أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - نصير عواد - تشيخ الموضوعات ويبقى الإنسان















المزيد.....

تشيخ الموضوعات ويبقى الإنسان


نصير عواد

الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 23:29
المحور: قضايا ثقافية
    


سؤالٌ ساذج كنت قد وجهته للــ"الذكاء الاصطناعي" عن عدد المكتبات أو القرّاء الذين ما زالوا يضمّون "كارل ماركس" إلى قائمة الكتّاب والمفكرين العظماء، فأجابني (بالنسبة للبعض يُنظر إليه كرمز لفكر ثوري صغير اجتماعي، وأن له تأثيرات ضارة في بعض السياقات التاريخية، خاصة بعد تطبيق بعض أفكاره في الإلكترونيات الحاسوبي) بالطبع ليس ثمة جديد في جواب "الذكاء الاصطناعي" فهو يعطينا معلومة خالية من المشاعر، تمثل رؤية صانعيه، إنْ كان هنا او هناك. على العموم هو جواب انحصر فقط بأفكار "كارل ماركس" المعنية بالصراعات الطبقية من دون التوقف عند سيرته كشاعر وصحفي وإنسان متنوع الفعاليات، وهو جواب يشكل امتدادا لمزاعم أصحاب المصانع الكئيبة في القرن التاسع عشر في قولهم إن كارل ماركس (عدو للتقدم الاجتماعي ولا يرغب في استخدام الماكينات على الإطلاق). في الحقيقة هم، الرأسماليون، يعرفون القشرة واللب، ويعرفون جيدا ان الرجل لا يرغب في استخدام الماكينات لاستغلال الإنسان، ولكن تحريف الافكار والعناوين عندهم هواية سياسية لبلوغ الأهداف، لا توقفها حتى الحقائق الموثقة. وفي مثال آخر عن التحريف نجده عند دور النشر البريطانية عندما طبعت كتاب كارل ماركس (في المسألة اليهودية) انها لم تكتفِ بتغيير العنوان إلى عنوان مناقض له تماما (عالم بلا يهود) بل ذهبت أبعد من ذلك بالقول إن بعض الآراء الواردة في الكتاب يُنظر إليها على أنها معادية للسامية، وأن كارل ماركس هو من أسس في كتابه هذا لمعادة السامية ضد اليهود، على الرغم من أن الرجل يهوديّا أصله.
في الحقيقة "الذكاء الاصطناعي" ليس هو موضوع مقالنا، فحتى الآن لا هو مرجعنا الوحيد ولا نحن مِمّن يعضّون على أثوابهم ويركضون خلف اكتشافاته ودهاليزه وصرعاته، وانما أردنا النظر للأسماء العظيمة ضمن سياق أرقّ وأخصّ، من دون افتراضات مبالغ فيها. فمعرفتنا للجانب الإنساني عند الأرواح المبدعة تلعب دورا في تخفيف الضغوط علينا وعليهم. ولو اقتربنا أكثر من "ماركس" الإنسان واستطعنا تمييزه عن "ماركس" الفيلسوف الذي كتب "البيان الشيوعي" سنكون قادرين على تذوق قصائده الشعرية وتلمس عشقه لـــ (جيني فون ويستفالين) التي تزوجته وعاشت معه أحلك أيام الفقر والنفي. ومن شأن هذا الاقتراب رش الماء على الصورة المعتمة التي رسمها الغرب الرأسمالي لمفكر مات اطفاله جوعا ولم يتراجع عن أفكاره الفلسفية ولا عن اكمال مؤلفه "رأس المال" حتى قال عنه معاصروه ان (كارل ماركس أكثر من كتب عن المال ولا يملك سوى القليل منه)
بالطبع كل أمة لها ثقافتها وذوقها الجمالي، ومن الطبيعي ان يرى البعض في "كارل ماركس" فيلسوفا وأن يرى فيه البعض عالما اقتصاديّا وأن يرى آخرون في فلسفته منهاجا معرفيّا لدراسة البنى الاجتماعيّة وأن يرى فيه الأغنياء ورجال الدين تهديدا وجوديّا لهم. وهذا التنوّع في الآراء يشير إلى ان كتاباته كانت على الدوام تقدم نفسها كمقارب للثقافة الإنسانيّة المبتلية بالصراعات، وان لغته المتبلة بالشعر والاسطورة والهجاء "اشبه بكولاج ادبي" ما زالت جاذبة، حتى قال عنه كاتب سيرته فرانسيس وين (كتاب رأس المال هو أيضا تحفة أدبية غير مكتملة يمكن أن تُقرأ عبر بنيتها متعددة الطبقات، كرواية قوطية، أو ميلودراما من العصر الفيكتوري، أو مأساة إغريقية، أو عمل هزلي من أعمال جوناثان سويفت) إنّ الذين قرأوا "ماركس" بحيادٍ أو بغيره، سيلتقطون بسهولة نزعته الأدبيّة، فهذا العمق والترابط الفكري في كتاباته لا يمكن لهما من دون خلفية دينيّة وتاريخيّة وموسيقيّة وروائيّة وشعريّة. فلقد عمل كارل ماركس في الصحافة وكتب الرواية وأنظم إلى نادٍ للشعراء الشباب، ولكنه مثل باقي المثقفين الذين تحركهم الروح الثوريّة في شبابهم، يبدؤون شعراء وينتهون سياسيّين، غالبا ما تكون قصائدهم ذاتية وركيكة، ينشدونها بين اصدقائهم وعوائلهم. كان المفكر الفرنسي الذي ولد في الجزائر "لوي ألتسير" أكثر من نوه إلى التباين بين "ماركس" الشاب و"ماركس" الشيخ.
ولو تركنا على جنب "كارل ماركس" فهو ليس بحاجة إلى شهادة أيّا منّا، فإن الذين حملوا رسمة "تشي جيفارا" على قمصانهم وقبعاتهم، كرمز ثوري، يعرفون الكثير عن ان الرجل من أصل ارجنتيني، وأنه وقف مع مطالب الفقراء في غواتيمالا وقاتل في كوبا والكونغو ثم قُتل في بوليفيا وهو يصرخ بوجه القاتل "أطلق النار يا جبان، ستقتل رجلاً وحيدًا فقط" ومع ذلك فإن القليل ممّن لبسوا البيرية الجيفارية توقفوا عند حقيقة ان الرجل كان طبيبا وكاتبا وشاعرا قبل ان يكون مقاتلا. تساوقا مع هذه الصورة انتشرت كتاباته التي تتحدث عن النضال وحرب العصابات أكثر من تلك الشذرات الإنسانية العميقة التي جُمعت بعد رحيله. فحين يضج العالم بالفقر والظلم والثورات سوف لن يتوقف كثيرون عند تعلّق جيفارا بالثقافات القديمة والأبنية التراثية وتفضيله الجلوس إلى كبار السن. عند جيفارا "روح الشعب تسكن في العجائز" حتى أنه كتب في ماريا العجوز أرق قصائده (ماريا العجوز ستموتين، احدثك بجدية، كانت حياتك مسبحة من الصعاب، لا تصلّي لرب قاس أنكر عليك حياة الامل، ولا تطلبي الموت رحمة لتشاهدي غزلانك الهجين تكبر، لا تفعليها). يذكر أدواردو غليانو في كتابه الممتع الــ "مرايا" انه عندما كتب تشي جيفارا رسالته الأخيرة إلى أبويه، ليقول وداعا، لم يختَر اقتباسا من " كارل ماركس" واختار مقطعا من رائعة دون كيخوته (اشعر مرة أخرى تحت قدمي بدغدغة روسينانتي، وأعود إلى الطريق وترسي بذراعي. يبحر المبحر، مع انه يدرك من انه لن يلمس أبدا النجوم التي تواجهه).
تاريخيا، ثمة فجوات لا عمر لها بين المثقف والسياسي، ومع ذلك لا يمكن ألغاء العلاقة كليّا بينهما. هما يشتغلان في حقلين مختلفين، ولكنهما قد يتجاوران او يتبادلان المواقع، وأحيانا يفقدان دورهما، خاصة في تحوّل الصراعات وتوقف الحروب وظهور مشكلات فرعية ليست في الحسبان. الشاعر التشيلي بابلو نيرودا والشاعر السوري نزار قباني عملا سفيران لبلديهما، والسفير بحكم مهنته يشتغل على تنفيذ سياسة بلده وتبرير ما يحدث فيها. كذلك الرئيس السنغالي السابق ليوبولد سنغور، ورئيس البرازيل السابق خوسيه سارني، ورئيسا الولايات المتحدة الأميركية باراك أوباما وجيمي كارتر والمصري محمود سامي البارودي... كلهم كتبوا الشعر ومارسوا السياسة، وتسربت لسيّرهم حكايات النفاق والانتهازية. الشاعر الأمريكي "ازرا باوند" كان أحد أعمدة الحداثة أو (الشاعر الأمهر كما سماه تي إس إليوت) وكان مناصرا للديكتاتور الايطالي بينيتو موسليني، وهو ما وضع النقاد والمؤرخين والمؤسسات الثقافية في حيرة من أمرهم. تروي الكتابات ان "ازرا باوند" كان قد عرف ويلات الحرب العالمية الأولى، وانه اختزل بسطرين مأساة مقتل صديقه النحات الفرنسي "أونري غودييه برزسكا (قتلوه، وقتلوا قدّرا كبيرا من النحت). وبما أن الذات الإنسانيّة أكثر غموضا مما نتصور، نجد الشاعر ازرا باوند في الحرب العالمية الثانية وقف مع المعسكر الفاشي، ورأى في القتل والتهجير والمذابح التي تمارسهم الفاشية ليس سوى مقدمات لولادة عالم جديد وحضارة جديدة. الشائع في زمن الحروب أن قيّما تهتز وتتوحش، وأن حركات سياسية تنشط في تجنيد شعوبها وزجها بمغامرات سياسية وعرقية ودينية مهلكة، ولكن انخراط عقولا كبيرة ومبدعة في تجميل الحروب والدفاع عن الفاشية، كما فعل الشاعر ازرا باوند الذي "فقد صوابه في الاعصار" يضع القرّاء في حالة من الذهول، ويولد شعورا لديهم بخطر الموهبة وبضياع الأنبياء.
يتفق المؤرخون على ان اهمال النقاد والمؤسسات الثقافية العالمية لنتاج شاعر عظيم بقامة "ازرا باوند" سببه ليس فقط مناصرته للفاشية، وأنه كتب قصائده وهو في ضيافة الجنرالات وصنّاع الحروب، بل كذلك في خروجه الصاخب على الشعر والسياسة والقيم الثقافية السائدة يومذاك. ولذلك بقي هذا الاهمال غير قادر على إلغاء دوره كشاعر عظيم ومجدد، وغير قادر على إلغاء دوره الثقافي وتأثيره على أصدقائه الشعراء في النصف الأول من القرن الماضي. في قصيدته عن الصداقة يقول (تعال، لنشفق على هؤلاء الذين هم في بحبوحةٍ أكثر منّا-تعال يا صديقي، وتذكّر أن المُوسرين لديهم خدم وليس لديهم أصدقاء-ونحن، لدينا أصدقاء وليس لدينا خدم).



#نصير_عواد (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأخرنا في نزع سلاح الفصائل
- متلازمة حزب البعث، وماذا بعد؟
- المفكّر نصر حامد أبو زيد -عراقيّا-
- سماع الكلام أولى من رؤية العمامة
- التشوّهات الطبقية في العراق
- عندما يخسر التلْفاز موقعه
- في تحوّل المنضمات المسلّحة إلى -الجريمة المنظمة-
- لماذا نردّد كلمات دون غيرها؟
- الدعوة لانتخاب -ترامب-
- لن يمروا، باقٍ ويتمدد، وحدة الساحات..
- هل الغرب الامبريالي فقط هو سبب مشاكلنا؟
- الاغلبية العراقيّة بين السكوت والصمت
- ديموقراطية الفوضى، خمسمائة حزب عراقي
- في انتصار الأحزاب على العراق
- السلاح الموازي متعدّد الاستعمالات
- الاغنية -السبعينيّة- سيدة الشجن العراقيّ
- حضور الجنس وغياب الحب في رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره)
- النّاس هم الأغنية
- خبراء خارج قائمة المطلوبين
- ثلاث روايات عراقيّة تُصّور جحيم تجربة الثوار في الجبل


المزيد.....




- الأردن يدين مقتل اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنط ...
- ما هدف روسيا من إنشاء منطقة أمنية عازلة مع أوكرانيا؟
- مشاهد مؤلمة لتدافع مئات الغزيين أمام مخبز في النصيرات في محا ...
- السعودية.. ضبط وافدين على أبواب مكة بدون تصريح حج وإعلان عقو ...
- الجزائر.. حبات برد -بحجم بيض الدجاج- تتلف الأشجار المثمرة وا ...
- مصر.. طالب ينهال على والدته بـ16 طعنة أثناء نومها لسبب غريب ...
- إدارة ترامب تمنع جامعة هارفارد من تسجيل الطلبة الأجانب
- الأمن الفرنسي يوقف 55 رجلا بتهمة اعتداءات جنسية على أطفال
- عراقجي: إذا أقدمت إسرائيل على أي عدوان ضدنا سنعتبر الولايات ...
- عاصفة في السودان عقب قرار البرهان


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - نصير عواد - تشيخ الموضوعات ويبقى الإنسان