محمد سعد خير الله
محمد سعد خيرالله عضو رابطة القلم السويدية
(Mohaemd Saad Khiralla)
الحوار المتمدن-العدد: 8431 - 2025 / 8 / 11 - 17:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ فترة ليست بالقصيرة، وخصوصًا خلال الفترة الأخيرة، تتسارع وتيرة عملية ممنهجة لإطلاق "نيولوك" جديد للنظام السلطوي العسكري الحاكم في مصر، وهو الثالث بعد انقلاب 1952. هذا الشكل يحمل طابعًا "داعشيًا" بدرجة مرعبة، إذ أطلقت السلطة العسكرية العنان لمؤسستها الدينية الرسمية، "الأزهر"بمعاونة وزارة الأوقاف، لصبغ المجتمع بصبغة داعشية ستكون نتائجها كارثية على الشرق الأوسط بأكمله في حال انفجار الأمور لأي سبب.
ازداد هذا المنحى خطورة مع التقارب المصري الإيراني في الفترة الأخيرة، والذي بلغ حد الاقتراب من إعلان تطبيع العلاقات التي كانت "تحت الطاولة" سابقًا، وكأننا نسير نحو "ولاية مختلطة من الفقيه العسكري والديني في مصر".
في ظل هذا الواقع، أجد من واجبي الضميري والأخلاقي أن أُسلط الضوء على محنة يُحظر الاقتراب منها والحديث عنها، وتمس ما يقترب من 18 مليون مصري من الأقباط، منهم نحو 15 مليونًا في الداخل، وما بين مليونين وثلاثة ملايين في المهجر. هذه المحنة مستمرة منذ قرون، باستثناء الحقبة الليبرالية الذهبية التي سبقت الانقلاب العسكري عام 1952، حين كانت مصر مملكة دستورية تأسست عام 1923 على يد الملك فؤاد الأول بدعم بريطاني. وتُعد تلك الفترة، التي استمرت ثلاثين عامًا، العصر الذهبي للتعددية والانفتاح العالمي في مصر، حيث كانت البلاد بوتقة انصهار ليهودها وأقباطها ومسلميها والمتمصرين والأجانب المقيمين على أرضها.
لكن مع انقلاب الضباط في 23 يوليو 1952، بدأ النظام الجديد حكمه بحملة تطهير عرقي لليهود المصريين، حيث تم تهجير ما لا يقل عن 80 ألف يهودي مصري من المبدعين وأصحاب المهارات العالية الذين أسسوا الاقتصاد المصري في عصره الذهبي، وتألقوا في مختلف المجالات وعلى كل المستويات. وتعرضوا جميعًا لعملية ممنهجة من التطهير العرقي، حتى لم يتبقَّ اليوم في مصر سوى أقل من عشرة يهود مصريين.
ورغم هذا التطهير الإجرامي، لم تدفع السلطة المستبدة أي ثمن حتى الآن، مما شجع النظام السلطوي على اتباع آليات أخف وطأة تجاه الأقباط، أصل مصر قبل الغزو الإسلامي، والذين يشكلون أعدادًا هائلة بالملايين، كما أشرت في مقدمتي.
في السطور القادمة، أقدّم حوارًا بيني وبين الناشط الحقوقي والمحلل السياسي المصري "مجدي خليل"المقيم في الولايات المتحدة منذ منتصف التسعينيات، والذي يحمل على عاتقه لواء الدفاع عن القضية القبطية في مصر من خلال منظمة التضامن القبطي التي يُعد أحد مؤسسيها وأنشط عناصرها، ومعه مجموعة متميزة تؤدي عملها بإتقان ومهنية وموضوعية.
أردت أن أعرّف القراء بمحنة شركاء لهم في الإنسانية وهذا الحوار، الذي سينشر في ثلاثة أجزاء، نبدأه اليوم بالمقالة الأولى.
أستاذ مجدي، أهلًا وسهلًا بك، ونبدأ بالسؤال الأول:
1- هل ترون أن لديكم قضية قبطية؟ وما هو توصيفها؟
منذ غزو العرب لمصر عام 642 ميلادية والأقباط لديهم قضية بدأت بنظام الذمية، وهو نظام اضطهاد عنيف وإذلال لغير المسلمين، حتى تم إلغاؤه عام 1856 على يد سعيد باشا.
الآن، ووفقًا للدولة الحديثة والقانون الدولي، فإن الأقباط لديهم قضية واضحة لها أربعة أركان:
الركن الأول: أنهم أقلية دينية وفقًا للأمم المتحدة وكل التعريفات الدولية لمفهوم أقلية.
الركن الثاني: أنهم مضطهدون وفقًا لكافة التعريفات الدولية لكلمة اضطهاد.
الركن الثالث: أنهم يُصنفون في الأمم المتحدة ضمن الشعوب الأصلية.
الركن الرابع: حق الأقباط في اللجوء إلى القانون الدولي والمواثيق الدولية، والنضال السلمي في الداخل والخارج من أجل وقف اضطهادهم والحصول على حقوقهم في الحماية والمساواة والحرية الدينية والمشاركة العادلة في نظام الحكم والمناصب السياسية والإدارية.
والخلاصة أن الأقباط هم أقلية دينية مضطهدة وشعب أصلي تم تهميشه.
2- هناك ما يشبه الحظر غير المعلن على الكشف عن العدد الحقيقي للأقباط، لماذا يحدث ذلك؟ وما هو العدد الحقيقي من وجهة نظرك؟
منذ أن بدأ الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر وهو يحاول التقليل بشدة من عدد الأقباط، وكان يعلن في أرقامه أنهم ما بين 4-6% من تعداد مصر، وذلك حتى لا يطالب الأقباط بحصص سياسية وإدارية تتناسب مع عددهم الحقيقي. وعندما انفضح هذا الأمر وأعلنت الكنيسة عن العدد الحقيقي وفقًا لكشوفها الخاصة، توقف الجهاز تمامًا عن ذكر أي عدد للأقباط، رغم أنه يفتخر بأنه يحصي كل شيء في مصر.
عمومًا، هناك بعض المؤشرات التقديرية على عددهم الحقيقي:
أعلن الوزير المصري سيد مرعي في زيارة لأستراليا عام 1977 أن تعداد الأقباط 6 ملايين شخص من 35 مليونًا هو تعداد مصر وقتها، أي أنهم يمثلون 16.5% من تعداد مصر. وعندما التقى الرئيس كارتر بالبابا شنودة عام 1977 في البيت الأبيض، قال له: "أنا أعرف أنك رجل دين لسبعة ملايين فرد"، أي 20% من تعداد مصر.
البابا الحالي تواضروس أعلن أن تعداد أقباط مصر 15 مليونًا في الداخل، وما بين 2-3 ملايين في الخارج، أي 18 مليون شخص بنسبة 16.5% من تعداد مصر، وهي نفس النسبة التي أعلنها الوزير سيد مرعي عام 1977، والأقباط يتقبلون هذا الرقم.
3- منذ متى بدأت معاناة الأقباط في مصر؟ وماذا حدث بعد تولي السيسي حكم مصر؟
بدأت معاناة الأقباط منذ الغزو العربي لمصر عام 642، وهناك مجلدات كتبت عن اضطهاد الأقباط. يكفيني الإشارة إلى مخطوطة يوحنا النيقوسي عن الفظائع التي حدثت أثناء هذا الغزو، ومخطوطة ساويرس بن المقفع عن جرائم الحكم الإسلامي ضد الأقباط في عصور الخلافة المختلفة، وهي مخطوطة تقترب من عشرة آلاف صفحة، وهناك عدد ضخم من المخطوطات والكتب التي تحدثت عن هذا الاضطهاد.
كانت هناك فترات سلام قصيرة في التاريخ، ولكن أهمها أثناء الاحتلال البريطاني منذ 1882-1952، ثم عادت الأسلمة مع الحكم العسكري وتصاعدت منذ عصر السادات فيما سمي "الصحوة الإسلامية". ونحن نؤرخ لعام 1972 كبداية لموجة اضطهاد مستمرة حتى الآن ضد الأقباط.
بالنسبة للسيسي، فهو امتداد لحكم خلط العسكرة بالأسلمة، وكنا نتوقع أنه، بعد ثورة شعبية على حكم الإخوان، سيدعم الحكم العلماني، لكنه للأسف زادت الأسلمة في عهده بدرجة تفوق كل الحكام العسكريين منذ 1952.
4- في أحاديث الأقباط داخل الأروقة المغلقة، والتي تكون حاضرًا فيها، ما الذي يقال عن الدستور المصري؟
الأقباط يرون أن المادة الثانية من الدستور الخاصة بالشريعة تنسف المساواة وتنسف كل الحقوق، وترسخ للدولة الدينية الإسلامية، وتعمق التطرف الديني.
والقانوني الراحل ورئيس مجلس الشعب المصري الأسبق فتحي سرور وصف المادة الثانية بأنها "فوق دستورية"، أي حاكمة ومرجعية لكل مواد الدستور المصري الأخرى، وقال إن ثوابت مصر هما النظام الجمهوري والمادة الثانية الخاصة بالشريعة.
وهناك دراسة مميزة للباحث المصري عادل جندي، قارن فيها دساتير العالم المختلفة، بما فيها دساتير كل الدول الإسلامية، ووجد أن الدستور المصري هو أكثر دستور في العالم يرسخ للدولة الدينية.
5- كيف تنظر الدولة للكنيسة القبطية؟ وما أثر ذلك في تعامل الأجهزة مع الأقباط؟
عند دخول عمرو بن العاص مصر، أدرك أن مفتاح السيطرة على الأقباط يكمن في السيطرة على رجال الدين الأقباط، وهذا ما فعله بالضبط، وأخضع الكنيسة بالكامل لسيطرة الدولة الإسلامية، وهذا الوضع مستمر حتى الآن.
لقد أعطى العرب للكنيسة، في مقابل ذلك، حق اختيار قيادتها الدينية وحق أن يحكموا الأقباط بقانون الزواج والطلاق الخاص بهم، وهذا الوضع مستمر حتى الآن. وحتى هذه الحقوق البسيطة لم تُطبق، إذ تدخلت الدولة في إعاقة إصدار قانون أحوال شخصية للأقباط، وتدخلت الأجهزة الأمنية في اختيار البطريرك، وهذا الوضع مستمر حتى الآن للأسف.
أي بعد 1400 سنة تتعامل الدولة الإسلامية في مصر مع الأقباط وكنيستهم بنفس الطريقة!
وعندما يرددون أن الكنيسة القبطية هي "كنيسة وطنية"، يقصدون أنها خاضعة تمامًا للدولة الإسلامية، وهذا هو مفهوم الوطنية عندهم!
أما إذا طالبت الكنيسة بحقوق شعبها، فهي "كنيسة طائفية" مشكوك في ولائها ويتم اضطهادها بشدة، وهذا ما حدث مع البابا شنودة في بدايته، ووصل الأمر إلى عزله من منصبه عام 1981، وأبقى عليه مبارك محجوزًا في الدير حتى عام 1985، وخرج بشروط قاسية.
الجديد أنه منذ عهد السادات تم إنشاء أقسام لمراقبة الأقباط:
قسم الأقباط في مباحث أمن الدولة (الأمن الوطني حاليًا).
قسم أقباط المهجر في المخابرات العامة.
وأخيرًا، في عهد السيسي، قسم الأقباط في المخابرات الحربية.
وكل هذه الأقسام هدفها الرئيسي مراقبة الأقباط وكنائسهم في الداخل والخارج، واختراقهم، وتجنيد بعضهم ضد قضيتهم.
6- هل ترى أن الإعلام المصري يكرس صورة نمطية عن الأقباط؟ وما مدى تأثير ذلك على الوعي العام ومواقف المجتمع؟
الإعلام المصري في مجمله هو إعلام دولة إسلامية مستبدة، وهو مسيطر عليه بطريقة أو بأخرى من أجهزة الدولة المصرية، ويتبع رؤيتها فيما يتعلق بالأقباط. كما أن الإعلاميين أنفسهم هم نتاج هذه البيئة التربوية العنصرية الاستعلائية ضد الأقباط، والتي تشكك في ولائهم للدولة الإسلامية.
عمومًا، فكر الدولة الإسلامية يقوم على الشك في ولاء غير المسلمين.
الدولة الإسلامية في مصر تسيطر على المجال العام والنظام العام، والإعلام أداة مهمة لها للسيطرة على المجال العام.
الخطورة هي الدوران في دائرة مفرغة: الإعلام يغذي العنصرية والتطرف والتنميط السلبي للأقباط في المجتمع، والمجتمع بدوره ينتج إعلاميين متطرفين. جيلًا بعد جيل، تنحدر مصر إلى الوحل في التطرف والعنصرية والتخلف، وتتسع الفجوة بينها وبين العالم، وحتى بينها وبين دول الخليج التي تسعى للخروج من التطرف إلى الحداثة.
"ويبقى الأمل معقودًا على صوت الحقيقة الذي لا يموت، لينير درب العدالة والسلام للمصريين. ونستكمل الحوار في المقال الثاني من الثلاثية."
#محمد_سعد_خير_الله (هاشتاغ)
Mohaemd_Saad_Khiralla#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟