أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بسمة الصباح - انتقام الصمت















المزيد.....

انتقام الصمت


بسمة الصباح

الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 01:35
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

في ليلةٍ ثقيلة، ارتجفت الأرض تحت خطى نور وهي تُساق إلى محفلٍ قاسٍ باسم الشرف.
لم تكن ليلة عرسها كما حلمت بها، إنما محكمة علنية يتناوب فيها الأهل والغرباء على جلدها بالكلمة والشكّ، حتى تهاوى جسدها الطري بين أيديهم كغصنٍ غضّ يُكسر بلا رحمة.

لحظة واحدة غيّرت قدرها، وانفتحت أمامها هاوية من ظلمٍ وتقاليد تُنصّب نفسها قاضياً وجلاداً، تاركةً قلبها ينزف وكرامتها تُنتهك على مذبح العادات.

وسط الهمهمات، انطلقت صرخة:
"لا يوجد دليل على عذريتها!"
فارتبكت القلوب، وتحوّلت الوجوه إلى محاكم متوحشة.
والأم المفزوعة أنكرت، ثم انكسرت حين رأت الدليل نظيفاً.
وانقلبت إلى جلاد هي الأخرى، تضرب ابنتها بقسوة التي صارت جسداً بلا روح.
أمّ الزوج المتسلطة طردتها بغلظة، والزوج نفسه، والذي أحبته أكثر من عشرة أعوام وصبرت معه على الفقر، لم يجد شجاعة ليحميها من أهله، لكنه ألقى بها في هاوية العار والطلاق.

خرجت نور بين يدي أبيها، منكسرة، تبكي بصمت لا يسمعه أحد.
كل ما بنته من أحلام صار رماداً، وفرحة العمر تحولت إلى كابوس.
حتى عمها جاء بعد يومين يريد قتلها، وأمها وافقت لتمحو ما تسمّيه بالعار.
لولا أبيها الذي احتضنها ومنحها فرصة للهرب، لكانت الآن تراباً يُطمر تحت الأقدام.
وقد ساعدها على الهرب من قريتها بمساعدة قريبتهم.

في ذلك المساء المشؤوم ركبت نور الحافلة المتجهة إلى المدينة، ومعها ذاك المال القليل وذاك الرجاء الخافت. وصلت المدينة الواسعة ذات الأسماء الصاخبة، واستأجرت غرفة ضئيلة، ونزعت عن ظهرها رداء الضحية بصبر لا يضيع.

استفاقت نور من ذكرياتها المؤلمة وهي تمسك إعلان شركة "ياسين للسياحة" تبحث فيه عن وظيفة كسكرتيرة.
رأت في الورقة بداية طريق جديد، لا تعرف إن كان خلاصاً أم فخاً آخر.
لكنها وعدت نفسها أن تنهض من تحت الركام.

بدأت حياتها في المدينة، غريبة تتعلم كيف تعيش بلا سند.
فالعمل علّمها القسوة، والمدينة علّمتها أن الضعف جريمة.
شيئاً فشيئاً نمت داخلها جذوة غضب، وتحولت دموعها إلى وقود لانتقام صامت.
لم تعد تلك الفتاة البريئة التي تُساق إلى المذبح؛ صارت ناراً تترقّب لحظة الانفجار.

وفي صمت لياليها، أقسمت:
لن أبقى جرحاً مفتوحاً.
سأعود يوماً، لأحاكمهم جميعاً بما ظلموني به.

وهكذا بدأت رحلة الانتقام…
تقدمت إلى شركة «ياسين للسياحة» لتعمل سكرتيرة؛ واجهت العالم بابتسامة مبعثرة لكنّ عينيها تحملان ثباتاً جديداً.
المدير مروان رأى فيها شيئاً: حزناً مستتراً لكنه صادق، فقبلها للعمل قائلاً ببساطة:
الكرامة أهم من أي شيء.
من اليوم اعتبري نفسك معنا.

تعلمت نور في الشركة أساسيات العمل بهدوء ومثابرة، عملت حتى ساعات متأخرة، ودرست الإنجليزية، وأنهت الدورات التي مكنتها من أن تكون أكثر احترافاً.
كانت تبني نفسها عملاً فوق جراحها؛ هذا كان انتقامها الهادئ:
أن تعيش، وتتعلم، وأن تعيل نفسها ولا تحتاج لأحد.

وأثناء انهماكها بالعمل، دخل إلى مكتبها زبونٌ فظّ، كان ذلك الرجل الذي كان يوماً عشيقها ثم زوجها: أحمد.
تجمدت يدها على حامل الأوراق، لكن هذه المرة لم تضع رأسها على ركبتيها تبكي، لكنها مدت له بطاقة عملها بمهنية، وسألته عن طلبه؛ وواجهته بقوانين العمل ببرودٍ شديد.
هو الذي أمر وقرّر سابقاً، صار اليوم يتبع تعليمات موظفةٍ أصغر منه، فارتبك أمام الآخرين.

لم تكن نور تريد إذلاله؛ ولم يكن هدفها إعادة الجرح بعينين قاتلتين، بل إعادة ترتيب حياةٍ سرقها منها يوم عرسها.
احتفظت بكلّ ما لديها من ذكريات، ورسائل قديمة، وكلماتٍ لم تستطع أن تقولها، وتحولت لاحقاً إلى كلماتٍ تبني حياة.
عملها صار شبكة أمان؛ وعندها زملاء متعاطفون، ونجاح مهني سريع، وثقة تنمو لحظة بعد لحظة.

في اجتماعٍ رسمي، أمام عدة زبائن وكان أحمد بينهم، قالت عبارةً بدت بسيطة لكن وقعها قوي:
الاحترام لا يُشرّع الظلم.
كانت هذه المقولة بمثابة مرآة أمامه، فخرج أحمد محطماً أمام عالمه، ليس لأن نور دشّنته بشتيمة،إنما نجاحها صار حكماً أعظم.

مع مرور الوقت لم تكتفِ نور بالعمل؛ تحوّل ألمها إلى كلمة. كتبت مقالاتٍ تحت عنوان:
نساء بلا أصوات.
سردت فيها حكاياتٍ مماثلة دون أن تكشف هويتها، وبدأت رسائل الشكر تنهال عليها من فتياتٍ وجدن في كلماتها شجاعةً للاعتراض.
عرضت عليها صحفية مشهورة أن تُنشر قصتها كاملةً في كتاب؛ كان قراراً عظيماً: أن تصير الحكاية عامة، وأن تقلب الخوف إلى تجربةٍ تُستعان بها أخريات.

حين خرج الكتاب وصارت حكاية نور متداولة، لم تبقَ الحكاية محصورة في صفحات؛ انتشرت على شاشات التلفاز، ودُعيت إلى برامج، وتحوّلت شهادتها إلى منبر تطالب منه بعدالة، وتغييرٍ تشريعي وحصانات ضد «جرائم الشرف».
لم تكن تُريد عقاباً شخصياً لأحمد،لكنها أرادت تحويل الجرح إلى درس عام.
وأضافت إلى عملها مبدأً جديداً: تدريب فتيات على الاعتماد على الذات، وتعليم قانوني بسيط لتوعية قريباتهن.

وعندما عادت نور إلى قريتها في حملة توعية برفقة منظمات حقوقية ومحامين، لم يكن المشهد سهلاً.
بعضهم أنكر الواقع، والبعض هتف ضدها، وأم أحمد تجرّعت مرارة مواجهة الحقيقة على شاشة البيت.
لكن ما لم يتوقعه أهل القرية هو أن موجة صغيرة من النساء والشباب تلتف حول نور.
قصةٌ تلو الأخرى خرجت من الصدور، وحكاياتٌ دفينة أعيدت لتُروى على الملأ.
وشيئاً فشيئاً، بدأت شكاوى تُقدَّم إلى المجلس المحلي، وانفتاحٌ على مراكز استشارات نسائية صغيرة، وبدء خططٍ لتعليمٍ وتوعيةٍ للشباب.
لم يكن التغيير جذرياً بين ليلة وضحاها، لكنه بدأ يتحرك؛ والبرودة التي سادت لأعوام بدأت تختفي مع ضوء العدل.

أما أحمد فظل يعيش ما لم يقدر عليه في الماضي: فراغٌ لا يملؤه الندم.
ذهب لوالدها يطلب السماح، لكن الوالد صار وجهاً لا يتعاطف مع قاتل فرحة ابنته.
نور رفضت العودة له تحت أي ذريعة؛ لم تكن تريده مجرد اعتذارٍ، بل كانت تريد أن يرى حجم خسارته كي يعرف ماذا سيفقد.
لم تنحنِ أمامه، ولم ترمه بالشتائم؛ جعلت من نجاحها حكماً نهائياً:
«أنا سأعيش. وأنت ستذهب».

هذا كان انتقامها : أن تجعل حياته بلا تأثير على سعادتها.

مع كل هذا، لم تختفِ رغبةٌ قديمة عندها؛ تلك الرسالة البيضاء التي كتبتها له مرةً ونظفتها من المرارة، ووضعتها في درجٍ لا يصل إليه إلا المصير.
هي رسالة تقول:

لقد رحلتَ بأعذارك.
أما أنا فسأعلّم بناتي يوماً ما أن الحب لا يقتل كرامة أحد.

لم ترسلها له؛ لكنها احتفظت بها كتذكارٍ لصمودها، وتذكيرٍ بأنها اختارت أن تُعلِّم بدل أن تُقاضي بمرارة.

الوقت مرّ، ونور أصبحت صوتاً يُستشهد به في الندوات، وكتابها صار مرجعاً للناشطات، ومبادرات التوعية وُلدت في القرى المحيطة.
والنجاح المهني صار انتقامها الأجمل؛ لأنّ الكرامة لا تُستعاد بالصراخ، وإنما بالعمل، وبالعطاء، وبأن تُصبح الحكاية نفسها مثالًا يُدرَّس ويُحتذى.

في مساء هادئ، جلست نور على شرفة شقتها الجديدة، وفتحت دفترها وعنوانه: حكايا تُروى بصمت.
كتبت جملة أخيرة:
انتقامي أن أعيش بكرامتي، وأن أشيّد بيتاً بحب وطمأنينة.

ثم أغلقت الدفتر بابتسامة هادئة، ليست دمعة ولا ضحكة، لكنها صفحٌ جديد من حياة ترفض أن تكون سجينة ماضيها.

القصة لم تنتهِ، فالطرق طويلة والعمل لا يكتمل إلا بالصبر.
لكنها اليوم قصة امرأةٍ صنعت من جرحها نوراً، ومن صمتها صوتاً.
انتقامها لم يكن تحطيماً للرجل الذي خان حلمها، لكنه بناء لمجتمعٍ يرفض أن يُضحّي بكرامة أبنائه باسم تقاليد ظالمة.

وفي النهاية..
بقيت نور تعيش، وتكتب، وتُعلّم، وتُقنع، حتى يُصبح صوتها مرجعاً للنساء اللاتي لم يُمنحن فرصة الكلام من قبل.
هكذا كانت نهايتها وبداية كل شيء جميل: انتقامٌ بلا دم، وحياةٌ تبنى على الأمان، وكرامةٌ لا تُباع.

تمّت



#بسمة_الصباح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حواء
- حين تسكنني الغيوم
- العنوان صرخة النص الأولى
- المجاز بين الحقيقة والحنين
- ندم
- مفترق الكرى
- من إلاكَ قصيدة
- محمود البريكان بين العزلة والتأمل الجزء الاول
- الرواية بين القمع والحرية
- نقاء
- سراب
- رؤية نقدية لقصيدة كاظم حسن سعيد ابو مسلم الخرساني الزهروي
- محمود البريكان بين العزلة والتأمل
- حار القصيد
- عربية أنا
- قراءة نقدية لنص روح في علبة سردين
- تراتيل العشق الأزلي
- ربما
- آيات الحب
- عناقيد الأماني


المزيد.....




- الاحتمال صفر
- أسعد عرابي... رحيل فنان يكتب العالم باللون وناقد يعيد ترميمه ...
- النقد الثقافي (المعنى والإتّجاه) في إتحاد الأدباء
- فنانون عرب يشيدون بتنظيم مهرجان بغداد السينمائي
- تحديات جديدة أمام الرواية الإعلامية حول غزة
- وفاة الفنان السعودي حمد المزيني عن عمر 80 عامًا
- حروب مصر وإسرائيل في مرآة السينما.. بطولة هنا وصدمة هناك
- -لا موسيقى للإبادة الجماعية-.. أكثر من 400 فنانا يعلنون مقاط ...
- الأوبرا في ثوب جديد.. -متروبوليتان- تفتتح موسمها بعمل عن الأ ...
- الصّخب والعنف.. كيف عالج وليم فوكنر قضية الصراع الإنساني؟


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بسمة الصباح - انتقام الصمت