هيثم أحمد محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8478 - 2025 / 9 / 27 - 00:42
المحور:
الصحافة والاعلام
في زوايا مظلمة من الإنترنت، حيث تلتقي السرية بالتقنية المتقدمة، ازدهر سوق جديد لا يقل خطورة عن أنشطة الجريمة التقليدية: التزييف العميق، هذه التكنولوجيا، التي بدأت كأداة تجريبية في أوساط البحث العلمي، تحوّلت الآن إلى سلاح رقمي يُسوّق في شبكات الإنترنت المظلم، ويهدد الحقيقة، السمعة، والأمن الوطني، ليست مجرد فيديوهات أو تسجيلات مزورة — بل قدرة على خلق حقائق بديلة تُستخدم للتضليل، الابتزاز، وتأليب الرأي العام، إذ اصبحنا في زمنٍ لم يعد يفرّق فيه القارئ بين الحقيقة والزيف، يقف التزييف العميق القادم من الإنترنت المظلم كأخطر الأسلحة الرقمية، تقنية لا تُستخدم للتجريب أو الترفيه فحسب، بل باتت وسيلة ابتزاز وتضليل وتلاعب بالسياسة والاقتصاد.
التزييف العميق… من مختبر الذكاء الصناعي إلى أسواق الجريمة
التزييف العميق (Deepfake) هو تقنية تعتمد على الذكاء الصناعي لإنتاج صور ومقاطع فيديو وتسجيلات صوتية يصعب كشف زيفها، ورغم أن بداياتها كانت في أوساط البحث العلمي، فإنها سرعان ما وجدت مكانها في أسواق الإنترنت المظلم، حيث تُباع وتُشترى خدمات التزوير الرقمي عبر العملات المشفرة التي تضمن سرية البائع والمشتري، فعندما يلتقي التزييف العميق بخدمات الإنترنت المظلم، يصبح المنتج — فيديو، تسجيل صوتي، صورة، أو حتى ملف متكامل للحملة التضليلية — سلعة متداولة بسعر وطرق دفع وتحايل تحفظ هوية المشتري والبائع.
سوق سوداء للحقيقة
الإنترنت المظلم بيئة خصبة لمثل هذه الأدوات، حيث تُباع برامج التزييف العميق المعدلة بأسعار متفاوتة، وتُعرض خدمات "فيديوهات مزيفة عند الطلب". هذا السوق السري يجذب عصابات الابتزاز الإلكتروني، ومجرمي الاحتيال المالي، وحتى جهات قد تستغل التقنية في الدعاية السياسية أو الحملات المضللة، في هذه الشبكات المظلمة، يُعرض كل شيء، النتيجة: اهتزاز الثقة بالمصادر، وخلق وقائع بديلة قادرة على إشعال الأزمات السياسية والاجتماعية.
تقارير أمنية دولية نبهت مؤخراً إلى أن التزييف العميق في الإنترنت المظلم لم يعد في مرحلة التجريب. هناك أدلة على استخدامه فعلاً في قضايا ابتزاز مسؤولين وشخصيات عامة، عبر تركيب مشاهد مخلة تُستخدم للضغط والتهديد. الأخطر أن بعض هذه المقاطع يتم ترويجها لاحقاً على منصات مفتوحة، ما يضاعف الضرر النفسي والاجتماعي للضحايا.
المخاطر الأمنية والسياسية
• انهيار الثقة بالمصادر: كل صورة أو تسجيل يصبح موضع شك.
• تأثير على الانتخابات: محتوى مزيف قادر على قلب المزاج الشعبي.
• ابتزاز وتشويه سمعة: استهداف الأفراد والمؤسسات بمواد مفبركة.
• تهديد الأسواق والأمن الوطني: إشاعات مصورة قد تدفع إلى قرارات اقتصادية أو عسكرية خاطئة.
آليات الانتشار والتسويق
في الشبكات المظلمة يتوافر كل شيء: أدوات التزييف المتقدمة، قوالب جاهزة لوجوه وشخصيات عامة، خدمات إنتاج نصوص وتوزيعها عبر حسابات مزيفة، وحزم “تشغيل حملة” كاملة تضم الفيديو، النصوص، والخرائط الزمنية للنشر، الباعة يعرضون عينات، وخيارات مخصصة (voice cloning) لشخصيات محددة، أو مزج صور ولقطات أرشيفية مع لقطات مصنعة — كل ذلك مقابل دفعات بالعملات المشفرة لضمان السرية.
أمثلة ونماذج (توضيحية، غير مرتبطة بحالات محددة)
• تسجيل صوتي مزيف لرئيس دولة يُعلن قرارًا مفاجئًا — يُنشر عبر قنوات موازية في ساعات، فيثير ذعرًا سياسيًا وأسواقًا مالية.
• فيديو مصطنع يظهر شخصية عامة تدلي بتصريحات مخلة أو متطرفة، ما يؤدي إلى تراجعات شعبية، دعاوى قضائية أو حتى اضطرابات محلية.
• حملات ابتزاز: تسجيلات مزيفة تُستخدم للضغط على أفراد أو شركات للحصول على مبالغ مالية أو تنازلات.
تبعات أمنية وسياسية واجتماعية
1. تلاشي الثقة بالمصادر: عندما تصبح كل صورة أو تسجيل موضع شك، تنهار الثقة بالمؤسسات الإعلامية والحكومية.
2. تأثير على الانتخابات والانتخابات الفرعية: التزييف العميق قادر على قلب موازين الرأي عبر نشر صور وتصريحات ملفقة في اللحظات الحرجة.
3. ابتزاز وتشويه سمعة: الأفراد، لا سيما الشخصيات العامة والنساء العاملات في مناصب، يصبحون أهدافًا سهلة لحملات تدمير السمعة.
4. أمن وطني واقتصادي: معلومات مزيفة عن هجمات أو قرارات حكومية خاطئة قد تؤدي إلى ردود فعل عسكرية أو انهيارات سوقية.
5. انتشار الكراهية والعنف: المحتوى المفبرك قد يُستغل لإثارة توترات طائفية أو عرقية في مجتمعات هشة.
لماذا الإنترنت المظلم يمثل تفاوتًا؟
الإنترنت المظلم يتيح للمجرمين والمصممين نشر وبيع أدوات التزييف دون رقابة أو تتبع سهل، كما يوفر نظام دفع مشفرًا وطرق تواصل مشفرة تجعل من الصعب على الجهات القانونية تتبع المشتريات أو القبض على المتورطين، أما الأدوات المتطورة فباتت متاحة حتى لغير المتخصصين بواجهات سهلة الاستخدام ودلائل خطوة بخطوة.
التحديات التقنية والقانونية لمواجهته
• التقنية متطورة بسرعة: كلما تحسنت خوارزميات الكشف، تحسنت خوارزميات التزوير.
• القيود التشريعية: قوانين كثيرة لم تواكب التطور، وتطبيق القوانين عبر الحدود الدولية معقد.
• الخصوصية وحماية الحريات: حلول المراقبة الصارمة قد تسبب انتهاكات للحريات المدنية إن لم تُطبق بضوابط دقيقة.
• القدرة على التحقق: المؤسسات الإعلامية وعموم الناس يفتقرون أحيانًا لأدوات فحص موثوقة ومتاحة بشكل واسع.
توصيات عملية — كيف نواجه سلاح التزييف العميق؟
1. تعزيز آليات الكشف: دعم أبحاث كشف التزييف العميق، وتعميم أدوات فنية موثوقة في مؤسسات الإعلام والجهات الحكومية.
2. قواعد نشر واضحة: وضع معايير تحريرية صارمة تتطلب تحققًا متعدد المصادر قبل نشر أي مادة مثيرة للجدل.
3. قوانين دولية وتعاون عابر للحدود: اتفاقيات للتحقيق وتبادل الأدلة الرقمية، وملاحقة مروجي الأدوات في الشبكات المظلمة.
4. التوعية العامة: حملات إعلامية لتعليم الجمهور كيفية التحقق من المصادر ورفع وعي متابعي الأخبار بالعلامات التحذيرية.
5. بنية تحتية للقرائن الرقمية: تشجيع تطوير بروتوكولات توقيع رقمي للمحتوى الإعلامي (digital watermarking و provenance metadata) تُمكّن من التحقق من أصلية التسجيلات.
6. حماية الضحايا: آليات قانونية وسريعة لمواجهة الابتزاز، ودعم قانوني ونفسي للضحايا، خاصة الحالات التي تستهدف النساء أو الأقليات.
التحديات أمام المواجهة
المعضلة أن التزييف العميق يتطور بسرعة مذهلة، بينما أدوات الكشف والقوانين لا تزال بطيئة، والإنترنت المظلم يزيد من صعوبة المواجهة، حيث تختفي الهويات خلف تقنيات التشفير، وتُدار عمليات البيع والشراء بسرية كاملة.
خاتمة
التزييف العميق في الإنترنت المظلم ليس مجرد تهديد تقني؛ إنه تهديد لنسق الحقيقة نفسها، عندما يصبح من الممكن صناعة لحظات لا حدثت، ونشرها كوقائع، تتبدد الحدود بين الواقع والخيال، وتتهاوى الثقة التي تُبنى عليها الديمقراطية، الإعلام، والأمن، المواجهة تحتاج استراتيجية متكاملة — تقنية وقانونية وتربوية — لأن ثمن الصمت أو التقاعس هو فقدان القدرة على التمييز بين ما حدث فعلاً وما صُنع ليبدو كذلك، ما لم تتكاتف الجهود التقنية والقانونية والإعلامية، قد نجد أنفسنا أمام عالم لا يمكن الوثوق فيه بأي صورة أو تسجيل، إنها معركة وجودية: الدفاع عن الحقيقة في مواجهة صناعة الوهم.
#هيثم_أحمد_محمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟