أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - صافي صافي - ما هي أدوات نشر -الفلسطينزم- في الوعي والمعنى؟















المزيد.....


ما هي أدوات نشر -الفلسطينزم- في الوعي والمعنى؟


صافي صافي

الحوار المتمدن-العدد: 8436 - 2025 / 8 / 16 - 22:48
المحور: قضايا ثقافية
    


ما هي أدوات نشر “الفلسطينزم” في الوعي والمعنى؟
(من فلسطين إلى الفلسطينزم/ قول في الوعي والمعنى/ إياد البرغوثي)، صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2025، في 296 صفحة من القطع الكبير)

هو كتاب فكري سياسي، وإن اقترب من السياسة في أحيان كثيرة، واستند إليها، لكنه استند أيضاً للتاريخ والأخلاق والقوانين الدولية، والإنسان، وعلوم الاجتماع. إنه كتاب يعيد تشكيل عقليتنا بجمع شتات معلوماته، والتذكير بما نسيناه أو تناسيناه، وهو يعيد تشبيك تلك المعرفة المشتتة، ليضعها في قالب جديد نحو “الفلسطينزم” مقابل “الصهيونزم”، ليصبح همّ كل إنسان أيّا كان، وأينما كان، منحازا للحرية والتحرر والعدالة والمساواة والأخلاق الإنسانية، والتحالف والتشابك بين الذين ينوون أن ينقذوا هذا الكون من الظلم والعنصرية، والفاشية والتغول والاستغلال.

سأناقش هذا الكتاب في ثلاثة مستويات، بالإجابة على ثلاثة أسئلة:
لماذا لم أعرف د. إياد وأمثاله من قبل؟
هل سيختلف المثقفون حول هذه الرؤية المطروحة في الكتاب؟
ما هي الأطر التي يمكن العمل من خلالها لتثبيت ما جاء في الكتاب ونشره وانتشار أفكاره؟

لماذا لم أعرف د. إياد وأمثاله من قبل؟
أظن أنني قضيت عمري في حركة فكرية أكثر منها سياسية، فهي تستند لرؤية في طبيعة الأنظمة العربية، وفي التسويات المخطط لها في المنطقة، وفي علاقة الشعوب العربية والشرقية ببعضها، وفي تعريفات القومية، ومسارات التحولات التي تجري بإيجابياتها وسلبياتها. إلا أننا كنا نعيش في جزر منعزلة عن الآخرين، فكل طرف سياسي، له جمهوره، ومنشوراته، وكتابه ومثقفيه، ورموزه وممثليه، ونشاطاته، وحتى أطره ونقاباته. هذه الجزر عزلت المثقفين عن بعضهم، وبات التعامل بينهم، إما للاستعراض، أو للتنظير، أو للفرض، وبذلك استبعد الكثيرون ممن يهتمون بالكل الوطني، وبالهّم العام. فكل طرف سياسي رأى الوطن من خلال تنظيمه/ حزبه/ حركته/ جبهته، ولم ير التنظيم نفسه من خلال الوطن. لقد علا التحزب على الوطن، حتى بتنا نرى الاحتفالات بالانطلاقات الحزبية أكبر وأكثر عددا من المفاصل الوطنية التاريخية (في أغلب الأحيان) (لم نر هذه التجمعات والنشاطات إحياء لذكرى المجازر قبل 48 وبعدها، ولا بتوثيق كل ما حدث،..الخ)، بل بتنا نرى أن مساهمة كل طرف في هذه المفاصل منعزلة جماهيريا عن جماهير الفصائل الأخرى، واستعراضية. رأينا ذلك بتجمعات هذا الفصيل، بيافطاته، وراياته، وأشخاصه. رأينا ذلك في مراكز المدن، مراكز تجمعات التنظيمات. وكانت اللقاءات بين الناشطين في تلك الفصائل، هي لقاءات نقابية للتعرف على وجهات نظر الآخرين، ولتحديد مكانة ذلك الفصيل/ الإطار في الحركة العامة. حتى التحالفات بين تلك الفصائل كانت موسمية ومتغيرة.
هذا الوضع الذي يعلو فيه الحزبي على الوطني، لم يستطع وضع خطة عامة وطنية، ويرسي لمؤسسات في تخصصات ضرورية، فالتنافس الحزبي، كان على الجمهور، وأيهم أكثر عددا، وأكثر فاعلية، وأكثر تمثيلا في أطر المنظمة، وأكثر علاقة ببعض الأنظمة العربية والعالمية. هذا أدى بنا للتقليل من مأسسة تخصصات مختلفة في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والعلوم والعلوم الاجتماعية ومنها التربية، واكتشفنا ذلك متأخرين وقت مفاوضات مدريد وواشنطن. هذا لا يعني خلو الساحة من هذه التخصصات، ولكن فاعليها لم يكونوا يقومون بعملهم هذا بشكل جماعي ضمن رؤية وطنية جامعة.
أضف لذلك الفاعلين والباحثين في الجامعات والمعاهد الأكاديمية، الذين غابت عن أبحاثهم وإنتاجهم الفكري رؤية مشتركة، توجههم، وتوجه طلبتهم، بل ربما أدّعي أن العمل الأكاديمي كان شبه منعزل عن العمل الميداني إلا ما أنتج وفق توجهات كل باحث. فهمّ الأكاديمي هو الرفعة الأكاديمية بمراتبها، مما حوّل معظم الأبحاث للرفوف في المكتبات، أو بين صفوف فئات قليلة ترتبط بالرامج المتحزبة، فلم تستطع بعض المؤسسات التي أنشأت لهذا الغرض أن تجمعهم، إلا في مؤتمرات موسمية هي الأخرى، دون رعاية وطنية جامعة.
د. إياد البرغوثي، واحد من الذين يرفعون الراية منذ سنوات كما أعرف، ليرى أنه لا يمكن البدء بالعمل المجدي إلا بالفكر، والفكر الجامع بالتحديد. هذا الفكر الذي يمكن أن يؤسس لرؤية حالنا في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، والذي لا يمكن تحقيقه إلا بالإتفاق إلى حد ما على تقييمنا لأنفسنا، في السياق العربي والشرقي والعالمي. هذه فكرة الكتابين الصادرين في السنوات الأخيرة (“تحرير الشرق”/ نحو امبراطورية شرقية ثقافية 2020)، و “من فلسطين إلى الفلسطينزم/ قول في الوعي والمعنى” 2025).
عرفت د. إياد عن قرب في السنوات الأخيرة، بعد أن تفسخت قوى اليسار، وأصبحت فاعليتها بالحد الأدني الرمزي، وكان يمكن أن نعمل معا (أنا وغيري)، لو كانت هناك مؤسسات متخصصة في كل حقل، ومنها الحقل الفكري، الذي يعمل فيه حاليا، ويؤسس لعمل جماعي ليس فقط في فلسطين، وإنما ليمتد في الآفاق. ليست هذه هي المرة الأولى بالدعوة للعمل في الآفاق، فكانت أيام الاحتلال البريطاني والفرنسي للمنطقة، وأيام الحرب الباردة مثلا التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي، وكانت بعدها بمحاولة ترسيخ مفاهيم العدالة والحرية والتعاون. لكن آفاق كل مرحلة مختلفة عن الباقي. وربما أشير إلى أن المحاولات الفكرية هي أيضا قديمة في التحرر والنهضة، لكن لم يتم الاستفادة منها بالقدر الكافي والعملي، كما في رؤية الاستشراق التي وُضعت أساساتها منذ عقود.
إن وحدة الرؤية للمفكرين الأحرار، الذين يودون أن يتحرر الوطن والأوطان، لم تعد قضية فلسفية في المكتبات، ولا ترفا للمفكرين، حتى يحملوا هذه الصفة، بل هي ضرورة، لهم شخصيا، ولشعوبهم، ولأوطانهم، وللعالم ككل، ليس فقط من منطلق مصلحي وإنما من الناحية الأخلاقية. فالصراع الذي يجري يطال الجميع، وهو نوع من فرض الهيمنة على الشعوب، لتظل تابعة، هامشية، غير فاعلة، فتسرق مواردهم الاقتصادية، وتسلب حرياتهم، وتستباح أوطانهم، ويأكل القوي الضعيف. إننا فسطاطان، فسطاطي الظالم والمظلوم، فسطاطيّ المهيمن والمهيمن عليه، المنتفع من خيرات الآخرين، والفاقد لها، فسطاطيّ الإنساني واللاإنساني، الأخلاقي واللاأخلاقي، ..الخ . ولا تقف هذه عند هذا الحد، فيمكن أن ترتكب أبشع الجرائم بالمظلوم لمصلحة الظالم، ويمكن أن تباد شعوب، وأقليات. ربما مصطلحي الظالم والمظلوم لا يعبران عن الواقع كما يجري.
ربما وللتأكيد، فإن الثقافة هي المحدد الأساسي للتوجهات، وهي القاعدة التي تبنى عليها البرامج السياسية العملية. هذا ليس جديدا، فلقد تناولها معظم مفكري “النهضة” منذ عقود، وما زال السؤال مفتوحا، والثقافة تشمل كل شيء، وأساسها أخلاقي، بالاستناد لمعايير عامة متفق عليها، معايير تم التوافق عليها دوليا في مؤسسات العالم الأرضي، في وقت تنحدر فيه الأخلاق الغربية، فهي انتقائية وعنصرية، بل هناك محاولة لجعلنا نحن في الشرق، وفي ما يشبهها خارج العالم البشري، بل يصرحون علانية بأننا حيوانات بشرية، وربما أقل من ذلك. إنه السقوط الأخلاقي الذي وقع فيه الأعداء مما أباد منا تجمعات سكانية، وإسكانية. كل ذلك موثق بالصوت والصورة، ولا يتحرك العالم بما يليق. بالمقابل فإن تحركات جماهيرية، التقطت ما يجري، خاصة في المؤسسات التعليمية، وراحت تدافع عن نفسها، عن قيمها وأخلاقها ومبائدها، لتصبح الأرض وحدة واحدة مهددة في البشر والشجر والحجر.
لم ننتج فلاسفة في العصر الحديث، بالمعنى المتعارف عليه، لكن هناك كتاب رواد في الفكر، خاصة في وصف حالنا، وما يمكن أن نفعله. جاء ذلك في الكتب المنشورة عربيا، وفي الأعمال الأدبية والفنون. أعتقد ما أنتجه د. البرغوثي يقع في هذا الحقل، وما زال المجال مفتوحا للمراجعات والإنتاج الجديد.

هل سيختلف المثقفون حول هذه الرؤية المطروحة في الكتاب؟
المثقفون ليسوا واحدا، وليسوا كتلة واحدة، ولا إطارا تنظيميا واحدا، فيمكن لأي مفكر أن يكتب بمعزل عن الآخرين، فهم من مشارب مختلفة، وتوجهات متباينة، متحالفون أحيانا، ومتصادمون أحيانا كثيرة، ولا تستطيع فئة قمع الأخرى إلا بالفكر والنقاش الفكري، الذي ربما لا يصل لنتيجة. هذا ليس دقيقا تماما، فمثقفون غربيون، وصحافيون كثر، يقفون بجانب القوى المهيمنة أكثر وأكثر، وتبقى المعركة الثقافية هي البارزة على سطح هذا الكون، وإن كانت أحيانا مدعومة بالأسلحة والدمار والعنصرية.
دعنا بداية “نتفق” على أن الذين أبقوا قضيتنا حية طوال هذه العقود هم المثقفون والثقافة التي أنتجوها، أو انتشرت بين الناس، والثقافة هنا بالمعنى الواسع للمصطلح سواء كانت مصادرها السياسة والتاريخ والأدب والأبحاث والدين واللغة والانتماء القومي والشرقي والانحياز للمظلومين وحركات التحرر العالمية.
ولا داعي للاتفاق تماما على تعريف الثقافة، فهناك التعريفات الواسعة، فهي معرفة وسلوك، وممارسات، والعادات والتقاليد والقيم، والقوانين والمعتقدات. فإذا كانت الثقافة هي التي حافظت على الشعوب كشعوب، ومنهم نحن كجزء من العروبة والإسلام والشرق، فإنها هي نفسها التي ستحافظ علينا بطريقة ما وفق ما نضعه من أهداف نحو التحرر والبناء والأخلاق الإنسانية العامة المتفق عليها. فثقافتنا لا تسمح بظلم الآخرين، ولا بالتشفي، ولا باحتقار معتقداتهم التي لا تمسنا وغيرنا.
“المثقفون” هم حملة مشروع الأمة، ليس فقط كحلم، والحلم مهم، ويبني لصياغة المستقبل، بل في مواجهة الخلخلة للبنى الفكرية في بلادنا التي تقع في مركز اهتمامات الغرب الإمبريالي، لاستضعافنا أكثر وتحديد توجهاتنا، فتتغير الأولويات نحو القشور، خارج مصلحة المهمشين والمستضعفين. فالمثقفون هم “حملة” مشروع الأمة، وهم في الصفوف الأولى لمواجهة استضعافنا، والسيطرة علينا ومقدراتنا وأحلامنا.
هناك المثقف المتماهي مع القيم الغربية، والمعجب بها، والمدافع عنها، والمحتقر لنفسه، ولأهله ومجمتعه، فهو ابن الغرب المزروع في وسطنا، يفاخر بذلك، ويدافع عنه، ولا يتأنى لحظة في التهجم حتى على نفسه، لأنه يعيش في هذه الثقافة الرافض لها، والمسماة أحيانا “المتخلفة”. هؤلاء كثر، فمرجعيتهم خارج نطاقنا، وتطال أقوالهم كل جوانب الحياة، تحت شعارات “منطقية” مثل الحريات، والديمقراطية، والنظام، والبيئة، والنظافة، والتدين، والعادات والتقاليد، ...، كل شيء، حتى في طريقة النقاش والحديث.
وهناك بالمقابل المثقف الذي يعتز بشرقيته، بإيجابياتها وسلبياتها، بل يعتبر ثقافته هي الأساس الذي بنى عليه الغرب وحضارته، فما زال يعتز بالماضي، ويعمل من أجل الرجوع إليه، ليس وحده، بل المجمتع ككل، هو يعيش في الماضي وعليه. هذا المثقف مثله مثل الحالة الأولى، يرفض الحالي، يعيش أزمة نفسية ثقافية، تتعارض مع الأول في وجهته. فهو يرى أن سبب تخلفنا هو الابتعاد عن السلف “الصالح”، ولا يرى أملا إلا بالعيش مثلهم، حتى في المشية والشكل والملبس والمأكل والمشرب.
وهناك المثقفون الذين يعيشون في أبراج عاجية، يعتبرون أنفسهم مميزين، وفي نفس الوقت متكبرين، حالمين، يائسين، محبطين، لكنهم يعيشون في أحلامهم وأوهامهم، لأنهم يعملون بالفكر والقراءة والكتابة، تجد أمثالهم مختلفين في الشكل والثياب والسلوك، كأنهم يريدون أن يوصلوك رسالة بأنهم مثقفون قبل أن تسلم عليهم. هؤلاء يعيشون في عالم خاص، يقتربون أحيانا من الطبقات العليا، وأحيانا يقتربون شكليا من الطلبقات الدنيا، لكنهم يعيشون حالهم لحالهم.
وهناك مثقفون مما هب ودب، مثلهم مثل الناس بتوجهاتهم المختلفة. فهناك مثقفو التطبيع، ومثقفو الإشاعات، والطابور الخامس والسادس. وفي الوقت نفسه، هناك المثقفون الثوريون، الذين يحملون هم شعبهم، ويرون المنطق كله بعلاقته مع المنطقة، ومع ما يجري في العالم. هناك المثقفون الذي يرون كل الألام التي يمر بها الشعب، لكنهم يصنعون الأمل، ويعملون عليه. هناك المثقفون المتنورون، الذين يبحثون عن النور في أنفاق العتمة والغباش، ويوقدون أحلام التغير وإن بعدت. هم يعتبرون ذلك مسؤوليتهم وعملهم المتواصل، فهم الذين يخرجون عقلية الناس من الإحباط والنكوص. هم الذين يرون كل شيء من نقطة أعلى مما يراه الآخرون. إن مثل هؤلاء هم مشروع الأمة دون تهويل ودون استصغار. إنه المثقف الذي يود أيضا تغيير العالم، ويعيد تشكيله ليكون إنسانيا وأخلاقيا، ليس تحت سيطرة المحتقر للآخرين، ولا القابل للذين لا يرون غير أنفسهم ويرون الآخرين عبيدا لهم، بل هو المثقف الحر المتحرر ليس من أجله فقط بل من أجل الآخرين.
المثقف كما غيره من الناس ليس موضوعيا، ولا يدعي ذلك، فليس هناك موضوعية على الإطلاق، فهو متحيز لقيم وأخلاق دعاة هذه المقولة. المثقف متحيز لنفسه ولمجتمعه وللشعوب التي تعاني مثله من الظلم والقهر والإبادة الأخلاقية والفكرية، وأكثر من ذلك يقف في الصفوف الأولى، وحاملا لشعلة الحرية، ومضحيا ومنغمسا في قضايا شعبه.
لا نحتاج كثيرا، لتوضيح فكرة الفلسطيني، وما وقع عليه من اعتداءات، وتخطيط مبرمج من قبل الغرب، ففلسطين أرضه، تم ويتم استبدال روايته، برواية خيالية ميثولوجية استعمارية، ويتم استبدال وجوده بآخرين. فلسطين هي الأنموذج العالمي في قهر العالم الأكثر عنصرية له. فلسطين هي المثال الصارخ، لما تم من ظلم شعب، وتشريد، وإحلال آخرين مكانه، وما زالت القصة مستمرة على عيون العالم وسمعه. يظهر ذلك من التحولات التي تجري في العالم تضامنا معه، وتساقط جزئيات الروايات المصطنعة لتذويبه وإبعاده والتخلص من قضيته.
“الفلسطينزم” تستند من أساسات تحررها، وسمو قيمها وأخلاقها، وتنتشر بمنطقية طرحها، وعقلانية أهدافها. إنها المرتكز الثقافي والأخلاقي للنظام العالمي المنشود.
إن “الفلسطينزم”، تتحول يوما بعد يوم لأيدلوجيا عالمية، مبنية على الإيمان بحق الإنسان وحرية الشعوب، في مواجهة “التعايش مع إيدلوجيا الهيمنة والحروب”، فهي لا تقتصر على البقعة الجغرافية المتعارف عليها، بل تطال الوعي الإنساني للحرية في العالم. ليس بالضرورة أن تكون هي وحدها القضية، لكن بروزها منذ قرن يجعلها كذلك. وما الاصطفاف الشعبي الواسع في العالم مناصرة لنا إلا دليل آخر على ذلك. إن الفلسطينزم “تملك شرعية ومعقولية وقابلية للتطوير لتكون أساسا لبناء فكري كوني يشكل رمزا لبناء عالمي مختلف” (ص238). إن فلسطين أصبحت فكرة لتحرر المضطهدين أينما كانوا، كونها باتت المنظومة الفكرية الأوضح في مواجهة الصهيونية، الممثل للمنظومة المهيمنة.
عادت الأمور أكثر وضوحا، التفوق الأخلاقي الفلسطيني، مقابل اللاأخلاقي الغربي، مما يجعل لفلسطين دورا في إعادة صياغة العالم. هذا الأمر ليس تمركزا حول الذات، فالصهيونية حاولت منذ حوالي السنتين حشد كل العالم نحو ممارساتها، وتعميق روايتها، والدعم الفكري والعسكري لها، وزيارات المؤازرة من قادة العالم. بالمقابل، فإن جماهير تلك البلاد وغيرها، انتفضت في مواجهة قمع الحريات، ومنها التظاهر، ومناصرة المظلوم، بالاستناد إلى المنظومة الأخلاقية العامة المنصوص عليها في مواثيق المؤسسات الدولية. إن السلام العادل هو مطلب فلسطيني منذ عقود، وهو ما ترفضه الدول المهيمنة، لكن “العادل” لم يعد تماما كما كان، فالعدو يمارس أبشع الجرائم بحق كل ما هو فلسطيني، وكل ما يناصرهم حتى لو كان فكريا، ويلقي عليهم شعارات لم تعد مقنعة كاللاسامية. إن التمادي في التخلص من الفلسطينيين وحقهم في الوجود، يأخذهم إلى أقصى درجات التطرف، والمعاداة حتى لمن يتلفظ بأية ملاحظة سلبية اتجاههم، بل وحتى ضد تلك الأنظمة التي عقدت اتفاقات “سلام” معه. فهم لا يخفون بأن الكل هو المستهدف، تحت شعارات الدفاع عن العالم “الحر” أحيانا، و “الميثولجيا المقدسة” أحيانا أخرى.
إنهم يحاولون أن يجعلوا من القتل الجماعي والترحيل والتطهير العرقي لأمثالنا شيئا طبيعيا، فلا رادع، ولا تراجع، مثله مثل العنصرية الظاهرة في تصريحات كبار المسؤولين كما صغارهم. إذا كان الفلسطينيون هم الذين يدفعون الثمن اليوم أكثر من غيرهم، فإن ذلك نذير شؤم لكل الذين يعارضونهم، كما يجري في لبنان وسوريا واليمن. ويجرى بشكل علني التهديد لكل دولة تعترف بفلسطين في العالم، ولكل الذي يبدون تعاطفا معنا، أو حتى المستائين من سلوكهم الوحشي. إنه تهديد للعالم ككل، التهديد العنصري الفاشي. إنهم يوحدون العالم إما معهم أو ضدهم. صحيح أنهم حققوا تفوقا في القتل والدمار البشري والمادي، لكنهم حققوا عداء جماهيريا عالميا لقيمهم وسلوكهم، مما يجعل لل “الفلسطينزم” معنى. هذا ليس توجها منا فقط، بل نسمع مثل ذلك من بُعيض مسؤوليهم، و “مفكريهم”، ففي الوقت الذي نرى الهجوم المتبجح في استخدام القوة، فإنهم يقفون في صف المدافعين ضد الحملات العالمية التي ترفض أفكارهم وسلوكهم.

ما هي الأطر التي يمكن العمل من خلالها لتثبيت ما جاء في الكتاب ونشره وانتشار أفكاره؟
ظلت الإجابة على هذا السؤال مفتوحة، فالكتاب ليس سياسيا بالمعنى المباشر، ليس هدفه وضع برامج مقتبسة من الفكرة، فالفكرة هي الأساس، فكرة “تقعيد” الرؤية، ووضع أساسات للتفكير.
لم يتناول هذا الكتاب، وليست مهمته، العمل على ربط “الأطر” المحلية بالفكرة. ولا البحث عن الأطر في المنطقة وفي العالم، وليس صياغة وثيقة لتوقيعها ونشرها. هذه المهمة تقع على أكتاف آخرين، لا أعرفهم بالضبط، ولا يمكن التنبؤ بهم أو أطرهم.
درجت العادة أن تكون الأطراف السياسية (أقصد المحلية) هي حاملة المشروع، لكننا نعلم تماما الأزمة التي تعيشها، فهي لم تعد بفاعلية الماضي، ولا بتأثيرها الجماهيري، ولا بالتواصل في المنطقة العربية وما بعدها إلا ما ندر من باب العلاقات العامة حينا، والعجز الداخلي حينا آخر. وإذا ما قرر كل طرف أن يتبنى أفكارها، فإن هناك الكثير لعمله، فهو ليس موقفا وكفى، بل تغير في الوجهة والبرامج والسلوك. هذا لا يعني تجاهلها، بل ربما تكون الفكرة سبب توحدها ونهوضها، ولا أظن أن الأمر سيستغرق وقتا قصيرا، إذا ما قرروا تبنيها.
أما عربيا، فالحال هو الحال، وليس لي دراية كافية للتعرف عليه، أو تقييمه، لكن الهجوم الإبراهيمي لا يستثني أحدا، والمستهدف هو الكل في منطقتنا وفي مناطق أخرى. لا أحد مستثنى، لا في الأرض ولا في الاقتصاد والعادات والتقاليد والمناهج والنظام ككل، والأفراد أيضا.
د. إياد هو الذي يستطيع تقديم إجابات على هذه التفاصيل، لكني أعتقد أنه لا بد من حاملة فلسطينية، ففلسطين هي الفكرة، وإن كانت بالمفهوم العالمي. فهل النقابات والهيئات المهتمة بالفكر والثقافة تكون هي الحامل، كالاتحادات الشعبية من كتاب وأدباء، وصحافيين، وفنانين، ومؤرخين، وتراثيين، ...الخ وغيرها؟
بقي السؤال دون إجابة واضحة، لنفكر فيها معا، وليجد كل منا دوره في هذا المجال، وما زال النقاش مفتوحا.



#صافي_صافي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المورسكي والفلامنغو في رواية “ عودة الموريسكي من تنهداته” لع ...
- بين موسى الأندلسي وموسى النابلسي في رواية عودة الموريسكي من ...
- العابرون والمقيمون في رواية تزوجت شيطانا”/ لكفاح عواد
- شهادة عين التينة
- الذاكرة والرواية
- اللون الأزرق في رواية -عداء الطائرة الورقية- لخالد حسيني
- سينمائية رواية -وجع لا بد منه-
- تداخل الأجتاس الأدبية
- قراءة في رواية -علبة حذاء- لصونيا خضر
- رموز ومعاني في -حليب الضحى-
- -الرغيف الأسود: قصص الطفولة المنسية-
- -تحرير الشرق-: نحو إمبراطورية شرقية ثقافية
- شهادتي حول رواية زرعين
- العاشق/ة في -نساء من صمت-
- أطوار الغواية مسرحية في رواية
- أساطير الأولين ما بين الرواية والقصة
- الكتابة والمرأة في إشراقات صباح سالم
- أكاذيب المساء/ محمد رمضان الخضور/ عمان 2020
- الخاصرة الرخوة/ المطلقة/ روايتان لجميل السلحوت
- المطلقة إنسانة لها مشاعر وكرامة وحرية الاختيار والقرار


المزيد.....




- تحليل: -الشجار المروع- بلقاء ترامب وزيلينسكي هل يتكرر بعد قم ...
- دعوى قضائية أمريكية تتهم منصة روبلوكس بـ-تسهيل استغلال الأطف ...
- نيجيريا تلقي القبض على زعيمي جماعة -أنصار المسلمين في بلاد ا ...
- ما حقيقة قبول جنوب السودان بخطة ترحيل الغزيين إليه؟
- فيديو.. قصف إسرائيلي على محطة كهرباء في صنعاء
- قمة ألاسكا.. المنتصر والخاسر والخاسر الأكبر
- رسالة من زوجة ترامب ميلانيا إلى بوتين تثير تفاعلا.. ماذا قال ...
- مصر.. مقاطع فيديو خادشة للحياء تشعل ضجة والداخلية تكشف تفاصي ...
- عاجل | وسائل إعلام إسرائيلية: متظاهرون يغلقون الطرق في أماكن ...
- فيديو ترامب -لا يسير بخط مستقيم- يشعل تحليلا للغة الجسد وتكه ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - صافي صافي - ما هي أدوات نشر -الفلسطينزم- في الوعي والمعنى؟