|
المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 16:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في كتابه «المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات» الذي صدرت طبعته الأولى عن دار الطليعة في بيروت عام 1979، وهو إصدار يتحدث عن فصل المسألة الطائفية عن المسألة الدينية، وربطها بالعلاقات الاجتماعية والسياسية ولاسيّما ببنية السّلطة، يذكر الباحث برهان غليون، ما حاولت أن أبرهنه في هذا الكتيب هو أن النزاعات الطائفية، ومن ورائها غياب اللحمة والمشاعر الوطنية أو ضعفها، لحساب العصبية الدينية أو المذهبية أو العشائرية، ما يقود إلى إضعاف الدولة وانقسامها وغياب الروح القومية، ليست ثمرة وجود هذه التعددية الدينية أو القبلية الموروثة عن تاريخ المجتمعات العربية الماضي، وإنما هو غياب الدولة التي تساوي بين جميع مواطنيها وتعاملهم كأعضاء رابطة سياسية واحدة ليس لأحد علامة فارقة أو امتياز على آخر، بسبب الدين أو العرق أو المذهب، وتقدم إليهم فرص التعبير الأرقى عن هويتهم كمواطنين تجمع بينهم رابطة أو عائلة وطنية واحدة، تؤكدها المشاركة العملية والفاعلة في القرارات التي تتعلق بحياتهم الجمعية، أي في السياسة. هذا هو مفهوم دولة الأمة التي تؤسس لرابطة جديدة لا تلغي الروابط الأهلية، دينية كانت أم إثنية، ولكنها تخلق حيزًا جديدًا للتفاعل والتواصل والتعاون وتبادل المصالح يخلق هو نفسه عاطفة قرابة ولحمة جديدة، هو مانسميه الوطنية.
في هذه الحالة، ليست التعددية الدينية هي السبب، بحسب رأيه، في إضعاف الدولة القومية أو الوطنية، وإنما غياب الطابع الوطني والقومي الحقيقي لهذه الدولة. وهو السبب الرئيس في تثبيت التمايزات الطائفية والعشائرية وأحيانًا في إعادة إحيائها وفي الاستثمار الرمزي والسياسي والاجتماعي المبالغ فيه، وتحويله إلى أدوات وأطر للصراع الاجتماعي والسياسي، أي إلى دول داخل الدولة وعصبيات خاصة تنافس العصبة القانونية العامة التي تجسّدها الدولة الأمة. فغياب الدولة الأمة يعني غياب دولة المواطنة التي تعني قبل كل شيء آخر ضمان الحياة الكريمة للجميع، والحرية لكل فرد، والمساواة الفعلية أمام القانون، والمشاركة العملية في القرار.
ما يعنينا هنا في هذا الإصدار، النزاع الطائفي، الذي تناوله في الفصل الثالث من الكتاب، وخلاصته، أن الخلط بين الدين والطائفة هو الذي يجعل من الصعب فهم الأحداث السياسية التي يمر بها العالم العربي. وهذا الخلط مقصود عادة لأن حياة الطائفية، أي الاستخدام السياسي للدين، قائمة عليه. وفي هذا الصدد، يشير إلى أن الطائفية هي الوليد غير الشرعي للدهرية، أي للانفصال الطبيعي للدين عن الدولة. إذ لو كانت الدولة دينية بالمعنى التقليدي للكلمة لفرضت الطائفة الكبرى دينها على غيرها، ولكانت مسألة الأقليات قد حُلّتْ مبدئيًا لا عمليًا. وخضوع الدين للسياسة هو الشرط الأول للدهرية منذ ميكيافيللي الذي أوصى أميره بألا ينسى أهمية هذا العامل في الصراع على السلطة. ذلك إن اخضاع الدين للسياسة يعني استخدام ما تبقى من العصبية الماضية في سبيل تحقيق أهداف مادية دنيوية لا علاقة لها بالدين، أو برفع سمعة هذا المذهب، أو ذاك، أو تأكيد سلطة الله هنا أو هناك. والحروب الدينية هي تلك التي تندلع، لا لتحقيق أهداف دنيوية مثل تغيير رئيس الدولة أو المجلس النيابي، ولكن لتحقيق سيادة دعوة دينية.
وهذا النوع من الحروب أو النزاعات ليس له وجود في العالم العربي اليوم، أو على الأقل لم يوجد حتى الآن، وهذا لا يعني أنه لن يوجد. للحروب الدينية بالمعنى الحرفي للكلمة، بالرغم من أهدافها المعلنة الدينية، أهدف اجتماعية وسياسية، تمس إلى حد عميق حاجات الناس ومشكلاتهم. وليس من الضروري أن نفكر أنها تتستر بستار الدين، لكنها يمكن فعلًا أن تجد في الأيديولوجيا الدينية، أو في نوع الأيديولوجيا الدينية شكل التعبير المثالي عن أهدافها وصيغة رمزية للتعبئة الجماعية القومية أو ما فوق القومية. والفتوحات الإسلامية كانت في الوقت ذاته فتوحات دينية مدفوعة بقوة الاعتقاد بالحقيقة الإلهية وضرورة نشرها والدفاع عنها، وفتوحات سياسية معبّرة عن عنف ضد الجماعة العربية الصاعدة للنفوذ الأجنبي المتاخم لها من ثلاث جهات: الإمبراطورية الفارسية، والبيزنطية، والحبشية، وحماستها للوحدة والتوسّع وتأكيد الذات ضد الغير. كما كانت فتوحات اجتماعية تصب في إطار إعادة تعديل النظام الزراعي المتهاوي نحو العبودية والتفسخ الموروث عن الإمبراطوريات السابقة، بتدعيم من سلطة الدولة، وتأكيد هيبة القانون والشريعة، وإعادة تنظيم الإدارة ومرافق التجارة والمواصلات العامة، وتحقيق القاعدة العدالية، الضرورية لكل اجتماع بشري.
وفي تشخيصه لهذه المسألة يرى أن التعبير الديني للحركات السياسية غالبًا ما يأتي ليعكس اتساع الحلف الاجتماعي الذي يُميّز الحركات الكبرى المتعددة الأهداف والمنذورة لقلب موازين تاريخية عُظمى. فالانتماء إلى دين يتجاوز الانتماء المحلي إلى عائلة أو عشيرة أو قوم، والانتماء الاجتماعي إلى طبقة، والانتماء السياسي إلى حلف أو حزب، ويعلن بذلك منذ البدء طبيعة الأهداف التي يريد تحقيقها، ونوعية وحجم الانقلابات التاريخي الذي يريد أن يحدثه. إن فكرة الحرية تبدو، وفق وجهة نظره، كشعار شديد الغموض ومعناه غير جلي. ففي الشرق كما في الغرب، يمتشق القمع حِرابًا ملوّنة بدم الحرية، فمنها السياسة، ومنها الاقتصادية، ومنها الفكرية. والحرية التي لم تعد تعني شيئًا كثيرًا اليوم على صعيد السياسة اليومية للأنظمة هي التي يسمح بذكرها كل نظام ويستمد شرعيته منها. كذلك كان الدين، كمنبع للقيم الإنسانية والأخلاقية التي لا يمكن سلطة أن تحظى بالشرعية من دون التقرب منها.
وبقدر ما تعكس فترة ظهور «الأديان» توسع الحضارة وتقدمها وانطلاقها بانطلاق هذه الاندفاعه المعنوية المجردة والصافية في مثيلاتها، تعكس الطائفية تدهور الحضارة وتترجم انحطاط الأخلاق واندثار المعنى. فهنا لا يظهر الصراع على المصالح في شكله الأكثر جزئية ومادية، ولكنه يحاول أكثر من ذلك أن يستخدم التراث المثالي في سبيل تحقيق أهدافه الخاصة. إن الطائفية هي التعبير السياسي عن المجتمع العصبوي الذي يعاني نقص الاندماج الذاتي والانصهار، حيث تعيش الجماعات المختلفة بجوار بعضها البعض، لكنها تظل ضعيفة التبادل والتواصل في ما بينها. وهي تشكل إلى حدٍ ما الطريقة الخاصة بالتواصل الذي هو في حد ذاته نوع من التواصل الصراعي، وفي هذا المجتمع المتحلل والفاقد، ليس فقط للصعيد الموحد السياسي أو الأيديولوجي أو الاقتصادي، ولكن أيضًا لكل إجماع على أي مستوى من مستويات البنية الاجتماعية.
جرت العادة على وصف المجتمع التقليدي بالمجتمع العصبوي بسبب بساطة تركيب بُنياته وضعف انصهاره الذاتي. وغالبًا ما وصف المجتمع العصري الصناعي بالمجتمع المركب الشديد التكامل والانصهار، حيث تزداد شبكة العلاقات الاجتماعية في الشدة والعمق والتعدد. وهذا ناجم عن الدراسات الغربية التي تأخذ المجتمع الغربي الأوروبي كنموذج للدراسة، فتقارن بين مجتمع القرون الوسطى الزراعي والمجتمع الصناعي الراهن. والحقيقة أن المجتمع الزراعي مثل المجتمع الصناعي يمكن أن يكون عصبويًا، كما يمكن أن يكون شديد التعقيد والترابط. المجتمع العربي الراهن هو النموذج المثالي للمجتمع الفاقد لصعيد موحد وممركز، وهذا التكوين العصبوي يعكس بشكل عام تدهور العلاقات الاجتماعية المدنية الذي يمكن ان يعود إلى انحطاط الإنتاج الاجتماعي لسبب تاريخي ما، وإلى تدهور السلطة المركزية أو تحلل الإيديولوجيا الموحدة الاجتماعية. وهذا ما يحدث للمجتمع العربي نتيجة دخوله الدورة العالمية منذ بداية تاريخه الحديث.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاتحاد الأوروبي وحلم الجيش الموحّد
-
ترامب وسياسة «الغموض الاستراتيجي»
-
مكونات العقل العربي
-
القوى المعرقلة لنظام السوق العالمي
-
د. أميرة حلمي مطر.. رائدة في الفلسفة في مصر والعالم العربي
-
عن التديُّن والسياسة
-
الأرجنتين تحت حكم ميلي
-
الترجمة في الحضارة العربية الإسلامية
-
المرأة والخطاب الطائفي
-
عالم اقتصاد أمريكي: سياسة ترامب أدخلت أمريكا في حروب تجارية
...
-
محمد أركون وأهمية نقد الموروث
-
لم أشعر يومًا بخوف على مستقبل الولايات المتحدة كما أشعر الآن
-
عن معرض «إعادة تدوير الأشياء»
-
آباي كونانباييف.. علامة مشرقة في تاريخ كازاخستان
-
عصر الأنوار
-
تهجير العرب من فلسطين فكرة صهيونية قديمة
-
الهوية وحرّية الفكر والعمل
-
اقتصاد أوكرانيا: بين خسائر الحرب والنهب
-
الناتو وزيادة الإنفاق الدفاعي
-
فاطمة حدّاد الشامخ.. أبرز القامات التونسية في مجال الفلسفة
المزيد.....
-
من مصر والأردن.. قوافل مساعدات تضم 160 شاحنة تتجه نحو غزة
-
وسط تدابير أمنية مشددة.. ترامب يلعب الغولف في ملعبه الخاص با
...
-
بروكسل وواشنطن تسعيان لاتفاق جمركي قبل انتهاء المهلة
-
ناشطون: المساعدات المفاجئة لغزة محاولة لتجميل صورة إسرائيل ت
...
-
مستوطنون يقتحمون الأقصى والاحتلال يشرّد 25 شخصا بعد هدم مناز
...
-
تأجيل محاكمة كابيلا وسط توترات وتصعيد ميداني شرقي الكونغو
-
مراسل الجزيرة نت: هذه حكايتي مع الجوع في غزة
-
إعلام إسرائيلي: حرب غزة أوقفت ميناء إيلات وأضرت بالبحث العلم
...
-
ترامب يُحذر تايلاند وكمبوديا من وقف التعامل التجاري معهما..
...
-
تأخرت رحلتك؟ إليك استراتيجيات ذكية للاستفادة من وقتك في المط
...
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|