مصطفى العمري
(Mustafa Alaumari)
الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 04:50
المحور:
قضايا ثقافية
محطة أولى: ألوذ بالكتابة لعلني أهرب مما أنا فيه, فبطش الذكريات تستهويه ملاحم العود اللامحمود, كل شيء في ذاكرتي ينطق بعبدالاله, ومن لا يجيد توظيف الذاكرة لن يدرك قيمة الانسان, لأننا مجبولون على الحب و التلاقي اولاً, وما ان يكتشف الانسان شيئاً من نرجسيته حتى يبدأ عنده البغض كعامل مساعد للأنا المتورمة.
الكتابة عن الصائغ هي هروب متقدم, ولعلني لا أغالي اذا ما قلتُ انه هروب الخلاص غير المتزن او المرتب,فالنقاشات الحادة و الهادئة ,الجلسات المتعددة و الذكريات الطويلة ضحكاتنا الشرهة وأحاديثنا التلقائية,تتعقبني و تطاردني و تقتص مني بعبقرية الشاطر الماكر.تحاول نحري بشريط من ترصدات بعيدة. أرحل بذاتي المعتلة, لكي أهرب من عبدالاله الأخ و الصديق,العالم و الأديب و الشاعر و الناقد و المؤرخ و الموسوعي والمثقف العصامي, و التنويري المعتدل. الصائغ ينحاز لجدلية المعرفة ,يرتب أولوياته نحو الإرتقاء بالفرد و المجتمع وفق مبدأ المعرفة, لكي ينهض بالانسان و بالتحديد التفكير الإنساني, فهو مشغول بإنماء وعي الناس, وإخراجهم من وهم النمطية البيئية و التقديسات المثالية.
الرجل الذي حاول ان يعيش كما يريد بعيداً عن تخرصات واهمة المنال وغير قابلة للتصديق معبأة بقوالب التدين او دمس السياسة.
( يقول الصائغ عبدالإله.. أكره الأعياد كما أكره تبويس اللحى و تكرهني العماية و تغويني الغواية, عادتي ترك العادة , أكره الجغرافيا و أشمئز من التاريخ و أسعد الأمم تلك الامة التي تبدأ من الصفحة التي وصل إليها الاخرون, بعيداً عن أمجاد التاريخ المكذوب و المكتوب بالدم. القوميات بيوت طيبة متآلفة حولها بعض القوميين الى مسالخ دموية, والأديان السماوية محجات للسلام, حولها أدعياء الدين الى قطع رقاب وقطع أرزاق وقطع طرق) "من كتاب الطيور المهاجرة و رماد العودة"
سيدي الصائغ.. أهرب منك لكني ألتجئ أليك فأنت كما كنت تقولُ لي صديقي و شقيقي و رفيقي وها انا أعيدها لكن بنغم أقل جودة و بقلب متسعّر لفقدك وغيابك.
هكذا تسير الأيام ومعها اقدارنا تتهدج على أحلام اللانهاية,يرحل عبدالإله الصائغ, فيتساقط أشقاء المحنة و الموقف, ويمكث فينا تراثهم و صورهم و إرشيفهم الطويل يضوع بداخلنا كنور و نار, يعبث بالذاكرة يستفزها يقلقها يستنهض فيها ذكريات غدت صورها معلقة بتلابيب القلب.
يقول الدكتور الصائغ بقصيدة بحق ابنته البارة الدكتورة وجدان الصائغ والتي قدمت الكثير لوالدها و وقفت معه إلى آخر رمق.
لو كان قلبي طائراً لطار
وارتاد كلّ آهةٍ أرّقها انتظار
يحمل في دمائه تمائم الحنين
لو كان لو لكنه المنسي في جزيرة الوباء
لم يلقى ذاك الوكن الموعود في السماء
بعيدةٌ بعيدة زرقاء يا حبيبتي الظمآء على الشطيّن
جئتُ أغنيكِ مع الغبار
والشمس في انتظاري
• القصيدة ألقاها ايضاً بلقاء على قناة الجزيرة.
محطة ثانية: الدكتور عبدالاله الصائغ بين منهج الاستقراء و الاستنتاج:
ارجوكم دعونا نتأمل هذه المحطة المهمة ولكي ألخص الكلام, دعوني أحوّم حول الفكرة.
المنهج الاستقرائي هو منهج البحث في كل الشيء, بحسناته و سيئاته, لا تمايز و لا إنحياز. بينما المنهج الاستناتجي هو البحث في جزء من الشيء . كأن يكون الذكر السلبي المطلق مع إهمال متعمد او غير متعمد للجانب الإيجابي, بمعنى أخر هو إظهار الجزء الأصغر و إخفاء الجانب الأكبر.
ولو سألنا أنفسنا هل نعرف الدكتور الصائغ وفق المنهج الاستقرائي العميق الشامل و المتأني؟ أم عرفناه من خلال حكاية شعبية أجتماعية يتداولها البسطاء من الناس؟ عندي إجابة لكني سأحتفظ بها.
يمكنني هنا أن أصنف الدكتور عبدالاله الصائغ وفق منهج الاستقراء الى قسمين:
اولاً الصائغ الاكاديمي: أثبتت مدونته العلمية انه رجل العلم و البحث حاز على شهادة الدكتوراه بجدارة عنده العديد من الكتب المطبوعة وقد يصل عددها الى اكثر من ثلاثين كتاباً,عنده موسوعته التي أنجز منها الكثير وهي باجزاء عدة تصل الى الأربعين جزءاً , لديه مقالات منشورة بالمئات. تخرج على يديه عشرات من طلاب الدكتوراه, شارك بالعديد من ألابحاث العلمية حول اللغة العربية. أسس و شارك بالعديد من المؤسسات الثقافية درّس بالعديد من الدول العربية.
والمقام هنا ليس لذكر إنجازات الصائغ الكثيرة و العديدة, بقدر ما هي إيمائة بسيطة على ان الرجل عالم حاذق و نابغة متفوق ويشهد له بذلك المختصون من أرباب العلم.
إذن الصائغ متقن و متفنن و مُجيد بالجانب العلمي, يُصيّر فكره و علمه ضمن سياقات اكاديمية ممهورة بقراءاته المتعددة و نبوغه المتقدم. ينحاز للفكر الخلاق دونما إلتفاتة تضلله او تحيده عن مساره العلمي.
ثانياً الصائغ الاجتماعي: الصائغ المُتقِن ببراعة في المجال العلمي, لم يكن كذلك في الجانب الاجتماعي, و المترصد عن كثب يلحظ ان ثمة فجوة بين الصائغ العالم وبين المجتمع الذي يعيش معه. فجوة ساعد في تقوية أواصرها ذلك المحول الباهت النأي بالثقافة و الباعد عن توسعة الأفق البشري بالتحري و الاستكشاف والمطالعة غير المقننة سلفاً. المجتمع الذي لا يعبأ بالثقافة لا يمكن له ان يعي حجم المثقف, والناس بشكل عام عندما تهجر القراءة و المطالعة, لا يمكنها الإكتراث بالكتاب او البحث العلمي. فتبدأ عملية السلخ و التباعد و السخط المكرر. وهنا يتشكل عنصران لا يمكنهما التلاقي, الا في حالات نادرة, مثقف لا يمكنه التنازل و الرضوخ لمجتمع أمي, ومجتمع يرزح تحت وطئة ماكنة تجهيل مسرفة في البلاهة و السفاهه.
المجتمع الذي يسهل النزو فيه للصدارة ,لا يمكن لجم جماح الطموح عند أفراده, فالمحاولات المتكررة لبعض الافراد المجهولين لإمتطاء المشهد و إعتلاء قمة الهرم لكن دون أدواة او مؤهلات او إمكانيات, يؤكد ذلك على حجم البؤس الذي نحن فيه. المجتمع الذي يحاول فرض نواميسه بكيفية غير مستقرة على شيء, لا يمكنه تقبل العالم و المثقف الذي ينود بنفسه منفرداً و مستقلاً.
المجتمعات الواعية لا تكترث كثيراً بالشكل الخارجي للأفراد بل تجدها مندكة بالتنقيب عن انجازاتهم و تصويباتهم العلمية. لكن مع الصائغ كان الوضع مختلفاً فلا هو استطاع محاباة المجتمع و طروحاته التقليدية, ولا المجتمع إرتفع بوعيه الثقافي لكي يقرأ الصائغ و يناقشه و يفاتشه بطريقة فيها نسق الاستقراء.
و الحق أقول أنها ليست معضلة الصائغ وحده بل هي مأساة رهط غير قليل من المثقفين, وكأن الاختلاف بالرأي هو خلاف شخصي يستدعي معه كل أدوات الهدم و مباضع التشويه, والاقتصاص غير المنصف.
هل يستطيع مجتمعنا ان يُدرك ان القضايا لا تقاس بشكل مُبهم دون دراية او اطلاع؟
هل يستطيع مجتمعنا ان يوقف الأفراد الذين يتلاعبون بذائقة المجتمع ويردعهم عما يخوضون من أفانين غاياتها هدم الانسان؟
هل يستطيع مجتمعنا ان يفرز الأشخاص الاكفاء الى المناصب و المواقع المهمة؟ لكي لا ينزو عليها من هب ودب. ولكي لا يختلط العلمي بالاجتماعي و الديني بالسياسي؟
تلك تساؤلات مشفوعة بالحب و الانتماء لأصلنا ولعلنا أدركنا مؤخراً ان لا إرتقاء في هذا الكون مالم يكن الانسان متطوراً بذاته و واسع الأفق في الاستقطاب و التطور.
ولكي لا يموت الصائغ الميت كما مات حياً أحاول هنا أثير شمم و اباء المثقف المطلق و المجتمع الأصيل للتداعي عن الكتابة عنه وحفظ تراثه, والعفو و الصفح عما بدر منه.
في احد كتبه كتب: (الأن أموت شلواً فشلواً و يتهدم تراثي حجراً فحجراً فلم تلتفت اليّ مدينتي ولا عاصمتي وكنتُ ومازلتُ أردد من يشاء ان يبكيني فليبكيني حياً.)
شيخي و معلمي و استاذي البروفسور عبدالاله الصائغ ,كم كنت أخشى هذا اليوم وها أنا وقعتُ فيه مجبراً لما أحالك اليه قدرك مستسلماً لما نزل بك وها أنا ارثيك و اكتب عنك كما كنت تتوقع دائماً.
لروحك الرحمة و السلام.
#مصطفى_العمري (هاشتاغ)
Mustafa_Alaumari#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟