حسين أحمد
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 19:13
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
تُظهر سلسلة الأحداث والتصريحات الأخيرة وجود تناقض واضح وتخبط في مسار حل القضية الكردية في سوريا. فبينما يتوقع الجميع تصعيداً، تأتي المفاوضات بنتائج إيجابية، والعكس صحيح، خاصة فيما يتعلق بتصريحات المبعوث الأمريكي توم باراك العدائية وغير المفهومة تجاه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتاريخ 11 يوليو 2025.
بتاريخ 11 يوليو، أدلى السفير الأمريكي في تركيا والمبعوث إلى سوريا، توم باراك، بتصريحات عدائية كصرخة غير دبلوماسية بعد لقائه بقائد قسد، مظلوم عبدي. قال باراك إن "قوات سوريا الديمقراطية امتداد لوحدات حماية الشعب، والتي تمثل بدورها امتداداً لحزب العمال الكردستاني". كما شكك في فكرة أن الولايات المتحدة مدينة لقسد بشيء، متسائلاً: "ما الذي ندين لهم به؟". وأضاف أن الولايات المتحدة ليست مدينة لتلك القوات بحق إقامة حكومة مستقلة، بل "تدين لها فقط بمسار معقول نحو تشكيل حكومة جديدة". وفي سياق آخر، قال: "ليس من الممكن أن تتنكر (...) قوات كردية بزيّ الأكراد". وختم حديثه بتهديد مبطن: "نعم، نحن مدينون لك (أي لقسد) بواجب معاملتك بشكل معقول، إذا لم تكن معقولًا، فإن بديلاً آخر سيُطرح على جدول الأعمال".
بعد هذه التصريحات، وفي 19 يوليو، التقى باراك بمظلوم عبدي مجدداً في الأردن، ووصف الاجتماع بأنه كان ودياً. ويبدو أنه تم الاتفاق على عقد اجتماع في باريس بين ممثلين عن قسد والحكومة السورية الانتقالية لبحث مسألة اندماج قسد في القوات الحكومية.
المفاوضات المتعثرة وتدخلات باراك
كان من المقرر عقد اجتماع باريس في 25 يوليو، لكنه تأجل من طرف الحكومة الانتقالية السورية دون إبداء الأسباب. بينما قبل هذا التأجيل بيوم، عُقد اجتماع في باريس بين وزير خارجية الحكومة السورية الانتقالية أسعد الشيباني ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر بحضور ووساطة توم باراك.
في 9 أغسطس، نقلت وكالة سانا عن مصدر في الحكومة السورية الانتقالية أن دمشق لن تشارك في أي اجتماعات مقررة في باريس مع قسد، داعياً إلى الانخراط الجاد في تنفيذ اتفاق 10 مارس. جاء هذا البيان بعد مؤتمر عقدته قسد في الحسكة ضم شخصيات دينية من السويداء والساحل السوري، وعقب زيارة وزير الخارجية التركي حقّان فيدان لدمشق قبل ذلك بيوم.
لكن في 12 أغسطس، عُقد اجتماع في دمشق بين قياديين من مجلس سوريا الديمقراطي وقسد ومسؤولين في الحكومة السورية الانتقالية. ووصفت مصادر الاجتماع لقناة الحدث بأنه كان "إيجابياً جداً"، وتم الاتفاق على استكمال التفاوض للوصول إلى تطبيق اتفاقية آذار التي وقع عليها كل من مظلوم عبدي بصفته قائداً لقسد، وأحمد الشرع بصفته رئيساً للمرحلة الانتقالية.
ظلال عملية الحل التركية على وضع قسد
بالنظر إلى عملية الحل الجارية في تركيا مع حزب العمال الكردستاني، يمكن فهم ما يجري في سوريا بخصوص قسد.
بعد سقوط نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، أرسل أوجلان رسالة إلى قسد يطلب فيها قطع علاقاتهم مع أمريكا والتوجه إلى دمشق للتفاوض والاندماج، واشترط أن يكون الاتفاق بوثيقة رسمية موقعة.
مع تزايد تدخلات باراك في المفاوضات، أرسل أوجلان رسالة ثانية لقسد، طلب فيها وقف التفاوض ليتولى هو بنفسه المفاوضات مع الاستخبارات التركية، التي ستفرض الحل على أحمد الشرع وتدعوه مع مظلوم عبدي إلى أنقرة لتوقيع الاتفاق، مع ضمانة تركية للطرفين. الهدف من ذلك هو إبعاد النفوذ الأمريكي عن الحلول الإقليمية، وإعادة توجيه القضية الكردية في سوريا (والعراق في مرحلة لاحقة) نحو محور تركي-عربي-كردي، وتحويل العلاقة مع تركيا من عداء مفتوح إلى شراكة إقليمية محتملة.
يعادي أوجلان أمريكا عداءً مزدوجاً؛ فمن ناحية أيديولوجية، يرى أنها تجسيد للإمبريالية والرأسمالية، وهذا واضح في المانيفستو الأخير. ومن ناحية أخرى، يرى أن أمريكا تستخدم الأكراد لتنفيذ مشاريعها في الشرق الأوسط. وقد هاجم إقليم كردستان العراق وقسد لتعاونهم مع أمريكا دون تحقيق مكاسب، معتبراً أن القوات الأمريكية تستغلهم لتحقيق مصالحها.
ضمن ما أوضحه أوجلان للمخابرات التركية وأطراف "عملية الحل"، وفق تصريحاته وتسريبات عدة، هو أنه بسقوط نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، ستصبح سوريا ساحة للنفوذ الإسرائيلي. وفي حال بقاء تركيا في حالة عداء مع الأكراد في سوريا، فإن الأكراد سيُجبرون على التعاون مع إسرائيل، مما يهدد الأمن القومي التركي. كما أن استمرار حزب العمال الكردستاني في حربه ضد تركيا سيدفع قنديل للبحث عن حلفاء جدد. ويرى أوجلان أن هذا سيحول الشرق الأوسط إلى ساحة نفوذ أمريكية-إسرائيلية، خاصة بعد الضربة التي وجهت إلى إيران.
الميثاق الملي كإطار للحل
هذه المعطيات دفعت تحالف الجمهور الحاكم للاستنفار. ووفق تسريبات صحفية، أرسل بهجلي رسالة تتضمن قصيدة إلى أوجلان، وختمها بالسلام عليه قائلاً: "إذا لم يكن أوجلان مبتكراً لهذا، فإني أحيي بكل احترام مهندس هذه العملية".
تُعد تركيا الخاسر الأكبر من هذا الوضع، حيث ستكون المنافس الوحيد للمصالح الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة. وبسبب عدائها للأكراد، سيُصبح الأكراد رأس حربة في الحرب ضدها. لذا، ولتقوية الجبهة التركية، يجب عليها إجراء عملية سلام مع حزب العمال الكردستاني وحل القضية الكردية في الشرق الأوسط ككل، وفق مبدأ الشراكة والأخوة التاريخية بين الأكراد والأتراك، ليتحول الأكراد إلى جبهة تركية متقدمة في وجه النفوذ الأمريكي-الإسرائيلي.
لهذا اشترط أوجلان عدم تدخل أمريكا في عملية السلام، ورأى أنها ستعمل على إفسادها.
كما طالب أوجلان المخابرات التركية بتشديد الحراسة عليه وعلى سري ثريا أوندر (الذي توفي بأزمة قلبية فيما بعد) وبروين بولدان (تعرضت لحادث سير في إيطاليا)، وأيضاً على أردوغان ودولت بهجلي (خضع لعملية جراحية)، معتقداً أنهم معرضون للاغتيال من قبل الموساد الإسرائيلي. واستذكر أن بعد الهدنة التي أعلنها في 21 مارس 1993، توفي الرئيس التركي تورغوت أوزال بالتسمم، وقائد الوحدات الخاصة أشرف بتليس بسقوط مروحيته، ومستشار الرئيس عدنان قهوجي في حادث سير مشبوه. ورأى أن الموساد
كان وراء هذه الاغتيالات بالتعاون مع الدولة العميقة آنذاك.
رؤية تركيا وتحولات الأكراد
تستند عملية السلام إلى الميثاق الملي، الذي يُعتبر دستور حرب الاستقلال ويضم شمال وشمال شرق سوريا، بالإضافة إلى كردستان العراق وكركوك والموصل. وقد أشار رئيس الاستخبارات إبراهيم قالن في وقت سابق إلى أن "أمن تركيا يبدأ من خلف حدود الميثاق الملّيّ". ويشير المسؤولون الأتراك باستمرار إلى أهمية هذا الميثاق.
أصبح من الواضح، وفقاً لتصريحات زعيم المعارضة أوزغور أوزيل، أن أردوغان يمثل مصالح العرب، وبهجلي يمثل مصالح الأتراك، وأوجلان يمثل مصالح الأكراد في عملية الحل، ويعملون على إحياء الميثاق الملي كبديل لاتفاقية لوزان.
هذه الرؤية تشكل تهديداً مباشراً لإسرائيل والمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط؛ لأنها تتشكل بعيدًا عنهم. وهذا ما يفسر هستيريا باراك وتصريحاته تجاه قسد.
سلمت قسد ملف القضية الكردية في سوريا لأوجلان، أو لنقل إن أوجلان تصدى للقضية أصالةً، وتم فتح قنوات تنسيق مباشرة مع المخابرات التركية. وأصبحت مناطق شمال شرق سوريا ملحقة بعملية السلام في تركيا.
وقد قال البرلماني جنكيز جاندر: "لقد حصل لقاء بين مظلوم عبدي ورئيس المخابرات التركية. فلينفِ وزير الخارجية حصول هذا اللقاء، لدي وثيقة تثبت حصول ذلك".
وقالت إلهام أحمد لقناة روداو جواباً على سؤالها عن لقائها نائب رئيس المخابرات التركي،: "لن أفصح أكثر، لكن هناك مفاوضات إيجابية جيدة وإيجابية نحاول رفع العقبات والعراقيل في هذا الجانب، نريد تحسين وتوسيع العلاقات بهذا الخصوص، نريد التفاوض والتفاهم عوض لغة التهديد".
تصريحات أردوغان وتحولات السياسة الإقليمية
تجلت هذه التحولات في خطاب الرئيس أردوغان بتاريخ 12 يوليو 2025، حيث قال: "قضية أخوتي الأكراد في سوريا والعراق، لا تنسوا، هي مسألتنا. نحن نلتقي معهم أيضاً من أجل هذه العملية ونتحدث، وهم أيضاً سعداء للغاية". وأضاف: "أخوتي الأكراد في سوريا، حياتهم في الطمأنينة والسلام والأمن هي على عاتقنا، والرسائل المرسلة من هناك في الحقيقة كانت إيجابية جداً جداً ومفرحة جداً جداً لنا".
رأى أردوغان أن عملية السلام القائمة ستعيد التاريخ التركي-الكردي-العربي إلى مساره الطبيعي، قائلاً: "أحمد الله، اليوم يتشكل من جديد جوهر روح ملازكرد وحلف القدس وحرب الاستقلال. الآن سنجلس لنتحدث، ليس بالسلاح، ليس بالعنف، بل من أجل المحبة، من أجل الأخوة، سنحل كل قضايانا بالحوار". وقال إن الأتراك والأكراد "يزيلون الحواجز التي بينهم، ويحتضنون بعضهم بمحبة".
من جانبها، علقت بولدان، عضو وفد إمرالي ونائب رئيس البرلمان التركي، على تصريحات أردوغان قائلة: "القول إن مصير الأكراد في سوريا هو أيضاً مسؤوليتنا، يشير إلى تحول في السياسة الإقليمية، لكن يجب الإشارة إلى أن ملف سوريا له خصوصيته".
كما صرح مصطفى قراصوه، عضو قيادة KCK: "في الوقت الذي تتقدم فيه عملية السلام في تركيا، يجب على الدولة والحكومة عدم إطلاق تهديدات تجاه روج آفا. عندما يتحدثون عن الميثاق الملي، روج آفا أيضاً كانت ضمن حدود الميثاق الملي. فالتحدث معهم بلغة التهديد أراه خطأ".
وأكد عمر جرجري أوغلو، النائب عن حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، أنه "إذا لم يُتوصل إلى اتفاق في سوريا، وخاصةً بشأن وضع روج آفا، فستنهار عملية السلام في تركيا أيضاً".
توم باراك مع مشروع "القرن التركي" وجهاً لوجه
يبدو أن السفير الأمريكي توم باراك يرى أن هذا المشروع تهديد مباشر للمصالح الأمريكية؛ لأنه يتشكل بعيداً عنهم. وقد سعى لخلط الأوراق بتصريحات في الداخل التركي أثارت غضب زعيم المعارضة أوزغور أوزيل، الذي رد عليه بقوة بتاريخ 1 أغسطس 2025. قال أوزيل: "تحدث سفير أمريكا، الوقح والمتجاوز للحدود، مؤخراً عن نظام الدولة العثمانية. لقد فقد الرجل صوابه".
لم يكن تصريح باراك بريئاً، حين قال: " سمح النظام الملّي في الإمبراطورية العثمانية لمجموعاتٍ مختلفةٍ بالعيش ضمن نظامٍ مركزيٍّ. يمكن لتركيا أن تكون محور كل هذا، كما ترون في سوريا".
هذا التصريح أثار غضب القوميين الأتراك، حيث اعتبروه إشارة إلى أن الميثاق الملي سيعود كبديل لاتفاقية لوزان ودستور 1924.
سيستمر باراك في إثارة القلاقل وزعزعة الوضع بالنسبة لقسد، كرد فعل على عدم إشراك أمريكا في عملية السلام، وضياع ورقة قسد من يده في وقت ظن فيه إن قسد هي أطوع الأطراف.
كان باراك يهدد قسد بتركيا في كل مرة لفرض إملاءاته، أما الآن، وبشروط أوجلان، تحولت تركيا إلى حامٍ لشمال شرق سوريا ضد أي هجمات من الحكومة السورية الانتقالية أو الفصائل التابعة لها؛ خوفاً من فشل عملية السلام كما حدث في 2014 عقب "أحداث كوباني".
لقاء باراك الودي لاحقاً في عمّان مع مظلوم عبدي قد يكون محاولة لتصحيح المسار بعد فشل إستراتيجية التهديد، أو ربما محاولة لاختراق عملية الحل من الداخل، لكن يبدو أن الجهود التركية والأوجلانية كانت أسرع وأكثر فاعلية.
تحديات ومخاطر مستقبلية
يشكل أوجلان حجر عثرة أمام إفساح المجال لأمريكا في أن يكون لها دور في عملية الحل، ويشترط أن تكون العملية تركية خالصة عبر البرلمان التركي. لكن السؤال الأبرز هو: هل ستقبل أمريكا وإسرائيل بهكذا حل دون إشراكهما أو مراعاة مصالحهما على الأقل؟ وفي حال المضي في هذا المشروع، هل سيلجأ الموساد إلى اغتيال أوجلان نفسه بعملية قد تبدو أنها نُفذت من قبل أحد المتطرفين القوميين؟
إن عملية الحل في تركيا تشكل تحولاً كبيراً في المنطقة. إنها حرب نفوذ بين الأطراف الفاعلة (تركيا وحلفاؤها الجدد مقابل أمريكا وإسرائيل) على مستقبل سوريا والمنطقة ككل، مع كون القضية الكردية هي المحور. لكن لو لم تُعطَ أمريكا وإسرائيل ضمانات تكفل مصالحهما، سيُنظر إلى هذا المشروع على أنه "حلف ممانعة جديد" يجب وأده وهو في طور التشكل بأي ثمن.
#حسين_أحمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟