|
أحمد محمد نعمان،قرآءة فكرية سياسية 3-4
قادري أحمد حيدر
الحوار المتمدن-العدد: 8430 - 2025 / 8 / 10 - 08:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أحمد محمد نعمان .. بين المقابلة والمذكرات والسيرة قراءة فكرية سياسية (٣ ـ ٤) (ب)
الأحرار اليمنيون والحزبية:
الشيء الذي أنا منه، كيقيني بطلوع الشمس مع فجر كل يوم، هو صدق ومبدئية الأستاذ النعمان، في الحفاظ على القيم، وعلى المبادئ الأخلاقية والإنسانية، وفي إصراره وتركيزه طيلة سنوات الأربعينيات والخمسينيات، على فكرة وقضية "المواطنة المتساوية"، وهي إضافة الأستاذ النعمان النوعية لفكر وخطاب حركة الأحرار، التي تميز في طرحها وإبرازها، في معظم كتاباته، دونًا عن جميع رموز وقادة حركة الأحرار (٧).
وتقديري، أن ربط الأستاذ النعمان، فكرة وقضية المساواة بالعدالة، جاء تحت تأثير اطلاعه على كتاب المفكر/ العلامة، عبدالرحمن الكواكبي، "طبائع الاستبداد..."، ومن خلال علاقة الأستاذ النعمان المباشرة/ الشخصية بالمفكر الفلسطيني، محمد علي الطاهر (أبو الحسن)، صاحب جريدة الشورى، ومن خلال علاقته بالمفكر الأمير، شكيب أرسلان، وعمله معهما لفترة معينة، ومن هنا جدل العلاقة بين المساواة والعدالة في فكره وتفكيره. لأنه في الأصل رجل عدالة، ومساواة، واستنارة وتنوير، لا يتنازل عن قناعاته ومبادئه (خياراته الكبرى)، ولكنه في السياسة اليومية، أو الفكر اليومي، خاصة بعد قيام ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م، وهي مرحلة سياسية جديدة وحرجة في تطور وعيه وفكره السياسي،ـ تطور الجميع ـ وهي الفترة التي سُجلت خلالها وبعدها المقابلة/المذكرات، حيث نجد أنفسنا أمام قائد سياسي، شأن كل قائد سياسي، يحاور ويُناور ويفاوض، ويتنازل هنا أو هناك، ولكن ـ كذلك ـ في الخيارات المبدئية القيمية الكبرى، ثابت في الدفاع عن المعاني والمبادئ والقيم الكلية التي آمن بها، واختارها لنفسه، والتي بدأ يؤسس لها مبكرًا، تحديدًا من بعد تأسيسه مدرسة ذبحان، ونادي الإصلاح، حتى سفره إلى مصر للدراسة، واقترابه ـ كما سبقت الإشارة ـ من الأستاذ، محمد علي الطاهر (أبو الحسن)، ومن أمير البيان، الأستاذ، شكيب أرسلان.
كانت أول مبادرة فكرية سياسية له، في عرض وشرح معنى وفكرة المواطنة، حاضرة في الدرس السوسيولوجي الذي قدمه في كُتيبه/رسالته "الآنَه الأولى"، وتاريخه الفكري/السياسي يقول هذا المعنى حتى رحيله النبيل.
ومن هنا إصراري على القول، وأنا أتحدث عن سيرة حياته الثقافية والسياسية – كما تم عنونتها – من أنها ليست سيرة أو مذكرات، أُعد لها الإعداد الجيد والكافي، بل جرى إهمال تفاصيل كثيرة وهامة في الفكر السياسي والحياتي والإنساني، للأستاذ النعمان، منها على سبيل المثال، فكرة وقضية المواطنة في فكر النعمان، وقضية التحالفات السياسية التي دخل فيها بعد قيام ثورة ٢٦ سبتمبر، وطبيعة علاقته برفيق عمره الأستاذ الشهيد، الزبيري، وتفاصيل هامة ذات صلة بالسياسة وبالفكر وبالتاريخ.
فالسيرة، إلى جانب أنها ذاكرة وذكريات، هي وثائق وأرشيف مكتوب من الأخبار والمعلومات والتواريخ والأرقام، خاصة ونحن نتحدث عن سيرة أحد أهم رجال الفكر والسياسة الوطنية والحزبية في تاريخ اليمن المعاصر.
السيرة/المذكرات، بقدر ما فيها من معاني الذات الشخصية لهذا الاسم أو ذاك، فإنها تحتوي على الكثير من معنى الوثيقة التاريخية.
هي في حالتنا مع الأستاذ أحمد النعمان، توثيق لتاريخ مرحلة تمتد سياسيًا – على الأقل – من عام 1934م إلى العام 1974م، عام اغتيال ابنه، المفكر الشهيد محمد النعمان، وهو عام اغتياله الأول، وهو كذلك عام خروجه من دائرة الأضواء والإعلام والسياسة.
فاغتيال محمد النعمان كان عنوانًا لبداية تواريه وخروجه تدريجيًا من المشهد السياسي كله... وهو يوم اغتياله الحقيقي.
ومن هذه الناحية/الزاوية، أجد أن السيرة/المذكرات/المقابلة التي سُجلت بصوت الأستاذ أحمد النعمان عن بعض مراحل حياته، بصورة انتقائية، لم تقل شيئًا عن تاريخ سيرته الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية الخاصة، التي تمتد لأكثر من ستين عامًا.
علمًا أن الأسئلة – كما سبقت الإشارة – لم تكن مرتبة تاريخيًا، ولا يهمها سيرة حياة أحمد النعمان في تفاصيلها الدقيقة (الخاصة والعامة)، ولم يُعد لها الإعداد الجيد، الذي يليق باسم ودور ومكانة الأستاذ/ النعمان.
إننا أمام مذكرات/سيرة، لم تقل شيئًا عن وحول علاقته بابنه المفكر الشهيد، محمد "ألغوبة"، كيف كانت؟ وهل كان له موقف من انضمامه لحزب البعث؟
هناك مصادر تاريخية موثوقة عديدة تتحدث ليس عن تأثر محمد النعمان، بحزب البعث العربي الاشتراكي، بل وعن التحاقه بحزب البعث، منذ نهاية النصف الأول من الخمسينيات، تحت تأثير الدكتور السوري، فضل الله الزاقوت.
وحين أشرنا إلى بعض أحاديث الأستاذ النعمان المسجلة حول الحزبية وموقفه منها كما ورد في المذكرات، ليس لتسجيل موقف ضدي من الأحزاب، بل إشارة إلى حساسية بعض ما ورد في التسجيل الصوتي، من تعبيرات وأقوال لا تتسق مع منطق تفكير النعمان العام، والمنشور حول الحزبية، وحتى حول الموقف السياسي من مصر.
علمًا أن هناك بعض الحزبيين الكبار من الشباب القوميين واليساريين، الذين كنت على صلة بهم، يتحدثون عن دعم ومساندة الأستاذ النعمان لهم في فترة نشاطهم الطلابي/الحزبي، ومن هنا الارتباك والحساسية حول بعض ما تحتويه المقابلة/المذكرات المسجلة بالصوت حول بعض القضايا، ومنها الموقف من الحزبية، والموقف السياسي الحدي من مصر.
ومن هنا حديثنا عن الانتقائية، والمنحى التوجيهي الذي اعتمد في الحوار مع الأستاذ النعمان، من خلال الأسئلة "الموجهة".
كان بإمكان المحاور سحب أو جر الأستاذ النعمان إلى تفاصيل عديدة هامة، وإلى أسئلة كثيرة حيوية ذات عمق حياتي/إنساني، بل وحتى سياسي، تغني المذكرات/السيرة، على أنه ذهب إلى أهدافه المحددة المباشرة التي يرجو إثباتها وتثبيتها في صفحات المذكرات، وكأنها خلاصة سيرة الأستاذ النعمان السياسية.
إن أسئلة السيرة مرتبطة في الغالب بالتفاصيل الحياتية والإنسانية، وبالشغل الخاص على التفاصيل، وانتزاع أسئلة أكثر من داخل الإجابات.
فعلى سبيل المثال، الفترة من ميلاد الأستاذ وطفولته وتعليمه وزواجه، وانتقاله إلى زبيد، حتى خروجه إلى مصر، وعودته إلى صنعاء، وانقلاب 1948م، وحتى اعتقاله لسبع سنوات عجاف، لم تستغرق أكثر من (34) صفحة (انظر طبعة عام 2004م).
ناهيك عن أنه لم يكن هناك إعداد من خلال الأسئلة للخروج بسيرة ثقافية وسياسية وحياتية وإنسانية، لقامة بحجم ومكانة واسم أحمد محمد نعمان.
وبهذا المعنى، فالسيرة المسجلة بالصوت والموجّهة ظلمته، واختصرت معنى اسمه ودوره وتاريخه في صورة تداعيات قولية صوتية لم يتم حتى تفريغها وتسليمها إليه مرة واثنتين وثلاثًا، تعديلًا وإضافةً وحذفًا، ليضع عليها بصمته وتوقيعه النهائي، مع تنفيذ وصيته أن لا تُنشر إلا بعد وفاته.
ما الذي كان يمنع من فعل ذلك؟
أحمد النعمان هو صورة للأستاذ بالمفهوم الحديث/المعاصر؛ كل شغله الكتابة، لا يقدر أن يحيا دون الكتابة.
جاء كأستاذ نفيًا ونقضًا لصورة معلم الكُتّاب في القرية .. المعلم/الفقيه الذي يرسل أقواله/دروسه شفاهةً للطلاب، وهو حاملٌ عصاه، دون حاجة للكتابة، ولا علاقة له بالقلم والورقة والكتاب.
فالشفاهية، في صورة التسجيل الصوتي، غير الكتابة، وأحمد النعمان، هو أستاذ الكتابة.
الشفاهية هي مرحلة سابقة على الكتابة، والتعديل والحذف والإضافة هو ما قد يُقرّبها – أي التسجيل – من معنى الكتابة.
وبهذا المعنى، فإن المقابلة المطوّلة التي سُجّلت بصوت الأستاذ/ أحمد النعمان، تحتوي إلى ما يشير إلى المقابلة، وحتى إلى المقالة، وإلى معنى المذكرات في مواضع كثيرة، وإلى السيرة في مواضع هي أقل القليل.
وجميعها لم تستوف الاقتراب من الكثير من القضايا الحياتية/الإنسانية، ومن الأمور المتصلة بالمعنى العميق لحياة الأستاذ النعمان؛ الفكرية والسياسية والثقافية والوطنية.
والأهم أننا من خلال المذكرات/المقابلة المنشورة، لم نقرأ رأي الأستاذ النعمان نفسه، بانقلاب ١٩٤٨م، ولم نقرأ رأيه بحركة الأحرار، في تعارضاتها الذاتية والموضوعية.. الحركة التي قادها وترأسها في رحلة كفاحه السياسي، ومن هي حركة الأحرار في الفكر والممارسة من وجهة نظره؟
وتفاصيل الحياة داخل السجن في حجة، والعلاقات فيما بين الأحرار السجناء داخل السجن، والأهم الفارق بين تجربة السجن في حجة، وتجربة السجن الحربي في مصر، وهي في الغالب أسئلة تدخل ضمن اهتمامات المذكرات/السيرة الذاتية.
كما لم تتطرق الأسئلة لعلاقته في فترة إقامته في عدن، بأحزاب وقوى التحرر الوطني في جنوب البلاد، وموقف الأحرار من الاستعمار. فقد انحصر هم الأسئلة في التركيز على الفترة المحصورة بين العام ١٩٦٣م ـ ١٩٦٨م، والتي تركزت في نقد الوجود المصري، دون ذكر مساوٍ وموازنٍ للدور السعودي العدواني ضد ثورة اليمن، وضد شعب اليمن في الشمال – تحديدًا – وفي الجنوب، حيث تم خلالها تحميل القوات المصرية والقيادة المصرية كامل المسؤولية عن كل ما جرى في اليمن خلال الفترة المذكورة.
اختلط فيها الذاتي/الشخصي، بالموضوعي، والوطني بالعربي/القومي.
ظهرت فيها مصر في مواضع مختلفة في السيرة/المقابلة كدولة "استعمارية" و"محتلة وأجنبية"، لدرجة بدت معها السعودية – عنوان الرجعية العربية وعميلة الاستعمار منذ النشأة والميلاد – وكأنها طرفًا محايدًا، بل وكحملٍ وديعٍ، يريد السلام وإيقاف الحرب!
علمًا أن السعودية هي من رفضت دعوة السلام الأممية (الأمم المتحدة)، بعد زيارة "رالف بانش"، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لليمن، وعدم قبول استقباله والتعاون معه من قبل السعودية.
وهي من مبادرات السلام الأممية المبكرة.
فالملكية والإمامية، بدون الدور العدواني: السياسي والعسكري والمالي السعودي، غير قادرة على الحركة والفعل والاستمرار لأكثر من أسبوع أو شهر على الأكثر، لولا العدوانية والعدائية السياسية والعسكرية السعودية ضد ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م.
وهو ما جرى إهماله نهائيًا، أو القفز عليه في الأسئلة، حيث تحددت وتركزت مهمة المحاور في استدراج الأستاذ النعمان، للإجابة على أسئلة معينة ومحددة.
مع أن عدائية، وعدوانية، وكراهية السعودية، لثورة سبتمبر، ولليمنيين، وصلت حد أن السعودية كانت آخر دولة عربية، بل وأجنبية، تعترف بالثورة اليمنية في الشمال والجنوب، بعد أن حددت مسار توجه الثورة في الشمال كما تريده هي، وتحديدًا من بعد انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م، وعلى وجه الخصوص، من بعد أحداث 23/24 أغسطس 1968م، التي أوصلتنا لما يسمى زورًا بـ "المصالحة اليمنية/اليمنية"، وبواسطة السعودية، وهي قمة السخرية بالسياسة وبالواقع والتاريخ.
تجربتان عاشهما الأستاذ/ النعمان مع السجن.
الأولى: هي تجربة سجن الإمام أحمد في حجة، بعد فشل انقلاب ١٩٤٨م، ويرى أحد الباحثين أو "يعتقد أن تجربة السجن قد أتاحت للأستاذ فسحة كافية للتأمل في التجربة السياسية لحركة الأحرار وما آلت إليه هذه التجربة" (٨)، وهو في تقديري رأي صائب ومحق في استنتاجه ذلك، والأهم أنها تجربة تمكن من خلالها الأستاذ/ النعمان من التأسيس لمدرسة حديثة في التعليم "المدرسة المتوسطة" التي تخرج منها أسماء كبيرة فكريًا وأدبيًا وثقافيًا، حتى تمكنت القوى التقليدية من إغلاقها.
مدرسة تخرج منها أسماء فكرية وسياسية وثقافية وأدبية، لعبت أدوارًا هامة في تاريخ اليمن المعاصر، ومنهم على سبيل المثال: د. محمد علي الشهاري، د. عبدالعزيز المقالح، د. محمد عبدالملك المتوكل، ابن نائب الإمام على حجة في حينه ... إلخ.
وتبقى الحقيقة المرة هي أن تجربة السجن الحربي المصرية، القاسية على عقل ونفس النعمان، لم تحرمه من حرية القول والتفكير المستريح، بل وحرمته حتى "من حرية البول" حسب تعبيره، وهو دليل على أن تجربة السجن الحربي في مصر، لم تفتح أمامه أية فسحة للتأمل والتفكير بعقل هادئ، بل هي تجربة أشعلت في نفسه وعقله احتجاجًا حادًا، وحالة انفعالية صارخة، ليس على وضد تجربة السجن، بل وعلى كل الوجود المصري في اليمن، وهو ما عبّرت عنه فقرات عديدة في المذكرات.
والسبب كما أتصور، أنه لم يكن يتوقع مثل هذا الإجراء السياسي والأمني والمخابراتي ضده، "ظلم ذوي القربى"، وهو الرمز السياسي والوطني الكبير على رأس حركة الأحرار منذ انطلاقتها حتى انفلاشها السياسي والتنظيمي، بفعل صعود دور الحركة الطلابية في مصر.
حقًا، لقد وحّدت الحركة الطلابية في مصر اليمنيين من جميع مناطق اليمن، في إطارها السياسي/ الحزبي،، وفي نطاق خطاب فكري وسياسي متجاوز ومتقدم على كل ما كان سائدًا.
حركة طلابية توحد وتجمع، وحركة سياسية وطنية حزبية صاعدة تتوسع ويتعمق حضورها ـ تدريجيًا ـ في الشمال والجنوب، في الوقت الذي تتراجع القوى والأحزاب التقليدية، بما فيها حركة الأحرار.
تقديري، أن رموز حركة الأحرار – على التعارضات السياسية والذاتية، والانشقاقات فيما بينهم، وانفلاش تنظيمهم السياسي في صورة "الاتحاد اليمني" في القاهرة – وجدوا أنفسهم بعد قيام ثورة 26 سبتمبر، بحكم ثقافتهم السياسية الرفيعة، وخبرتهم التاريخية في السياسة والحياة، هم الأكثر قدرة على فهم بنية الواقع اليمني، وتفاصيله الدقيقة، أكثر من القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية الحديثة، خاصة بعد تخلي قادة "تنظيم الضباط الأحرار" عن دور تنظيمهم العسكري والسياسي القيادي في مجرى العملية الثورية السبتمبرية، وهو ما تم الإشارة إليه من قبلهم، في الحوار معهم، في الكتاب الصادر عن مركز الدراسات والبحوث، حول شهاداتهم عن ثورة ٢٦ سبتمبر.
بل إن العديد من "الضباط الأحرار" البارزين، إن لم أقل أغلبهم، كانوا يرون في بقايا الأحرار المثال والقدوة الذين يُركن إليهم، وهو ما عبّر عنه البعض في الكتاب المذكور( ٩) الصادر عن مركز الدراسات والبحوث حول ثورة سبتمبر 1962م.
إن ميزة الأحرار، وعلى رأسهم الأستاذ/ أحمد النعمان، والقاضي، عبدالرحمن الإرياني، أنهما كانا يُنصتان للواقع ويفكران فيه، ويوظفان الفكرة الأيديولوجية والسياسية لخدمة الواقع، بينما شباب الثورة (القوى الحديثة) كانوا يحاولون تكييف الواقع لصالح النظرية التي في أذهانهم.
وعلى صدقهم الواقعي والتاريخي ـ أي شباب الثورة ـ مع فكرة وقضية التغيير، فإن بقايا الأحرار كانوا شديدي الالتصاق والتوحد بالواقع من خلال أيديولوجيتهم التاريخية وخبرتهم وتجاربهم السياسية مع السلطة في المرحلة الإمامية. أي أنهم كانوا يعيشون حالة تكامل وتفاعل وانسجام بين المعرفة والمصلحة (مصلحتهم التاريخية)، بينما الشباب الثوري، والأحزاب الجديدة التقدمية، فضلًا عن انقسامهم على ذاتهم، كانوا يفكرون بالتغيير بانفصال عن الواقع، أي في حالة من التناقض بين معرفتهم، ومصلحتهم التاريخية، ومن هنا رومانسية التفكير بالواقع لديهم، ومن هنا ـ كذلك ـ سهولة حصارهم وضربهم، حتى تصفيتهم السياسية والجسدية.
صحيح أن قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، أعلن النهاية الأيديولوجية والتنظيمية لحركة الأحرار كحركة، ولكنهم بقوا وظلوا كأسماء سياسية وتاريخية، حاضرين وفاعلين في قلب المشهد السياسي اليمني، بفعل التشكيلة الاجتماعية/الاقتصادية المتداخلة والمعقدة القائمة، أي كرموز سياسية تاريخية، وليس كتنظيم، بعد الثورة، حتى تحوّلهم في لحظات معينة إلى حالة تعويق لمسار الثورة، بعد تحالفهم مع المشائخ والقبيلة، والضباط المشائخ.
عوامل عديدة هي التي ساهمت في تعويق مسار الثورة، منها السياسي الراهني، بسبب طبيعة التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية المركبة والمعقدة، ومنها السياسي التاريخي المستمر الحضور بقوة في جدل فعل الحاضر، أي في قلب الثورة، وهي واحدة من إشكالات ثورة 26 سبتمبر 1962م وحتى اليوم.
والتي يصدق عليها ما قاله الأستاذ الشاعر، عبدالله البردوني:
لماذا الذي كان ما زال يأتي لأن الذي سوف يأتي ذهب.
ولذلك نجد أنفسنا نعيش في الكثير من تفاصيل حياتنا اليومية، الخاصة والعامة، في الماضي، وكأنه لم يغادرنا قط.
الهوامش:
1. د. أحمد القصير: إصلاحيون وماركسيون رواد تنوير اليمن، ص 51.
2. د. أحمد القصير: التحديث في اليمن والتداخل بين الدولة والقبيلة، ط (1)، 2006م، دار العالم الثالث/القاهرة، ص 92-93.
3. كتاب مذكرات أحمد محمد نعمان (سيرة حياته الثقافية والسياسية)، مراجعة وتحرير د. علي محمد زيد، تقديم: فرانسوا بورغا، نادية ماريا الشيخ، ط (1)، 2003م، مكتبة مدبولي، ص 150.
4. محمد أحمد نعمان: الفكر والموقف، الأعمال الكاملة، جمعها وأعاد نشرها لطفي فؤاد أحمد محمد نعمان، ط (1)، أنظر إجابة الأستاذ أحمد محمد نعمان، مطابع التوجيه المعنوي للقوات المسلحة/صنعاء، ص 210-212.
5. مذكرات أحمد محمد نعمان، نفس المصدر، ص 152.
6. د. سالم علي سعيد: ندوة إحياء الذكرى المئوية لميلاد المفكر الأستاذ/ أحمد محمد نعمان، جامعة عدن، ص 102-103. (يتصرف لا يخل بالمعنى ولا بالسياق).
7. كان الأستاذ أحمد محمد نعمان، هو الرمز السياسي القائد لحركة الأحرار المعارضة، ومعه الشهيد محمد محمود الزبيري، وهي قوى اجتماعية وسياسية، لم تكن تمثل وتعكس قوى متجانسة ومتماسكة، ولا تمتلك رؤية فكرية وسياسية واحدة لمعنى الإصلاح. فالأستاذ أحمد النعمان، كرمز للمعارضة، من أصول فلاحية/مشيخية، تعتمد في عملها وإنتاجها الاقتصادي على الزراعة والتجارة، وشيوخ هذه المنطقة/المناطق، هم شيوخ أرض، حسب تعبير د. أحمد الصايدي، في مقابل وموازاة شيوخ القبائل المسلحة. رموز المعارضة الإصلاحية من أبناء المناطق الجنوبية، والوسطى، والتهائم، تقوم عصبيتهم على القرية والجهة والمنطقة، وهم ينتمون للمذهب الشافعي، وتركز همهم على قضية الإصلاح السياسي، في بعد المواطنة المتساوية، كقضية رئيسية، مع اشتراكهم مع أبناء المناطق الشمالية القبلية، في المطالبة المشتركة بمطلب الإصلاح السياسي للنظام الإمامي، الذي يستوعب ويستغرق الجميع في داخله، نموذجه الواضح والمعلن، وثيقة دستور حركة 1948م. ولذلك كان تركيز النعمان، والتجار الأحرار، على مطلب المواطنة المتساوية، في دعوتهم في قلب حركة الأحرار، من "الأنة الأولى"، إلى كتاب "اليمن المنكوبة المنهوبة"، إلى كتيب "مطالب الشعب" عام 1956م، باسمي النعمان والزبيري، حتى آخر كتابة ومطلب لهم في هذا الاتجاه.
انظر حول ذلك: قادري أحمد حيدر، كتاب: (المثقفون وحركة الأحرار الدستوريين عبدالله علي الحكيمي نموذجاً)، مركز الدراسات والبحوث اليمني، ط (1)، أبريل 2006م، ص 62، هامش رقم (23).
8. د. أحمد بن أحمد سالم: (هوامش على متن رؤية في سيرة وفكر أحمد نعمان)، ندوة إحياء الذكرى المئوية لميلاد الأستاذ المفكر أحمد محمد نعمان/ جامعة عدن، ص 61.
٩. كتاب: ثورة ٢٦ سبتمبر،١٩٦٢م، دراسات وشهادات للتاريخ.ط(٢), الكتاب الأول، مايو، ٢٠١٣م، مركز الدراسات والبحوث/ صنعاء، ص٣١٩. حيث يكتب الرحومي في إجابته التالي:" بعد تفجير الثورة، قررنا ترك المسؤولية في اتخاذ القرارات للقيادات التي كانت مرصودة في اذهاننا، والتي كان لها رصيد وطني تاريخي( السلال ـ الجائفي ـ الزبيري ـ النعمان) (…), ولم نكن نتوقع أن توجد خلافات بين الزعامات اليمنية،التي سلمناها قيادة الثورة والدولة، وقد أدت الخلافات والتناحرات والانقسامات بين هذه الزعامات إلى إضعاف مسار الثورة، نفس المصدر. ص٣١٩ـ ٣٢٠
#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحمد محمد نعمان، قراءة فكرية سياسية 3-4
-
أحمد محمد نعمان قراءة فكرية سياسية 2-4
-
الأستاذ محمد احمد نعمان بين المقابلة ولمذكرات والسيرة 1-4
-
الأستاذ أحمد محمد نعمان سيرة عطرة لم تكتب 1-4
-
ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3
-
ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 2-3
-
ناجي العلي، الوطن والفن
-
الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 2-2
-
الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 1-2
-
سوريا بين النظام العائلي الاستبدادي والمستقبل المحهول الخلقة
...
-
سوريا بين الاستبداد الأسدي العائلي وسوريا المستقبل المحهول
-
مصطلحا اليمين واليسار في تجربة الحزب في جنوب اليمن 2-2
-
اليمين واليسار في الحزب في تجربة جنوب اليمن
-
المقاومة الفلسطينية في الواقع والخطاب الاستعماري 2-2
-
المقاومة الفلسطينية في الواقع وفي الخطاب الإستشراقي 1-2
-
المقاومة الفلسطينية بين الببطولة والنقد الخائن 3-3 الحلقة ال
...
-
المقاومة الفلسطينية بين البطولة والنقد الخائن 1, 2 من 3
-
محمد المساح إنسان فوق العادة
-
الثورتان اليمنيتان سبتمبر وأكتوبر الحلقة الثانية 2-2
-
جدلية السياسي والتاريخي في الثورة اليمنية 1-2
المزيد.....
-
تامر المسحال : -إسرائيل مجرمة بحق الصحافة والصحافيين-
-
مدير الأخبار بالجزيرة الإنجليزية يعلق لـCNN على مقتل أنس الش
...
-
محمد صلاح يتساءل عن ظروف مقتل -بيليه الفلسطيني- والجيش الإسر
...
-
البلوغر المصري جمال صبري ومحتواه التقني المتنوع
-
ناغازاكي تحيي ذكرى الضحايا الكوريين بعد 80 عامًا من القصف ال
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: عقوبات محتملة على إسرائيل لـ-إنقاذ شعب
...
-
العراق: الفصام لدى الأطفال.. تحذير مبكر للأسر من أعراض تُنذِ
...
-
أهم الاختلافات في الجيل القادم من ساعة -آبل ووتش-
-
مصور الجزيرة بغزة يسرد تغطيته مجريات الحرب مع أنس الشريف
-
رسائل مؤثرة.. مراسلو الجزيرة نت في غزة يرثون زملاءهم الشهداء
...
المزيد.....
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|