محمد محضار
كاتب وأديب
(Mhammed Mahdar)
الحوار المتمدن-العدد: 8362 - 2025 / 6 / 3 - 02:43
المحور:
الادب والفن
قبل الخوض في تلابيب ديوان شاعرنا الأريب أتهومي عبد الله بغداديات : نصوص ولوحات لابد من التذكير بأن الرّجل جامع مانع فقد جمع بين العديد من الحسنات فهو شاعر وفنان، وأستاذ باحث في علم الاجتماع حصل على الباكالوريا سنة 1979م بمدينة بغداد العراقية ثم يمم وجهه نحو الديار الفرنسية حيث تابع دراسته بجامعة بيكاردي حيث حصل على الميتريز سنة 1985م ثم دبلوم الدراسات المعمقة في علم الاجتماع، ثم عاد بعد حرب الخليج الثانية التي تركت في نفسه شيئا من حتى، عاد ليشتغل متصرفا بمقاطعة عين الشق، ثم يؤسس أسرة صغيرة ويندمج من جديد في الحياة العامة لمدينته الأم الدار البيضاء التي أطلق بها صرخته الأولى بدرب السلطان الحي التاريخي الذي يعتبر مشتلا للفنانين والشعراء والمبدعين على اختلاف مشاربهم.
وعودا على بدء نعود لِعتبة الدّيوان ومَتنه، يحتوي فهرس ديوان بغداديات : نصوص ولوحات الصادر عن جامعة المبدعين المغاربة سنة 2020م إهداءً وقراءتين لكل من الناقد المصري سيد جمعة " الإلياذة البغدادية"، والناقد المغربي لحسن أيت بها : "بغداديات"، ثم مقدمة للكتاب خطها الأديب المغربي مصطفى البدوي، وست قصائد هي على التوالي:
1)رياح الطوز
2)سقط القناع
3)شعارات سقطت
4)من نيسان إلى النّسيان
5)في الطريق مطر
6) مشت الإبل حين اكتمل القمر
وفي تناسق جمالي يتسم بفسيفساء راقية تجمع بين الحرف الأخاد وسحر الفن التشكيلي من خلال توظيف الشاعر لتسعة عشر لوحة فنية لعدد من المبدعين مرافقة لمقاطع نصوصه، وقد توفق الشاعر في الربط بين بوح الذات الشاعرة والتجليات المعبر عنها بتلاقح الألوان وتمازجها المؤثر الناقل لشدة الوجع المتنامي والمنتشر بشكل رهيب بين أبناء الشعب العراقي وهو يواجه العدوان الغادر الذي شنته القوى الإمبريالية الرافضة لكل توجه وتوق للتحرر من وصاية الغرب ونواميسه المبنية على التسلط والفتك.
&عَتبَةُ الديوان
أعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبره أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه.
واعتبره شولز:"خالق النص الأدبي ومانحه "الهوية عَرَّفَ "جيرارجينيت”، العتبة العُنوانيّة بقوله: إنها «نُقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص» أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها بقوله: إنّها «علامات دلاليّة تشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة.
تأمل عنوان الديوان: "بغداديات: نصوص ولوحات" يحيلنا على حاضرة العراق بغداد مدينة "الرشيد" التاريخية التي تعرضت للهجوم الوحشي للمغول سنة 1258م الذي أدى إلى سقوط بغداد وانهيار الخلافة العباسية، وتدمير معالم الحضارة الإسلامية، وتكرر الهجوم الغاشم لجيوش الحلفاء عليها تباعا خلال سنة 1990م ثم سنة 2003م، عند التدقيق في العتبة نلاحظ أن الشاعر استعمل كلمة بغداديات في إشارة إلى أشياء تتعلق بالعاصمة العراقية، أَتْبعَها بنقطتين رأسيتين للتوضيح والتعداد طبعا توضيح أن الأمر يتعلق بنصوص ولوحات، الشاعر كان موفقا في اختيار عنوان ديوانه لأن الولوج إلى متنه يفضي بنا لاكتشاف نصوص ملتهبة لما تضج به من إشارات ذات حمولة ناقدة لواقع عربي متردي، وتكالب غير مبرر لقوى عظمى على شعب كل ذنبه أنه رفض التعسف والاعتداء والاحتلال.
يقول الشاعر عبد الإله أتهومي:
فوق الجسر، حديد مجنزر
عليه
وقف
من فوقه، فوهة مدفع
نحو طوابق فندق فلسطين، وجه
منه للعالم رسل
خبر
وصور
ومقولة الحرب الشهيرة
علوج ثم علوج
كانت الطلقة
في الطابق الرابع عشر مقذوف استقر
خراب وقع
فصحفي سقط
ومعه القلم
وآلة التصوير كُسرت
إنه الحدث بامتياز
اسكات الصحيفة
بالصورة والصوت
حرية تعبير أسكت
قدسية حذفت
هذا المقطع مقتطف من نص سقط القناع الذي تُذيّله لوحة للفنان العراقي محمود شاكر نعمه، يكشف عن وجع عميق ينتاب الذات الشاعرة وترسم ملامح صورة دامية، لجرم مشهود استهدف فندق فلسطين بمقذوف غدر كانت الغاية منه إسكات صوت الصحافة واستباحة مداد القلم الحر، وقد لجأ الشاعر في قصيدته من خلال الصور الشعرية، إلى المجاز المُتحرر من سلطة النظم الإيقاعية بإحالة المعنى ليكون بديلاً عن الإيقاع الخارجي الذي يميز القصائد القديمة ذات الوزن والقافية، وطبعا هذا يتكرر عبر أغلب النصوص الشعرية التي يتضمنها الديوان، والنظر إلى هذه الصور الشعرية من بعيد، يجعلنا أمام صور شعرية مبتكرة والصور في قصائد ديوان " بغداديات: نصوص ولوحات" ليست صوراً بسيطة بل هي صورٌ مركبة تحتاج للتسلح بأدوات نقدية تسمح بتفكيك دلالاتها ، والمعنى في شعر عبد الله أتهومي مفتوح على المدى ويحتمل العديد من القراءات. لقد استطاع الشاعر التعبير عمّا يختلج بداخله بواسطة الصور البليغة والمتنوعة التي نجدها ضمن متن الديوان ، إن إمساك الشاعر باللحظة وتجلياتها في الفضاء وتجسيدها، يعطي القارئ فرصا متتالية لاقتحام عالمه ومشاركته مغامرته الشعرية المبنية على تراكم معرفي وتجارب حياتية ثرية، فسنوات الغربة التي توزعت بين بغداد وفرنسا ودراسته الأكاديمية لعلم الاجتماع، كان لها أثر بليغ ومؤثر في مساره الإبداعي.
من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد، ويقال عن الصورة الشعرية أنها رسم قوامه الكلمات، والقصيدة نص قوامه الصور، واِرتباط الشعر بالصورة ارتباط وجودي.. فعندما يوجد الشعر تتبدى الصورة تلقائيا.
إن سبر أغوار نصوص عبد الله أتهومي يجعلنا نكتشف أنه اشتغل على تطوير الصور الشعرية داخل النص حيث جعلها تتحرك وتُثريه، فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفها للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال، ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية، وهناك نماذج متعددة.. ونقتطف من ديون شاعرنا هذا المقطع :
في بياض بَديع عبور
بين ضفتي بحر أبيض
في تلاقي زهر
بين رفاق في فجر
في استقبال فياض
حتى فاض
من ابتسامة سعيدة
في ثبات ثائرة
لعلي تحية
برفاقية بهية
في تلألأ حمرة نجمة
في كاسيط هدية
عن عبد الله روى
التاريخ يحكم
ومن طبعه أن يحكم
ما رضي بالظلم
وفي الأخير يحكم
لمنح الشعب العدل
وسلم
في هذا المقطع اِسْتعادة لمرحلة من تاريخ المغرب خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي حيث كان يسود توتر سياسي، كان من نتائجه حملات قمع ضد التيار اليساري بمختلف توجهاته، ونستطيع أن نجد صدى لاسم سعيدة المنبهي التي لفظت أنفاسها بعد خوضها لإضراب عن الطعام سنة 1977،والشاعر المرحوم عبد الله الودّان الزجال الذي انتشرت أغانيه بمدرجات الكليات خلال تلك الفترة التاريخية، في محتوى هذه المقطع المُقتطع من قصيدة مشت الإبل حين اكتمل البدر.
إن ديوان بغداديات: نصوص ولوحات، يَتَّسم بِشعرية قوية تُضفي تدفّقا عاطفيا على قصائده يُسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن" الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء… والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض… والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر… إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق، إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات" .
إلى جانب شعرية النصوص وزخم الصور الشعرية، وتعدد الانزياحات، يفاجئنا الشاعر بخطاب شعري يتقاطع مع خطاب معرفي على مستوى البنية والرؤية حيث يَعزف على رؤية كُلّية، تتجاوز الجزئيات والفرعيات ، لنقرأ الجغرافيا على ضوء التاريخ، والتاريخ من خلال معطيات الجغرافيا، وقد احتوتهما شاعرية فذة،
ويمكنني المجازفة بالـقول على أن ديوان الشاعر عبد الله أتهومي ينتمي إلى فئة (الديوان القصيدة)، أو (القصيدة الديوان)، بمعنى أن الديوان كله وحدة متصلة، متنوعةٌ الزوايا، متكاملة الأبعاد، يتحكم فيها خيط رابط يمكن ملامسته على مستوى اللغة والمفاهيم، وأسُوقُ على سبيل المثال لا الحَصر هذا المقطع الذي يقول فيه الشاعر:
قُرب طشقند قِببٌ بديعة
من تلألأ زليج مزخرف في زرقة
قرب ذهبية من رمال ساعة
معلقة
تحت ظل الرمانة
على قيثارة
طفلة أعزوفة
حب وسلام
مشت الإبل حين اكتمل البدر
في السند والهند
ملاقاة نشئت
للحياة مدّت
مساقاة تمدّدت
في بلاد الهملايا كل الديانات اجتمعت
بثوب غاندي تلحفت
في طريق التحرر مشت
بشوق، حياة تطورت
في اكتفاء من جوع نجحت
ببعث نهج غاندي ترسخت
عصر الاستعمار قد ولّى
مشت الإبل حين اكتمل البدر
بين حقول الأرز المحروقة مشت
في جري من فرع
خاتمة:
الشاعر والباحث في علم الاجتماع عبد الله أتهومي من الأصوات الشعرية التي تتمتع بقدرة على تنويع مستويات خطابها الشعري بشكل يتقاطع مع خطابات أدبية وفنية أخرى تدفع نحو تنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، وتبقى الملاحظة الجلية التي قد يلمسها القارئ المدقق، المدرك لما بين السطور هي تلك النزعة التحررية التي ترتكز على الماضي اليساري للشاعر والتي تجعله يندمج بشكل جلي في القضايا القومية للوطن العربي والقضايا الانسانية بكل بقاع الدنيا، دون أن ننسى تفاعله الكبير مع تيار التغيير الذي كانت تقوده أحزاب اليسار خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي .
الدار البيضاء 01يونيو 2025م
#محمد_محضار (هاشتاغ)
Mhammed_Mahdar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟