|
الاستعمار الاستيطاني والصراع غير المتكافئ: فلسطين نموذجاً
حسن العاصي
باحث وكاتب
(Hassan Assi)
الحوار المتمدن-العدد: 8481 - 2025 / 9 / 30 - 14:10
المحور:
القضية الفلسطينية
في سياق التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تبرز الصراعات غير المتكافئة كواحدة من أكثر الظواهر تعقيدًا وإثارة للجدل في الدراسات السياسية والاستراتيجية المعاصرة. إذ لا تنحصر هذه الصراعات في المواجهات العسكرية بين أطراف غير متساوية في القوة والموارد، بل تمتد لتشمل الأبعاد الثقافية، والرمزية، والتكنولوجية، والاقتصادية، التي تعيد تشكيل مفهوم الهيمنة والمقاومة خارج الأطر التقليدية للحرب النظامية. فالصراع غير المتكافئ لا يُعرّف فقط بغياب التوازن العددي أو التسليحي، بل يتجلى في تفاوت القدرة على التأثير، وفي اختلاف أنماط التنظيم، وأهداف الفعل، وشرعية الخطاب. يتناول المقال مفهوم الصراعات غير المتكافئة من منظور متعدد التخصصات، يجمع بين السياسة، ودراسات القوة الرمزية، لفهم كيف تُدار المواجهات بين دول وجماعات، أو بين سلطات مركزية وحركات هامشية، في ظل اختلالات بنيوية في موازين القوة. كما تسعى إلى تحليل الاستراتيجيات التي تعتمدها الأطراف الأضعف لتجاوز الفجوة المادية، من خلال توظيف أدوات غير تقليدية كالحرب الإعلامية، والتكتيكات غير المتماثلة، والرموز الثقافية، والشرعية الأخلاقية. إن دراسة الصراعات غير المتكافئة تقتضي تجاوز النماذج الكلاسيكية التي تفترض مركزية الدولة، والانتقال نحو فهم ديناميات الفعل السياسي والاجتماعي في سياقات تتسم بالتشظي، والتعدد، والانزياح عن المركز. ومن هنا، فإن هذا المقال يطرح تساؤلات حول طبيعة الفاعلية في ظل اللامساواة، وحول إمكانيات المقاومة وإعادة التشكيل الرمزي للسلطة، في عالم تتداخل فيه أدوات الهيمنة مع آليات التفكيك والمناورة.
تجليات الصراع غير المتكافئ في السياقات المعاصرة تتجلّى الصراعات غير المتكافئة في عدد من السياقات المعاصرة التي تكشف عن اختلالات بنيوية في موازين القوة، وتُبرز قدرة الأطراف الأضعف على المناورة والتأثير رغم محدودية الموارد. من أبرز هذه الأمثلة، المواجهات بين حركات المقاومة المحلية والقوى العسكرية النظامية، كما في حالة المقاومة الفلسطينية في غزة، حيث تُوظّف تكتيكات غير تقليدية مثل الأنفاق، والطائرات المسيّرة البدائية، والحرب الإعلامية، في مواجهة قوة عسكرية متفوقة تقنياً وتسليحياً. ورغم الفارق الهائل في القدرات، فإن هذه الحركات تنجح في فرض معادلات سياسية ورمزية تتجاوز منطق الانتصار العسكري. وفي سياق آخر، تُعدّ حركات الاحتجاج الشعبية في دول الجنوب العالمي مثالاً حياً على الصراع غير المتكافئ بين المواطنين العاديين وأنظمة سلطوية مدعومة بأجهزة أمنية وتقنية متقدمة. فحراك "السترات الصفراء" في فرنسا، واحتجاجات "انتفاضة تشرين" في العراق، و"ثورة 17 تشرين" في لبنان، كلها نماذج تُظهر كيف يمكن للحشود غير المنظمة أن تُربك السلطة، وتُعيد تشكيل الخطاب العام، من خلال أدوات بسيطة كوسائل التواصل الاجتماعي، والشعارات الرمزية، والاحتلال السلمي للمجال العام. أما في المجال الرقمي، فتُعدّ حروب المعلومات والتضليل الإعلامي شكلاً جديداً من الصراعات غير المتكافئة، حيث تتمكن جهات غير حكومية أو دول صغيرة من التأثير على الرأي العام العالمي، وزعزعة استقرار دول كبرى، عبر حملات إلكترونية دقيقة ومنخفضة التكلفة. وقد كشفت تقارير عديدة عن تدخلات رقمية في الانتخابات، وتوجيهات خفية للرأي العام، باستخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات، ما يفتح الباب أمام إعادة تعريف القوة في العصر الرقمي. هذه الأمثلة وغيرها تُظهر أن الصراع غير المتكافئ ليس مجرد خلل في التوازن العسكري، بل هو ظاهرة متعددة الأبعاد، تتطلب أدوات تحليلية جديدة لفهم منطق الفاعلية، وإعادة التفكير في مفاهيم النصر، والهزيمة، والشرعية.
أنماط عدم التماثل في الصراعات المعاصرة يُعتبر عدم التكافؤ من أهم السمات في صراعات اليوم. نتناول نوعاً محدداً من عدم التكافؤ هو عدم التكافؤ الهيكلي. بعد عرض الخصائص الرئيسية والمراحل المختلفة لهذه الأنواع من الصراعات، أي الوعي، والمواجهة، والتفاوض، والسلام المستدام، نتناول خصوصية الحالة الإسرائيلية الفلسطينية المعروضة هنا كحالة نموذجية لصراع غير متماثل هيكلياً. الهدف هو توضيح سبب عدم نجاح أي منها في تحقيق سلام مستدام، على الرغم من مراحل التفاوض العديدة التي مر بها هذا الصراع. على العكس من ذلك، فقد جلبت كل مفاوضات مرحلة مواجهة جديدة، في سلسلة لا تنتهي من الحلقات المتشابكة. ويمثل الاختلال الشديد بين الجانبين وغياب الوعي المتبادل بالصراع السببين الرئيسيين لتفسير هذا النمط. مع نهاية الحرب الباردة وظهور الحروب داخل الدول وبين الأعراق، برز مفهوم الصراع "غير المتكافئ" في نظرية الصراع. في الواقع، يتميز عدد كبير من صراعات اليوم بتفاوتات حادة. يُستخدم مصطلح "الصراع غير المتكافئ" بطرق مختلفة للإشارة إلى مواقف، وإن كانت تشترك في بعض القواسم المشتركة، إلا أنها غالباً ما تكون شديدة التنوع. مع أننا نعلم أن أي محاولة لتأطير الظواهر الاجتماعية في تصنيفات جامدة أمرٌ قابل للنقاش، إلا أنه من أجل الوضوح وتوفير إطار تحليلي لدراسة هذه الصراعات، نقترح التمييز بين ثلاثة أنواع من عدم التماثل: 1: عدم تماثل القوة. 2: عدم التماثل الاستراتيجي. 3: وعدم التماثل الهيكلي. غالباً ما يكون الحد الفاصل بين هذه الأنواع المختلفة من عدم التماثل غير واضح تماماً، وفي معظم الحالات يتواجد أكثر من نوع واحد في نفس الوقت. ومع ذلك، يمكن أن يكون هذا التمييز مفيداً في تحليل وفهم تطور الصراع. في كثير من الحالات، يكون عدم التماثل بين أطراف الصراع - أو بالأحرى تصورهم لهذا التماثل - أمراً بالغ الأهمية في تفسير سلوكياتهم ومواقفهم المختلفة. أنا أصنف أنواع عدم التماثل هنا، وليس أنواع الصراع: غالباً ما يشترك الصراع في أكثر من نوع واحد من عدم التماثل، ربما بدرجات متفاوتة من الشدة. يحدث عدم التماثل في القوة كلما وُجد اختلال كبير في توازن القوة؛ وهو نوع من عدم التماثل شائع جداً في الصراعات. غالباً ما يحدث هذا النوع من عدم التماثل في نفس الوقت مع الأنواع الأخرى من عدم التماثل. ومع ذلك، هناك صراعات تتميز بشكل فريد تقريباً بعدم التماثل في القوة. هذا هو الحال، على سبيل المثال، في الصراعات التي تبدأ فيها الدول الأضعف الصراع. من الأمثلة المتطرفة والواضحة على صراع عدم تكافؤ القوة حرب الخليج الأولى بين تحالف قوي بقيادة الولايات المتحدة من جهة والعراق وحده من جهة أخرى. كانت الولايات المتحدة والعراق دولتين لهما حكومتان معترف بهما وجيش نظامي وهيئة سياسية قادرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها. من هذه المنظور، كان الوضع متوازناً إلى حد ما. كان عدم التكافؤ في الفارق الهائل في القوة العسكرية، مسألة كمية لا نوعية. يحدث عدم التكافؤ الاستراتيجي عندما يكون الطرفان غير متماثلين في نهجهما التكتيكي و/أو الاستراتيجي للصراع. وعادةً ما يتضمن هذا النوع من عدم التكافؤ أيضاً اختلالاً كبيراً في توازن القوة. ومن الأمثلة النموذجية حروب العصابات والإرهاب. هذه الأنواع من الحروب ليست جديدة بالتأكيد. في العصر الحديث، يعود تاريخ حرب العصابات إلى الثورة الأمريكية. على الرغم من كثرة الدراسات حول الحرب غير المتكافئة، لا يزال التفكير الاستراتيجي لمعظم الجيوش في الدول الغربية قائماً بشكل أساسي على "التكنولوجيا" و"القوة النارية"، بينما يتكون المقاتلون المتمردون أو المقاومون، أو الإرهابيون من خلايا لامركزية قادرة على الاندماج في المجتمع متى شاءت. ترتبط هذه الحقيقة بتطور تكنولوجيا المعلومات. إن ثورة المعلومات تُفضّل وتُقوّي أشكال التنظيم الشبكي، مما يمنحها غالباً ميزة على الأشكال الهرمية. ومن الأمثلة الشائعة ما يُسمى "الحرب على الإرهاب". تتصرف بعض المنظمات كشبكة، حيث تُمثّل كل عقدة فيها مجموعة صغيرة من المسلحين، مع اتصالات أفقية متعددة فيما بينها.
عدم التماثل الهيكلي في الصراعات ينشأ عدم التماثل الهيكلي عندما يكون هناك اختلال كبير في المكانة بين الأطراف، يكمن جوهر هذه الصراعات في بنية العلاقة بين الخصوم. وهذا ما يجعل هذا النوع من عدم التكافؤ غريباً ومختلفاً عن غيره. في صراع يتسم بعدم التكافؤ الهيكلي، يكون الهدف الحقيقي من القتال هو تغيير بنية العلاقات بين الخصوم. عادةً ما يسعى أحد الطرفين إلى تغييرها، بينما يكافح الآخر لتجنب أي تغيير. أحياناً يكون أحد الطرفين مؤسسة حكومية والآخر منظمة غير حكومية، ولكن هذا ليس الحال دائماً. على سبيل المثال، عدم التكافؤ الهيكلي هو ما يميز معظم "الصراعات على الوصول إلى الأراضي والسيطرة عليها، والتي كانت متفشية في المجتمعات الزراعية في الماضي ولا تزال تلوح في الأفق في عالم يعتمد فيه 45% من السكان على الأرض لكسب عيشهم مباشرة. في هذه الحالات، يكون الطرفان المتنافسان منظمتين غير حكوميتين، على الرغم من أن إحداهما غالباً ما تحظى بدعم المؤسسات الحكومية. ومن الحالات النموذجية الأخرى صراعات إنهاء الاستعمار. هنا، تقع العلاقة بين المستعمر والمستعمَر في قلب الصراع. في هذا النوع من الصراع، يكون أحد الطرفين دولةً والآخر جهةً فاعلةً غير حكومية، مثل منظمة سياسية أو حركة تحرير. تتعلق إحدى السمات المهمة التي تُميّز أنواع عدم التماثل الثلاثة بسلوكها على مر الزمن. فعدم تماثل القوة ثابتٌ تماماً، ومن غير المرجح أن يتغير بسرعة: فلا يمكن لدولة ضعيفة أن تصبح قويةً بين عشية وضحاها. أما عدم التماثل الاستراتيجي فهو مسألة اختيار، ويعتمد على قرارات الأطراف؛ فمن حيث المبدأ، يمكن إجراء تغيير في الاستراتيجية في وقت قصير نسبياً. ومع ذلك فإن لأطراف ليست حرةً تماماً في اختيار الاستراتيجية المثالية. وأخيراً، يُمثّل عدم التماثل الهيكلي السلوك الأكثر ديناميكية. ويمكن أن تتغير بنية العلاقات بين الأطراف وخصائصها بشكل كبير أثناء تطور الصراع. على سبيل المثال، في نزاع على ملكية الأراضي، يمكن لحركات الفلاحين المعدمين، في مرحلة معينة، الحصول على موافقة على قانون إصلاح زراعي يُغيّر الإطار التشريعي، لكنه لا يُنهي الصراع. القضية المطروحة الآن هي التطبيق العملي لهذا الإصلاح. لا يزال عدم التكافؤ قائماً، وإن كان قد تضاءل. هذا ما حدث في البرازيل مع الخطة الوطنية للإصلاح الزراعي لعام 1985 إهمال الصراعات غير المتكافئة هيكليًا في أدبيات العلاقات الدولية على الرغم من أن الصراعات غير المتكافئة تُعد من أكثر أنماط النزاعات شيوعاً في العالم المعاصر، إلا أنها لا تحظى بالاهتمام الكافي في أدبيات العلاقات الدولية، خصوصاً من حيث التناول النظري والتحليل المنهجي. ويزداد هذا الإهمال وضوحاً عندما يتعلق الأمر بنمط محدد من عدم التماثل، وهو عدم التماثل الهيكلي، الذي يُشكّل أحد أكثر أشكال الاختلال تعقيداً وتأثيراً في ديناميات الصراع، دون أن يُستخدم كإطار تحليلي مستقل في معظم الدراسات الأكاديمية. لقد شهدت الساحة الدولية عبر العقود العديد من النزاعات التي تنطوي على تفاوتات هيكلية عميقة بين الأطراف المتنازعة، سواء من حيث البنية السياسية، أو الشرعية القانونية، أو القدرة على الوصول إلى الموارد والمؤسسات الدولية. ومع ذلك، فإن معظم التحليلات تركز على عدم التماثل في القوة أو الاستراتيجية، متجاهلة البنية التحتية للصراع التي تُحدد بشكل كبير طبيعة المواجهة، واستمراريتها، وإمكانية حلّها. فعدم التماثل الهيكلي لا يتعلق فقط بتفاوت القدرات، بل يتصل بجذور الصراع في التكوينات السياسية والاجتماعية والرمزية التي تُنتج علاقات غير متوازنة يصعب تعديلها عبر التفاوض التقليدي. في هذا السياق، يهدف المقال إلى تسليط الضوء على السمات الأساسية التي تُميز الصراعات غير المتكافئة هيكلياً، من حيث مراحلها المتوقعة، وآليات تطورها، وحدود إمكانيات التسوية فيها. وسأعتمد هذا الإطار النظري لتحليل حالة نموذجية تُجسّد هذا النوع من الصراع، وهي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي يُعد من أكثر النزاعات تعقيداً واستعصاءً على الحل، نظرًا لطبيعته الهيكلية العميقة. من خلال هذا التحليل، سأناقش كيف أن دورة التفاوض والمواجهة المتكررة التي ميّزت هذا الصراع منذ انهيار عملية أوسلو، لا يمكن فهمها فقط من خلال ميزان القوة أو التكتيك، بل يجب قراءتها في ضوء عدم التماثل الهيكلي بين الطرفين، والذي يتجلى في غياب التوازن المؤسسي، وتفاوت الشرعية الدولية، وانعدام الوعي المتبادل بطبيعة الصراع. وسأبيّن كيف أن كل جولة تفاوضية لم تكن خطوة نحو السلام، بل كانت مقدمة لمرحلة جديدة من المواجهة، في سلسلة متشابكة من الحلقات التي تُعيد إنتاج الصراع بدلاً من تفكيكه.
السمات البنيوية للصراعات غير المتكافئة: قراءة في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية يُعدّ عدم التماثل الهيكلي أحد أكثر أشكال الاختلال تعقيداً في الصراعات المعاصرة، إذ يتجاوز الفوارق الظاهرة في القوة العسكرية أو التكتيك الاستراتيجي، ليغوص في البنية العميقة التي تُشكّل العلاقة بين الأطراف المتنازعة. هذا النوع من عدم التماثل لا يُقاس فقط بتفاوت الموارد أو النفوذ، بل يتجلى في التفاوت المؤسسي، والشرعي، والرمزي، الذي يُنتج علاقات غير متوازنة يصعب تعديلها عبر أدوات التفاوض التقليدية أو الحلول المرحلية. من أبرز السمات التي تُميز الصراعات غير المتكافئة هيكليًاً: اختلال الشرعية الدولية: حيث يتمتع أحد الأطراف باعتراف دولي واسع النطاق، ويمتلك أدوات تمثيل دبلوماسي ومؤسساتية، في حين يُعاني الطرف الآخر من تهميش قانوني أو غموض في وضعه السياسي، كما هو الحال في القضية الفلسطينية، حيث تُعاني السلطة الفلسطينية من محدودية الاعتراف الكامل، مقابل تمثيل إسرائيلي راسخ في المنظمات الدولية. عدم تكافؤ في الوصول إلى الموارد والبنى التحتية: الطرف الأقوى يمتلك سيطرة على الأرض، والمعابر، والمياه، والاقتصاد، بينما يُحرم الطرف الأضعف من أبسط مقومات السيادة، مما يُنتج علاقة تبعية قسرية تُعيق إمكانيات التفاوض المتكافئ. تفاوت في القدرة على إنتاج الخطاب وتشكيل الرأي العام: يُهيمن الطرف الأقوى على وسائل الإعلام العالمية، ويُعيد صياغة سردية الصراع وفقًا لمصالحه، بينما يُكافح الطرف الأضعف لإيصال روايته، ويُواجه تشكيكاً مستمراً في شرعية مطالبه. غياب التماثل في البنية السياسية والتنظيمية: في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية، نلاحظ وجود دولة ذات مؤسسات مستقرة، مقابل كيان سياسي منقسم، يُعاني من تعدد المرجعيات، وتداخل السلطات، مما يُضعف من قدرته على التفاوض أو فرض شروطه. انعدام الوعي المتبادل بطبيعة الصراع: حيث يُنظر كل طرف إلى الآخر من خلال عدسة اختزالية، تُغذّيها السرديات التاريخية والمواقف الأيديولوجية، مما يُعيق بناء أرضية مشتركة للحوار أو التفاهم. في ضوء هذه السمات، يُمكن فهم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أنه نموذج مركّب لصراع غير متكافئ هيكليًا، حيث لا يكمن التحدي فقط في اختلال ميزان القوة، بل في البنية العميقة التي تُعيد إنتاج هذا الاختلال عبر الزمن. فكل محاولة للتفاوض، منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم، لم تُفلح في كسر هذا النمط البنيوي، بل غالبًا ما أدّت إلى إعادة إنتاجه بصيغ جديدة، تُكرّس التفاوت بدلاً من تجاوزه. إن تحليل هذا النوع من الصراعات يتطلب أدوات نظرية تتجاوز المقاربات الكلاسيكية، وتُراعي تعقيدات البنية، والرمز، والشرعية، بوصفها عناصر حاسمة في فهم ديناميات الصراع، وإمكانيات حله أو استمراره.
ديناميكيات التفاوض في الصراعات غير المتكافئة هيكليًا: مأزق التفاهم بين طرفين غير متساويين تُعدّ ديناميكيات التفاوض في الصراعات غير المتكافئة هيكلياً من أكثر العمليات تعقيداً وإرباكاً في مجال إدارة النزاعات، إذ لا تنطلق من أرضية تفاوضية مشتركة، بل من واقع اختلال بنيوي عميق يُضعف من قدرة أحد الأطراف على فرض شروطه أو حتى التعبير عن مطالبه ضمن إطار تفاوضي متوازن. في هذا النوع من الصراعات، لا يُنظر إلى التفاوض بوصفه وسيلة لحل النزاع، بل غالبًا ما يتحوّل إلى أداة لإعادة إنتاجه، أو لتكريس التفاوت القائم تحت غطاء الحوار. في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية، يُمكن ملاحظة هذا النمط بوضوح منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم. فالمفاوضات التي جرت بين الطرفين لم تكن بين دولتين متكافئتين في السيادة والشرعية، بل بين قوة احتلال تمتلك السيطرة الكاملة على الأرض والموارد، وطرف فلسطيني محدود الصلاحيات، يعاني من انقسام داخلي، وتفتت مؤسساتي، وتقييد في الحركة والتمثيل. هذا الاختلال الهيكلي جعل من كل جولة تفاوضية مناسبة لإعادة تعريف شروط الصراع من قبل الطرف الأقوى، بدلاً من أن تكون خطوة نحو تسوية عادلة. تتسم ديناميكيات التفاوض في هذا السياق بعدة خصائص: غياب التوازن في القوة التفاوضية: حيث يُهيمن الطرف الأقوى على جدول الأعمال، ويُحدد الإطار الزمني، ويُمارس ضغطاً دولياً لتقييد خيارات الطرف الأضعف. تفاوت في القدرة على إنتاج الخطاب التفاوضي: إذ يمتلك الطرف الإسرائيلي أدوات إعلامية ودبلوماسية واسعة لتسويق روايته، بينما يُكافح الطرف الفلسطيني لإثبات شرعية مطالبه في ظل تشكيك مستمر. تحوّل التفاوض إلى أداة إدارة لا حل: غالبًا ما تُستخدم المفاوضات لتأجيل المواجهة أو لاحتواء الغضب الدولي، دون نية حقيقية للوصول إلى اتفاق نهائي، مما يُفرغ العملية التفاوضية من مضمونها. إعادة إنتاج المواجهة بعد كل جولة تفاوضية: بدلاً من أن تُفضي المفاوضات إلى تهدئة أو تسوية، تؤدي إلى تصعيد جديد، نتيجة الإحباط، أو فرض شروط مجحفة، أو تجاهل المطالب الجوهرية للطرف الأضعف. انعدام الوعي المتبادل بطبيعة الصراع: حيث يُنظر كل طرف إلى الآخر من خلال عدسة أيديولوجية أو أمنية، مما يُعيق بناء أرضية مشتركة للحوار، ويُحوّل التفاوض إلى عملية تقنية خالية من البُعد الإنساني والسياسي. إن فهم ديناميكيات التفاوض في الصراعات غير المتكافئة هيكلياً يتطلب تجاوز النماذج التوفيقية التقليدية، والاعتراف بأن التفاوض في هذه الحالات لا يمكن أن يكون فعّالاً ما لم يُعالج الاختلال البنيوي أولاً، ويُعاد تعريف العلاقة بين الأطراف على أساس الاعتراف المتبادل، والعدالة، والتماثل الرمزي والمؤسسي.
فلسطين كمرآة للاختلالات البنيوية في النظام الدولي يتضح أن الحالة الفلسطينية الإسرائيلية تمثل نموذجاً صارخاً للاستعمار الاستيطاني الذي يتغذى على اختلالات بنيوية في موازين القوى، ويعيد إنتاج منطق الهيمنة عبر أدوات قانونية، سياسية، وعسكرية غير متكافئة. فالصراع هنا لا يُختزل في مواجهة بين طرفين متنازعين، بل يتجلى كعملية استعمارية مستمرة تسعى إلى نفي وجود الآخر، وتفكيك روايته، ومصادرة حقه في الأرض والتاريخ. إن الاستيطان لا يكتفي بالسيطرة المادية، بل يتسلل إلى البنية الرمزية للخطاب الدولي، حيث تُعاد صياغة مفاهيم مثل "الأمن" و"الشرعية" و"السلام" بما يخدم الطرف الأقوى ويُهمّش الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. ومع تصاعد أدوات المقاومة الشعبية، وتنامي الوعي العالمي بطبيعة هذا الصراع غير المتكافئ، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في المفاهيم التقليدية للصراع، والانتقال من مقاربات توازن القوى إلى مقاربات تفكيك البنية الاستعمارية ذاتها. ففلسطين، بما تحمله من تعقيدات تاريخية وجيوسياسية، ليست مجرد ساحة مواجهة، بل مرآة تعكس أزمة النظام الدولي في التعامل مع قضايا التحرر والعدالة. ومن هنا، فإن تفكيك الاستعمار الاستيطاني لا يُعدّ خياراً فكرياً فحسب، بل ضرورة أخلاقية وسياسية تفرضها استمرارية النفي والاقتلاع، وتستدعي تضامناً نقدياً عابراً للحدود، يعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في تقرير المصير، والوجود، والكرامة.
#حسن_العاصي (هاشتاغ)
Hassan_Assi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أزمة الهويات الأوروبية
-
بين الاعترافات العالمية والواقع المحلي: السلطة الفلسطينية في
...
-
صدور كتاب خرائط اليرموك في قلبي: حين تتحول الذاكرة إلى خريطة
...
-
بين الحياد والانحياز: قراءة في التصويت الأممي.. فلسطين في مر
...
-
خرائط الحيرة الفلسطينية: أربع مفترقات وطنية.. قراءة في أزمة
...
-
إسرائيل تضرب في قلب الخليج... والأنظمة تُراكم التنديد.. تحول
...
-
مخيم اليرموك ذاكرة لا تُغادر… حين كانت الأزقة تحفظ أسماءنا
-
السلطة الفلسطينية في مأزق الوظيفة: دعوة لحلها واستعادة المشر
...
-
الخطاب الإعلامي العربي: كيف يُعاد تشكيل فلسطين في زمن التطبي
...
-
سلام بلا أرض، وشرعية بلا سيادة: فشل الاعتدال الفلسطيني
-
نقد من الداخل أم تطبيع من الخارج؟ قراءة في لقاءات المثقفين ا
...
-
ما وراء الفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطين
-
الذاكرة العربية والقضية الفلسطينية: تفكيك المواقف وتحرير الس
...
-
الغائب الذي لا يغيب: قراءة في رمزية البرغوثي السياسية
-
من الرباط إلى القدس: سرديات الدعم المغربي للقضية الفلسطينية
-
العبودية الفكرية.. ثقافة الخنوع
-
الاشتراكية الاستبدادية.. تسلط معاصر
-
الصورولوجيا والكوزموبوليتانية
-
هل البرتقال في أوروبا ألذ مذاقاً؟
-
المثقفون العرب زنادقة العصر
المزيد.....
-
فيديو يظهر فيضانات عارمة تضرب إسبانيا
-
-نافذته فُتحت بالقوة-.. العُثور على سفير جنوب أفريقيا لدى فر
...
-
فيديو منسوب لـ-فتح بوابات السد العالي بعد تحذيرات من فيضان ب
...
-
كيف انطلقت مظاهرات المغرب عبر تطبيق لألعاب الفيديو؟
-
ما هي أبرز بنود خطة ترامب للسلام في غزة؟
-
توني بلير: من ماضي العراق إلى مستقبل غزة
-
بنحو 55 مليار دولار.. الاستحواذ على شركة -إلكترونيك آرتس- ال
...
-
الاتحاد الأوروبي يواجه أول اختبار لإصلاحات الهجرة المعتمدة ف
...
-
سوريا: جهاد عيسى الشيخ...من شريك قديم للشرع إلى خصم له ثم مم
...
-
عماد أبو عواد: -خطة ترامب بشأن غزة غامضة، ولا تقدم أي إنجاز
...
المزيد.....
-
بصدد دولة إسرائيل الكبرى
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل
/ سعيد مضيه
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني
/ سعيد مضيه
المزيد.....
|