نصير عواد
الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 23:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا غرابة في ان نجد الكثير من العراقيين الذين عادوا بعربة المحتل الأمريكي انهم كانوا فقراء وثوريون، سُجنوا وهُجْروا وأُعدم الكثير من اصحابهم كما هو حال القوى المعارضة للنظام الديكتاتوري يومذاك، ولكن الغرابة هي في السرعة التي تخلو فيها عن القضايا التي خرجوا للمنفى من اجلها، في السرعة التي تحولوا فيها من مظلومين إلى ظالمين. فبعد امساكهم بكرسي السلطة اكتشفوا انه ليس من مصلحتهم ان يبقوا فقراء وثوريين، فتحكموا واغتنوا في أعوام معدودة من دون عمل أو موهبة أو أرث عائلي، وهو ما مهد لنشوء ثقافة سلطوية قائمة على الربح السريع والتديّن والتسلّح لا على التعليم والبحث والعمل والإنتاج. وبعد عشريتين من التسلّط وتكديس الأموال انطفأ عند البعض منهم بريق الثروات المادية، والتفتوا يبحثون عن تحويل هذه الثروات إلى جاه وشرف وحضور اجتماعي لطالما افتقدوه. بدّدوا الأموال على الأهل والأقارب والبيوت الفارهة، دعموا المواكب والشعائر الحسينية، لبسوا أغلى المحابس والثياب السود، ولكن مصطلح "حديثو نعمة" ألتصق بهم كعلكة عتيقة. من جهة أخرى تبيّن ان تاريخ البعض من هؤلاء الذين وصلوا مع المحتل لم يكن يبعث على التفاؤل ولا يؤسس لشرف ووجاهة، فمنهم من كانت لديه علاقات بمخابرات دولية عندما كان في المنفى، ومنهم من سبق له القتال في صفوف دولة جارة ضد دولته وشعبه، ومنهم مَن أمعن في قمع مواطنيه فترة النظام السابق. بالطبع هم كتبوا مذكراتهم لاحقا، وحاولوا تصنيع تواريخ وبطولات عن بناء "العراق الجديد" ولكن على الأرض لا يمكننا الحديث عن شريحة مجتمعية مثقفة وموثوق بها، ولا الحديث عن أنها ظهرت على سطح الاحداث كضرورة استدعتها حاجة البلد لردم أرث الديكتاتور وبناء البلد.
ما مر لا يقلل من حقيقة ان لدى الكثير من هؤلاء "السياسيين" خصائص اجتماعية ونفسية ميزتهم عن غيرهم، وجهزتهم ليكونوا جزء من طبيعة النظام الحاكم بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. أصبحوا واقع حال وعلينا التعامل معهم، ولكن سيكون مبالغا فيه إطلاق تسمية الــ "النخب" عليهم. هم انتشروا كالفطر السام بعد الاحتلال، وتصدروا الاحداث من دون المرور بفترات طبيعية من الصراع والتثقيف والتدرج الوظيفي والسياسي. أسّسوا على عجلٍ أحزاب وتيارات، ثم انشقوا عنها لتشكيل تيارات جديدة أكثر تطرفا، مستعينين برجال دين يمارسون لعبة كلمات عاطفية تسرد أحداث قديمة لا علاقة مباشرة لها بما يحدث في الشارع العراقي من بطالة وسوء خدمات وتدهور في الوضع الأمني. بكلام آخر لدينا في العراق رؤساء أحزاب وتيارات وأمراء حرب وليس لدينا قادة سياسيين، استراتيجيين. بالطبع هم لا يفرقون بين رئيس الحزب وبين القائد، وتجد أي مسؤول عن مجموعة يريد من لحظة انشقاقه عن حزبه عبور نهر المانش لقتال الغرب. ومع ان هذه الشريحة فشلت فشلا تاما في عملية التغيير وبالبناء وتوفير الخدمات، وأنها جعلت من العراق أكثر طائفية لا أكثر عراقية، إلا اننا لا يمكننا وصفهم بالجهل بسبب افتقادهم المزايا الشخصية والشهادة العلمية والخبرة الادارية. صحيح هم يشتغلون في السياسة من دون ان يكونوا سياسيين بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف. يتزاحمون ويتكيفون مع الواقع بقدر ما يؤمن مصالحهم، من دون ان تشغلهم أرقام الفقر والبطالة والأمية، ولا البعد الاجتماعي لنسب الطلاق والادمان والهجرة. هم يتمركزون حول أنفسهم وقبائلهم وطوائفهم لترتيب أولويات عسكرية وسياسية تعدّل على الدوام ميزان القوى لصالحهم، ويحاولون باستمرار طمأنة انصارهم بأن أموالهم وسلاحهم بأيديهم وأن لا خوف عليهم من حراك الشارع وغضبه. ولزيادة جرعة الطمأنينة يسردون على مؤيديهم حكايات عن رجال النظام السابق الذين شاركوا بأذى العراقيين ثم تابوا وانخرطوا في "العراق الجديد" من دون ان يحدث لهم شيء.
كانت الأحزاب الإسلامية التي وصلت مع المحتل قد تحوّلت بمرور الأعوام إلى قابلة طائفية لتوليد الفصائل وامراء الحرب والسماسرة، كان من أول ضحاياها الطبقة الوسطى الأكثر أهلية لقيادة الدولة والمجتمع، والتي كانت تعاني أصلا في ظل النظام السابق: متخصصون ومهندسون وأساتذة جامعات وأصحاب معامل أهلية وغيرهم. فهذه الأحزاب بدأت نشاطها باحتلال المواقع الحكومية والسيطرة على موارد الدولة، أغلقوا المصانع الصغيرة وعملوا على تنشيط الاستيراد وتنفير النخب واغراق السوق بالبضائع والكماليات، في البداية كان يُنظر لهذه السياسات اللينة على انها واعدة لشعب عانى الفقر والظلم والحصار، ولكن بعد أعوام قليلة بدا ارتفاع دخل الفرد أشبه بفقاعة سرعان ما انفجرت عن مشكلات عطّلت آلة الدولة في الصناعة والزراعة والتعليم، تجلى في ارتفاع معدلات البطالة وهجرة الكفاءات وتراجع دور القطاع الخاص، إلى جانب نمو شرائح هجينة تستثمر بالعقارات والسمسرة والاستيراد، لديها معلومات عن الشعائر والمناسبات الدينية أكثر مما لديها من معلومات عن أدارة مؤسسات الدولة. استمرت هذه الأحزاب تغطي على عجزها في أدارة الدولة وتوفير الخدمات بكثرة الشعائر وطبيخ المناسبات وقصائد الشعراء الحزينة، صحبة خطاب فضفاض عن ميزانيات انفجارية وخطط تنموية طائفية، يشرف عليها معممون لا علاقة لهم بالتخطيط والاقتصاد، قد يُبنى فيها مطارين بين مدينتين مقدستين لا تبعد أحدهما عن الأخرى أكثر من ثمانين كيلومتر.
في خضم ذلك بدأ الشارع العراقي يعرف طبيعة النظام السياسي الجديد، يعرف أسباب هشاشة الدولة، يعرف مَن يحق له العمل في مؤسساتها ومن استوعبته الفصائل المسلّحة في صفوفها، يعرف اسباب تفاوت العمران بين مدينة الديوانية ومدينة النجف. اشارت معرفة الشارع وتململه إلى نشوء صراعات تتحرك ببطء تحت القشرة الحالكة للواجهة الطائفية، فالصراع الطبقي ليس حكرا على فلاحين وعمال ورأسماليين، وأن غياب العدالة الاجتماعية وانقسام المجتمع طائفيا وعرقيا، وظهور شرائح طفيلية محمية بالسلاح، سيؤدي بالضرورة إلى ظهور صراعات لها خطابها وأدواتها.
في مكان آخر تحدثنا عن دور العراقيين في خراب بلدهم، وكيف ان الكثير منهم يتعامل مع بلده كبيت محترق، يحمل منه إذا استطاع أي شيء مفيد، ولكن المسؤولية الأولى تقع على كاهل السياسيين الذين أمسكوا بالبلد وبخزائنه، وفتحوا أبوابا للنهب والتسلّح والتطرف لا يمكن اغلاقها بسهولة. الجدير بالملاحظة ان هؤلاء الساسة يعرفون انهم فاسدون وفاشلون، قالوا ذلك بأنفسهم، ولكنهم باقون في المشهد السياسي حتى لو تم اقصاؤهم انتخابيا وسياسيا، أو تمت ادانتهم قضائيا بسبب فسادهم. والملفت انهم دعموا مَن هم على شاكلتهم، وأوصلوهم إلى مواقع لا تتناسب مع قدراتهم، لغرض توسيع قاعدة الفساد وتصويرها على أنها ظاهرة عراقية طبيعية غير محصورة بفرد أو حزب.
هؤلاء الذين تحوّلوا سريعا من فقراء إلى أغنياء، من مظلومين إلى ظالمين، سيرحلون عاجلاً أو آجلا، وسوف لن يتركوا ما هو محترم ومشرّف في ذاكرة العراقيين، ولكن السؤال هو ماذا لو رحلوا وحل محلهم أبنائهم أو مريديهم الذين لا يبتسمون لرغيف الخبز الحار؟ فلقد سبق للذاكرة الاجتماعية ان احتفظت بحكايات هامسة في فترة النظام السابق عن ان وصول أيّا من أبناء الديكتاتور "عدي أو قصي" لكرسي السلطة سيجعل الناس تترحم على ظلم الأب.
#نصير_عواد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟