فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8352 - 2025 / 5 / 24 - 13:27
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
الطائفية فعل تفتيتي، لا يتوقف عن ممارسة فعاليته عند نقطة محددة. قد تبدأ من نقطة ما، لكنها تنفجر ما لم يتم محاصرتها بأسرع وسيلة. حين انفجرت في أوروبا الفاشية والنازية كادت تذهب بكل شيء لو لا التصدي العام المعروف في الحرب العالمية الثانية.
ولعله من المفيد أن نتوقف عند بعض الأفكار التي تحدث عنها الباحث والأكاديمي الراحل نصر حامد أبو زيد، والتي نشرت في أحد أعداد مجلة «مواقف» اللبنانية.
ولتفصيل ذلك يقول: لسنا هنا بصدد تحديد نقطة البداية في عالمنا العربي: هل هي من الداخل أم من الخارج، فالواقع أن نقاط الانفتاح والتلاقي عديدة. المهم أن هذه الطائفية التي تولدت في تجلياتها الأولى من أزمة الهزيمة عام 1967 تمارس تفتيتها لكل ما هو بناء ونظام، حتى تصل إلى الفرد ذاته فتشطره. وكما تشطر الذرة فينفصل الإلكترون عن النواة مولدًا طاقة مرعبة إذا خرجت عن حدود التحكم، فإن الطائفية تشطر الإنسان إلى نصفين إلى ذكر وأنثى في علاقة يهيمن فيها الذكر على الأنثى هيمنة تامة مطلقة.
شيء من هذا القبيل حدث بعد الهزيمة مباشرة، وظل يتنامى حتى وصلنا إلى انشطار الإنسان والفرد. في البداية ارتدّت الجماعة إلى أصولها وجذورها، إلى «التراث» الذي مثل للبعض حماية من عراء الهزيمة، وكان عند البعض الآخر موضوعًا للتأمل والدراسة والتساؤل. ومع تنامي فعل التفتيت الطائفي انحسر كل تيار في خندق خطاب مغلق لا يعترف بالخطاب الآخر ولا يدخل معه في حوار مباشر. وهكذا يمكن القول - مع بعض التبسيط الضروري والمخلّ في نفس الوقت - إنه صار هناك خندقان فكريان: الأصولية الإسلامية بكل تياراتها واتجاهاتها، والاتجاهات العلمانية بمختلف شرائحها وتدرجاتها وظلالها. مضت المذهبية الأصولية - التي نهتم بها هنا بصفة أساسية - في خوض معاركها ضد خصمها اللدود من جانبين: الجانب الأول يتمثل في تشويه الأطر المرجعية الفكرية والثقافية الخارجية - فيما تتصور - لهذا الخصم، وهذا أمر قام به في مصر مثلاً خطاب «سيد قطب»، وهو خطاب ينتج - كما هو معروف - من خطاب مفكر أصولي آخر هو «أبو الأعلى المودودي». وهذا الخطاب الأخير يعد ثمرة بين المسلمين والهندوس، وهي الفتنة التي دفع المناضل الهندي «غاندي» حياته في أتونها.
لم يشغل سيد قطب نفسه كثيرًا بقضية المرأة إلا من جانب «الجنس» و«العرب» و«الاختلاط» الذي تسمح به الحياة الأوروبية بين الجنسين. كان نقده موجهًا أساسًا لنمط الحياة الأوروبية التي حدث فيها «انفصام الفكر» بين الدين والحياة، فابتعدت عن منهج «الله» وخضعت لمنهج «البشر». من هنا نقده للفرويدية التي وضعها في خانة «وحل الجنس»، كما اشتد نقده للداروينية «وحل الحيوان» التي تأسس عليها التفسير الجنسي للنشاط الإنساني. ولم يكن نقده للماركسية أقل من نقده لكل من الداروينية والفرويدية.
لم يكن نقد أوروبا في خطاب «قطب» - في أحد جوانبه ولعله أهمها - إلا نقدًا للخطاب «العلماني» العربي والمصري بشكل خاص في أصوله وجذوره الأوروبية. وهذا الجانب الأول في محاولة الأصولية نفي نقيضها. ويتمثل الجانب الثاني في نقد الخطاب النهضوي الغربي بصفة عامة، والمصري بصفة خاصة، بوصفه «التراث» التاريخي للخطاب العلمانى المعاصر. والمقصود بالخطاب النهضوي ذلك الخطاب الممتد من «تخليص الإبريز» لرفاعة الطهطاوي حتى خطاب زكي نجيب محمود في وضعيته المنطقية.
هذا النقد للتراث العلماني قام به سيد قطب بدءًا من «صالح سرية» - جماعة التكفير والهجرة - إلى الشيخ عمر عبدالرحمن وأتباعه. هذا النقد يعتمد مقولات سيد قطب عن «الحاكمية» وعن «جاهلية» النظم القائمة في العالم كله، لأنها تعتمد على حاكمية البشر بدلاً من حاكمية الله. من هنا لا يتردد في أن يصف بالكفر والإلحاد كل خطاب النهضة الذي ينتمي إليه طه حسين وسلامة موسى وعلي عبدالرازق. ويتساءل بعضهم بمناسبة إعادة نشر كتب التنوير في الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت يافطة «المواجهة» بأسعار زهيدة وفي طبعات شعبية: «إذا أردتم التنوير حقًا لماذا لم تنشروا مع هذه الكتب المؤلفات التي ردت عليها ودحضتها؟... لماذا لم تنشروا رد الشهيد سيد قطب على طه حسين في نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر؟».هذا الخطاب السجالي في جوهره يقوم على عملية «سلب» للتراث التاريخي لنقيضه، قام بعملية تشويه للأصول الأوروبية المفترضة للخطاب الآخير. وليست عملية «السلب» هذه متخارجة من عملية التفتيت الطائفي الداخلية والخارجية، وهي عملية قامت أولًا بإنتاج خطاب طائفي نقيضًا للخطاب العلماني الذي أقرّ مبدأ «الدين لله والوطن للجميع» إبان النضال الاجتماعي والسياسي ضد الاستعمار والإقطاع الذي تجلى في ثورة 1919.
من هنا ثارت مشكلة الأقليات الدينية فيما عرف بأحداث «الفتنة الطائفية» في مصر في بداية الثمانينيات. وتزامن مع الخطاب الطائفي ضد الأقليات المسيحية خطاب طائفي ضد المرأة، مناديًا بعودتها للمنزل والحجاب والتخلي عن كل مكتسباتها التي حققتها في مجال التعليم محدد بمجالات بعينها تتصل بطبيعتها الأنثوية. هكذا بدأ الانشطار على مستوى المجتمع وانسرب إلى مستوى الفرد فانشطر الإنسان إلى ذكر وأنثى، العلاقة الوحيدة بينهما هي العلاقة التي تحدد بغاية التناسل وحفظ النوع التي تستهدف قيام المجتمع الذي يحكمه الله وليس البشر.
حين تبلور مبدأ «الدين لله والوطن للجميع» كان يتبلور لحماية المجتمع من طائفية تهدده من الخارج. كان ذلك حين رفض المسلمون والمسيحيون معًا في المجتمع المصري ما أعلنه الاستعمار البريطاني من حق «الأقليات» نفس المبدأ الذي رسخ به الاستعمار ركائز الطائفية في شبه القارة الهندية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن أحدث ثورة 1919 هي ذاتها التي شهدت بدايات سفور المرأة بعد أن شاركت الرجل في التظاهرة والهتاف ضد الاستعمار، وبعد أن واجهت معه رصاص القوات البريطانية. كانت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة قد أحدثت أثرها رغم الهجوم الذي تعرّض له هو وكتابه من جانب المحافظين والرافضين لرياح التغيير.
هذا الترابط بين «الوحدة الوطنية» و«حرية المرأة» يؤكد البُعد الطائفي لمسألة المرأة في الخطاب الإسلامي المعاصر على الأقل. والهجوم على خطاب النهضة ومحاولة النيل منه على جميع المستويات والأصعدة وجد في خطابه عن المرأة مجالًا للتشكيك والإثارة والتشهير. وعلينا ألا ننسى أن الجذر المغذّي لحملة الهجوم المزدوجة المشار إليها نجده في أرض الواقع المأزوم المهزوم، وإن كانت المسألة تبدو على السطح مسألة نزاع بين خطابين يسعى كل منهما لمحاولة الخروج من الوضع المأزوم.
وهكذ ينتهي أبوزيد إلى أن الفارق بين خطاب النهضة وخطاب الإسلام المعاصر هو الفارق بين الجمع والتشتيت، بين مفهوم «الوطن» المعتمد على وحدة الأرض والتاريخ والمصالح المشتركة وبين مفهوم» القبيلة «المعتمد على وحده الدم، أو مفهوم «الدين» المعتمد على وحدة المعتقد. هذا على مستوى القضايا الوطنية المحلية، أما على مستوى العلاقة بالآخر الأوروبي فخطاب النهضة خطاب مفتوح يرى في الآخر في تقدمه وعقلانيته كما يدرك أطماعه الاقتصادية والسياسية، لذلك يتعلم منه لكي يحاربه بنفس السلاح. الخطاب الإسلامي يقف من أوروبا موقف «العداء» المطلق، وإن لم يمنع العداء ممثليه السياسيين من الاعتماد على استيراد التكنولوجيا واستثمار الأموال في بنوك الغرب. وهذا الخطاب يعتصم في المقابل بالتراث الذي صار رداء «الهوية» و«الخصوصية» التي تعني التمايز. وموقف خطاب النهضة من التراث هو موقف التأمل والتساؤل والفحص ورفض التماهي معه، أو مع أحد تياراته واتجاهاته بعد إدراك تعدديته وتاريخيته.
ويمكن أن نلمس تلك الفروق من خلال خطاب النهضة حول فضية المرأة، حيث نجد الخطاب مشدودًا إلى بعدين لا يفارقان بنيته: البعد الأول هو وطأة التطور متمثلاً في الاحتكاك المباشر بالمجتمعات الأوروبية المتقدمة، سواء عن طريق التعرّف على منجزاتها من بيئتها الأصلية، والتعرّف على سلوك أهلها وعوائدهم في بلادهم، في الاحتكاك بهم داخل أقطار الوطن العربي. أما البعد الثاني فهو بُعد التقاليد والتراث متمثلاً في مبادئ الإسلام وتشريعاته. يشير قاسم أمين إلى البعد الأول - الاختلاط وما أحدثه من تأثير - على أساس أنه واقع لا بد من مواجهته بدلاً من الهروب منه وتجاهله. وهو واقع له إيجابياته وسلبياته، فعلينا معالجة السلبيات لا التضحية بالإيجابيات. وفي هذا التمييز بين السلبيات والإيجابيات في ما طرأ على وضع المرأة من سفور واختلاط بالرجال يكاد قاسم أمين يكرر أطروحات رفاعة الطهطاوي عن المرأة الباريسية التي لم يمنعه إعجابه بجسارتها وخفة حركتها ونشاطها من ازدراء مسألة ملامستها للرجال في حركات الرقص.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟