صفاء الصافي
باحث وكاتب في التاريخ الإسلامي
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 01:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تُعدّ حادثة (رزية الخميس) من أكثر الوقائع التي أثارت جدلاً في التاريخ الإسلامي، إذ وقعت في الأيام الأخيرة من حياة النبي محمد ، حين طلب إحضار الكتف والدواة ليكتب لأمّته كتاباً «لن تضلّ بعده»، فتداخلت الأصوات، واختلف الصحابة في الاستجابة، حتى قال النبي: (قوموا عني) هذا الموقف القصير في زمنه، الكبير في أثره، ظلّ محوراً لتساؤلات تاريخية وعقائدية عميقة، لأنه فتح باب التأمل في طبيعة العلاقة بين النصّ والسلطة، وبين الوحي والسياسة في اللحظات الحساسة من عمر الدولة الإسلامية الأولى.
تنوّعت القراءات حول هذه الحادثة بين من رأى فيها أزمة داخلية عكست التوتر الإنساني في لحظات الاحتضار، وبين من فسّرها بأنها دهاء سياسي أو اجتهاد بشري مشروع في إدارة الموقف. وبين هذين الاتجاهين يقف الباحث المعاصر أمام نصوص الرواية ومقاصدها، محاولًا أن يقرأ الحدث بعين الإنصاف التاريخي والوعي النقدي، بعيداً عن الانفعال المذهبي أو التأويل المسبق.
رُوي عن ابن عباس قال: دعا رسول الله بكتف، فقال: «ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تختلفوا بعدي أبدًا»، وأخذ من عنده من الناس في لغط، فقالت امرأة ممن حضر: ويحكم، عهد رسول الله يُرسل إليكم؟ فقال بعض القوم: اسكتي، فإنه لا عقل لك، فقال النبي: «أنتم لا أحلام لكم».
وفي رواية أخرى: «عندما قال النبي: ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا يختلف فيه رجلان، قال ابن عباس: فأبطئوا بالكتف والدواة فقبضه الله. وفي لفظ آخر رُوي عن ابن عباس: «لما كان يوم الخميس، وما يوم الخميس»، ثم بكى، فقال: قال رسول الله: «ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً»، فقالوا: يهجر رسول الله! ثم سكتوا، فقالوا: يا رسول الله، ألا نأتيك بها؟ قال: «بعد ماذا؟» (الطبراني، المعجم الكبير، ج11، ص436).
يتبيّن من خلال تتبّع روايات حديث رزية الخميس أن عبد الله بن عباس لم يذكر صراحة أسماء الأشخاص الذين أشار إليهم بوصفهم لم يستجيبوا لأمر النبي.وفي سياق محاولة التعرف على الشخص الذي عارض كتابة وصية النبي، وردت رواية صريحة في المصنف لعبد الرزاق تنسب هذا الموقف إلى عمر بن الخطاب، إذ رُوي عن ابن عباس قال:
لما احتضر رسول الله، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي: هل أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده؟ فقال عمر: إن رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله، قال: قوموا» (المصنف، ج5، ص438).
وفي نص آخر عن ابن عباس قال: «لما اشتد بالنبي وجعه، قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا ًلا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط، فقال النبي: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع». فخرج ابن عباس يقول: «إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه(فتح الباري، ج11، ص208، ح114).
وتُعدّ هذه الروايات من أوضح النصوص التي تُظهر أن عمر بن الخطاب هو من رأى عدم الحاجة إلى كتابة وصية إضافية، وهو ما أدى إلى وقوع الاختلاف بين الصحابة الحاضرين.
وقد يُستنتج من سياق الحادثة أن عمر بن الخطاب كان يدرك احتمال أن يكتب النبي وصية تحدد هوية من سيتولى السلطة بعده، فرأى أن ذلك لا يخدم توجهه السياسي أو رؤيته لمستقبل الحكم، فاعترض على إحضار الدواة والكتف. ويُعدّ هذا الموقف تصرفاً سياسياً مقصوداً أسهم في توجيه مسار الخلافة اللاحق، إذ إن كتابة الوصية لو تمّت، ربما كانت ستُغيّر ملامح البنية السياسية في الدولة الإسلامية الناشئة آنذاك.
تُطرح في هذا السياق مجموعة من التساؤلات المنطقية التي تتعلق بمرحلة حساسة من التاريخ الإسلامي:
لماذا لم يُقدِم النبي محمد ﷺ على كتابة وصية أو وثيقة تحدد مسار الحكم من بعده قبل أن يشتد عليه المرض؟
ولماذا لم يُدوَّن أي نص واضح يحدد هوية الخليفة أو نظام الحكم الذي ينبغي أن يُتَّبع؟
كما يُثار الجدل حول موقف عمر بن الخطاب في تلك اللحظات، وهل كان تصرفه تجاه النبي نوعاً من التجاوز على مكانته، أم تعبيراً عن رؤية واقعية لطبيعة السلطة وتوازنها بين الدين والسياسة؟
فالقرآن نفسه يصف النبي بأنه «لا ينطق عن الهوى»، ما يفتح الباب أمام تساؤلات فكرية حول العلاقة بين الإلهام الإلهي من جهة، والاجتهاد الإنساني والسياسي من جهة أخرى.
كما أن النبي قد أثرت فيه هذه الحادثة، مما جعله يُخيّر نساءه على الصحابة. وقد روى ابن سعد في طبقاته أن النبي قال: «اغسلوني بسبع قرب، وأتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا». فقال النسوة: ائتوا رسول الله بحاجته. فقال عمر: فقلتُ اسكتن، فإنكن صواحبه، إذا مرض عصرتن أعينكن، وإذا صح أخذتن بعنقه! فقال رسول الله: «هنّ خير منكم (الطبقات الكبرى، ج2، ص188).
قد حظيت هذه الحادثة بتفسيرات متباينة وفق الخلفيات الأيديولوجية المختلفة؛ فمدرسة السلف الصالح تُثبت وقوع الحادثة، لكنها تفسرها على أنها من باب اختلاف الاجتهاد بين الصحابة، وليس عصيانًا أو اعتراضًا على النبي، وأن عمر بن الخطاب أراد التخفيف عن النبي لما رأى شدة مرضه، وأن القرآن كافٍ في بيان الهداية، كما قال تعالى: «ما فرّطنا في الكتاب من شيء».
ويقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: «لم يكن قول عمر إنكارًا لأمر النبي، وإنما كان اجتهادًا منه ظنًّا أن النبي قال ذلك على وجه غير الإلزام، فاختار التخفيف عنه».
كما قال النووي في شرح مسلم: «في هذا الحديث بيان جواز الاجتهاد في حياة النبي إذا ظُنّ أن في ذلك مصلحة».
وفسّر القرطبي الحادثة بأن الاختلاف الذي وقع كان بسبب شدة المرض، وليس عن معارضة أو سوء أدب.
أما المدرسة الإمامية، فترى خلافًا في ذلك، إذ تعتبر الحادثة منعطفًا خطيرًا؛ حيث يعتقدون أن النبي ﷺ أراد أن يكتب وصية واضحة بخلافة علي بن أبي طالب، لكن مُنع من ذلك بسبب ممانعة بعض الصحابة.
يقول العلامة المجلسي في بحار الأنوار: «كان النبي يريد أن ينصّ على علي بالخلافة نصًّا لا يبقى معه شكّ، فحال بعضهم دون ذلك».
كما وصف الشيخ المفيد في الإرشاد: «امتنعوا من إحضار الدواة والكتف خوفًا من أن يُكتب ما لا يوافق أهواءهم السياسية».
أما الطباطبائي في الميزان فيرى أن الحديث يدل على أن النبي أراد أن يقطع النزاع من بعده، لكن الحادثة منعت تدوين هذا البيان.
من الواضح أن التباين في تفسير الحادثة يعكس الخلفية الفكرية والعقدية لكل مدرسة:
• المدرسة السنية تُركّز على العصمة الجماعية للأمة ووحدة الصف.
• المدرسة الإمامية تُبرز مفهوم النص الإلهي والوصية الخاصة بالإمامة.
وبذلك، فإن حادثة رزية الخميس تجاوزت كونها مجرد واقعة تاريخية، لتصبح رمزًا لتعدد القراءات داخل الفكر الإسلامي، وتجسيدًا لاختلاف الرؤى حول طبيعة السلطة والشرعية الدينية والسياسية.
وبعيدًا عن المدرستين اللتين ذُكرتا، يتبيّن أن عمر تعامل مع الموقف بصورة بشرية دنيوية، فالحكم أولى من العاطفة والمشاعر، وأنه كان يعرف مسار العملية السياسية التي، لو كتب النبي كتابه، لما كانت وفق ما أراده أو ما رسمه مع عدد من الصحابة.
وقد ذكر الدكتور طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى أن: «رزية الخميس رمز لانقسام مبكر في الرأي داخل البيت النبوي نفسه»، ورأى أن ما جرى «لم يكن رفضًا للوحي، بل اختلافًا في تقدير المصلحة».
إن دراسة رزية الخميس تكشف أن الاختلاف الأيديولوجي ليس مجرد تباين في التفسير، بل هو انعكاس لرؤيتين متمايزتين للنبوة والقيادة بعد وفاة النبي ﷺ. فبينما تميل القراءة السنية إلى تأكيد الاجتهاد الجماعي، ترى القراءة الإمامية أن الحادثة تمثل لحظة مفصلية في تحول الخلافة إلى موضوع سياسي بحت.
وهكذا، تبقى هذه الواقعة شاهدًا على جدلية النص والسلطة في التاريخ الإسلامي، ودليلًا على أن التفسير لا ينفصل عن المنطلق الفكري لمن يقوم به.
#صفاء_الصافي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟