أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين أحمد - الصراع الحراني - السرياني في رواية -الحراني-















المزيد.....

الصراع الحراني - السرياني في رواية -الحراني-


حسين أحمد
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 13:05
المحور: الادب والفن
    


حين عزمت على قراءة رواية الحرّاني شعرت في البداية أنني مقبل على نص تاريخي تقليدي، لكن سرعان ما اكتشفت أنني دخلت في تجربة مختلفة تماماً. الرواية بابٌ إلى عالم حي ينبض بأصوات الناس وصراخهم وهمسهم وأحلامهم وخوفهم، وتجسدت أحداثها في مخيلتي نابضةً بالحياة، ما دفعني إلى التساؤل: هل هذا الماضي بعيد عنا حقاً، أم أنه حاضر بملامح أخرى؟

أخذت الرواية زاوية تاريخية مغايرة للرواية "الرسمية"، جاء بها الكاتب من مصادرها وصاغها.

البداية كانت صاخبة. الخليفة المأمون على أبواب حرّان، النساء تزغردن، آخرون يرفعون أصواتهم بالهتاف. يتفاجأ المأمون بأزيائهم وأشكالهم، ويتساءل عن دينهم وأصلهم.

بعد أن يبين كبير الحرانيين قُرّة للمأمون من هم، وما هو دينهم، يظهر إيشع القطيعي، الراهب السرياني القادم من الرها، الذي يلعب دور "المخبر" في المشهد. يقف خلف الصفوف، ثم يقترب ليهمس في أذن الخليفة بأن الحرّانيين وثنيون يعبدون النجوم والكواكب، وأنهم ليسوا أحنافاً كما يدّعون. هنا يتحول مسار الأحداث: كلمة واحدة من راهب هامشي كانت كفيلة بأن تغيّر موقف الخليفة من أهل مدينة بأكملها.

أخيراً، يقرر المأمون أن يجمع فقهاء المسلمين؛ ليقرر مصيرهم، إما أن يقرهم على دينهم، أو أن يعتنقوا ديناً آخر، وذلك بعد أن يعود من طرسوس التي يتوجه إليها لمحاربة الروم. رغم أن لديهم كتاباً من المسلمين الأوائل الذين فتحوا حران آنذاك، ويدفعون الجزية.

أول ما يلمسه القارئ هو شدّة العداء الذي يواجهه الحرّانيون من جيرانهم المسيحيين. لا يمرّ مشهد في الرواية إلا ويظهر فيه ظلّ الوشاية أو الاتهام. كلمة واحدة من فم رجل دين مسيحي كانت كافية لتقلب الموقف، وتضع بلدة كاملة تحت تهديد القتل أو التحول الديني. الرواية تجعل القارئ يشعر بمدى هشاشة المصير حين يكون بيد آخرين، وكيف يمكن أن يُقرر مصير جماعة بكلمة عابرة.

هذا العداء لا يقف عند حدود الوشاية السياسية، بل يمتد إلى الفكر نفسه. الفلسفة والعلم، يُنظر إليهما آنذاك بعين الريبة. الرواية تنقل مشاهد لمجادلات حادّة، حيث يعتبر رجال الدين المسيحي أن قراءة كتب أرسطو أو إقليدس أو أبولونيوس ليست علماً، بل فتنة تخرج الناس عن العقيدة.

في المغليتيا، المدرسة الحرانية التي يتعلّم فيها الطلاب الحساب والفلك واللغات، يتحوّل الدرس أحياناً إلى مغامرة محفوفة بالخطر: الطالب يفتح مخطوطة قديمة، المعلّم يشرحها، وفي الخارج هناك من يتربّص ويعتبر هذه الكلمات هرطقة. هذا التوتر يتصاعد حين تذكر الرواية قصصاً عن إغلاق الأكاديمية في أثينا، أو عن كيف وُئدت الفلسفة في لحظة تاريخية تحت ضغط السلطة الدينية المسيحية، لكن حران بقيت معقلاً محافظاً على الإرث الفلسفي؛ لا بل نرى أن العقيدة الحرانية أمست ممتزجة بالفلسفة ومصدراً لها، وتسمو بالفلاسفة إلى مصاف الأنبياء. فثابت بن قرة نفسه وصل إلى مرتبة الصديقين، وهي أعلى مراتب الحكمة في العقيدة الحرّانية.

لكن الرواية لا تكتفي بإبراز الصراع الفكري والديني الحراني مع محيطهم المسيحي، وتحديداً الرها، بل تضع الحرّانيين في سياق الأرض والريف والعادات والتقاليد التي اندثرت، فجاءت الرواية لإحيائها. القارئ يتنقل بين الحقول والقرى المحيطة، ويسمع صخب الحرفيين في سوق حران، ويشهد الطقوس التي تتداخل مع حياة الفلاحة. ويعاد تصوير طقس التعميد في معبد القمر، والمرور على المواسم والأعياد، المرتبطة بعلاقة الناس بالنجوم والكواكب التي يربطون بها أعمالهم ومهنهم.

الرواية تروي كيف يُؤخذ الطفل إلى المعبد ليختار له مهنة بحسب الكوكب الذي يوافق ميلاده، وكيف يرتبط كل كوكب بحرفة أو صنعة. هذه الصورة تجعل القارئ يدرك أن حياة الحرّانيين لم تكن منفصلة عن حياة العشائر الزراعية في الجزيرة والرقة، بل كانت استمراراً لها، بطقوسها ومواسمها وأحلامها، فيذكر طقس "أم الغيث" الذي ما زال يقام في الجزيرة الفراتية أثناء سنوات الجفاف، لا بل أشار الكاتب إلى استخدام السريان وقتها كلمة "شُويّة" كدلالة تحقيرية على بقايا قوم أَفُل زمانهم، ويربط بين هذه المفردة وأنهم بقايا الحرانيين، فآخر قوم أفُل زمانهم هم الحرانيون!

ولفت انتباهي استخدام الروائي تعبير "سريان عرب" أو "عرب سريان" للإشارة إلى جماعات من العرب اعتنقوا الديانة المسيحية وصاروا سريان وهو هنا يقول إن السريان هم جماعة دينية فيها من كل الاعراق مثل المسلمين.


برز معبد القمر كرمز يجمع كل الخيوط؛ مكان لعبادة الإله سين، مركز اجتماعي، وساحة أسطورية. الرواية تصف قدسيته ورهبته، ثم تروي الحكايات التي انتشرت عنه، كالإشاعات المسيحية حول تقديم الحرانيين قرابين بشرية في المعبد؛ وهو ما دفع هارون الرشيد إلى إرسال مبعوث يتقصى هذه المزاعم في وقت سابق على تاريخ أحداث الرواية.

غير أن الرواية تذهب أبعد من هذا كله، لتجعل من الحرّانيين ورثة علوم الأمم الماضية. حين يتدارس الأستاذة والتلاميذ، في دار العلم المغليتيا، المخطوطات والنظريات والعلوم والفلسفات القديمة.
يُعاد شرح كتب جالينوس وإقليدس وأبولونيوس وفيثاغورس، يشعر القارئ أن الحرّانيين ليسوا فقط طلاب علم، بل حملة مشعل قديم انتقل إليهم من سومر وليس من اليونان فحسب، بعد أن يكشف سادن أحد المعابد الحرانية عن مكتبة للألواح الطينية، مما يجعلهم الجسر الذي مرت عليه الفلسفة والعلوم إلى اليونان، ثم عادت عن طريقهم إلى الشرق. كأن النص يعلن أن المعرفة لم تمت من قبل فأُحيت، بل وجدت من يحملها من جيل إلى جيل.

الرواية تُدخل القارئ في تفاصيل غائبة، كانتقادهم الترجمة الحرفية التي تفسد المعنى، مظهرين وعياً بضرورة معرفة خصوصية اللغات المختلفة. وتصف الكتب التي كانت تدرَّس وتُترجم، مبينةً أن العملية لم تكن نقلاً مجرداً، بل ترجمة فشرح فتعليم.

الحرّاني ليست رواية عن ماضٍ بعيد فقط، بل مرآة عن كل جماعة عاشت بالمعرفة، وتشبثت بالأرض والتراث عبر الدين والفلسفة.
ما زالت بقايا العادات والتقاليد في الجزيرة الفراتية تدل عليهم، ولهذا تبقى الرواية حيّة في ذهن قارئها. فهي تحكي عن جماعة بشرية عاشت في لجج التناقضات التاريخية ضمن رقعة جغرافية منسية اليوم، كانت يوماً منارة للعلم، وكانت حياتهم قائمة على العلم والفلسفة والطقوس الدينية مكونة معتقداً تمتزج فيه كل هذه العناصر.



#حسين_أحمد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إسطنبول في عين العاصفة: أزمة حزب الشعب الجمهوري وتداعياتها ا ...
- بين الرسمي والتسريبات: قراءة في خطاب أوجلان ومآلات المسار ال ...
- ماهر تشايان: مسار من الفكر إلى العمل المسلح إلى إلهام أوجلان
- ​إبراهيم كايباكايا (إيبو): قائد ومنظر الماوية في تركيا
- توم باراك يضرب الأرض برجليه كطفلٍ فَقَدَ لعبته: صراع النفوذ ...
- خطاب أردوغان التاريخي: هل هو خطاب تاريخي أم دعاية للخطاب
- تبعات تدخل حزب العمال الكردستاني في الصراع السوري: خسائر جسي ...
- واقع عملية السلام في تركيا وآفاق الحل
- الحوار الكردي بعيون تركية: السياسة تقودها المصالح لا الأوهام
- قراءة في كتاب قبل حلول الظلام للمعتقل السابق معبد الحسون
- كتاب عملية ماموت
- قلم اللاجئ في مواجهة العنصرية
- محطات بارزة في راهن الكرد في سوريا
- مقتطفات من تاريخ الحركة الكردية في سورية
- مقتل قاسم سليماني سيغير معادلات كثيرة في المنطقة
- ما الذي يجري في العالم ..؟؟؟
- داعش و الغرب في علاقة إستراتيجية .؟؟
- نظرة الغرب الاستراتيجية للكورد
- حوار مع الشاعرة الأمازيغية المتمردة مليكة مزان
- إبراهيم اليوسف .... المرأة لن تحصل على كامل حقوقها ، في ظلّ ...


المزيد.....




- يوجينيو آرياس هيرانز.. حلاق بيكاسو الوفي
- تنامي مقاطعة الفنانين والمشاهير الغربيين لدولة الاحتلال بسبب ...
- من عروض ايام بجاية السينمائية... -سودان ياغالي- ابداع الشباب ...
- أحمد مهنا.. فنان يرسم الجوع والأمل على صناديق المساعدات بغزة ...
- وَجْهٌ فِي مَرَايَا حُلْم
- أحمد مهنا.. فنان يرسم الجوع والأمل على صناديق المساعدات بغزة ...
- نظارة ذكية -تخذل- زوكربيرغ.. موقف محرج على المسرح
- -قوة التفاوض- عراقجي يكشف خفايا بمفاوضات الملف النووي
- سميح القاسم.. الشاعر المؤرخ و-متنبي- فلسطين
- سميح القاسم.. الشاعر المؤرخ و-متنبي- فلسطين


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين أحمد - الصراع الحراني - السرياني في رواية -الحراني-