|
-اتفاقيات أبراهيم- مع إسرائيل: تطبيع بلا مقابل
قاسم محمد داود
كاتب
(Qasim Mohamed Dawod)
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 16:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ توقيع "اتفاقيات إبراهيم" التي دشّنتها الإمارات والبحرين ثم تبعتهما المغرب والسودان، شهدت المنطقة تحولاً كبيراً في شكل العلاقات العربية – الإسرائيلية. ما كان محرّماً لعقود أصبح سياسة رسمية، بل موضع احتفاء دبلوماسي وإعلامي. لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: هل جاء هذا التطبيع بخطوة مقابل خطوة؟ أم أنه جرى "بلا مقابل" يخدم جوهر القضية الفلسطينية؟ الواقع يشير إلى أن هذه الاتفاقيات لم تكن مبنية على "الأرض مقابل السلام"، كما كان الحال في اتفاقية أوسلو أو حتى المبادرة العربية للسلام، بل على "السلام من أجل المصالح"، وربما "السلام المجاني" بالنسبة لإسرائيل. المدهش حقا أن منظمة التحرير الفلسطينية والتي تمثل وتتولى السلطة الفلسطينية الآن هي من بين الدول العربية التي اعترفت بإسرائيل وشرعية وجودها من دون مقابل اعتراف مجاني. مقابل ذلك رفضت إسرائيل الاعتراف بدولة فلسطينية أو شرعية وجود هذه الدولة. لماذا لا تسحب السلطة الفلسطينية الاعتراف بإسرائيل وتخرج من قائمة الاعتراف العربي المجاني في هذا التوقيت تحديداً؟! فإسرائيل لم تقدم خلالها أي تنازل ملموس: لم توقف الاستيطان، لم تعترف بدولة فلسطينية، لم تلتزم بإطار زمني للمفاوضات، ولم تُظهر حتى النية بذلك. في المقابل، سعت الدول المطبعة إلى تحقيق مصالح مباشرة: الإمارات والبحرين رأت في إسرائيل حليفاً أمنياً ضد إيران وشريكاً اقتصادياً وتكنولوجياً واعداً. السودان قايض الاعتراف بإسرائيل برفعه من قائمة الإرهاب الأميركية. المغرب حصل على اعتراف أميركي بسيادته على الصحراء الغربية، وهو مقابل سياسي داخلي بالغ الأهمية للرباط. كلها دوافع مفهومة ضمن منطق السيادة والمصالح الوطنية، لكن تبقى القضية الفلسطينية الخاسر الأكبر في هذا التوجه. فعلى مدى عقود، كانت الدول العربية تُجمِع – نظرياً على الأقل – على أن السلام مع إسرائيل لا يمكن أن يسبق نهاية الاحتلال وقيام دولة فلسطينية مستقلة. أما اليوم، فقد أصبح هذا المبدأ قابلاً للتجاوز، إن لم يكن طُوي فعلياً. قد يقول البعض إن الوقت قد حان لتجاوز "الرؤية الرومانسية" للقضية الفلسطينية، وإن الشعوب تبحث عن التنمية لا الشعارات. لكن الحقيقة أن التطبيع "بلا ثمن سياسي" من إسرائيل يشرعن الاحتلال ويكافئه، ويبعث برسالة معاكسة تماماً لما كان يطمح إليه العرب والفلسطينيون منذ مدريد وأوسلو حتى مبادرة بيروت 2002. ليس المطلوب قطع العلاقات مع إسرائيل أو إعلان الحرب، بل ربط أي علاقات معها بثمن سياسي يخدم فلسطين. فالعرب يملكون أوراق ضغط لو أرادوا استخدامها، لكن حين تُمنح الجوائز مجاناً، لا يعود هناك سبب لإسرائيل كي تراجع سلوكها أو تفكر بتقديم تنازلات. في النهاية، يبقى التطبيع قراراً سيادياً، لكن التاريخ سيسجل أن هذه الخطوة جرت بينما كانت الأرض تُقضم، والقدس تُهوّد، وغزة تُحاصر ثم تشن عليها حرب أبادة وتجويع لإجبار سكانها على الهجرة، دون أن يُنتزع أي التزام مقابل ذلك. وربما، هذا هو الثمن الحقيقي للتطبيع المجاني. في ظل تصاعد الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، واستمرار غياب رد عربي دبلوماسي فاعل، تبرز تساؤلات ملحّة حول أسباب غياب الدور الرسمي العربي في المحافل الدولية وضعف أدوات الضغط والتأثير. ويؤكد باحثون وأكاديميون أن هذا العجز ليس مؤقتًا أو عرضيًا، بل هو نتيجة طبيعية لغياب منظومة عربية جماعية تعمل برؤية استراتيجية موحّدة، مما أدى إلى تشتت المواقف، والرهانات الخاطئة، والارتباط المفرط بقوى دولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. لذلك يمكن طرح السؤال التالي هل أن ما يجري في غزة أحد نتائج اتفاقات (أبراهام)؟ منذ بداية الحرب في غزة وجدت عدة حكومات عربية نفسها في موقف معقد. فمن جانب توجبت عليها مراعاة التوجه الشعبي المساند غالباً للفلسطينيين. وبالمقابل فهي مضطرة لمراعاة سياساتها الخارجية والتزاماتها الديبلوماسية حيال مسألة التطبيع مع إسرائيل، أو حتى الحفاظ على نفس العلاقات التي كانت تربطها بها قبل هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر2023، والحرب التي تلته. نسلط هنا الضوء على تعامل هذه الحكومات مع الحرب في غزة على المستويين الداخلي والخارجي وتأثير الاتفاقات على ما يجري. سميت اتفاقيات أبراهام (إبراهيم) (Ibraham Accords) بهذا الاسم نسبة إلى النبي إبراهيم عليه السلام الذي تنتسب إليه الديانات السماوية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية. ويعتبر مهندسو هذه الاتفاقيات أنها بهذه التسمية تحيل إلى الأصل المشترك بين اليهود والمسلمين، وأن كليهما له ديانة تتبنى عبادة التوحيد التي نادى وجاء بها نبي الله إبراهيم عليه السلام. وتم توقيع اتفاقيات أبراهام يوم 15 سبتمبر/أيلول 2020 في البيت الأبيض، بين كلٍ من الإمارات والبحرين وإسرائيل، بوساطة أميركية. تتعلق هذه الاتفاقيات بـ "معاهدة للسلام والتطبيع الكامل للعلاقات الدبلوماسية بين الأطراف الموقعة مع إسرائيل، واتخاذ تدابير لمنع استخدام أراضي أي منهما لاستهداف الطرف الآخر". تم الترويج لاتفاقيات إبراهيم، وغيرها من أشكال التطبيع العربي الإسرائيلي التي تلت ذلك منذ ذلك الحين، على أنها اتفاقية سلام بين طرفي الصراع المتعارضين. ومع ذلك، لم يكن أي من الموقعين على الاتفاقيات في صراع مباشر مع إسرائيل. صحيح أنه بحكم كونها أعضاء في جامعة الدول العربية، فقد اتخذت الدول الموقعة مواقف بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ على سبيل المثال، كانت جميعها من الدول الموقعة على مبادرة السلام العربية لعام 2002، والتي أكدت على قيام الدولة الفلسطينية كهدف رئيسي. ومع ذلك، لم تكن أي من هذه الدول في حالة حرب مع إسرائيل على الإطلاق. علاوة على ذلك، وعلى عكس الدول المجاورة لإسرائيل، كانت مخاطر تورطها منخفضة نظرًا لبعدها الجغرافي. وبالتالي، فإن تأطير اتفاقيات إبراهيم على أنها "سلام" زاد من الاستقرار بين الموقعين هو أمر مضلل عمدًا، وتحديدًا لأنه لم يكن هناك تفاعل كبير بينهم في المقام الأول. إن تصوير اتفاقيات إبراهيم على أنها "سلام" من شأنهِ أن يعزز الاستقرار بين الموقعين عليها هو أمر مضلل بشكل متعمد. ولكي تكون الإجابة على السؤال السابق واضحة يمكن للمتابع العربي على الأقل أن يرى أن دول غربية وازنة بعضها كانت دولاً استعمارية مثل فرنسا وبريطانيا والبرتغال وكندا وغيرها قررت الاعتراف بالدولة الفلسطينية لمواجهة الاستهتار الإسرائيلي بالنظام الدولي ومحاولة فرض التطهير العرقي للفلسطينيين من غزة وتوزيعهم على العالم العربي خاصة الأردن ومصر. وهذا تغيير ديموغرافي حساس ينذر بتغيير ديموغرافي للمنطقة على نحو لا يعرف أحد إلى أين سيقود سياسياً في منطقة تتقاطع عندها مصالح دول وممرات دولية مختلفة لكثير من دول العالم. بدأت أوروبا تستشعر كما يبدو خطورة سياسات إسرائيل وإلى أين ستقود. لكن دول اتفاقيات التطبيع المجاني لم تحرك ساكناً حتى اللحظة. تلتزم الصمت انتظاراً لمرور العاصفة. إن كانت هناك عاصفة ستمر!! ويبدو أن قيادات إسرائيل أخذت اتفاقيات التطبيع المجاني مع بعض الدول العربية على أنها اتفاقيات السلام المطلوبة حقا من إسرائيل. ولذلك تتصرف هذه الدولة في سياساتها من هذا المنطلق. وهو ما يتفق مع إستراتيجية إسرائيل منذ سنة 1948 حتى اليوم. وهي إستراتيجية تقوم على رفض السلام، ورفض خيار دولة فلسطينية. الفلسطينيون وفقا لهذه الاستراتيجية عرب وليسواً فلسطينيين. لذلك يجب أن يهجروا إلى بعض الدول العربية لاستيعابهم هناك. وتبقى فلسطين يهودية لليهود فقط دون سواهم. عنصرية باذخة جاء بها اليهود من تاريخهم الأوروبي والعمل على فرضها بالعنف وقوة السلاح على المنطقة. لذلك إسرائيل ليست معنية بفكرة وخيارات السلام. معنية بشيء واحد فقط؛ إعادة تشكيل المنطقة سياساً، وإعادة صياغة تاريخها بما يتوافق مع أهداف اليهود بعد تهجيرهم ونقلهم من أوروبا إلى الشرق الأوسط. إحدى أبرز نتائج اتفاقيات إبراهيم أنّ إسرائيل تتبنى الآن سياسة تهجير سكان غزة وتوزيعهم بين بعض الدول العربية، كالأردن ومصر بشكل خاص. اليهود أوروبيون جاءوا من أوروبا واحتلوا فلسطين بدعم غربي لا حدود له وفشل عربي - فلسطيني باذخ. هؤلاء اليهود يريدون الآن في ظل اتفاقيات إبراهيم تهجير سكان عرب من ديارهم وتوزيعهم على دول عربية ليحل محلهم مستوطنون إسرائيليون. هل تعرف أن إسرائيل ليس لها حدود نهائية، معروفة وموثقة لدى الأمم المتحدة كما هو الحال مع بقية دول العالم؟! أضف هذا إلى حقيقة أن الدولة العبرية رفضت أيضا جميع مبادرات السلام العربية، وترفض التقدم بمبادرة سلام تمثل رؤيتها هي للسلام في المنطقة. كل هذا العبث بالتاريخ وبمصائر الشعوب يتم بتغطية أميركية مع السعي وبعدة وسائل لإدخال المزيد من الدول العربية والإسلامية في دائرة اتفاقيات إبراهيم. في عام 1977 ذهب الرئيس السادات إلى إسرائيل بحثا عن السلام في مغامرة لا سابقة لها في تاريخ الصراعات الدولية. خاطب الكنيست الإسرائيلي. لكن قادة الكيان رفضوا السلام. والتزمت واشنطن الصمت. بعد ذلك بدأت ظاهرة التطبيع المجاني لبعض الدول العربية. هل تقدم جميع الدول العربية التي طبعت مع إسرائيل تطبيعاً مجانياً بدون أي مقابل خاصة الدول غير المجاورة لإسرائيل على الانسحاب من كل ما ألزمت نفسها به بعدما أثبتت إسرائيل أنها لا تلزم نفسها إلا بمصالحها وأهدافها هي حصريا بغض النظر عن أي اتفاقات مع أي دولة عربية؟ لا يجوز بأي منطق سياسي أن تكون عشرون دولة هي الأضعف في موازين القوة في المنطقة وتصبح رهينة لسياسات دولة واحدة مارقة لا تقيم وزنا للحقوق والتوازنات ولا للسلام. الدعم الأميركي لهذه الدولة واضح لكنه لا يبرر ذلك. الأحدب كما يقول المثل يعرف كيف يتدبر أمره. فما بالك بعشرين دولة! تحظر أميركا السلاح النووي على كل دول المنطقة باستثناء إسرائيل. دولة مارقة على كل القوانين الدولية والإنسانية تسمح لها أميركا بامتلاك النووي منذ خمسينات القرن الماضي. لماذا تقبل الدول العربية بهذه السياسة العنصرية؟! إما أن يكون الحظر على الجميع أو لا يكون. كلام واحد وموقف واحد. تصور، انتهى الأمر بضحايا الهلوكوست أنهم باتوا يقتلون الأطفال أمام العالم فقط لأنهم عرب. أي عنصرية تكون هذه؟! وأي استهتار أن تجاهر دولة بقتل الأطفال! أميركا هي الدولة المسؤولة قبل غيرها عن هذا الاستهتار بأرواح الأطفال، وبالحس الإنساني. وتجاهر بذلك بغطاء أميركي. إسرائيل وفي ظل اتفاقيات إبراهيم تصعد سياساتها العدوانية تجاه كل العرب خاصة الشعب الفلسطيني الأعزل. لم تتوانى حتى عن منع الدواء والغذاء عن سكان غزة واستهداف هؤلاء السكان وقتل عشرات الآلاف منهم وهم في طوابير الحصول على مساعدات للغذاء. هكذا عيانا بيانا. حتى أن ترامب بكل سوءاته خجل من الاستهتار الإسرائيلي وطلب من مندوبه في غزة التأكد من وصول الغذاء إلى هناك حسب النيويورك تايمز. ودول التطبيع المجاني لم تتجرأ أن تعلن احتجاجها على سياسات إسرائيل المهينة لاتفاقيات إبراهيم بأطرافها العربية. والمذهل أن هذه الأطراف لم تراجع مواقفها، أو هكذا يبدو وتتساءل ماذا جنت هي والسلام في المنطقة من وراء اتفاقيات مجانية مع دولة تتزعمها قيادات عنصرية لا تحمل أي احترام لمن يتنازل لها وسياساتها المدمرة بدون مقابل!! كثيرا ما يخذل الإنسان نفسه دون أن يدرك ذلك. وحتى لو أدرك قد تأخذ منه المكابرة نصيبها ويبقى هو من دون نصيب. لله في خلقه شؤون!! عندما نحتكم إلى منطق تاريخ الصراعات الكبرى ونتائجه، كالصراع العربي الإسرائيلي، سيكون واضحا أن اتفاقيات إبراهيم كانت أبرز فضائح هذه القرن. خمس دول عربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، اعترفت بشرعية دولة إسرائيل وطبعت معها دون أي مقابل سياسي وازن أو غير وازن. اعتراف مجاني ليس لوجه الله وإنما لوجه "الإيباك"، اللوبي اليهودي في واشنطن. ربما أن هذا اللوبي سهل سياسات هذه الدول مع إدارة ترامب والحصول على اتفاقيات لم تعلن بعد. لكن النتيجة أن إسرائيل لم تراعي أطراف هذه الاتفاقيات وهي ترفض مبادرات السلام العربية، وترفض التقدم بمبادرة سلام تمثلها منذ تأسيسها سنة 1948. وترفض حل الدولتين، وترسيم حدودها النهائية... من الواضح أن الحديث هنا ليس موجها لدولة بعينها أو لمجموعة من الدول العربية دون سواها. هو حديث للدول العربية جميعها عن تحمل مسؤولياتها أمام هذا الواقع السياسي المأزوم. هو مسؤولية عربية لا تستثني أحدا. لا ينبغي أن يسمح لدولة مارقة ضد الحقوق والقوانين الإنسانية أن تضع العرب في كل مناسبة أمام مأزق كالذي نمر به الآن. الواقع السياسي في المنطقة تراكم عبر أكثر من سبعة عقود من الزمن. ولابد بالتالي من زياراته وتحديثه وفقا للتغيرات التي حصلت في المواقف والأهداف والإمكانيات. إن ما فعلته إسرائيل من جرائم ضد الإنسانية في غزة باعتراف الأمم المتحدة والمحاكم الدولية لا يجوز الصمت عليه. وعلى كل الدول العربية تحمل مسؤولياتها. إسرائيل تقتل الأطفال وهم يهربون بحثا عن الطعام. يهربون من الجوع فيتلقاهم الرصاص الإسرائيلي. هل هؤلاء من الجنس البشري؟! كل ذلك يحدث في غزة. الضعف العربي هو الذي سمح بهذه المهازل. بات علامة فاضحة على حجم اختلال توازنات القوة في المنطقة لصالح دولة يسيطر عليها قادة عنصريون كذبوا على العالم أنهم يبحثون عن السلام وهم رفضوا ويرفضون كل مبادرات السلام، وهي مبادرات عربية منذ سبعينات القرن الماضي!!! أذن لماذا بادرت أهم الدول الأوروبية فجأة للاعتراف بالدولة الفلسطينية ولم تتحرك دول التطبيع المجاني؟ هذه قصة طويلة تعود جذورها وبداياتها إلى نهاية الحرب العالميّة الثانية سنة 1945. وانتقال المسألة اليهودية حينها من أوروبا إلى الشرق الأوسط. والاتفاق حينها على نقل هؤلاء اليهود وهم ألمان أوربيون إلى المنطقة. الموقف الأوروبي الحالي رد فعل ضد خيارات إسرائيل بفرض حل الدولة الإسرائيلية الواحدة، وتهميش حل الدولتين. وهو خيار إسرائيلي قديم وفقا لاستراتيجية قديمة أيضا وليست معلنة. وذلك لفرض دولة إسرائيل الكبرى. ما يعني إعادة رسم خارطة المنطقة وفقا لمصالح وطموحات اليهود في المنطقة. وهذا يتعارض مع مصالح أوروبا. يجب أن نتذكر أن إسرائيل ترفض السلام مع العرب. رفضت أربع مبادرات سلام عربية. ولا تتقدم بأي مبادرة سلام منذ تأسيسها سنة 1948. لماذا؟ بالنسبة للإسرائيليين ليس هناك شيء اسمه فلسطين. قصة السلام في المنطقة حتى الآن أقرب للسباحين منها للتاريخ. لأن "السلام" في الشرق الأوسط حتى الآن لا يستحق أن يُسجّل في التاريخ كتحول حقيقي، لأنه أشبه بسلام "استعراضي" عائم، بلا جذور، بلا عدالة، ولا عمق.. إسرائيل ليست معنية بأي اتفاقيات. الأوروبيون يعرفون ذلك. من هنا تحركوا ليضعوا حدا لطموحات إسرائيل بفرض دولة إسرائيل الواحدة على الجميع في المنطقة والنظام الدولي. وهو ما يتعارض مع مصالح أوروبا في واحدة من أهم مناطق العالم. تصور أن إسرائيل رفضت أربع مبادرات سلام عربية، ورفضت مبادرة الرئيس المصري السادات سنة 1977. ولم تتقدم بمبادرة سلام واحدة طوال سبعة عقود. ذهب السادات رئيس أكبر وأقوى دولة عربية عام 1977 إلى القدس وليس تل أبيب في أضخم مبادرة سلام في تاريخ الصراعات الدولية. تحدث إلى الكنيست مادا يد مصر من أجل سلام عربي إسرائيلي شامل. رد عليه بيغن رئيس الحكومة حينها؛ أنت لا تمثل إلا مصر، وليس معك تفويض عربي أو فلسطيني للسلام. ليس أمامك إلا سلام مصري إسرائيلي، ومن شروطه تقسيم سيناء إلى ثلاث مناطق حماية لأمن إسرائيل. وانتهت حكاية السلام إسرائيليا هنا. ولم يستجد فيها شيئا حتى هذه اللحظة!! وها نحن اليوم ونتيجة لكل ذلك، غزة تشهد موجة التهجير الثالثة، وتكشف عناصر الإستراتيجية الإسرائيلية التي تعود لما قبل 1948. لقد كشفت غزة إستراتيجية إسرائيل أمام العالم. وهي الاستراتيجية التي عملت الدولة العبرية على تطبيقها بثبات لافت في المنطقة منذ أكثر من سبعين سنة، وقبل سنة النكبة 1948. ما يعزز أن غزة فعلت ذلك إدراك أوروبا أن ما وصلت إليه خطورة السياسة الإسرائيلية في غزة على السلام في المنطقة وفي العالم. لذلك سارعت فرنسا وبريطانيا أولا إلى إعلان قرارهما المفاجئ بنية الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر القادم لوقف الاندفاع الإسرائيلي. وتبعتها في ذلك دول أخرى مثل البرتغال وكندا. وهذا تحرك لافت وليس مسبوقاً لتبني موقف دولي وازن لخيار حل الدولتين وفرضه على جميع الأطراف. السؤال هنا ماهي هذه الإستراتيجية التي يمتد عمرها لأكثر من سبعين سنة؟ وما الذي سيحصل لها بعد غزة؟ ألم تنكشف إلا بعد سبعين سنة، وليس قبل ذلك؟ إستراتيجية إسرائيل: لقد ذكرت سابقاً أن إسرائيل لم تتقدم بمبادرة سلام واحدة منذ تأسيسها سنة 1948 حتى هذه اللحظة. في الوقت نفسه رفضت إسرائيل كل مبادرات السلام العربية التي تم تبنيها من قمم عربية منذ 1981 حتى قمة بيروت 2002. السؤال هنا لماذا ترفض إسرائيل أربع مبادرات سلام عربية ولا تقدم بديلا لذلك؟ ماذا يعني هذا؟ هذا ما كشفته أحداث غزة وأن رفض إسرائيل للسلام ليس موقفا عابرا، بل يمثل أحد أهم عناصر الإستراتيجية الإسرائيلية. لماذا ترفض إسرائيل السلام بشكل مستمر وثابت ومعلن على مدى أكثر من سبعين سنة متتالية؟ لأنه جزء من إستراتيجية أشمل وأكثر طموحا في المنطقة. أول عناصر هذه الاستراتيجية كان امتلاك إسرائيل السلاح النووي سنة 1951، بعد النكبة بحوالي ثلاث سنوات بدعم وغطاء أميركي. لم يلتفت أحد كما يبدو إلى علاقة امتلاك هذا السلاح ورفض خيار السلام الثابت في إسرائيل. العنصر الثاني في الإستراتيجية رفض إسرائيل ترسيم حدودها النهائية لأكثر من سبعين سنة ولحد الآن. العنصر الثالث تبني سياسة استيطان عنيفة وثابتة لتهجير الفلسطينيين في كل مناسبة. في سنة النكبة مثلا نفذت إسرائيل موجة التهجير الأولى. وفي هزيمة النكسة سنة 1967 فرضت موجة التهجير الثانية. وفي غزة بدأت موجة تهجير الفلسطينيين الثالثة إلى خارج غزة لاستكمال الاستيلاء على القطاع. تهجير سكان غزة إلى الأردن ومصر ومن يقبل من الدول العربية بتوطين هؤلاء المهجرين. وذلك بدعم سياسي ومالي معلن من إدارة ترامب. (أنظر حديثه أثناء استقباله عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني). هنا يأتي العنصر الرابع للإستراتيجية، وهو رفض خيارات السلام، ورفض التقدم بمبادرة سلام منذ أنشاءها. تصور أن إسرائيل رفضت أربع مبادرات سلام عربية، ورفضت مبادرة الرئيس المصري السادات سنة 1977. ولا تتقدم بمبادرة سلام واحدة طوال سبعة عقود. وفي الختام. في عقود سابقة كانت إسرائيل والولايات المتحدة وراءها، تدفعان العرب والفلسطينيين إلى إبرام اتفاقيات تطبيع تقوم على أساس مفهوم "الأرض مقابل السّلام"، أي أن "تتنازل" إسرائيل عن الأراضي التي احتلتها من مصر أو سورية أو لبنان، أو أجزاء من الأرض الفلسطينية في حالة السّلام مع الفلسطينيين، مقابل أن يوقع العرب اتفاقيات سلام معها. بحسب تلك المعادلة "السّلام" يمنحه العرب لإسرائيل مقابل أن "تمنحهم" أرضهم التي احتلتها. في تلك الأيام، التي أصبحت أيام "صمود تطبيعي" مقارنة بما يحدُث اليوم، كان المطبّعون يشعرون بالعار وفي موقع الدفاع. كيف يمكن قبول معادلة "سلام" تقوم على "منح" الدول العربية أراضيها التي احتلتها إسرائيل؟ وقد كُتب آنذاك وبعده نقد كثير حول ذلك التطبيع المهين. لم يخطُر ببال أحد يومها أن تلك المعادلة، ومع استمرار أنظمة التخاذل والخضوع، سوف تتحوّل إلى سقف عالٍ صار محطّ أمنيات في هذه الأيام التي انحدرت فيها الأمور إلى وضعٍ مُذهلٍ من الإذلال. "سلام" اليوم الذي تطرحه إسرائيل وأميركا على سورية ولبنان والعراق وإيران ودول الخليج، بل وكل دول المنطقة، يقوم على مفهوم جديد، "التطبيع مقابل الإذعان"، وفي جوهره انقلبت مسألة مَن يَمنَحُ ماذا؛ ففي المعادلة الجديدة إسرائيل هي التي تمنح "السّلام"، أو الاستسلام على نحوٍ أدقّ، وتفرض شكله وشروطه وطبيعته. وهي تتدلّل في "منحها" هذا السّلام لهذا الطرف العربي أو ذاك، وما تطلبه مقابل أن تُغدق على العرب "سلامها" هو الإذعان الكامل منهم.
#قاسم_محمد_داود (هاشتاغ)
Qasim_Mohamed_Dawod#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يتكرر مصير مملكة القدس في دولة إسرائيل؟
-
مشروعان متصادمان على حساب العرب: إيران وإسرائيل وصراع الهيمن
...
-
لا منتصر ولا مهزوم: كيف تدير واشنطن الصراع بين إيران وإسرائي
...
-
ازدواجية المعايير في النظر إلى البرامج النووية: إيران تُدان
...
-
البرلمان العراقي ومصلحة المواطن: تشريعات غائبة وتغيير مؤجل
-
انتخابات بلا ناخبين: أزمة ثقة في الديمقراطية العراقية
-
نحو مشروع عربي تكاملي لمواجهة الأطماع الصهيونية والرأسمالية
...
-
الأسس التوراتية لجرائم الصهيونية في غزة والضفة الغربية
-
حقائق عن الصراع العربي الإسرائيلي
-
العراق: التناقض الصارخ بين الثروة الوطنية والواقع المعيشي لل
...
-
ترحيل الغزيين ابتزاز سياسي يتماشى مع مخطط إسرائيلي
-
مشروع إيران.. الطموحات والعوائق
-
أزمة قوى اليسار العراقي
-
الحرب في سوريا جرح في الشرق الأوسط
-
إسرائيل نموذج للديمقراطية وحقوق الإنسان
-
ترامب العائد وإيران
-
الأسباب التي تدفع الغرب لدعم إسرائيل والانحياز إليها
-
إيران وزعامة العالم الإسلامي
-
ديمقراطية الجوهر وديمقراطية المظهر
-
عن السياسة والسياسيين
المزيد.....
-
الجدل يعود حول قانون الإيجار القديم بعد التصديق الرئاسي على
...
-
ورقة براك: هل تقايض واشنطن سلاح حزب الله بمستقبل لبنان؟
-
عشرات الضحايا إثر غرق قارب مهاجرين أفارقة قبالة سواحل اليمن
...
-
إيران تعتقل 3 مشتبهين في ارتباطهم بـ-مجاهدي خلق-
-
لبنان: هل الدولة قادرة على نزع سلاح حزب الله؟ وهل الحزب مستع
...
-
إصابة ضابط إسرائيلي جنوب قطاع غزة
-
طابور المساعدات انتهى بإعاقة أيمن ونقله لخيمة مهجورة بغزة
-
8 شهداء جراء التجويع بغزة ومقرر أممي يتهم إسرائيل بارتكاب إب
...
-
صدام علني بين الجيش الإسرائيلي وحكومة نتنياهو بشأن احتلال غز
...
-
هل فلسطين دولة؟ وماذا لو قالت الدول إنها كذلك؟
المزيد.....
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|