حسام الدين مسعد
كاتب وقاص ومخرج وممثل مسرحي ويري نفسه أحد صوفية المسرح
(Hossam Mossaad)
الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 13:51
المحور:
الادب والفن
يمثل المسرح الكردي إحدى أهم التجليات الفنية لهوية شعب يسعى منذ قرون لإثبات وجوده الثقافي والسياسي، فمنذ بداياته، اتخذ هذا المسرح من القضية القومية محوره الرئيس، مقدماً نصوصاً وعروضاً تنضح بمرارة الاضطهاد وتاريخ المعاناة.
غير أن هذا التركيز المكثف على خطاب المظلومية أوقعه في فخ الأحادية، حيث غالبًا ما يُقدَّم "الكردي" على خشبته كضحية أبدية، من دون مساحة كافية للاعتراف بمسؤوليته الذاتية عن أوضاعه أو مساءلة البنى الداخلية لمجتمعه،و هذه الإشكالية، رغم مشروعيتها التاريخية، تحدّ من قدرة المسرح الكردي على التحوّل إلى أداة نقد وإصلاح داخلي.
لماذا يبقى خطاب الضحية هو البطل؟
عروض كثيرة في المسرح الكردي تكرّر سردية مأساة الشعب الكردي، من حلبجة إلى التهجير القسري، وكأن الزمن متوقف عند لحظة الألم الأولى.
لكن، أليس المسرح في جوهره فعل مساءلة قبل أن يكون فعل بكاء؟
ألا يمكن للمسرح الكردي أن يعترف بمسؤوليته عن إخفاقاته الداخلية بنفس الحدة التي يواجه بها خصومه الخارجيين؟
تشير الوثائق التاريخية إلى أن أول نص مسرحي كردي مكتوب هو "مم آلان" لعبد الرحيم هكاري، في الفترة بين 1919 و1920، وهو نص استوحى قصته من التراث الكردي، أما أول عرض مسرحي مدرسي فقد قُدّم في السليمانية عام 1925-1926 بعنوان "العلم – الجهل"، في إطار النشاطات التعليمية التي رعتها المدارس الحديثة آنذاك.
هل التعاطف كافٍ لصنع التغيير؟
المسرح الذي يبني خطابه على استدرار العاطفة فقط، يثير دمعة، وربما تصفيقًا، لكنه نادرًا ما يترك أثرًا تغييريًا مستدامًا.
فما الفائدة من تعاطف جمهور يغادر القاعة وقد نسي المشهد الأخير؟
هل نحن بحاجة إلى جمهور يبكي معنا أم جمهور يفكر معنا؟
في مرحلة الستينيات وما بعدها،
شهدت ستينيات القرن العشرين طفرة في المسرح الكردي، خصوصًا مع عودة مجموعة من الفنانين الذين درسوا في معاهد الفنون المسرحية في بغداد وأربيل، مثل علي كريم وعبد الله صالح. تأسست فرق مسرحية في السليمانية وأربيل ودهوك، وقدّمت أعمالاً تناولت قصص المقاومة، ومعاناة القرى الكردية تحت القصف، وحكايات النزوح القسري،لكن أين المستقبل في النصوص الكردية؟
القضية الكردية ليست حدثًا جامدًا في الماضي، بل واقع متغير له تحدياته السياسية والاجتماعية والثقافية.
فلماذا يغيب استشراف المستقبل عن المسرح الكردي؟
لماذا لا نرى نصوصًا تتخيل كردستان بعد خمسين عامًا، أو تصور سيناريوهات للتعايش، أو حتى تحذر من أخطار داخلية؟
هل نحن خائفون من الخروج من منطقة الراحة التي يوفرها دور الضحية؟
في أرمينيا السوفيتية، حيث استقر عدد من الكرد، حظي المسرح بدعم مؤسساتي أكبر، فشهد إنتاج نصوص وعروض منظمة، وكان للمسرح هناك دور في الحفاظ على اللغة الكردية وإعادة إحياء الفلكلور.
هل التعايش مع الواقع خيانة؟
البعض قد يرى أن الحديث عن التعايش أو الانفتاح على الآخر هو تنازل عن القضية.
لكن، أليس الفن بطبيعته جسرًا بين المختلفين، ومساحة لتجريب أشكال جديدة من الوجود؟
أليس بإمكان المسرح أن يكون أداة تفاوض ناعمة، تقرّ بالهوية لكنها تبتكر طرقًا للتفاعل مع العالم بدل الانغلاق عليه؟
فالمسرح الكردي له أشكال متعددة منها :-
أ. المسرح الشعبي،ويضم أنماطاً تقليدية مثل سيا ساي (مسرح الظل)، وعروض الدمى المتحركة (قرهگوز وكورك)، والحكواتي (چیرۆكبێژ)، التي نقلت الموروث الشفهي إلى الخشبة. كما ارتبط المسرح الشعبي بالمناسبات مثل نوروز، حيث تُقدَّم حكاية كاوا الحداد في شكل درامي احتفالي.
ب. المسرح التجريبي،ففي الثمانينيات من القرن المنصرم ، ظهرت تجارب جديدة مثل عرض "إنسان طبيعي" عام 1983 لبارزان عثمان، الذي كسر البنية التقليدية للعرض، كما ظهر كتاب "أنطولوجيا المسرح التجريبي الكردي" لنهاد جامي، الذي وثّق محاولات الخروج من القالب الكلاسيكي.
ج. المسرح المعاصر،ففي العقود الأخيرة، شاركت فرق كردية في مهرجانات دولية، مثل مهرجان فيسبادن في ألمانيا، بعروض مثل أوبرا "ممو وزين"، ومسرحية "غزو الظلام" التي تناولت الإبادة الثقافية، وفي عام ٢٠٢٤ تعد تجربة فرقة حوار المسرحية الكردية التي كتبها د.دلشاد مصطفى ،واخرجها نجاة نجم،هي تدويل عملي لقضية الكرد ومعاناتهم في إطار تجريبي يجتر الماضي ليقدم صرخة في وجه المؤسسات المالكة الخطاب والقوة والمعرفة في العالم ولقد شهد الداخل الكردي ، مثل السليمانية وأربيل مهرجانات مسرحية تعرض أعمالًا اجتماعية وسياسية،إلا إن مركزية القضية القومية باتت محورًا ثابتًا في النصوص والعروض، حيث يُقدَّم الكردي غالبًا في مواجهة خصم خارجي، سواء كان سلطة مركزية أو قوة احتلال. هذه الرؤية تمنح العمل قوة عاطفية وتستدر التعاطف، لكنها تضعف المساءلة الذاتية.
مما يثير السؤال حول دور هذا المسرح في تفعيل الحوار النقدي ؟
نادراً ما تتناول النصوص المسرحية الكردية إخفاقات النخب السياسية الكردية، أو الانقسامات الداخلية، أو مشكلات مثل الفساد وضعف البنية المؤسسية،و بذلك يغيب بعد أساسي من دور المسرح كفضاء للحوار النقدي.
كما أن تركيز النصوص الكردية على فكرة الضحية يحدّ من التنوع الدرامي، ويقلل من تناول قضايا اجتماعية واقتصادية وجندرية ملحّة، مثل البطالة، والهجرة، وصراع الأجيال، وقضايا المرأة.
لكن هذا لا ينفي وجود محاولات ونماذج لعروض بارزة كعرض "غزو الظلام"،الذي تناول محاولات طمس الثقافة الكردية عبر التاريخ، ودمج بين الدراما والحركة التعبيرية.
وكذلك عرض "حلبجة" هذا العمل المسرحي الذي وثّق مأساة القصف الكيماوي عام 1988، بأسلوب توثيقي مباشر.
وعرض "ممو وزين" الذي سعى لتحويل ملحمة كردية إلى أوبرا، مزجت بين التراث والحداثة.
ماذا لو تحوّل المسرح الكردي من “مسرح المظلومية” إلى “مسرح المسؤولية”؟
ماذا لو تناول قضايا مثل الفساد الداخلي، وصراعات النخب، وقضايا المرأة خارج إطار المظلومية التقليدية، وصراع الأجيال مع الحداثة؟
ألن يمنح ذلك القضية الكردية قوة جديدة، لأنها ستصبح خطابًا متكاملًا، لا حكاية طرف واحد؟
لكن كيف يتجه المسرحيون الأكراد نحو مسرح كردي متوازن؟
اعتقد أن دمج الهوية بالنقد الذاتي يمكن للمسرح الكردي أن يحتفظ بقضيته القومية، لكن ضمن رؤية نقدية تضع المجتمع أمام مرآة ذاته، وتفكك البنى الداخلية التي تساهم في استمرار المعاناة.
كما أن تنويع الموضوعات سيفتح المجال لمعالجة قضايا إنسانية يومية منها وبلا شك
قضايا الإغتراب،وقضايا المرأة خارج إطار المظلومية التقليدية،وصراع الأجيال والحداثة.
وفضلًا عن ذلك يجب على المبدعين الأكراد السعي نحو
إقامة مشاريع مسرحية مشتركة مع فرق عربية وأجنبية، لإثراء التجربة الكردية وتبادل الأساليب الإخراجية والنصية.
أخيرًا: القضية الكردية حاضرة وبقوة في وجدان المسرح الكردي، وهذا حق مشروع. لكن استمرارها في قالب واحد، قائم على استجداء التعاطف، قد يحوّلها إلى مادة مستهلكة لا تغيّر الواقع.
المطلوب اليوم ليس أن نتخلى عن القضية، بل أن نعيد صياغتها على خشبة المسرح كحوار مع الذات قبل الآخر، وكحلم مستقبلي قبل أن تكون مرثية للماضي.
فهل نحن مستعدون لأن نرى أنفسنا بعيون ناقدة، وأن نفتح نوافذنا للفن كي يدخل منه هواء المستقبل؟
#حسام_الدين_مسعد (هاشتاغ)
Hossam_Mossaad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟