أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - البشير عبيد - صنع الله ابراهيم : الروائي الذي كتب الحرية بمداد الحقيقة















المزيد.....

صنع الله ابراهيم : الروائي الذي كتب الحرية بمداد الحقيقة


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 17:29
المحور: الادب والفن
    


في التاريخ الأدبي العربي المعاصر، قلّما نجد كاتبًا جمع بين التفرّد الفني والاستقامة المبدئية كما فعل صنع الله إبراهيم. وُلد في القاهرة عام 1937، ونشأ في حقبة كانت فيها مصر تمر بتحولات سياسية جذرية، من الاحتلال البريطاني إلى ثورة يوليو، وما تبعها من تغيّرات اجتماعية واقتصادية. هذا السياق التاريخي لم يكن مجرد خلفية لحياته، بل شكّل المادة الخام لوعيه وكتاباته.
منذ بداياته، لم ينظر صنع الله إبراهيم إلى الأدب على أنه ممارسة جمالية معزولة عن الواقع، بل اعتبره أداة للمساءلة والنقد. وقد انعكست تجربته الشخصية، بما في ذلك سنوات السجن السياسي في الستينيات، على أسلوبه وموضوعاته، مما جعله صوتًا فريدًا في الرواية العربية الحديثة. لم يكتفِ بالتوثيق البارد للأحداث، ولم ينغمس في الخيال المنفصل عن الواقع، بل ابتكر مزيجًا دقيقًا من السرد الروائي والمواد الوثائقية، ما جعل أعماله بمثابة أرشيف أدبي لزمن عربي مضطرب.
على امتداد مسيرته، ظلّ وفيًا لقيم الحرية والمواطنة، وهو ما تجسّد في مواقفه العلنية، وعلى رأسها رفضه الشهير لجائزة الدولة التقديرية عام 2003. بهذه المزاوجة بين الإبداع والمبدأ، رسّخ صنع الله إبراهيم مكانته كأحد أهم الروائيين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.

البدايات: من الظلّ إلى وهج الأدب

نشأ صنع الله إبراهيم في أحياء القاهرة الشعبية، وهو ما جعله على تماس مباشر مع الطبقات المهمّشة التي ستصبح لاحقًا محورًا أساسيًا في كتاباته. تلقى تعليمه في المدارس الحكومية، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، لكنه لم يكمل دراسته الأكاديمية بالشكل التقليدي، إذ انجذب إلى النشاط السياسي والفكري مبكرًا.
في خمسينيات القرن الماضي، كانت مصر تشهد صعود الحركات اليسارية والقومية، التي رأت في الأدب وسيلة للتحريض والتعبئة. انضم صنع الله إلى الحزب الشيوعي المصري، وشارك في العمل السياسي السري، ما أدى إلى اعتقاله عام 1959 ضمن حملة موسعة ضد المعارضين السياسيين. قضى في السجن نحو خمس سنوات، وهي تجربة تركت بصمات عميقة على رؤيته للحياة والمجتمع، وأمدّته بمادة خام لأعماله الأدبية.
بعد الإفراج عنه عام 1964، بدأ رحلته الأدبية بإصدار روايته القصيرة تلك الرائحة (1966)، التي شكّلت صدمة في المشهد الأدبي. بأسلوب جاف ومقتضب، عبّر عن إحساس بالاغتراب والخواء، عاكسًا صراع جيل ما بعد السجن مع واقع سياسي خان وعوده. واجهت الرواية تضييقًا من الرقابة، لكنها فتحت أمامه باب الاعتراف النقدي بوصفه كاتبًا يمتلك لغة خاصة ورؤية مخالفة للسائد.

ملامح التجربة الروائية: الواقعية النقدية

يُصنَّف صنع الله إبراهيم في طليعة كتّاب "الواقعية النقدية" في الأدب العربي، وهو اتجاه يدمج بين التوثيق الفني والتحليل الاجتماعي والسياسي. منذ روايته الثانية نجمة أغسطس (1974)، التي تناولت بناء السد العالي، أصبح واضحًا أنه لا يكتب الرواية بوصفها حكاية شخصية فقط، بل كعمل يرصد حركة المجتمع في سياقها التاريخي.
في أعمال مثل اللجنة (1981)، وظّف بنية روائية أقرب إلى الرمز والأسطورة، لكنه ظل وفيًا لروح النقد المباشر للبيروقراطية والسلطة. أما في ذات (1992)، فقد ابتكر أسلوبًا غير مألوف، حيث تتداخل سيرة شخصية امرأة مصرية عادية مع مقتطفات من الأخبار والوثائق الرسمية، ليقدم بانوراما للحياة المصرية خلال السبعينيات والثمانينيات. وفي وردة (2000)، اتجه إلى فضاء الرواية التاريخية السياسية، مستعرضًا تجربة ثورية في ظفار بسلطنة عُمان.
أسلوبه يقوم على إدماج نصوص واقعية — إحصاءات، أخبار، تقارير — داخل السرد، مما يمنح القارئ إحساسًا بأنه يقرأ نصًا مزدوج الطبيعة: روائي ووقائعي في آن واحد. هذه التقنية لم تكن مجرد حيلة شكلية، بل تعبير عن إيمانه بأن الأدب لا يجب أن ينفصل عن الحقائق الملموسة التي تصوغ حياة الناس.
إضافة إلى ذلك، كان اهتمامه بالشخصيات هامشيًا من حيث التكوين النفسي التقليدي، لكنه ركّز على تموضعها داخل بنية اجتماعية وسياسية محددة، مبرزًا أثر السلطة والاقتصاد والسياسة على مصائر الأفراد.

الموقف المبدئي: رفض جائزة الدولة

أحد أكثر اللحظات رسوخًا في مسيرة صنع الله إبراهيم وقع في يونيو 2003، عندما أعلنت وزارة الثقافة المصرية منحه جائزة الدولة التقديرية في الآداب. كان المشهد المعتاد في مثل هذه المناسبات يتضمن كلمات شكر ودبلوماسية، لكن صنع الله قلب المعادلة. اعتلى المنصة وأمام الحضور الرسمي، بمن فيهم وزير الثقافة، أعلن رفضه للجائزة، قائلاً:
"أنا لا أقبل جائزة من دولة لا تحترم الحقوق والحريات وقيم المواطنة."
لم يكن هذا الموقف وليد انفعال لحظي، بل امتدادًا لنهجه في عدم المساومة على مبادئه. فقد اعتبر أن قبول الجائزة من نظام سياسي يقيّد الحريات سيكون تناقضًا مع ما دافع عنه طيلة حياته.
أحدثت الواقعة جدلاً واسعًا في الأوساط الثقافية والإعلامية؛ فالبعض رأى فيه نموذجًا للشجاعة الأخلاقية، بينما انتقده آخرون واعتبروا أن الموقف رمزي أكثر مما هو عملي. ومع ذلك، بقي الحدث علامة فارقة، ليس في سيرته فقط، بل في تاريخ الجوائز الثقافية العربية، حيث نادرًا ما يرفض كاتب كبير تكريمًا رسميًا بهذا الوضوح والصوت العالي.

الإرث الأدبي والفكري

يمتد إرث صنع الله إبراهيم إلى أكثر من نصف قرن من الكتابة، تخللته أعمال شكلت علامات في مسار الرواية العربية. لم يكن هدفه إنتاج نصوص ترفيهية، بل صياغة أرشيف أدبي يواكب التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر والعالم العربي.
من خلال أسلوبه القائم على الدمج بين الأدب والوثيقة، ألهم أجيالًا من الكتّاب الذين سعوا إلى تجاوز الشكل التقليدي للرواية. كما أسهم في فتح باب النقاش حول دور الأدب في مساءلة السلطة، وفي فضح آليات القمع والتهميش.
إلى جانب أعماله الروائية، كتب نصوصًا غير روائية، مثل يوميات الواحات التي سجّل فيها تجربته في السجن، وأعمال أخرى أقرب إلى التحقيقات الصحفية، مما يعكس قدرته على العمل في أكثر من شكل كتابي دون فقدان صوته الخاص.
على المستوى الفكري، جسّد صنع الله نموذج "المثقف الملتزم" كما تصوّره جان بول سارتر: الكاتب الذي يربط قلمه بالواقع المعيش، ويرفض الانفصال عن قضايا الناس.
رحيله يمثّل خسارة كبرى للرواية العربية، لكنه يترك إرثًا سيظل حاضرًا في ذاكرة القارئ العربي، وأعمالًا ستظل مرجعًا لمن يريد أن يفهم كيف يمكن للأدب أن يكون أداة نقد ومقاومة، لا مجرد وسيلة للتسلية.

أهم أعماله وتحليل موجز لكل منها

تلك الرائحة (1966): رواية قصيرة تعكس اغتراب جيل الستينيات بعد السجن السياسي، بأسلوب جاف ومباشر.
نجمة أغسطس (1974): تتناول مشروع السد العالي، وتطرح أسئلة حول التنمية والتضحيات الفردية والجماعية.
اللجنة (1981): عمل رمزي نقدي يعرّي بيروقراطية الدولة ويكشف آليات السيطرة على الفرد.
ذات (1992): مزج بين السرد الروائي والوثائق الإخبارية، ترصد تحولات المجتمع المصري من منظور امرأة عادية.
وردة (2000): رواية تاريخية سياسية توثق تجربة الثورة في ظفار بسلطنة عُمان.
أمريكانلي (2003): نقد ساخر للعلاقات المصرية الأمريكية، من خلال تجربة شخصية في الولايات المتحدة.
يوميات الواحات: نص توثيقي يسجل معاناته وتجربته في السجن السياسي.



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تنطق الأرض : غزة تردً بالعقل و الدهاء
- ثورة 23 يوليو..الحلم القومي في مفترق التاريخ
- تونس الراهنة : اختبار الوعي السياسي و إرادة التغيير
- في حضرة الغائب الحاضر : غسان كنفاني و ذاكرة الجمر
- حذاء نورو للروائي التونسي محمد دمّق..حين يتحوًل الجسد إلى شظ ...
- اوهام الشرق الأوسط الجديد :بين الهيمنة الصهيونية و استعصاء ا ...
- الناقدة اللبنانية زينب الحسيني تكتب عن قصيدتي ورقات النسيان
- اليد التي لم تُرَ : الإختراق الصهيوني الهندي في قلب إيران
- تونس في مواجهة العتمة ..الدولة ضد التحالفات الخفية
- الكيان الصهيوني الغاصب و إيران: المواجهة التى تأخرت
- نور الدين الرياحي..حين يتماهى اللون مع الذاكرة التونسية
- الكتابة و الإبداع...منعطفات و مسارات
- تونس بين جراح الماضي و استحقاقات التأسيس
- المعرض الفني ابراخيليا بسيدي بوزيد..تحليق بالفنً إلى الأقا ...
- تونس الآن بين غيوم المشهد و التغيير الشامل
- الكتابة و الهذيان
- الهاربون من الإنكسار
- الفكر الإستراتيجي و معظلة غياب الإرادة!
- الشاعر السوري بديع صقور يكتب عن نصوص الشاعر التونسي البشير ع ...
- التخييل و المجاز في نصوص الشاعر التونسي البشير عبيد


المزيد.....




- المعمار الصحراوي.. هوية بصرية تروي ذاكرة المغرب العميق
- خطه بالمعتقل.. أسير فلسطيني محرر يشهر -مصحف الحفاظ- بمعرض إس ...
- موعد نزال حمزة شيماييف ضد دو بليسيس في فنون القتال المختلطة ...
- من السجن إلى رفض جائزة الدولة… سيرة الأديب المتمرّد صنع الله ...
- مثقفون مغاربة يطلقون صرخة تضامن ضد تجويع غزة وتهجير أهاليها ...
- مركز جينوفيت يحتفل بتخريج دورة اللغة العبرية – المصطلحات الط ...
- -وقائع سنوات الجمر- الذي وثّق كفاح الجزائريين من أجل الحرية ...
- مصر.. وفاة الأديب صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عاما
- سرديّة كريمة فنان
- -وداعًا مؤرخ اللحظة الإنسانية-.. وفاة الأديب المصري صنع الله ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - البشير عبيد - صنع الله ابراهيم : الروائي الذي كتب الحرية بمداد الحقيقة