نصير عواد
الحوار المتمدن-العدد: 8449 - 2025 / 8 / 29 - 00:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الشائع ان الأوضاع الاقتصادية الصعبة، أو تواجد نخب سياسية لا يرتضيها المواطن، تخلق دافعا داخليا للعمل على تغيير الأوضاع، ومعاقبة النخب. ولكن هذا الشائع قد لا يحدث دوما، فعلى الرغم من تسلط السياسيين وانعدام فرص العمل وغياب الخدمات وضعف الأمن المجتمعي في عراق ما بعد الاحتلال، نجد خفوت في قيم العراقيين وتقاليدهم الاجتماعية، رافق ذلك انتعاش في غرائزهم البدائية في الدفاع عن أنفسهم وعن مصالحهم الشخصية، بعضهم زاد الطين بِلّة في انتمائه إلى احزاب ليست وطنية بما يكفي لأخذ البلد إلى شاطئ الأمان. قد تكون هناك إيجابيات لأحزاب العملية السياسية الطائفية ونحن لم نرَها جيدا، على اعتبار ان الأشياء الجيدة التي يصنعها السيئون لا يمكن رؤيتها من أول مرة، ولكننا انتظرنا ربع قرن ولا ضوء في نهاية النفق، ومع ذلك لا يوجد رد فعل شعبي عام يعبر عن عمق الخراب الذي أحدثه الذين وصلوا في عربة الاحتلال. رأينا بدلا عن ذلك مشاركة جماهيرية في حمل السلاح ودعم الأحزاب الطائفية، رأينا مشاركة متكررة في انتخاب الفاسدين الذين نهبوا البلد، رأينا أكثرية ساكتة ومتفرجة على عملية سياسية مفبركة، وكل ذلك يحدث تحت مبررات اجتماعية ودينية واهية، تجعل من الصعوبة اعفاء العراقيين من مسؤوليتهم. في الحقيقة نحن نسير على بيض عندما يصل الحديث إلى مسؤولية العراقيين في خراب بلدهم، فلقد عوّدنا الخطاب السياسي على ان الاحكام تُطلق على الأفراد لا على الشعوب. إذ لا يمكن إدانة الشعوب أو إطلاق الاحكام العامة عليها، لأنه لا يوجد شعب انتهازي بأكمله او شجاع بأكمله أو بخيل بأكمله. أوصلنا ذلك إلى مرحلة تقديس "الشعب" ووضعه على مسطرة مستقيمة واحدة، لا تفاوتات فيه ولا وجود لمشاكل وأحقاد تورط شرائح منه بالخطأ!
في الواقع مسؤولية العراقيين عما يحدث ببلدهم لا يمكن عبورها. يمكن المرور عليها بهدوء ولكن لا سبيل لأدانتها، فكما قلنا ذلك يشكّل خروجا على تقاليد السياسة العراقية. في حين ان دولا أخرى عانت الحروب والاستبداد كانت قد خرجت على هذه التقاليد الساذجة، وسمّت الأشياء بأسمائها. فلقد توصلت المنظّرة اليهودية من أصل ألماني "حنة أرندت" في بحوثها إلى أن الشعب الألماني عاش مرحلة القتل البهيمي في النصف الأول من القرن الفائت، رغم ما كان يزخر به البلد من علوم وحضارة. المواطن الألماني الذي غطس في غروره واقتنع بحكاية "العرق الآري وبعظمة الفوهرر" كان على استعداد لقتل جاره، وصديق طفولته، وقتل من لا يعرفه أيضا، وكل ذلك بحكم الواجب ليس إلاّ. ظاهرة القتل الجماعي لكل مَن يختلف مع الفكر النازي من اليهود والغجر والشيوعين والاشتراكيين، كانت قد فقدت التنظيم في كثير من فصولها، بعد ان ساهم فيها المواطن العادي والمثقف ورجل الدين والأستاذ الجامعي والجندي والقائد العسكري. كانت عمليات القتل الهمجي أشبه بالوباء الذي وصل الازقة والقرى الألمانية البعيدة، ثم عبر الحدود الى بلدان مجاورة. الأمر الذي دفع الدول المنتصرة بعد انتهاء الحرب العظمى إلى الاقرار بوجود مشكلة "شعب" والتفكير بتوزيع من تبقى من الألمان على الدول الأخرى للتخلص من شرورهم خمسين عام على الأقل، ثم نهضت ألمانيا من الخراب والهزيمة واليأس لتبني مرة أخرى بلدا عظيما، وهذا موضوع آخر. في العراق لم نصل بعد إلى هذا المستوى من العنف، ولكن هذا لا يقلل من حقيقة ان العراق كان، وما زال، يتعرض للأذى من مواطنيه؛ ألم يذبح السياسي العراقي مَن يعترض طريقه؟ ألم تتناحر المكونات العراقية تحت مسميات الدين والطائفة؟ ألم ينهب العراقيون مؤسساتهم وتخوت مستشفياتهم واثاث مدارسهم في التحولات السياسية العاصفة؟ يُروى عن أحد المناضلين القدامى انه انتزع مصباح عتيق من مدرسة للأطفال، اثناء الانتفاضة الشعبانية (1991) في الوقت الذي كان فيه الناس ينهبون كل ما تصل إليه أيديهم. وعندما سأله الآخرون لماذا مصباح واحد فقط؟ فالمصابيح كثيرة والأثاث كثير أجاب (لا أحب النهب ولكني وجدت الجميع ينهبون، وخشيت ان أكون معزولا كبعير أجرب، فانتزعت المصباح).
وفي العودة إلى عنوان المقال فإن الموطنين الميالين إلى اللامبالاة والتكيف مع الازمات ليس حكرا على بلد دون آخر، فهم متواجدين في كل زمان ومكان، غالبا ما يلعبون دور التعطيل وليس الحسم. وفيما يميز العراق فإن خصوصيته تكمن في ظهور شرائح اجتماعية لامبالية تسخر من الأيدولوجيات والاحزاب وتضع كل السياسيين في سلة واحدة، ولا تجد في "الوطن" فكرة تستحق التضحية، ولا ترى فرقا بين الحكومة الحالية وبين العملية السياسية التي وضع أسسها المحتل الأمريكي. أدت هذه الروح المشوشة إلى ان يجد الكثير من العراقيين في اللامبالاة عافية وراحة بال، يمارسون حياتهم اليومية برتابة من دون فعاليات وطموحات كبيرة، لا هدف لهم خارج بيوتهم وعائلاتهم. وفي حال وصول التهديد إلى بيوتهم سيلجئون للغيب والشعائر والمناسبات الدينية لبث شكواهم وإخراج أصواتهم "هيهات منا الذلة" ثم يعودون إلى بيوتهم راضين، بانتظار مناسبة دينية أخرى.
نحن لا نقترح أسبابا لعدم الرضى، ففي الشارع العراقي الكثير من الأسباب التي تصنع الخوف والقتل والنهب والتهديد... ولكننا بحاجة إلى فرضيات أكثر واقعية لفهم العوامل النفسية والاجتماعية التي أدت إلى تنازل العراقيين عن حقوقهم الوطنية ومستقبل أبنائهم لحفنة سياسيين لا تاريخ لهم. قطعا المظالم الطويلة وحروب الديكتاتور وضعف الدولة وانفلات السلاح وتفاهة البديل الذي انتظروه طويلا لها دور في صنع اللامبالاة. من جهة أخرى المواطن العراقي لا يعاني الحاجة، هو يعاني فقرا نسبيا، ولكنه محبط بعد ان وجد لا دور له في النظام الجديد، وأنه كان يأمل بالحصول على أكثر من ذلك، وهذه كذلك لها دور في صنع اللامبالاة. ومع ذلك يبقى الخوف السلبي الجاثم في ذاكرة العراقيين طوال نصف قرن، مصحوب بعدم القدرة على التغيير، هو مصنع اللامبالاة. وقد لا نبالغ بالقول ان أي مكان نذهب إليه بالعراق سنشعر فيه بخوف الناس. صحيح ان ممارسات الديكتاتور وحروبه تؤثر على قرارات الناس، وتعطي الحق في قدر من الخوف، إلاّ أننا بعد سقوط الديكتاتور شهدنا إعادة إنتاج الخوف بشكل أكثر بدائية، الأمر الذي أدى إلى إدامته في الذاكرات وإلى صنع فجوة عميقة بين الشارع وبين الحكومات المتعاقبة، ثم صارت تتناقله الأجيال من دون التمييز بين فترة وأخرى، بين خوف وآخر. بين خوف من ان تفعل شيئا ضد "الحزب والثورة" وبين خوف من ان تفعل شيئا ضد "الدين والمذهب".
في الحقيقة نحن ما زلنا نسير على بيض، فمن يحاجج مجتمع منقسم تشعر طوائفه واحزابه بالتهديد، وأيديهم قرب سلاحهم، عليه ان لا ينتظر ردود أفعال متفهمة، حتى لو كان على حق. الانقسام جذر الخراب. وإذا كنّا نفهم حاجة الأحزاب الإسلامية لمجتمع منقسم يوفر لها أرضية تمرير السياسات فكيف نبرر امتثال الوطنيين وأصحاب الخبرة النضالية للمناخ السياسي السائد. فهل جفت روح النضال؟ وهل انقضى زمن "الوطني" التقليدي؟ أم أن انقسام المجتمع وتشظيه أكبر من دور الأحزاب الوطنية في لملمة الصفوف وصنع البديل؟ فمن الناحية التاريخية كان للوطنيين العراقيين أفكارا وأيدولوجيات مختلفة، وكان لديهم أيضا التزاما مشتركا بالوطن، ولكن بعد الاحتلال اصابت اللامبالاة الكثير منهم، انشغلوا بالهويات الفرعية أكثر من انشغالهم بالهوية الجامعة. بدلوا المواقف والكتب التي كانوا يقرؤن، ثم تركوا عادة القراءة وانشغلوا بأخبار الرواتب والتعويضات والمنح التي توزعها الحكومة لإلهاء العراقيين وشراء صمتهم.
#نصير_عواد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟