خلف علي الخلف
الحوار المتمدن-العدد: 8477 - 2025 / 9 / 26 - 13:13
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في زحمة الإصدارات الروائية العربية، تبرز رواية “الرُّوع” للكاتب زهران القاسمي، كعملٍ يستحق الوقوف عنده، ليس فقط لجرأته في استكشاف عالم الوهم النفسي، بل أيضاً لغناه الرمزي وتفاعله مع التقاليد الريفية العمانية. إذ لا يخرج الكاتب عن مشروعه الروائي في تقصي تفاصيل وطرق عيش وأساطير وخرافات وحكايات الريف الزراعي العماني. الرواية في طبعتها الأولى صادرة عن دار ميسكلياني 2024، في 154 صفحة من القطع المتوسط. يحمل غلافها بصمةً فنيةً مميزةً من خلال صورة الغلاف التي تحمل توقيع المصور البحريني حسين المحروس، وتصميم محمد إسلام بوغدو وخطوط سمير بن قويعة التي تعكس أجواء الرواية التي يتنازعها الوهم والخوف وعدم اليقين.
لغة تقّلب الظلام الداخلي الإنساني
تميل لغة الرواية إلى الوصفية الشعرية المبسطة، لغة غنية بالصور الشعرية والتشبيهات والاستعارات الشعبية البسيطة، مما يضفي على الأحداث جوًا من الغموض والجمالية. يستخدم الكاتب أوصافًا حسية دقيقة للطبيعة والمشاهد (كالحقول والجبال والدروب)، مما يساعد في خلق صورة حية في ذهن القارئ ويغمره في بيئة العمل، وكأنه يعيش تفاصيلها بكل حواسه. على سبيل المثال، “على قمة الجبل استقرت سحابة صغيرة على شكل رأس كث الشعر”. لغة مكثفة استعارية لكنها في متناول شخصيات العمل ومدى إدراكهم المعرفي، كتشبيه الرّوع بجثة مقطوعة الرأس التي تفتتح الأحداث بجوٍّ من الرعب الملموس، وصف الغربان كرمز للشؤم، وصف الساحرات…
لكن الكاتب متعمدا يستخدم في سياق العمل اللغة المحلية والدارجة، إذ تتضمن الرواية مفردات وعبارات من اللهجة المحلية، مما يعزز واقعية الأحداث ويجعل الشخصيات تبدو أكثر أصالة وانتماءً للبيئة التي تدور فيها الأحداث. هذا الاستخدام يعكس ثقافة وتقاليد المجتمع المحلي. لكن الروائي لا يكف عن استخدام اللغة الرمزية، إذ يستخدم الرموز بشكل مكثف للتعبير عن أفكار ومفاهيم مجردة. اللغة الرمزية تضيف عمقًا إلى الرواية وتسمح بتأويلات مختلفة للأحداث والشخصيات.
تشابك العلاقة بين الحكاية الشعبية والرمز والأفكار
تبدو الرواية كأنها حكاية شعبية عن حارس الحقول [الرّوع] لكن هذا مستوى أول من التلقي يخفي بين طياته تقصي الحكايات الشعبية وعناصر العيش في القرى العمانية وتقاليدها. الرواية تستفيد وتنهل من الحكايات الشعبية المحلية حول الأرواح الشريرة والكائنات الأسطورية التي تخيف الناس. هذه الحكايات تضفي على الرواية جوًا من الغموض والإثارة وتجعلها أكثر ارتباطًا بالثقافة المحلية. وفي سياق ذلك تبرز الرّوع كرمزٍ مركزيٍّ لصناعة الوهم، والخوف الداخلي والصراع مع الذات، الصراع مع الأوهام التي يخلقها الإنسان، ثم بعد ذلك يتعامل معها كحقيقة واقعة. من أجل دعم هذا الصراع وإعطائه أبعادا واقعية تستحضر الرواية كائناتٍ أسطوريةً من التراث المحلي (كجِنّ الجبال)، مما يضفي عمقاً ثقافياً ويجعل القصة جسراً بين الواقع والمتخيل الذي يحاول الكاتب جعله ليس واقعيا، بل منطقيا.
الرّوع في الرواية ليس مجرد فزاعة لحماية الزرع، بل يكتسب أبعادًا رمزية متعددة. إنه رمز للوهم والخوف المتولد عنه، السلطة، التقاليد، وحتى الموت والبعث. يتم توظيف الرموز المستمدة من الحكايات الشعبية لتعزيز الحبكة وإثارة مشاعر القارئ.
في مسار الرواية نجد أن الكاتب لا يكتفي بالحكاية، بل يجعل من أسطرتها، مدخلا لطرح تأملات فكرية حول النفس الإنسانية حول البيئة المحلية وشخوصهم وأنماط تفكيرهم الواقعية والغيبية حكاية الروع وعلاقتها بالتقاليد المحلية. تتجاوز حكاية الرّوع وظيفتها التقليدية لتكتسب أبعادًا أسطورية. يصبح الروع كائنًا ذا قوة خارقة وقدرة على التأثير في الأحداث. وفي كل هذا لا يبتعد الكاتب عن التقاليد المحلية التي تضفي على الأحداث طابعًا أصيلًا وواقعيًا، لكنها في الوقت نفسه تحول هذه التقاليد إلى مادة للأسطرة والخيال.
صراع النفس والواقع وتحولات الشخصية
مثل تحول محجان في الرواية نقلة نوعية مؤثرة، حيث ينتقل من طور الفلاح البسيط إلى شخصية تواجه صراعًا وجوديًا عميقًا وتجليات لأحداث تتجاوز الواقع المألوف. هذا التحول الدرامي يكشف عن مدى هشاشة النفس الإنسانية وقابليتها للتأثر بالوهم والمجهول والغامض، مما يثير لدى القارئ شعورًا قويًا بالتعاطف مع معاناته الداخلية وتخبطه في مواجهة قوى خارجية غير مفهومة.
تعتمد الرواية في سردها على أسلوب تشويقي فعال، إذ يتم بناء التوتر والإثارة بشكل تدريجي ومتصاعد، خاصة في المشاهد التي يواجه فيها محجان كائنات غامضة أو يدخل في صراع مع ذاته. ويبرز مشهد اكتشاف الجثة المصلوبة على الروع كنموذج على قدرة الكاتب الفائقة في خلق جو من التشويق والترقب منذ البداية، حيث ينقل مشاعر الرعب والهلع التي تسيطر على محجان بشكل مؤثر، ويجعل القارئ يعيش معه لحظات الخوف والغموض. تلعب قوة الإيحاء دورًا هامًا في تشكيل تصورات الناس عن الواقع. الخوف من المجهول والمعتقدات الشعبية تساهم في خلق جو من الرعب والتوتر في الرواية. هذا التطور في شخصية محجان وأسلوب التشويق يزيد من جاذبية الرواية.
السلطة الدينية: أو السكون في مواجهة الحركة
يمثل المطوع في الرواية شخصية محورية تجسد السلطة الدينية والاجتماعية في القرية، حيث يُنظر إليه كمرجع لفقه الدين، وملاذًا لحل المشكلات وطلب النصح. ولا يتردد المطوع في التدخل عندما يرى تهديدًا يمس المجتمع من وجهة نظره الدينية، حتى دون طلب مباشر. يتصاعد الصراع بين المطوع ومحجان على خلفية ممارسات محجان الغريبة مع الروع، إذ يعتبرها المطوع تلك الممارسات التي وصلت إلى علمه خروجًا عن الأعراف الدينية الراسخة، ويسعى لوضع حد لها.
هذا الصراع لا يعكس خلافا فردياً، بل يرمز إلى مواجهات أعمق؛ إنه صراع بين العقلية التقليدية التي تتمسك بالثابت وترفض الخروج عنه، والعقليات التي تمثل خروجًا عن المألوف الاجتماعي المتشكل عقائديا. حيث يصبح الخروج عن السلطة الدينية، حتى الغرائبي الفردي منه يمثل تحديا لاستقرار المجتمع واستجلابا لقوى الشر ويربط بالسحر المدان عقائديا واجتماعيا. على الرغم من أن هذا الخروج لا يمس أحدا فهو يتمثل بعلاقة فردية بين الإنسان ومصيره وأوهامه. إن سلطة الدين والمجتمع تفرض سطوتها على تقرير مصير الفرد وخياراته، بما في ذلك خياره في تبني أوهام قد تبدو طائشة للآخرين. المطوع هنا يمثل دور الحارس الأمين على قيم المجتمع الدينية والاجتماعية، بينما يمثل محجان التحدي لهذه القيم رغم أنه لم يقصد ولم يتعمد ذلك.
تحديات الإيقاع والتركيز: ملاحظات على بنية السرد
على الرغم من قصر الرواية وكثافتها السردية، يلاحظ القارئ في بعض المواضع القليلة إسهاباَ متعمدا في التفاصيل الوصفية، مما قد يؤدي إلى تشتيت الانتباه وإبطاء وتيرة الأحداث. يتجلى ذلك في بعض الفصول الوسطى التي تصف الحقول أو الأشجار بدقة بالغة، مما يقلل من حدة التشويق ويطيل المشاهد دون إضافة ضرورية للحبكة.
تعكس علاقة محجان بزوجته تأثير الأحداث الغريبة على العلاقات الإنسانية بشكل عام. فعلى الرغم من وضوح الخطوط العريضة للمشاعر الأساسية التي تحكم هذه العلاقة، كالقلق والتوتر المتبادلين بين الزوجين، فإن التفاصيل الدقيقة التي تحرك دوافع الزوجة تظل في إطار عام يخدم الشخصية الأساسية لكنه لا يعرفنا بشكل عميق على شخصية الزوجة. رغم أن هذا الغموض يساهم في تعقيد القصة، ويطرح تساؤلات أعمق حول طبيعة الواقع والوهم والخوف وتأثيرها المتغلغل في العلاقات الشخصية. كما أن تكرار مشاهد الخوف والرعب، على غرار صراخ محجان وهلعه المتكرر، قد يضعف التصاعد الدرامي، ويضعف تأثير هذه المشاهد عبر التكرار ويجعلها متوقعة في بعض الأحيان.
هذه الملاحظات الهامشية لا تقلل من قيمة العمل ككل، لكنها تسلط الضوء على بعض التحديات التي قد تواجه القارئ أثناء تتبعه لأحداث الرواية.
نهاية القول: الروع بين الصنعة السردية والفكرة
لا يمكن تصنيف رواية “الروع” ضمن أدب الرعب التقليدي، إذ تقدم للقارئ استكشافًا عميقًا للخوف المتولد عن الوهم كقوة محركة أساسية في الوجود الإنساني. ينجح زهران القاسمي في تقديم عمل أدبي يدمج ببراعة بين الغوص في أعماق النفس البشرية والجمالية اللغوية، مستخدمًا لغة شعرية غنية بالصور والتشبيهات المحلية وحكايات وخرافات شعبية تخلق جوًا من الغموض والتشويق.
ورغم أن الرواية، لا تخلو من بعض التحديات التي قد تواجه القارئ، إلا أنها تُعدُّ إضافةً قويةً للرواية العربية المعاصرة، حيث تفتح الباب أمام نقاشاتٍ ثرية حول دور الرمزية والتراث الشعبي في بناء عوالم روائية متماسكة وغنية بالدلالات. كما أنها تسلط الضوء على قدرة الأدب على استكشاف أعقد المشاعر الإنسانية وتقديم رؤى جديدة للواقع من حولنا.
#خلف_علي_الخلف (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟