أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد وردي - إشكاليات اصطلاحية أم قصور بالمعنى والوعي















المزيد.....


إشكاليات اصطلاحية أم قصور بالمعنى والوعي


محمد وردي

الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 18:23
المحور: قضايا ثقافية
    


إذا خلخلت العاصفة سياج الحظيرة يمكن إصلاحه، وإذا حاولت الذئاب افتراس ماشية الحظيرة فيمكن للحراس إنقاذها، ولكن إذا قرر الحراس هتك سياج الحظيرة والفتك بما فيها، فمن يحميها؟

حقيقة لا أتذكر أين قرأت هذه المقولة الحصيفة، ولم أعرف كيف وردت إلى ذهني؛ سوى أنني وجدتها تختزل بمنتهى الدقة والتمام، ما يحصل في أيامنا هذه للقطيع البشري، الذي لم يتخلخل سياج "إنسانيته" مرة واحدة فحسب، بل هُتك واستبيحت أستاره مرات ومرات في أزمنة التقدم والمدنية؛ بدءاً من حربين كونيتين في النصف الأول من القرن الماضي، قتلتا أكثر من مئة مليون شخص، منهم نحو ثلاثين مليون في جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، حسب أقل التقديرات الدولية (المرجع ويكيبيديا)، فجرى ترميمه بعد الحرب الثانية من خلال تشكيل سياج قانوني يحمي البشرية من القوة الوحشية الأصيلة في ذؤبان الطمع وغيلان الجشع، يتمثل بقيام هيئة الأمم المتحدة، وتشكيل محكمة العدل الدولية، ومن ثم المحكمة الجنائية الدولية. غير أن هذا السياج الإنساني (بالمعنى القانوني) بدا في الوقت الراهن بوجه منه (الأمم المتحدة) متهالكاً عاجزاً، وفي وجه آخر (المحكمتان) أصبح مطاطياً رطراطاً، حيث بات ما افترضناه سياجاً آمناً، وكأنه ظلال وهمية خادعة، وربما صار وعياً زائفاً، يتواطأ مع الوعي البائس على افتراس إنسانيتنا. ذلك لأن الهتك والاستباحة باتا يجريان "على عينك يا تاجر"، كما يقول المثل الشعبي. فمثلاً؛ عندما رفعت جنوب إفريقيا (ننكس رؤوسنا خجلاً من إنسانية حكومتها وشعبها) دعوى قضائية ضد إسرائيل لارتكابها جرائم حرب بحق الفلسطينيين، أعطت محكمة العدل الدولية فرصة للدولة الجانية من أجل تقديم دفاعها، حتى يوليو 2025، وعندما اعترضت تل أبيب بأن الوقت ليس كافياً، مددت محكمة العدل الفرصة حتى يناير 2026 بأريحية متناهية. ومع ذلك جرى توصيفها بمعايير بلاد العم سام أنها معادية للسامية، واعتبرتها اسرائيل داعمة لللإرهاب؛ رغم أنها وقعت على اتفاقياتها منذ إنشائها عام 1948. وعندما أصدرت المحكمة الجنائية حكماً بالقبض على هتلر الألفية الثالثة، بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، وجدنا كل حراس الحظيرة، أي الموقعين على "اتفاقية روما" يتخاذلون في تنفيذ الحكم، وبعضهم أعلن انسحاب دولته من المحكمة الجنائية جهاراً نهاراً، وللمزيد من النكاية والازدراء استقبل نتنياهو في بلاده، كما فعل رئيس المجر، والبعض الآخر فرض عقوبات على المحكمة الجنائية، مثلما فعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومعه الكونغرس ومجمل الإدارة الأميركية، على الرغم من أن جرائم الحرب الإنسانية والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة لا تزال تتواصل بوحشية همجية منقطعة النظير على مدى اثنين وعشرين شهراً ونيف (منذ الثامن من أكتوبر 2023 حتى تاريخه). وربما لن تتوقف في أمد قريب؛ لأن نازيي الألفية الثالثة، قادة حكومة إسرائيل العنصريين لا ينفك يؤكد أدناهم قبل أعلاهم؛ منذ بدء فصول المقتلة، أن الغاية والمُراد من الولوغ بالدم الفلسطيني أبعد من إمكانية فض اشتباك! وجدد ذلك بصراحة متناهية وبجاحة متمادية، وزير خارجية زعيمة "العالم الحر" مارك روبيو في حديث إلى "فوكس نيوز" في السابع والعشرين من يوليو الماضي: "... ألقوا أسلحتكم واستسلموا، تنتهي الحرب". وهكذا بان بسفور وفجور أن حق قانون القوة الغاشمة ألغى حق قوة القانون. ولكن لا يعرف نازيّوا هذا الزمان الأغبر، ولا هذا القوي الأعسر أن "شعب الجبارين"، كما سماهم ذات يوم الشهيد ياسر عرفات، شعب كرام، شعب لا يألف الاستسلام.. لا يعرف الركوع أو الخنوع للئام.. شعب الجبارين يعلمنا كل يوم؛ بل يعلّم العالم أجمع، كيف تكون نهاية الأحرار، واقفون بإباء، شامخون كما الأشجار. ومن أين لأبناء العار وأحفاد الشنار معرفة الحقيقة الساطعة بأنهم ذرّات غبار في محكمة الناس، تتطوّح هنيهات وتحط في مزابل التاريخ. لقد تناسى الضباع ما شاع في الأسماع، وتناقلته الريح إلى مختلف الأصقاع، أن محمود درويش الشاهد العائد، الناظر من ربوة في رام الله، الحاضر في الوجدان على كل شفة ولسان، يحفظ الأمانة ويرددها زخات حاديات، علامات ساطعات على جبين الزمان، تحملها الريح إلى عنان السماء أكاليل نور وعنفوان، وهالات بلاغة وفصاحة ورايات رطانة وملاحة: "منكُمُ السيف ومنّا دمنا، منكم الفولاذ والنار ومنا لحمنا، منكم دبابة أخرى ومنا حجر (...) فخذو حصتكم من دمنا وانصرفوا. وعلينا نحن أن نحرس ورد الشهداء، وعلينا نحن أن نحيا كما نحن نشاء".
نعم؛ قد لا تتوقف المقتلة في أمد قريب، ولربما تتواصل حتى الانتخابات الإسرائيلية المقبلة؛ ليضمن فرعون إسرائيل نجاته من عثراته المشينة وذِلاته المهينة.. نعم؛ قد تتواصل المقتلة بهذه الإيقاعات الدموية المرعبة، وبمعدلات قتل يومي تتراوح ما بين ثمانين إلى مئة وخمسيين ضحية، أكثر من نصفهم أطفال ونساء وعجزة. فضلاً عن ضحايا التجويع ومآلات الترويع على جيل كامل من ناشئة غزة الجريحة.
لا.. لن ننسى، لا.. لن نغفر، ولن نتسامح حتى مع من يتسامح مع نازيّي الألفية الثالثة. كما لن يتسامح بقايا أهل الضمير الحر من أحرار العالم؛ لأن نازيّي الألفية الثانية قاموا بأبشع وأشنع ما عُرف في أدبيات إسرائل تحت عنوان "الهولوكست"؛ لأن تلك المحرقة الوحشية النكراء بحق اليهود حصلت في غفلة من الزمان، بحيث لم تصل تفاصليها إلى العالم حتى مر عليها سنوات في بعض الأحيان. أما نازيوا هذا العصر فيقومون بما يقومون به على مرأى ومسمع العالم لحظة بلحظة.
ومع ذلك، كيف يمكن لنا أن نتسامح؛ إذا كان فولتير وهو من آباء التسامح في "العالم الحر"؛ بعظيم قدره الأخلاقي وجليل مقداره الإنساني، يُحرِّم التسامح على من يهدد السلم الأهلي؟ فكيف للتسامح أن يكون ممكناً مع من يلغ بالدماء الآدمية، ويتمادى بنهش الإنسان؛ بل باغتصاب الروح الإنسانية، وهتك حرمات النواميس الأخلاقية والدينية، ويتباهى بالقوة العمياء والأخلاقيات الشوهاء، ويتعالى بصفاقة رعناء وعنجيات خرقاء؟ كيف يمكن للضمير الحي أن يتسامح مع هؤلاء السفهاء؟

ولنعُد الآن إلى ما افترضناه أنه سياجنا الإنساني، أي محكمة العدل الدولية، التي ترى على امتداد البصر ونفاذ البصيرة، وبملء الأعيان والأذهان، أن وتائر الإبادة الجماعية المتصاعدة؛ بتواتر متزايد ما بين القتل المباشر والإفناء غير المباشر، أي بالحصار والتجويع، لا تحتمل التباطؤ أو التأجيل، فالاستباحة متواصلة على مدار الساعة.
ولكن المحكمة مع الأسف الشديد تأخذ وقتها في النظر والتأمل، وعلى راحتها في التحليل والتمطيط والتطويل؛ بذرائع إجرائية، تنفذ من ثُغرات لغوية إلى روح القانون، حيث تمسخ معنى العدالة، وتشوه مفهوم الحق وتزيّف قيم الحقوق! فأين الحراس الحقوقيون والقانونيون؟ أين الحراس الأخلاقيون والدينيون؟ أين الحراس الإنسانيون الذين يُفترض بهم أن يقوموا بحراسة "الإنسانية" في جوهر أو روح الحضارة، وكل ما تختزله حداثتنا المعاصرة من قيم، حسبناها نبيلة، وشيم ارتجيناها أن تكون أصيلة أثيلة؟

لقد كشفت الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية والتجويع والتطهير العرقي في غزة، التي ترتكبها دولة الفصل العنصري الوحيدة في هذا الزمان؛ وهن – إن لم نقل زيف - السياج الحقوقي والقانوني في أرقى تجلياته التنويرية، الأخلاقية والإنسانية، الذي بدا، بل أقنعنا على مدى عقود وكأنه ملاذ آمن للقطيع البشري، يحتمي به للدفاع عن مكتسباته القيمية أو الأخلاقية، وفي مقدمتها الدفاع عن حقوقه الإنسانية، أي الدفاع عن إنسانيته.. نعم؛ لقد فضحت مقتلة غزة المريعة (لا يجوز أن نسميها حرباً بأي حال من الأحوال، وهو تعبير من جملة الوعي البائس، يتردد على ألسنة الجميع، نخب وإعلام، إنما هي مقتلة تتمثل بعدوان دولة مدعومة أميركياً وأوروبياً وبتواطؤ عالمي مفضوح؛ على حركة تحرر وطني، أو بمعنى أدق على فصيل مقاوم من حركة تحرر وطني؛ سواء اختلفنا أو تفقنا على ما قام به) محاصر فلسطينياً (على مستوى السلطة الفلسطينية) وعربياً (على مستوى النظم والحكومات العربية)؛ قبل حصار الاحتلال الصهيوني الإحلالي؛ الممتد على نحو ثمانين عاماً. لذلك من الإهانة للذكاء البشري أن نسميها حرباً، وإنما هي مقتلة شنيعة فظيعة، فضحت أقبح وأبشع وجوه الحضارة الراهنة، حيث عاد الضمير الإنساني إلى غابات البدائية الهمجية ووحل التغول البربري الوحشي كما كان في الأزمنة الغابرة من تاريخ البشرية.

ولا يأخذن الوعي البائس أو عماء البصيرة وبراعة التدليس السياسي أو التضليل الإعلامي أحدٌ؛ إلى الاعتقاد بأن الأمر يقتصر على النُخب الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا، التي تتواطأ في السكوت والتغطية، لا بل في المشاركة بالسلاح والسياسة والاقتصاد في دعم كل ما يجري من مقتلة مهولة وفظائع جهولة ضد الفلسطينيين؛ بدوافع عنصرية استعلائية، عرقية ودينية، تتدثر باسم الدفاع عن الديمقراطية ضد الإرهابيين المتخلفين (كما هو حال الإدارات الأميركية سابقاً وراهناً)، أو بدوافع العهر السياسي (كما هو حال حكومات أوروبا)، ومنافقة اليمين المتطرف الصاعد على امتداد القارة، أو بخديعة المصالح القومية التي تقتضي التزلف للإدارة الأميركية، الشريك الفاعل والأقوى لدولة الفصل العنصري الصهيونية في كل ما تقوم به من جرائم إبادة.. لا؛ الأمر لا يقتصر على هذه النخب السياسية فقط، وإنما ينسحب أيضاً سقوط الضمير الإنساني في عفن التنوير ومزبلة الحداثة الراهنة (إلى حد كبير) على جميع النُخب الثقافية في المجتمعات الأوروبية والغربة عموماً عموماً؛ لكونها لا تزال عاجزة عن تحريك الشارع إلى المستوى الذي يضع حداً لنفاق وخداع الحكومات. ولا تُستثنى من هذا السقوط اللا أخلاقي المشين مجمل النخب في المجتمعات البشرية المعاصرة قاطبة، وفي مقدمتها عموم النخب في المجتمعات العربية والإسلامية التي تشهد في هذه المرحلة من المهانة والذِلة والخسّة والخزي والعار ما لم نشهده في تاريخنا الطويل؛ حتى في لحظات الانكسار أمام المغول والتتار.

وبالتالي؛ من صواب العقل ومعقول المنطق، أن يكون مصطلح الحضارة (بما كان يحيله من معنى في الوعي التلقائي إلى فرص التقدم وإمكانيات العيش الطيب وتحقيق السعادة، أو التحضر المدني والترقي في المعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية عموماً)؛ قد انتهى إلى غير رجعة؛ بحيث بات التنظير أو التفكير في مصطلح أو مفهوم الحضارة؛ يبدو وكأنه من ضروب العبث؛ لأنه على أقل تقدير لم يَعُد مجدياً على مستوى تمثلات المعنى في الذهن؛ بعد كل ما شاهدناه من فظائع وأهوال في غزة، عايشناها وتعايشنا معها؛ ببلادة حس أخلاقي لايمكن توصيفها بأي معنى من المعاني، إلا أنه إحياء لزمن البربريات البدائية أو الهمجيات الوحشية، وقبول تغوّل القوة، وكأنه من طبائع الأمور. وهو ما يجعلنا جميعاً (أقصد على مستوى البشرية جمعاء) شركاء بالمقتلة (إلى حد ما)، شركاء بالخذلان أو التواطؤ؛ لأن الأمر في أقل الدلالات يحيلنا إلى قبول الجميع الضمني لكل ما يجري في غزة من أهوال، وهي في أبسط تعبيراتها؛ استباحة للروح قبل أي شيء آخر (الروح التي يُفترض أنها معصومة؛ بمقتضى النواميس البشرية الكونية، الدينية والأخلاقية، السماوية والوضعية على حد سواء)، وامتهان للكرامة الإنسانية، حسبما نصَّت عليها القوانين وشرعة الحقوق والعهود والمواثيق الدولية، التي افترضناها سياجاً آمنا لآدميتنا. وهو ما يجعل ليس معنى الحضارة يتلاشى بداهة في الوعي أو العقل الذي يُفترض أنه يعقل الأشياء في معاقلها المعقولة، وسميناه العقل العارف الذي أنتج ما حسبناها الحضارة فحسب، وإنما أيضاً ينسحب الأمر على مصطلحات أخرى، منها: التنوير، الأنسنة، الحداثة.. وغيرها من المصطلحات التي باتت فضفاضة على المعنى في الأذهان قبل الأعيان؛ باعتبار الإدراك الحسي الأساس في وعي المعقولات.

التنوير والأنسنة

إن مصطلحي التنوير والأنسنة (بما يحيلان إليه في الوعي على سطح المعنى قبل مقتلة غزة) كانا يبدوان وكأنهما متقاربان (جدلياً) بالمفهوم والدلالة، من حيث أن الأول يفضي بالضرورة الموضوعية إلى الثاني. ذلك لأن التنوير من النور، أي اسم يحيل إلى فاعل؛ بمعنى أن التنوير غاية، والنور هو الفاعل، وبالتالي لا تنوير من دون النور. ما يعني أنه إرادة أو فعل عقلاني يتقصد التنوير معرفياً وأخلاقياً بالضرورة، أي أن الإنسان يكتشف - بفضيلة العقل - معنى ذاته وقيمة فاعليته أو غاية وجوده، وبالتالي يستضيء بنور العقل لفهم حقيقته الوجودية؛ سواء على مستوى أنسنة ذاته، من حيث الإضاءة على العتمات في تجاويف نفسه القصية أو الغائبة في تلافيف وعيه السرية في الغالب الأعم، أو على مستوى أنسنة الوجود، من حيث علاقاته المتناغمة مع الموجودات من حوله، ومدى حضوره الفاعل في الواقع أو في الوجود عموماً. ولكن المصطلحين باتا ينطويان على إحالات دلالية متباعدة؛ لأنهما انتهيا طردياً في الحداثة الراهنة إلى نتائج متناقضة تماماً، كما نشهد ذلك في كل لحظة من لحظات تاريخنا المعاصر.

إن مفهوم التنوير باعتباره وليد عصر النهضة الأوروبية (طبعاً غاب أو جرى تغييب التنوير الإسلامي عن حمولات المصطلح في الوعي الثقافي الجمعي غرباً وشرقاً، وهذا موضوع آخر)، إنما هو يحيل إلى الانتقال من عصر الظلام القروسطي إلى نور العقل أو العلم، وتكرس هذا المعنى بعد "الثورة الفرنسية" التي عرفت بأنها "ثورة الأنوار"؛ لأنها وضعت مبادئ الحرية والعدل والمساواة؛ باعتبارها مبادئ طبيعية يدركها العقل، وتختزل حقوق الإنسان الأصيلة في الطبيعة البشرية، إلا أنه في واقع الأمر، تبيّن أن المصطلح لم يكن بهذا المعنى المتسامي الذي يليق بالتنوير، من حيث الارتقاء بالإنسان (مطلق الإنسان شرقاً وغرباً)، وإنما كان انتهازياً خبيثاً، بل وحشياً؛ لأنه في الحقيقة بعيد غاية البعد عن "الأنسنة" في بعض وجوهه؛ بمعنى أنه كان بمثابة تنوير أو تمدين وأنسنة للغربيين، وهمجي وحشي على الآخرين، أي أنهم استعانوا بنور العقل وأدوات العلم لا ليتخلصوا من عتمتهم القروسطية فحسب؛ وإنما أيضاً ليشحذوا مخالبهم الحداثية وأسنانهم التنويرية (إذا صح التعبير) وغرزها بإنسانية الآخرين (المتخلفين) من خلال سيطرة استعمارية إحلالية طالت ظلماتها واستطالت منذ فجر النهضة الأوروبية؛ حتى حصدت (علاوة على ضحايا الحربين الكونيتين) ما بين مئة وخمسين إلى مئتي مليون إنسان في الأميركيتين وأستراليا وآسيا وإفريقيا. وتواصلت مع الأسف الشديد عملية "تمدين المتخلفين"، متدثرة حيناً بنظرية "النقاء" أو "الاصطغاء العرقي" الاستعمارية الأصيلة في الذهنية الغربية، وفي غالب الأحيان كانت سافرة لا تحتاج إلى غطاء عدوانيتها الاستعمارية. وفي كل الأحوال كان الوعي البائس يقدمها ببجاحة متناهية؛ باعتبارها من ميكانيزمات التقدم أو التنوير حتى الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين، اللتين تجلّتا عن أقبح وجوه التنوير وأبشعها قسوة ومرارة كما أسلفنا. ومع ذلك صدقنا أن الظلمات أو أعطاب التنوير قد انتهى زمنها، حيث برقت ملامح الأنسنة من خلال شرعة حقوق الإنسان وملحقاتها (حقوقٌ قانونيةٌ في المساواة أو العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحقوقٌ معنويةٌ في الكرامةِ والحريات، أيْ حرية التعبير والمعتقد والممارسة الثقافية). واقتنعت البشرية (وبخاصة أحرار العالم، وبوجه أخص أحرار الجنوب) أنها تخلصت للأبد من عصور البدائيات الهمجية أو البربريات الوحشية. ولكن التجربة البشرية أثبتت مرة أخرى (بعد مقتلة غزة)، أن قانون القوة أزاح قوة القانون، وقوة المصالح تقدمت على قوة الحق أو العدل في جوهر التنوير أو الأنسنة الغربية، فضلاً عن حقيقة أن الحداثة أو التنوير بمعنى التقدم العلمي لم يعُد نِعمة خالصة، وإنما بات في بعض وجوهه نِقمة خالصة على الإنسانية، وأنتهى الأمر إلى ما ما سميناه في كتابنا "من أين ندخل إلى التسامح" المفارقة الغريبة العجيبة: أن التزايد بوتائر الحداثة أو التنوير والتقدم التقني أو العلمي، تترافق طردياً مع تزايد وتائر البربرية والتوحش والعنف العدمي، ولن تكون مقتلة غزة أقل الدلالات على ما يجري، وإنما يتواصل ذلك منذ نحو أربعة عقود مضت، بدءاً من أفغانستان ومروراً بالعراق ووصولا إلى غزة المستباحة بشراً وحجراً، حيث تتوالى فصول استباحتها بشكل يومي على وسائط التواصل الاجتماعي والشاشات الفضائية من دون رفة جفن أو رمشة عين (باعتبار أن العين أول إشارة على التعاطف الإنساني)، فانكشفت أقبح وجوه الحضارة الغربية، وسَفَرَت سوءاتها في رابعة النهار، وعصفت بكل ما خلدنا إليه من قيم وشيم في مخادع التنوير والأنسنة. فالاستباحة المهولة أطاحت بما تبقى من أوهام وأحلام النُخَب الإنسانية قاطبة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المعاصر، مرحلة التحديات الكبرى حيث تواجه البشرية مقاتل في صميم إنسانيتها، نتيجة للحداثة العرجاء أو الحضارة الشوهاء.. مرحلة التجاذبات الأخطر في الوعي الإنساني، "التجاذب بين حفظ النَّفْسِ والمال، ومنطق العلم والسوق، واليقين والشك، والضعف والقوة"، كما يقول العلامة الشيخ عبدالله بن بيه.. مرحلة القلق واليأس والخوف والاغتراب والعدمية، فضلاً عن العنف والإرهاب والاحتراب.. مرحلة زعزعة المشتركات وهلهلة النواميس الإنسانية، في ظل تنامي ثنائيات طردية قاتلة، حيث تتزايد وتائر المدنية، في مقابل تزايد وتائر العنف والتوحش، وتتعاظم الثروات والغنى الفاحش، وفي المقابل تتزايد معدلات الفقر.. وهلم دواليك إلى مستقبل للبشرية لا يعلم به سوى خالقها.
إن الأنسنة والتنوير المزعومان كشفا سوءات الحضارة الراهنة، ومسخا كل معنى من معانيها كان جميلاً بالوعي؛ لأنهما في حقيقة الأمر الواقع شوَّها روح الإنسانية في عصر ما بعد الحداثة، حيث غابت القيم، واستعيض عنها بكماليات من دون رائحة، ورفاهية من دون روح، فسادَ العنف، وأصبحت الأنانية سيدة هذا العصر الجديد، وراحت التقنية تقود الإنسان في اتجاهات ليس بمقدور أحد أن يتوقع نهاياتها، وليس أقل الدلالات على تلك النهايات الكارثية المأساوية المحتملة، هو التمادي في العدوان على الطبيع، كما كان يحذر الحكماء منذ فجر الصناعة فحسب، وإنما أيضاً التمادي في الجرأة على الفتك والنهش في آدمية الإنسان.. التمادي في التعامي والصلف والغطرسة إلى حدود أين منها عنجهيات الفراعين (كما هو حال قادة دولة الفصل العنصري، ومن ورائهم سادة "العالم الحر" اليوم). وهو ما يقتضي إعادة النظر في الموضوع الإنساني؛ باعتبار أن المنظور الفلسفي وما ترتب عليه من فكر أو خلاصات عقلانية قام في الأصل على جوهر المعرفة بالذات الإنسانية؛ باعتبار الإنسان الفاعل الرئيس في هذا الوجود، وهو ما لخصته مقولة سقراط "اعرف نفسك". ومعرفة النفس فضلاً عن حقيقة شرطها الإنساني في التقدم والتمدن البشري، إنما هي أيضاً الطريق إلى معرفة الله. ولذلك هي معرفة مُقدّمة على معرفة الباري عز وجلّ؛ لأنها نتيجة عن معرفة النفس، حسب المأثور النبوي الشريف: "من عرف نفسه عرف ربه". ولكن الحقيقة الساطعة اليوم أن النظر الفلسفي بالموضوع الإنساني أو البحث في معرفة النفس أو الكشف عن الطبيعة البشرية انتهى إلى نكوص مهين للحكمة، ومشين للعقل، ومخزي للنواميس الإنسانية قاطبة. وهذا ما سنحاول أن نتحدث عنه في المقالات اللاحقة.



#محمد_وردي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نتيجة المقارنة بين ابن رشد وابن بيه
- العقلانية الإيمانية ما بين ابن رشد وابن بيه
- التنوير بالمحبة والإحسان في بناء الإنسان
- شيخ الإنسانيين.. التنوير بالحكمة والشريعة
- سردية السلم وحوار الثقافات في فكر الشيخ عبدالله بن بيه
- سردية السلم والتنوير والأنسنة والغواية العقلانية الإيمانية


المزيد.....




- شاهد كيف يسخر مسلسل الرسوم المتحركة -ساوث بارك- من وزيرة الأ ...
- سوريا: اقتحام قوات أمن ومرشدين ديينيين لحفلات زفاف يثير الجد ...
- قرار ماكرون فرض تأشيرة دخول على الدبلوماسيين الجزائريين يثير ...
- الخلاف يتعمّق في إسرائيل بشأن احتلال غزة.. زامير: مستمرون في ...
- -الظروف غير متوفرة للقاء زيلينسكي-.. بوتين يعلن أن الإمارات ...
- من الألم إلى الأمل.. أطفال جرحى من غزة يتلقون العلاج في الول ...
- إعلام رسمي إيراني: المعدم بتهمة التخابر مع إسرائيل كان عالما ...
- لماذا لا يستطيع عدد متزايد من الألمان العيش من عرق جبينهم؟
- قوارب تقل عائلات الرهائن في غزة تبحر قبالة سواحل القطاع للمط ...
- ماذا بعد رفض حزب الله قرار الحكومة اللبنانية تجريده من السلا ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد وردي - إشكاليات اصطلاحية أم قصور بالمعنى والوعي