المحتل" غير مستقر، لا سياسيًا ولا تنظيميًا ولا برامجيًا ولا كفاحيًا، فلكل طرف وحزب وشخصية رؤيته الخاصة، ولم تتشكل فعلاً كتنظيم سياسي جبهوي واحد (...)، وبقيت "الرابطة" ترفض الانصهار في المنظمة، أقصد "منظمة تحرير الجنوب المحتل"، حتى كان اجتماع 18-31 أغسطس 1965م في تعز الذي حضره ممثلو حزب الشعب الاشتراكي في تعز، والتحق بهم آخرون من القاهرة (...).
وفي هذا الاجتماع اتخذ قرار تنظيمي (...) يقضي بفصل حزب الرابطة من المنظمة ابتداءً من يوم 17 أغسطس 1965م (...). وعليه فلا علاقة لحزب الرابطة بمنظمة تحرير الجنوب المحتل، وهي قوة سياسية وازنة نسبيًا قياسًا بالآخرين، باستثناء حزب الشعب الاشتراكي (...). ولم يبق من الأحزاب والتنظيمات إلا حزب الشعب الاشتراكي، وهو الذي كان له حضور سياسي وتنظيمي فعلي على الأرض (...)، واثنان من السلاطين وبعض المشايخ (...)، وهم في الأصل معارضون لفكرة وقضية الكفاح المسلح من حيث المبدأ، وموزعون في مواقفهم السياسية بين الاستعمار، وبين الأجهزة المصرية، وبين السعودية، وبين الجناح القبلي الجمهوري في صنعاء (2)، الذي احتضنهم في صنعاء بدلًا عن الجبهة القومية التي تحولت في نظرهم إلى جبهة مارقة.

المهم هنا التأكيد أن التوحيد أو الدمج القسري ما كان ليكون ويتم لولا اختراق وعدم تماسك الصف القيادي الأول في الجبهة القومية، التي كانت موزعة بين اتجاهين، وليس ثلاثة اتجاهات أو تيارات كما أشار عبد الفتاح إسماعيل (3) في واحدة من كتاباته، وهما جناح الموافقة على الدمج بين الجبهتين، وهم الأقلية القليلة: علي أحمد السلامي، سالم زين، طه مقبل... أسماء قليلة ولكنها أسماء قيادية بارزة في الجبهة، لا يمكن لأحد أن ينكر دورها السياسي والوطني التاريخي، على أنها الثغرة التي مُرّرَت وفُرضَت من خلالها هذه الأسماء القيادية في الجبهة القومية، وبالتنسيق مع الأجهزة المخابراتية المصرية، قرار الدمج، من وراء ظهر القيادة المخوّلة بإصدار ذلك القرار، حسب تعبير قحطان الشعبي الأمين العام للجبهة القومية الذي رفض وأدان – كما سبقت الإشارة – التوقيع على الدمج، والذي جوبه بمعارضة واسعة من بعض الصف القيادي الأول، وغالبية الصف القيادي الثاني – أقصد قرار الدمج – ومن المقاتلين في الجبهات، وهم القوة القاعدية الواسعة في الجبهة؛ وهم الجناح الثاني القاعدي المقرر في الجبهة القومية.

ومن المهم في هذا السياق فهم ما كان يُعد ويُبيت له من الدمج في نص بيان التوحيد، وهو الأخطر، والذي جاء فيه النص التالي:
"أكد التنظيم الجديد أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 5/21/1965م، هو الأساس الوحيد للوصول إلى حل النزاع القائم وإحلال السلام في المنطقة" (4)، وهو نص سياسي لا يؤكد على خيار التسوية الناقصة لحل النزاع والوصول إلى الاستقلال عبر التفاوض، بل وعلى رفض – ضمنًا – خيار الكفاح المسلح، ويمكن لمن يريد الاطلاع على ذلك العودة لقراءة النص في العديد من المصادر التاريخية، بما فيها وثائق الجامعة العربية.

وبعد قرار التوحيد (الدمج) بين الجبهتين، بدأت تشكيلات الجبهة القومية السياسية والتنظيمية والعسكرية "الفدائية" بالتحرك ضدًّا على قرار الدمج، وهو الذي أفرز في سياق حركة التمرد والرفض لعملية الدمج، ظاهرة أو حالة حركة "انتفاضة" 14 أكتوبر 1966م. ويرى فيتالي ناؤومكين أن الدمج القسري سبق – أو استبق – عملية تغييرات واسعة في بنية قيادة الجبهة، تغييرات كانت تعلم بها الأجهزة المصرية، ولذلك "فليس من باب الصدفة على الإطلاق أن اختيرت فترة ما قبل عقد المؤتمر – يقصد مؤتمر جبلة – لأجل القيام بـ"الدمج القسري" (5) خطوة نحو التسوية السياسية في الشمال والجنوب.

وفي يونيو 1966م، عقد "مؤتمر جبلة" الذي قرر القبول بالبقاء في إطار جبهة التحرير، مع توضيح رأيه في الأسس التي ينبغي القبول بها للبقاء في هذا الإطار، وعلى رأسها رفض القبول بوجود السلاطين في العمل الوطني. وقد رفع هذا الموقف في تقرير أرسلته الجبهة إلى القيادة المصرية، وإلى الرئيس جمال عبد الناصر. وقد اتخذ المؤتمر قرارًا بتجميد أعضاء المجلس التنفيذي السابقين: علي الشعبي، جعفر علي عوض، سالم زين، طه مقبل، علي السلامي، وأبقت القواعد مقعدين لكل من قحطان الشعبي، وفيصل عبد اللطيف. وقد أرسلت القواعد رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر تطالب بالإفراج عنهما. وانتخب المؤتمر قيادة عامة جديدة ضمت كلاً من عبد الفتاح إسماعيل (أمينًا عامًا)، محمود عشيش، أحمد الشاعر، علي سالم البيض، محمد أحمد البيشي، علي عنتر، فيصل العطاس، علي صالح عباد (مقبل)، سالم ربيع علي، سيف الضالعي، محمد علي هيثم، عبد الملك إسماعيل (6).

ومع أن المؤتمر – جبلة – أقر البقاء في جبهة التحرير، إلا أن قراراته في الحصيلة السياسية كانت وجاءت ضد عملية الدمج، فهي تستبعد السلاطين، وجمّدت القيادة التي اتخذت قرار الدمج، وهي تطالب بالإفراج عن القيادات المعارضة للدمج، وكأنهم يتقون شرّ ردّ فعل الأجهزة المخابراتية المصرية، التي بدأت تضيق الخناق على الجبهة القومية، وتحاصرهم وتمنع عنهم المساعدات المالية والعسكرية (7)، وتعتقل العديد منهم بالتعاون مع نظام صنعاء، ذلك أن عبد الفتاح إسماعيل تم اعتقاله قبل ذلك في تعز، ونقل إلى السجن في صنعاء... وكأن نصوص وبنود المؤتمر المذكور إنما تقول إن قرار البقاء في جبهة التحرير كان قرارًا تكتيكيًا.

إن قرارات مؤتمر جبلة كانت تعكس حالة من دهاء المرونة في الدفاع عن النفس/ دهاء المراوغة والمناورة في المواجهة، دون ضرر ولا ضرار، خروج الجميع بأقل الخسائر.

لقد استخدم الإعلام الرسمي المصري، وإعلام صنعاء، كل إمكانياتهما لتشويه صورة الجبهة القومية، في الداخل والخارج، وتوجيه كل الدعم السياسي والمالي والعسكري والإعلامي لجبهة التحرير، التي هي فعليًا منظمة التحرير.

قطعًا أثّر الدمج كثيرًا على دور ومكانة الجبهة القومية سياسيًا وتنظيميًا وعسكريًا، وشلّ قدراتها الفعلية في صورة تراجع مؤقت كان لا بد أن يكون.

"وظلت القيادة الجديدة للجبهة القومية المنبثقة عن مؤتمر جبلة يونيو عام 1966م، طوال فترة التعايش ضمن جبهة التحرير تجهد نفسها في محاولات دائبة مع الأجهزة المصرية لإعادة النظر في جبهة التحرير، وإعادة تأسيس وحدة وطنية على أسس سليمة، (...) وهذه الاتصالات بين القيادة الجديدة للجبهة القومية والمخابرات العربية (....) واحتجاز بعض القيادات السابقة في القاهرة، وانشغال قيادات الداخل باللهاث وراء العمل اليومي، كل ذلك أثر على العمل المسلح وأدى إلى انخفاض مستواه، وأفرز لدى قواعد الجبهة القومية شعورًا بضرورة إعلان العمل بشكل مستقل عن جبهة التحرير، فاتخذت موقف عودة الجبهة القومية بصورة نقدية رافضة للدمج، في 14 أكتوبر 1966م، وساعد ذلك الموقف على الإسراع في عقد مؤتمر حُمر في نوفمبر عام 1966م" (8).

كان الدمج القسري في 13 يناير 1966م انتصارًا لخط التسوية العربية الرسمية، ومعهم السلاطين وجماعة رفض الكفاح المسلح في جنوب البلاد، وانتصارًا لجناح الجمهورية القبلية في صنعاء، وضربة في العمق لقضية الكفاح المسلح، ما يعني تجميد بل وإضعاف دور ومكانة الجبهة القومية في واقع الممارسة، لأنها الحاضرة والفاعلة منذ نشأتها في الأرياف والمدن على هذا الأساس السياسي وعلى قاعدة الكفاح المسلح.

لقد كانت فترة الدمج عبارة عن صراع مكبوت وعلني داخل الجبهة القومية نفسها وبين الجبهة القومية وجبهة التحرير.

انتفاضة 14 أكتوبر 1966م جاءت ردًّا سياسيًا وعسكريًا وتنظيميًا ضد الدمج.

"إن الموقف العملي لجبهة التحرير في الداخل كان عاملًا هامًا في إقناع القواعد في الجبهة القومية بأن الاستمرار في الدمج جريمة؛ فقد دأبت جبهة التحرير على تجريد أعضاء الجبهة القومية من السلاح ومنع الإعانات المالية عنهم، وكشف خلاياهم بصورة غير مباشرة للعدو، وإغراء بعضهم بالمال والمراكز للميل نحوها" (9).

وهذا بالنص ما جاء في كتاب اللجنة التنظيمية المشكلة من الجبهة القومية للرد على نايف حواتمه، ولعرض موقف الجبهة القومية من قضايا عديدة كانت مثارة في حينه، وعلى رأس هذه القضايا قضية الدمج القسري.

لقد اشتغلت الأدوات الإعلامية والسياسية الرسمية المصرية، وجهاز المخابرات العربية، وإعلام صنعاء، ضد الجبهة القومية في هذه الفترة، وهي التي كانت محسوبة على جمال عبد الناصر من بداية الكفاح المسلح. وكانت مصداقيتها عالية في جنوب البلاد وشماله، ومن هنا حساسية وصعوبة المواجهة التي اجتازتها الجبهة القومية بذكاء ومرونة سياسية عالية في إدارة لعبة السياسة والصراع.

"ولم تمضِ تسعة أشهر على انقلاب 13 يناير 1966م، حتى أعادت الجبهة القومية تصحيح الأوضاع بما يتفق ومسيرة الثورة" (10)، وفقًا لخيارها ونهجها السياسي والعسكري الذي اتخذته منذ قرار إعلان تشكيل الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل.

في تقديري أن الانسحاب من جبهة التحرير رفع من رصيد الجبهة القومية، بقدر ما سحب من رصيد جبهة التحرير.

لقد جمعت الجبهة القومية في بنيتها الداخلية (التنظيمية) بين شكلي وصيغتي الحزب والجبهة، بصورة وحّدتهما في مواجهة التحديات الآتية من الخارج، وجعلت من حالة الخلافات الداخلية أقل عنفًا وأيسر للحل، بعد أن وجدوا في الدمج أخطر تحدٍّ داخلي واجهته الجبهة القومية.

جاء مؤتمر جبلة الاستثنائي الثاني بقراراته المرنة والمواربة ليخفف ويزيح من أمام الجبهة القومية بعض العوائق الداخلية ويقلص حدة الضغط الخارجي تجاهها.

"عُقد المؤتمر الثالث للجبهة القومية "حُمر" في 29-11-1966م، واتخذ قرارين: أولاً، إعلان ممارسة الجبهة القومية مسؤولياتها الثورية خارج إطار جبهة التحرير لعجز هذه الجبهة عن الوصول للغاية المنشودة للوحدة الوطنية، ثانياً، استعداد الجبهة القومية للسعي الدائم وأخذ المبادرة من أجل إقامة وحدة وطنية سليمة (....)، ورفض المؤتمر اتفاقية الإسكندرية" (11).

الخلاصة المستفادة من الدمج القسري، أنه شلّ الحياة السياسية والكفاحية الوطنية بين الجبهتين أكثر، وزاد من حالة التوتر والصراع فيما بينهما، وجمّد حالة الجدل الفكري/الأيديولوجي، حسب تعبير عبدالفتاح إسماعيل، حتى كان قرار الانسحاب من جبهة التحرير في البيان الذي أعلنته الجبهة بالخروج من جبهة التحرير بتاريخ 12/12/1966م.

إن الدمج التعسفي بين الجبهتين "الفوقي"، بإرادة خارجية، هو الذي جعل جبهة التحرير تستقوي خلال تلك الفترة على الجبهة القومية متكئة على السند الخارجي "المخابرات المصرية"، ودورها السلبي في مصر واليمن، وهو ما راكم شروط صراعات وتوترات بين الطرفين وصلت حدّ العنف في صورة الاقتتال الداخلي.

لقد لعبت المخابرات المصرية "صلاح نصر" دوراً سلبياً في الحياة السياسية والعسكرية والثقافية، وحتى الفنية في مصر، بل وحتى في قرار الوحدة والانفصال بين مصر وسوريا، بعد أن حلّ وطغى دور ومكانة جهاز المخابرات بديلاً عن الدولة وفوقها، وتعويضاً عن غياب حزب السلطة، ومن هنا سطوة جهاز المخابرات المعلوم دوره في مصر، والذي انتقلت آثاره السلبية إلى اليمن.

فقد اختلفت القوى التقليدية القبلية والمشيخية، وجماعات الدين السياسي مع الوجود المصري في كل شيء إلا في قرار أو قانون حظر الحزبية في البلاد.

ولذلك، يكتب الفريق صلاح الدين الحديدي حول ذلك ما يلي: "كان العمل السياسي محظوراً تقريباً على اليمنيين، الأمر الذي أضعف فرصة وجود تفاعل سياسي مع الجماهير المتعطشة إلى التحرر بعد إزالة الإمامة، وكثيراً ما أُعيد إلى القاهرة بعض الضباط الشبان الذين دفعتهم وطنيتهم، أو انتماءاتهم الشخصية إلى اقتحام حديث السياسة، وانتشر تعبير جديد يقول: فلان "تأنتف"، أي ركب الطيارة "الانتينوف" وعادت به إلى مصر إبعاداً عن اليمن" (12).

وفي موضع آخر من كتابه، يضيف الحديدي ما يلي: "اعتمدت مصر، واعتمدت قيادة القوات في اليمن على نشاط وتقارير ضباط المخابرات الذين انتشروا في معظم القطاعات وكانوا العنصر المؤثر في تصوير الموقف (...)، كان الجو السياسي العام في البلاد يشبه إلى حدٍّ بعيد ما كان موجوداً في مصر في ذلك الوقت" (13).

إن جزءاً كبيراً وهاماً من العداء للاتجاه التقدمي الكامن، والمضاد لتوجهات الرئيس جمال عبدالناصر، إنما كان مصدره خفايا جهاز المخابرات، الذي -في تقديري- يتحمل جزءاً لا بأس به من صناعة قرار هزيمة حزيران/يونيو 1967م.

بدليل وضع العديد من تلك القيادات في السجون بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967م، وبعد محاولة المشير عبدالحكيم عامر التمرد السياسي والعسكري على النظام، مستعيناً بجهاز المخابرات وجماعات الفساد السياسي والمالي.

وفي هذا السياق، وحول هذه القضية، كتب أحمد حمروش، أحد كبار الضباط في تنظيم "الضباط الأحرار" ومفكريه، التالي:

"بدأ التقاء الثورة المصرية مع الثورات العربية... كان حلقة الاتصال ضباط المخابرات، وهي المصدر الذي سبق أن أوضحنا أنه كان معملاً لتفريخ المسؤولين في الأجهزة السياسية والإدارية" (14).

وهذا الدور السلبي للمخابرات هو ما يشير إليه كثيراً راشد محمد ثابت في كتابه حول ثورة 14 أكتوبر اليمنية...، في صفحات عديدة من كتابه (15).

وهي عموماً ليست فحسب ظاهرة عربية – أي المخابراتية/الدولة الأمنية – بل حالة عالم ثالثية، تركت آثارها السلبية على معظم تجارب بناء السلطة والدولة في معظم بلدان المنطقة، بل وفي العالم الثالث كله، بدرجات وصور مختلفة ومتفاوتة، وتجربة الجبهة القومية في هذا الاتجاه واضحة ومعلومة، في صورة دورات العنف الداخلية التي صاحبت التجربة.

وتجربتا حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق خير شاهد ودليل على ذلك، وهو ما نرى ونقرأ آثاره السلبية والمدمرة في صورة ما يجري في سوريا والعراق اليوم، حيث الطغاة في التاريخ هم من يستقدمون ويستخدمون الغزاة.

وبالعودة لحديثنا، ليس فيما أشرنا إليه حول المخابراتية في التجربة المصرية – وغيرها – أي انتقاص أو تقليل من عظمة وقيمة وقومية الدور المصري في اليمن شمالاً وجنوباً.

حتى لا يحاول البعض الاصطياد في المياه العكرة التي لا صلة لها ببحثنا الموضوعي والتاريخي.

وكذلك حتى لا يتوهم البعض أن للقوات المصرية، وجيشها القومي التحرري، أي صلة أو علاقة مباشرة بالاقتتال الداخلي في جنوب البلاد، فهي حالة يمنية خاصة وخالصة.

وهو ما سنبحثه ونناقشه – أي الاقتتال الداخلي – بصورة مكثفة وموجزة، ولكن مؤجلة في الحلقة القادمة/الرابعة.


الهوامش:

(1) قادري أحمد حيدر: الصراع السياسي في مجرى الثورة اليمنية وقضية بناء الدولة، 1962-1963م، 1990م، مركز الدراسات والبحوث اليمني/صنعاء، ط(1)، 2018، ص244-245.

(2) قادري أحمد حيدر: مرجع سابق، ص251-252.

(3) كان رأي عبدالفتاح إسماعيل أن هناك ثلاثة تيارات/مواقف من قضية الدمج: تيار ورأي (الموقّعون على الدمج)، ورأي ضده بالمطلق (قحطان/وفيصل)، ورأي ثالث الذين يقف على رأسهم عبدالفتاح نفسه، وهو تقييم في تقديري الشخصي غير دقيق لأن الانقسام كان مع أو ضد، ولم يظهر التيار الثالث إلا لاحقاً وفي سياق تطورات عملية الدمج ورفضها، هذا ما كتبته في كتابي مجرى الصراع مرجع سابق، ص260. أنظر كذلك كتاب فتحي عبدالفتاح، مرجع سابق، حول موقف عبدالفتاح من التيارات الثلاثة.

(4) أحمد عطية المصري: مرجع سابق، ص383.

(5) ناؤومكين: مرجع سابق، ص137.

(6) علي الصراف: مرجع سابق، ص185-186، تم الاقتباس بما لا يخلّ بالمعنى والسياق.

(7) ناؤومكين: مصدر سابق، ص171+159.

(8) علي عبدالعليم، خالد عبدالعزيز، عبدالفتاح إسماعيل، فيصل عبداللطيف (اللجنة التنظيمية للجبهة القومية): كيف تفهم تجربة اليمن الجنوبية الشعبية، ط(1)، نيسان/إبريل 1969م، دار الطليعة، بيروت، ص37-38. تم الاقتباس بتصرف لا يخلّ بالمعنى ولا بالسياق.

(9) اللجنة التنظيمية للجبهة القومية: كيف نفهم...، نفس المرجع، ص71.

(10) اللجنة التنظيمية للجبهة القومية: نفس المرجع، ص74-75.

(11) علي الصراف: مرجع سابق، ص195-196.

(12) الفريق صلاح الدين الحديدي: شاهد على حرب اليمن، ط(1)، 1984م، القاهرة، ص145.

(13) الفريق صلاح الدين الحديدي: المصدر السابق، ص145.

(14) أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو، عبدالناصر والعرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الثالث، ط(1)، نيسان/إبريل 1976م، ص21.

(15) راشد محمد ثابت: ثورة 14 أكتوبر اليمنية...، ص123-146-152-154-183-185-186-187-192.



#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- • ثورة 14 أكتوبر.. الخلفية المسار الاستقلال. 2-5
- ثورة 14 أكتوبر...الخلفية،المسار،الاستقلال 1-5
- ثورة 26 سبتمبر والسعودية 2-2
- ثورة 26 سبتمبر..والسعودية1-2
- جار الله عمر في مذكراته...وفي ذاكرتي 3-3
- الشهيد جار الله عمر في مذكراته...وفي ذاكرتي 2-3
- جار الله عمر في مذكراته... وذاكرتي 1-3
- أحمد محمد نعمان. قراءة فكرية وسياسية 4-4
- أحمد محمد نعمان،قراءة فكرية سياسية 4-4
- أحمد محمد نعمان،قرآءة فكرية سياسية 3-4
- أحمد محمد نعمان، قراءة فكرية سياسية 3-4
- أحمد محمد نعمان قراءة فكرية سياسية 2-4
- الأستاذ محمد احمد نعمان بين المقابلة ولمذكرات والسيرة 1-4
- الأستاذ أحمد محمد نعمان سيرة عطرة لم تكتب 1-4
- ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3
- ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 2-3
- ناجي العلي، الوطن والفن
- الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 2-2
- الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 1-2
- سوريا بين النظام العائلي الاستبدادي والمستقبل المحهول الخلقة ...


المزيد.....




- كيف تغيرت حياة الفلسطينيين الأمريكيين بعد 7 أكتوبر؟
- غارات إسرائيلية على جنوب لبنان تُسفر عن قتيل وجرحى.. عون يند ...
- هل يترك الألمان للذكاء الاصطناعي مهمة تسوق أكلهم ولبسهم؟
- قوات أمريكية إلى إسرائيل.. ما دور مركز تنسيق اتفاق غزة؟
- منظمة محلية: 30 قتيلا على الأقل في قصف لمركز إيواء في الفاشر ...
- تصاعد -الاستيطان الرعوي- يهدد وجود التجمعات البدوية الفلسطين ...
- مئات الآلاف يواصلون العودة في اليوم الثاني لوقف الحرب على غز ...
- مظاهرة في العاصمة الإسبانية مدريد تطالب بمحاسبة إسرائيل
- 30 قتيلا بقصف للدعم السريع على الفاشر
- اتهام رئيس مجلس القضاة في روسيا بالفساد والدعارة


المزيد.....

- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - قادري أحمد حيدر - ثورة14 أكتوبر الخلفية المسار الاستقلال 3-5