حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8416 - 2025 / 7 / 27 - 11:45
المحور:
قضايا ثقافية
أتساءل عن هذه العلاقة بين البلاغة العربية المدهشة التي ظهرت في رثاء المبدع زياد رحباني ، وبين عطالة الواقع العربي الحضاري؟
لا أعتقد أنها ملاحظة عابرة، بل ربما تشكل جوهر الأزمة الثقافية العربية المعاصرة. نحن أمة تجيد الكلام بإتقان مدهش، نرسم بالكلمات لوحات فنية رائعة، ونصيغ العبارات بحرفية تأسر القلوب والعقول. لكن عندما يأتي وقت العمل والفعل الحضاري، تتبدد هذه البلاغة وتتحول إلى صدى أجوف.
زياد الرحباني نفسه كان مثالاً حيًا على هذا التناقض: فنان عبقري قال كل ما يمكن أن يُقال، لكن مجتمعاتنا لم تمتلك القدرة أو الإرادة لترجمة هذا الفن إلى فعل. بقيت أعماله علامة إبداعية فارقة، في زمن لم يكن مؤهّلًا لمواكبتها.
ربما تكمن المشكلة في أننا نتعامل مع البلاغة كغاية في حد ذاتها، لا كوسيلة للتأثير والتغيير. نحن نجد العزاء في جمال الكلمة ورونق العبارة، فنكتفي بها عن الفعل الحقيقي. هذا الافتتان بالشكل على حساب المضمون، وبالقول على حساب الفعل، قد يكون أحد أسباب هذه العطالة الحضارية العربية.
أو لعلّ النمط السائد من البلاغة الأدبية المعاصرة التي باتت تُسوّق كمنتج لغوي سحري صالح لكل زمان ومكان، ولكل شخص وكل ظرف، كإعلانات مساحيق الغسيل، هي بيضة القبان التي تُبقي الموازين معلّقة في الهواء: لا تنقلب ولا تستقر، بل تدور في خطابة دائرية لا تُنجب إلا الرضى بالمأساة.
هذه البلاغة المعلقة لا تنحاز لقضية واضحة، ولا تتخذ موقفاً حاسماً، ولا تطرح حلولاً عملية. تكتفي بـ”فهم” كل شيء وتبرير كل شيء، دون أن تغير أي شيء. تصبح مثل الميزان الذي يهتز باستمرار دون أن يحسم وزن أي شيء.
ربما يكمن الحل في إعادة اكتشاف الوظيفة الأصلية للبلاغة العربية، والتمييز بين بلاغةٍ وظيفية تسعى إلى التأثير والتغيير، وبلاغةٍ تخديرية تُزيّن الواقع المؤلم وتُجنّبنا مواجهته. المطلوب هو تحرير البلاغة من دورانها الأبدي حول المأساة، وتحويلها إلى أداة انطلاق منها.
لكن حتى السخرية الذكية التي أتقنها زياد الرحباني لم تنجح في كسر هذه الدائرة، ربما لأنها بقيت حبيسة الثقافة ذاتها التي تنتقدها. فالمشكلة لا تُحلّ بتغيير نبرة الخطاب فقط، بل بوجود آليات اجتماعية وسياسية قادرة على تحويل الكلمة الفاعلة إلى فعل حضاريٍ مُؤثر.
#حسان_الجودي (هاشتاغ)
Hassan_Al_Joudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟