أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - شيطان الظهيرة يغني في غرناطة















المزيد.....


شيطان الظهيرة يغني في غرناطة


محمد محضار
كاتب وأديب

(Mhammed Mahdar)


الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 21:18
المحور: الادب والفن
    


منذ زمن بعيد ظل سجين أسئلة متناسلة، لا يكاد يجد جوابا لواحدٍ منها حتى تحاصره أُخَرٌ أَكْثر غُموضاً فيجد نفسه فريسة لعملية تكرار مُمِلَّة، في البَدء كانت الأسئلة وجودية محضة، لكن مع تقدُّمِه في العمر حضر الهاجس الاجتماعي بكل تجلياته وترتّبَ عن ذلك تَخبُّط نفسيٌّ قويٌّ، زاده حجم السؤال المعجون والمموه بتلاوين متضاربة تَجمعُ بين الغُموض والمجهول، وتدمج بين المعقول والسوريالي، وبالتالي تنامت درجة ضيَّاعه في بحر بلا قرار، وصارت سِدرة المنتهى بالنسبة له الخروج من وجع التَّوجسَات وقهر الهلوسات.
عندما سألته زوجته عن سر شُروده وهذيانه المُتكرر، لم يجد ما يردّ بِه عليها واِكتفى بابتسامة شَاحبة وغير مُقنعة، قالت له بإلحِاح:
" تَمتّع بما تبقى لك من عُمْرٍ، ولا تشغل بالك بالهرطقات، فلست بقادر على تغيير المسار والتأثير على ما كانَ وما هو كائن وسيكون"
لم يحفل بكلامها رغم اِيمانه برجاحته، وعقلا نِيته، لأن هُناك شَيئا داخله يمنعه من القُبول بالأمر الواقع، والاِستسلام لسطوةِ الغُموض. ثم أسند ظهره للخلف ونظر إليها بعيون ذَابلة، وعادت به ذاكرته سنوات إلى الخلفِ، شاءتِ الأقدارُ أن يتعرَّف عليها صدفة في طريقهما من الرباط إلى مدينتهما، ومن يومها تعددت لقاءاتهما، ولم يعد أحدهما يطيق البعد عن الأخر، كان يهرول لانتظارها كل مساء قرب مقر عملها، فتحتضنهما شوارع المدينة وأزقتهما، وهما في حالة انتشاء متقدمة، حتى إذا أحسا بالتعب، هرعا إلى مقهى الحديقة الكائن وسط الغابة المَخْزنِيّة، وطلبا مشروبا ساخنا، أو باردا حسب الأجواء، ثم يندمجا في الحديث، تحدثه عن نفسها، عن أحلامها وطموحاتها، ويحدثها هو عن ولعه بها وارتياحه لوجودها معه، وعندما يأتي المساء يفترقا، ليتكرر اللقاء في اليوم الموالي، وهكذا دواليك حتى قررا دخول القفص الذهبي، فتزوجا، وتدرّجا في دروب الحياة صعودا وهبوطا، ورُزقا بالذرية الصالحة، ثم ركبا قطار الحياة المتجه إلى حيث لا يعلمان.
الأن توقف الزمن، وصارت الحياة نسخا كَربُونية، وكل تلك الوجوه التي كان لها أثر في حياته رحلت في هدوء وصمت، ولم يعد له منها إلا تلك الصُّور الذِّهنية الملتبسة، وتلك القَسمات المتناثرة في تعاريج الذَّاكرة المنهكة، منذ شهرين اِلتقى بِسيّدة في إحدى الحفلات العمومية، بالكَاد تذكرها وهي تبادله التحية والترحيب وتنطق اسمه بحميمية، عرف فيما بعد أنها صديقة مقربة لحبيبته السابقة نُعمة التي هاجرت منذ ما يربو على الثلاثة عقود ونيف إلى كندا، قالت له: " العالم صغير، من كان يظن أننا سنلتقي مرة أخرى بعد كل هذه السنوات"، سألها عن أحوال نعمة، أخبرته أنها لم تتزوج رغم دخولها في علاقات انتهت بالفشل، وهي تعيش حياة عادية.
" النبش في الماضي، يمنحنا فرصة لإعادة ترتيب الأوراق وقراءة الحاضر بنكهة الأمس، إرضاء للآنا الباحثة عما يُرضي بعضاً من تطلعاتها المكبوتة، وتحقيق التَّوازن المَطلوب للاسْتمرار في العيش دون مُركبات نقص أو خَوف من الأخر، والسَّعي لِتَحقيق مُصالحة مع النَّفْس، وترديد قولة نتشيه على لِسان زرادشت :( عَليك أن تُصالح نَفْسك عَشر مراتٍ في النهار لأنه اذا كان في قهر النفس مرارة فان في بقاء الشِّقاق بينك وبينها ما يزعج ُرقادك)"
لقد كانت نُعمة أخر عشيقاته اللواتي كُنّ كثيرات، وكان يغيرهن كما يغير قُمصانه، ولا يتردد في دخول مغامرات غرامية دون تقدير للعواقب والتَّبعات، ويفرط في القفز من حضن إلى أخر، ولا يكاد يرسو على برّ، كان شخصا بوهيميا يمارس جنونه الموسوم بجرأة ظاهرة ولا مبالاة فاضحة، كانت المرأة هي عالمه الوحيد الذي يجد فيه السلوى، ولم تكن الجَرّة تسلم في بعض الأحيان، فقد كانت المشاكل تنزل عليه كالمطارق فتشج رأسه وتدفع به إلى أتون مُزهرٍ، لكنه كان يتدارك الأمر ويحلها باللجوء إلى الحيل والمواربة تارة، أو الكذب والمراوغة تارة أخرى، لكنه في أخر الأمر أُصيب بخيبة أَمل لا حدود لها وأصابه الملل من كثرة المطاردات الدونكيشوتية التي كان يخوضها بحثا عن طرائد نسائية مفترضة، وفجأة ظهرت نُعمة في حياته فغيّرت مسارها، وهي الخَارجة من تجربة زواج فاشلة، أحس بأنه لم يعد قادرا على فراقها فأسر لها برغبته في الاِقتران بها، لم تُمانع ورحبت بالفكرة ، فكلاهما كان في حاجة للأخر لكنها اشترطت عليه الهجرة صحبتها إلى كندا لأنها قد حصلت على عقد عمل مدفوع الثمن، بضمان من محام محلف، لم يتقبل الشرط ، فقد كانت الهجرة بالنسبة له أخر ما يخطر على البال، لأنه كان يكفل والدته وأختيه ولا يستطيع التنصل من هذه المسؤولية من أجل عُيونها ، عند هذا الحدّ اختلفتْ المشارب وتباعدت الأهداف، فمضى كل إلى غايته، يسعى لما ساقته إليه الأقدار.
عاد إلى عادته القديمة بعد رحيل نُعمة، واندفع بنزق يبحث عن لحظة انتشاء تبدّد ما كان يعتمل في صدره من شعور بالكآبة بعد سفر نعمة، وأقبل دون وازع على خوض مغامرات غرامية، و هو مقتنع تماما بأن هذا الفعل هو الوسيلة الناجعة لاقتلاع طيف نُعمة من ذهنه، و تكفلت الأيام والأحضان النسائية التي كان يتنقّل بينها في تحقيق السلوان الذي كان يصبو إليه. ولم تمض إلا أيام قليلة على ما كان فيه من فوضى مشاعر، حتى ساقت إليه الأقدار فتاة أحلامه وهو عائد على متن القطار من الرباط إلى مدينته، فتزوجها وطوى صفحة الدون جوانية إلى غير رجعة.
تزوج فريدة بهدوء وبسكينة زائدة، دون ضجيج أو بهرجة مفرطة، صار بإمكانه الأن مشاركة زملائه وزميلاته في العمل أحاديثهم عن الأسرة ومشاكل الأولاد، فقد أكمل نصف دينه ولم يعد مشبوها، وكأن الزواج هو صكُّ الفضيلة ومانع الرذيلة، فهو "الجنس الحلال" وهو سدرة المنتهى والحصن المستدام للفرج الذي يقي من المعصية ويجنب المرء الأدواء العصِيَّة.
نام في العسل ربع قرن، ورُزق بالخَلفِ الصَّالح ذكورا وإناثا، وتقطَّعَت به السُّبل في تجاذب مُسترسل بين الأحْداث والأفكار والوقائع، وتَفَاعُلٍ مع الأشخاص فُرادى وجماعاتٍ، هذه هي الحياة وعليه أن يعيشها بحَذافيرها ويَقبل بقواعد اللُّعبة، ويمارس طقوس الأبوة كما تقتضي الأعرافُ وتفرض سُنن المجتمع، لم يعد يَشْرب خمراً أو يُدخّن سجائرا، وأصبحَ يكتفي بنظرات يسرقها من الغَواني اللائي يصادفهن في طريقه.
فجأة، استيقظ من سباته الطويل، وانتبه إلى أنه قد دخل إلى مرحلة الكهولة، وأن شطط الأيام ساقه إلى فترة منتصف العمر وهو شبه منهك فكريا وعاطفيا، فقد أهمل كثيرا في منظره الخارجي، وصار همه الوحيد هو ضمان حاجيات الأبناء ودفع مصاريف دراستهم المرتفعة، ولا شيء يَهُمُّ فيما بعد، لكن وخزا عجيبا مسه على حين غَرّة في مواضع متعددة من جسده وعقله أيقظ حواسه ودفع به نحو بُؤرة الانفتاح على الحياة من جديد، فداهمه دون سابق إنذار شيطان الظُّهْرِ، وإذا به يتحسَّس شعر رأسه الرمادي ويتأمل تقاسيم وجهه المنعكسة على المرآة، مُحيّاه مازال مشرقا وبقليل من العناية يمكنه أن يستعيد نشاط الأيام التي ولّت ويتلمس طريق استعادة شذرات من الزمن الضائع.
2
ضَغط على هذه المشاعر المُحدثة في البداية دون أن يتمكن من كبح جِماحها، وحاول تصريف ضغوطها باللجوء إلى السَّفر صحبة زوجته، وممارسة بعضٍ من هواياته القديمة، عاد لكتابة الشِّعر من جديد، ومراسلة المجلات والمواقع، وحضور اللقاءات الأدبية والحفلات الفنية، كفَّ عنه شيطان الظهر حينا، فظَنّ أن الأمر قُضِي وأن السّكينة عادت لتعيده لجادة الصواب، وزمرة العقلاء الفضلاء.
مرت على لحظة الكمون التي دخلها سنة ونيف، إلى أن دعاه اِبنه لزيارة مدينة غرناطة التي استقر بها بعد اتمام دراسته في الهندسة المدنية، واختياره الاشتغال في إحدى الشركات الإسبانية صحبة زوجته التي كانت تشاركه نفس التخصص، اعتبرها فرصة لا تعوض فهو سيزور مدينة لسان الدين الخطيب الوزير الشاعر الذي كانت موشحاته تأسر قلبه، ويعانق تاريخ أسلافه المسلمون المغاربة الذين حكموا الأندلس سواء كانوا مرابطين أو موحدين، بعد أن عبّد الطريق أمامهم طارق بن زياد الذي كان له فضل الفتح المبين رغم تلكؤ موسى بن نصير، وشطحات سليمان بن عبد الملك الذي كان يرغب في أن يكون الفتح في عهده، تلك أيام مضت بما لها وعليها.
عندما وصل إلى مطار مالقا شّم عبير انتصارات المرابطين الذين دخلوها سنة 1090م بعد معركة الزلاقة، وانتشى بآثار المصامدة الموحدين الذين تسلموا مالقا سنة 1151م.
ركب الحافلة نحو غرناطة مرورا بشواطئ كوستا ديل سول، استسلم لسحر المكان وجماليته، وغمرت نفسه موجة غبطة من توالي المناظر الطبيعية الساحرة، أحس أن الزمن يعود به إلى الخلف ويرتب له فصولا متداخلة من أشياء يذكرها وأخرى تنبثق فجأة بين تضاريس ذاكرته، لقد زار غرناطة طفلا صغيرا رفقة والده الذي كان متيما بالأسفار والرحلات، وما يتذكره عنها مجرد لمحات ضبابية، بإمكانه اليوم وهو في نهاية مرحلة كهولته استجلاؤها ووضعها في سِيّاق قَابل لإِرضَاء مزاجه، ومسايرة رغباته.
وصلت الحافلة محطة غرناطة، وجد ابنه في انتظاره، تعانقا وتبادلا القبل، قال لابنه :" سنتان مضتا على أخر لقاء لنا" ابتسم الابن وقال :"كنت أتمنى حضور أمي، فقد حجزت لكما جناحا بفندق غرانادا سنتر"
ردّ :
-طيف أمك دائما يرافقني، اِعْتبِرها موجودةً معي فأنا لا أتوقف عن الاتصال بها.
ضحك الابن، ولم يعلق بشيء.
أحس بكثير من الانتشاء، فاختلاؤه بنفسه في جناح خاص بفندق فاخر يسعده ويمنحه فرصة للاستمتاع بحوار داخلي افتقده منذ زمن بعيد، لهذا لم يتردد في كيل المديح لابنه وزوجته وحفيده، والدُّعاء لهم بِكل ما عَنّ
بخاطره من أدعية صَالِحة ظَلّت راسخة في ذاكرته، وحاضرة بقوة في لحظات ضعفه ورضاه.
بعد تناوله وجبة العشاء في بَيْت ابنه، وقضاء لحظة سمر مع حفيده، أوصله ابنه إلى الفندق، كان الجناح الذي حجز له ابنه فاخرا، بسرير مزدوج وصالون أنيق وحمام جاكوزي، و غرفة معيشة واسعة، بدأ بأخذ حمام ساخن، ثم تناول مشروبا كحوليا مما كانت تزخر الثلاجة، ونام على الفراش الوتير، وهو يحس بانتشاء غريب، حلم أحلاما لذيذة فيها مزيج من الفرح والحنين.
عندما استيقظ في اليوم الموالي كان مُبتهجا، ويشعر بخفّة زائدة تعتري جسده ، تناول إفطاره بِمطعم الفندق ، ثم نزل إلى حوض السباحة، مارس رياضته المفضلة في تقوية العضلات، ثم استلقى على كرسي الاسترخاء مستمتعا بأشعة الشمس الدافئة، وقد أغمض عينيه، تاركا لخياله فرصة التحليق في عوالم تجمع بين الماضي والآتي، وتسمح لذاكرته بالانتعاش واستعادة الأمل في حياة أكثر دفئا وسطوعا، فجأة لمع في ذهنه بيت علي ابن أبي طالب الشعري:
ذهب الشباب فما له من عودة،
وأتى المشيب فأين منه المهرب
أحس بِثقله، لأنه ذَكّرهُ بالضُّعف وقلة الحيلة، وأعاد إلى ذهنه المسار الوجودي الذي يقطعه الانسان منذ خروجه من رحم أمه إلى هذا العالم الظالم، الخاضع لنواميس غير مُنصفة، تقتضي منذ البداية الرضى بحتمية المصير المقدر، ومحدودية التدخل فيه.
تجاوز هذا الشعور، وفتح عينيه فالتقتا فجأة بعينيها، هي بلحمها وشحمها نُعمَة حبيبته القديمة بلباس العوم، كانت تنظر إليه بشراهة غريبة.
ابتسمت له، بادلها الابتسام، اِستقام واقفا واتجه صوبها، هتف بها قائلا:
-نعمة ..أليس كذلك؟
ردت وهي تمد له يدها مسلمة:
-نعم بشحمها ولحمها
عانقها بحرارة، لم تتواني هي الأخرى في تبادل العناق معه دون تحفظ،
سألها :
-كيف هي أحوالك
ردت بمحيا طلق:
- أحوالي طيبة، العيش في كندا لم يغير في شيئا، وأنا هنا في رحلة استجمام
استعادا ذكريات الأمس بكثير من الحنين، حدثها عن زواجه بعد رحيلها، وحدثته عن علاقاتها الفاشلة، وعن نجاحها في مسارها المهني الذي توجته بحصولها على منصب أستاذة جامعية بمونتريال، اتفقا بعد ذلك على تناول وجبة الغداء معا بمطعم الفندق.
انتابه إحساس غريب، وغمرته مشاعر مشوبة بروح المغامرة والرغبة في الخروج عن المألوف، وهو جالس بمواجهة نعمة فتاة الأمس التي صارت اليوم سيدة ناضجة، ولا تزال تحتفظ بمعالم جمالها الذي كان يأسره ويسحره إبان الأيام الخوالي.
كانت تتحدث بمرح، ولا تتوانى عن إطلاق ضحكات تهز المكان، وحديثها العذب يُشنِّف أسماعه.
في المساء تجولا بين أزقة حي البيازين الضيقة، وعاشا لحظات مفعمة بالبهجة، واستعادة عبق التاريخ، وعندما تعبا جلسا بمقهى ومطعم AMAYRMO de MIRADOR المطل على قصر الحمراء، طلبا عصير منجاة وكريب بالشوكولاتة، قالت نعمة :
-بقدر ما يستمتع المرء بجمال المنظر وسحره بقدر ما يشعر بالوجع من فقدان هذه المعلمة التي ضيعها المسلمون الأمازيغ والعرب، ولعل مقولة السيدة الحرة الشهيرة لابنها أبو عبد الله الصغير وهو يسلم مفتاح غرناطة لملكي قشتالة إيزابيلا وفرناندو، "ابكِ كالنساء على مُلك لم تُحافظ عليه كالرجال" توجز درجة هذا الوجع المتناسل .
ابتسم وقال وهو يضم يديها إلى يده:
-هي سنة الحياة ما من صعود وطلوع إلا ويتبعه نزول وسقوط ، من سوء حظ أبو عبد الله أن سقوط غرناطة ارتبط باسمه، وربما كان هذا سببا في عيشه منبوذا بمدينة فاس التي هاجر إليها، وحتى ضريحه لم يتم ترميمه إلا مؤخرا بمبادرة من الأندلسيين الذين لازال الكثير منهم يحن إلى أصوله.
ثم تابع بصوت منفعل:
-الإسبان لا يزالون أوفياء لوصية إيزابيلا التي تركتها قبل وفاتها بأربعة أيام هي تقول إذا لم تخني الذاكرة:
"أوصي وأنصح وآمر بالطاعة النهائية للكنيسة الكاثوليكية والدفاع عنها دائما وأبـدا بكل غال ونفيـس من الأموال والأرواح، وآمركم بعدم التردد في التخطيـط لتنصيـر المغرب وإفريقيا ونشـر المسيحية فيهما ضمانا لكل استمـرار كاثوليكي في جزيـرة أيبيريا الصامدة، ومن أجل ذلك فالخير كل الخير لإسبانيا في أن يكون المغرب بلـدا مشتتـا جاهـلا فقيـرا مريضـا على الدوام والاستمـرار"
قالت نعمة وهي تعض على شفتيها:
-مع كامل الأسف مازال المغرب يدفع إلى اليوم ضريبة هذه الوصية العنصرية.
ران عليهما صمت قصير، تبادلا خلالها النظرات وهما يزدردان الكريب ويرتشفان العصير، ها هي نُعمة الكرواني تعود به سنوات إلى الوراء وهما معا في أحضان غرناطة المدينة الأندلسية، الفردوس المفقود، فهل هذه بداية لتجليات جديدة تسمح له باستعادة توازنه النفسي والروحي؟.
أحَسّت نعمة أن " حبيب الأمس " يعيش أزمة مشاعر ويبحث عن وسيلة تخرجه من وضعيته الصعبة، لهذا لم تتواني عن محاولة اِقتحام عالمه واكتشاف ما يجري ويدور في سريرته، لم يتردد هو في البوح لها بحالة الاغتراب التي أصبحت تلازمه في الآونة الأخيرة، خلال بوحه كانت نعمة تنصت إليه باهتمام، وفجأة هتفت به:
-اسمع يا مجيد لم تبقَ لي إلا ثلاثة أيام هنا في غرناطة، قبل شدّ الرحيل إلى مونتريال، وأريد أن نعمل معا على تبديد هواجسك وإنهاء حالة اغترابك.
كانت الشمس تشدّ الرحال نحو مغربها، والسماء اكتست بحمرة ساحرة، غادرا المقهى ممسكان بيدي بعضهما وهما في حالة انتشاء، تَشِي بانْسجام طارئ ولحظة انصهار لم تكن في الحسبان، ضمتهما شوارع وأزقة غرناطة، وكلاهما مستسلم لأجوائها الدافقة بسحر غريب يمتزج فيه الدفء بإيقاعات موسيقى الفلامِينكُو ، ما يجعلك تشعر بأنك تعيش أجواء كرنفال مفتوح على آيات الجمال والافتتان.
كانا قد وصلا إلى ساحة بيب-رامبلا ، المكانُ مكتظُ، والناس منصرفون إلى عيش اللحظة بكل تجليتها وتَقاَسُمِ مُتعة الكينونة والوجود، حيث تسقط الفَوَارِق، ويَتَخلَّص المرءُ من ثِقل السِّنين ويتحول إلى كائن لا يَأبهُ بِقيود الاِحترام والحِكمة، ويُمارس شغبَ الطُّفولة والمراهقة غير آبه ولا مُهتَمٍّ بما قد يَتركه سُلوكه لدى الأخر مِن أثرٍ، غَايته القُصوى هي البَحْث عن السَّعادة ولا يهم شكل الوسيلة.
توقفا بين الجموع، المُتناثرة زرافاتٍ بَين مُتتبع لبعضِ العَازفين، وبين راقص على إيقاع موسيقاهم، وبين واقف أمام الفنانين المُتخصصين في رسم البُورتريهات، اقترحت نعمة على مجيد دخول إحدى الحانات لتتبع موسيقى ورقص الفلامينكو، لم يتردد في قبول الدعوة.
دخلا ملهى " ماي ويست" ، كانت الموسيقى صاخبة، رجال ونساء يتمايلون على إيقاعها، رائحة المتعة وجنون الأجساد يفوح من المكان، جلسا إلى طاولة مستقلة، قال مجيد: "الصخب مطلوب أحيانا، حتى نتوقف عن التفكير ونعيش اللحظة بحذافيرها، أعرف أن الزمن يسارع الخطو ليطوي الصفحات ويتسلى بعذابات البشر"
قاطعته نعمة محتجّة:
"دع الفلسفة والحكمة لوقتهما، فأنا أريد أن أرقص وأمارس شَغَبي وجنوني".
ثم تابعت قائلة: " أريد أن أمنح لجسدي فرصة الخروج من حالة السُّكون إلى حالة الجنون، أريد أن أرقص بفرح كمراهقة ودَّعت طفولتها"
أَمسكتْ يده وجذبتهُ نحو حلبةِ الرَّقص، اِندمجا ضِمن كوكبة الراقصين والراقصات، بدآ يتمايلا ويُحركَا جسديهما بِشغف وفرح، مُسايرينِ إيقاع المُوسيقى وحركات من معهما على الحلبة، سَرقهما الوقتُ على هذا الحال حتى كَلَّا وتعبا، فعادَا إلى طاولتهما، وأشار مجيد إلى النادلة، التي أقبلت ضاحكة، طلب منها أن تَمُدّهما بعشر زجاجات جُعّةً باردة.
جاء الطلب بعد حين مع بعض المكسرات وحبات الزيتون، شربا وهُمَا في حالة انسجام وتناغم يتبادلان النكت والقفاشات، فكّر مجيد: الحياة لحظة ومُتعها لا تُتْركُ ، وزَمنُ الحُبّ لا ينتهي إلا مُتداخلا مع سِيّاقات أُخرى لا أحد يَعلم سَبيلها.
مع كل كأس جعة كانت تَسري في جسديهما حرارة ودفءٌ، وكانت النَّشوة تَتَجلّى على محيّاهما، وترتسم اِبتساماتٍ وكلمات وِدّ مُحلقة كَفراشات الرّبيع.
أشعل مجيد سيجارةً ونفث دخانها، ثم نظر إلى نعمة مبتسما، وقال بصوت عال:
" (أشتهيكِ بفرح
أشتهيك كحبة كُمثرى
أتلهف شوقا لأقطف
نُسْغَ الفرح من ثِمار
نهديك
أشتهيك كحبة منجاة
أحترق كعود الصندل
عند الفجر
وأسجي جسدك النابض
برداء حبي"
نظرت إليه نعمة بدهشة واستغراب ثم قالت: " يبدو أنك تتكلم بلغة الماضي،
ما زلت أتذكر هذا المقطع الشعري، سمعته منك منذ أكثر من ثلاثين سنة"
ووصلت حديثها قائلة:
" أقسم أنني أعيش معك أحلى لحظات العمر"
سرقهما الوقت وهما غارقان في نشوتهما، غير آبهين بما يُعكّر الصفو أو يعطل فرص الاستمتاع، بدأت تباشير الفجر تلوح، وأخذ الرواد يغادرون الملهى، كانا قد ثَملا ووصلا درجة متقدمة من السُّكر، طلب مجيد سيارة نقل عن طريق تطبيق UBER.
عندماخرجا من المرقص، استقبلتهما تباشير الفجر الأولى بنسيم عذب، ولاحت حمرة الشفق في السماء راسمة لوحة فنية تفيض بصفاء صوفي رهيب، لم تتأخر السيارة في الحضور، ركبا وهما في حالة انتشاء وذهول.
قطعت السيارة شوارع غرناطة شبه الفارغة، كان الليل ساحرا، لأنه يحمل سكونا تفتقده غرناطة في نهارها الصاخب، عندما وصلا إلى الفندق نزلا وهما متعانقين، استقلا المصعد، ودون مقدمات دخلا الجناح الذي كان يقيم به مجيد، ثم استلقيا منهكين على السرير، هتفت نعمة بصوت تشوبه رنّة توتر : " أحس بالغثيان"، ثم اندفعت نحو الحمام، ومضت تفرغ ما جوفها، لم يتردد مجيد في اللحاق فوجدها قد نضت ثيابها ووقفت عارية تحت مسرة الدوش وقد انساب الماء رقراقا محتضنا جسدها المنحوت في أبهى صورة، قال وهو ينظر إليها باندهاش ورهبة:
-منظرك يذكرني "بماجا" الفتاة العارية في لوحة فرانسيسكو غويا
قهقهت ضاحكة وهتفت به::
-ماذا تنتظر.. تعال الماء منعش، ستحس بانتعاش وطاقة جديدة
تردّد لحظة، ثم أزلَ ملابسه واندفع نحوها، ضمها فشمّ عبيرَ ورد أحمر، رنت له بطرفها الحالم، وأحس أنفاسها تلهب أنفاسه، فغرقا في ذوب قبلة ملتهبة، عَبَرا بهدوء إلى مرابع الحلم، وحلَّتْ رُوحاهما الجَذلى كفراشتين منتشِيّتين تمتصان رحيق الزهور. لا مجال الآن للمَرَارات والغُصَصِ، الجِراحُ العَميقة تندملُ، والأحزان المتأصلة تتَبَدّد، الحياة تُطَأطئ الرَّأسَ صَاغِرة، مُستسلمة لنشوتهما.
أنهيا الاستحمام، ثم نشفا جسديهما بالمناشف المخصصة لزبائن الفندق، هرولت نعمة نحو الفراش واندست عارية تحت الملاءة، وجلس هو على حافة السرير، فتح دفة الخزانة الصغيرة واستخرج من محفظته الجلدية ورقتين وزاريتين وانهمك في الكتابة، كانت نعمة تتطلع إليه في استغراب وعلى وجهها ترتسم ابتسامة عريضة، عندما انتهى من التحرير قدم لها الورقتين وطلب منها التوقيع، سألته بصوت رقيق :" ما هذا ؟"
رد قائلا:
- عقد زواج عُرفي، أريد أن تكون علاقتنا ذَات صبغة شَرْعِيّة
قاطعته ضاحكة:
-تريده زواج متعة على صداق متفق عليه أليس كذلك؟
-بلى ...هل توافقين؟
-يكفيني يورو واحد مقدمَ صداق ومثله مُؤخرا
وقَّعا معاً على الورقتين، وقال مجيد بأن الشاهد على زواجهما هو "الله" وسيغفر لهما زلّة السُّكر، ما دام يغفر كل الذُّنُوب إلا الشّرك به، وهما مؤمنان، وزواجهما حلال طيب، والنّية في أخر الأمر أبلغ من العمل.

3
"أيها الشوق العابر للقارات ها أنت تأتي طائعا متقاطعا مع هبات الوجد التي تسكن صدري، وتحملني في رحلة عشق ولهفة، أمارس هوسي الغريب، وأعلن لنفسي أنني واثق الخطى، أتعلم أبجدية الحب بأسلوب جديد، ولغة أنيقة تجعل المعنى يتجاوز الواقع، ويسبح في ملكوت التجلي دون حواجز أو موانع"
مرّت لحظة التأمل، وسكنت الجوارحُ، وتجدَّدت المشاعرُ التي توقفت منذ ثلاثة عقود مضت، الحياة عادتْ لتُكسِّر ذلك الجمود، أيام ثَلاث عاشها مع نُعْمة غيَّرت الكَثِير من قناعَاته وبَدّدت يَأسَه، ودَفعته إلى ترديد بيتي أبو تمام :
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كَمْ منزل في الأرض يألفه الفَتى
وحنينه أبداً لأوّل منزلٍ
في حَضرتِها، عَلَّقَت نُعمة قَائِلة: " حَياتُنا سِلسلة حِكايات، قد لا تَتكرَّر، ولكنها بالنِّسْبة لنا تكرّرت بشكل لا يَستوعبه العقل، أنا وأنت نستعيد حبنا الضَّائع في مدينة كانت ومازالت فِردوساً مفقودا نتوق إليه"
"تعطيل العقل ومنعه من مواجهة الحقائق والوقائع المرّة ، يصبح ضَرورة قُصوى ، حتى لا يَدخل المرء مرحلة اكتئاب جِدُّ محتملة،
التفكير والتحليل ومحاولة فهم الصورة، كما هي بادية للعِيان، يقود إلى دَوّامة لا سبيل للخروج منها، وبالتالي تُصبح أي خطوة في هذا الاتجاه عديمةَ الجَدوى"
أحس مجيد، أن عليه أن يعيش اللحظة كما هي وأن لا يشغل باله بطرح مزيد من الأسئلة، لهذا لم يَتَردد في اِستعارة قَول أمرؤ القيس وَهُو يوجّه كَلامه لِنعمة:

"لا صحو اليوم ولا سُكْرَ غدًا، اليوم خمرٌ وغدًا أمر"
هكذا طوى صفحة التساؤل، واستشراف المستقبل، وعليه الأنْ أن ينعم بما جادت به الظروف عليه ولو في حدوده الضيقة، فهو يَعلم أن قِصَّته مع نعمة توشك على لفظ أنفاسها الأخيرة، وهو قانع بما كان، ولا يهمه ما سَيكُون، نُعْمة أَخبرتْه أنها عائدة إلى مونتريال لأن حياتها هناك ولا تستطيع تغيير نَمطها، أما هو فعائد للدار البيضاء، لأن حياته هناك وفريدة تبقى هي الاستمرار والاستقرار، وما عاشه مع نعمة كان مجرد نزوة.

محمد محضار 30 غشت 2025



#محمد_محضار (هاشتاغ)       Mhammed_Mahdar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بلاغة الخيبات
- شاطئ الحظّ والحياة
- عطفا على ما سبق
- قراءة في ديوان الشاعر والباحث محمد محضار (عريس الألم )
- زائرة الليل
- بغداديات : نصوص ولوحات من المغامرة الشعرية إلى التراكم المعر ...
- على أعتاب -العامريات -
- لحظة عشق
- طابور العالم الأخر
- هرطقات شاعر مسّه الشَّجن
- الجنون الأبيض
- المعادلة الصعبة
- رغم سقوط نظام الأسد مازال بيننا مطبلون
- الفكرة المجنونة
- العشاء الأخير في حضرة دافنشي
- رحلة الصعود
- نص : القطيعة الابستمولوجية
- روائح العصيان
- يوم مبني للمجهول
- ألوان العبث


المزيد.....




- قطر تعزز حماية الملكية الفكرية لجذب الاستثمارات النوعية
- فيلم -ساحر الكرملين-.. الممثل البريطاني جود تدرّب على رياضة ...
- إبراهيم زولي يقدّم -ما وراء الأغلفة-: ثلاثون عملاً خالداً يع ...
- النسخة الروسية من رواية -الشوك والقرنفل- تصف السنوار بـ-جنرا ...
- حين استمعت إلى همهمات الصخور
- تكريم انتشال التميمي بمنحه جائزة - لاهاي- للسينما
- سعد الدين شاهين شاعرا للأطفال
- -جوايا اكتشاف-.. إطلاق أغنية فيلم -ضي- بصوت -الكينج- محمد من ...
- رشيد بنزين والوجه الإنساني للضحايا: القراءة فعل مقاومة والمُ ...
- فيلم -ساحر الكرملين-...الممثل البريطاني جود لو لم يخشَ -عواق ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - شيطان الظهيرة يغني في غرناطة