فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 18:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يمكن تعريف التدين كمجموعة الشعائر التي يقوم بها منتمٍ إلى ديانة ما، سواء عن قناعة أو اقتداء فقط بالجماعة التي ينتمي إليها.
في مقال له، نشر في مجلة «الأزمنة الحديثة» المغربية، التي تعنى بشؤون الفكر والثقافة، يقول عالم الاجتماع عبدالجليل حليم: إذا كان الدين يقتضي الإيمان بمجموعة من المسلمات والمعتقدات التي لا تقبل النقاش، فالتدين، لا يستلزم دائمًا ذلك الإيمان، إذ يمكن أن يكون مجرد سلوك يفرضه الوسط الاجتماعي
على الفرد طالما لم يستطع التخلص من الإكراهات التي تمارس عليه، أو تقيه لاجتناب ما يمكن أن يتعرض له من جراء، عدم اعتناقه قناعات الأغلبية، خصوصًا الحاكمة، أو ذريعة لتحقيق مقاصد قد تكون أصلاً بعيدة عن الدين، مقاصد سياسية أو اقتصادية أو غيرها، مقاصد دنيوية لا تمت بصلة للقداسة التي تميز الدين عن الدنيوية.
ذلك أن الدين غالبًا ما يوظف لغايات سياسية، لتبرير سلطة تفرض على المجتمع باسم قوة غيبية. كما أن الدين يجد في السياسة قوة تدعمه ليصبح الدين المهيمن، الدين الرسمي. الدين، إذن، لا كمجوعة من العقائد، بل كممارسة (التدين)، يمثل دعامة أيديولوجية للسلطة السياسية التي، بدورها، تزكيه وتدعمه.
إن التداخل والتفاعل بين الاثنين، بين الدين والسياسة، يفرضان نفسهما لا في الواقع فقط على أفراد المجتمع، بل على الباحث كذلك إذ يصعب دراسة أحد الشقين بمعزل عن الآخر، خصوصًا في المجتمعات التي لم تفصل بعد بين ما هو ممارسة دينية تهم الفرد كفرد وبين السياسة كمؤسسات تهم المجتمع في شموليته.
السياسة، كسلطة تمارسها أقلية على الأغلبية، مهما كان نوعها- ثيوقراطية، أرستقراطية أو ديمقراطية- تستلزم مبادئ تضفي عليها الشرعية بالنسبة للمحكومين. هذه المبادئ التي تبرر السلطة هيمنتها، تستمد من مفاهيم عقلانية من وضع فقهاء، مختصين وتحظى باعتراف أغلبية المجتمع، أو من معتقدات دينية تكون غير قابلة للنقاش لأنها، في اعتقاد الجمهور ليست من صنع البشر.
ويتضح من ذلك، أن في هذه الحالة، يمثل الدين، كمعتقدات وشعائر تتعلق بما هو مقدس، لحمة تربط بين أفراد المجتمع، وبينهم وبين حاكميهم، قصد اجتناب أي تعارض بين مواقف كل من الطرفين، مواقف تعبر صراحة أو ضمنًا عن مصالح مادية.
نفس الشيء بالنسبة للذين لا يعترفون بالسلطة السياسية إذ يبنون معارضتهم لها، هم بدورهم، على مبادئ دينية. الدين، إذن، في هذه الحالة، لا يعدو أن يكون وسيلة لتحقيق غايات أبعد ما تكون عن المقدس، أيديولوجيا لبلوغ أبعاد دنيوية محض. فالحاكم يكون خليفة لله في الأرض. ولنا في التاريخ مجوعة أدلة على ذلك، يكفي أن نفكر في الحضارات الشرقية بالصين القديمة والهند، أو بمصر ومابين النهرين، ناهيك عن
الديانات التي ظهرت على أرض فلسطين. بل إن مختلف الفرق والمذاهب، والحروب الدينية التي عرفها عدد من بقع العالم عبر التاريخ، تجد أسسها وكذا غاياتها في ما هو سياسي، ولايمثل الدين إلا تبريرًا وتغطية للغزو والهيمنة السياسيين، وما يرافقهما أو ينتج عنهما على المستوى الاقتصادي.
هكذا، مثلاً، نعرف أن الحكم في ما يطلق عليه الاستبداد الشرقي كان يوظف الدين لتدجين السكان وجعلهم في خدمة السلطة السياسية. كما استخدم الإسبان الدين للقضاء على الحضارات «الما قبل كولومبية». وقبل ذلك اعتمد على الدين في الحروب الصلبية، كما يستخدم في ما بعد عملية التبشير/الغزو الاستعماري.
دون الدخول في التفاصيل التاريخية، نعلم أن الإسلام، بغض النظر عن الجانب الميتافيزيقي/اللاهوتي، وضع أسس الدولة الجديدة، الدولة الإسلامية، من حيث علاقاتها بالآخر وعلاقات أفرادها بعضهم ببعض، وكما يقول الباحث حليم، يكفي في هذا الصدد المقارنة بين مضمون السور المكية والسور المدنية، وكذا الرجوع إلى سيرة الرسول.
ثم إن الخلافات، بل الصراعات التي عرفها الكيان الجديد بمجرد موت النبي، وظهور مختلف الفرق الكلامية لم تكن إلا تعبيرًا عن مواقف سياسية، وجدت في الجدل الكلامي وفي الفكر الفلسفي، في ما بعد، أداة لنقل الخلاف أو الصراع من المستوى السياسي الأولي إلى نظري عالٍ لا يمثل فيه الدين إلا غطاءً أيديولوجيًا والتدين إلا انتماءً سياسيًا.
هذا التفاعل، وهذه العلاقة الجدلية بين الدين/التدين وبين السياسة، برأيه، تعبر عن صراعات الأطراف المتواجدة في الساحة، عن تناقضاتها، عن طموحاتها وتطلعاتها. يتعلق الأمر بمصالح تجد في المتن الديني أساسها الأيديولوجي، هذا المتن الذي يحدده، هو بدوره؟ الواقع الاجتماعي، الشيء الذي يثبت أن كلاً من الأيديولوجي والسياسي يؤثر في الآخر ويتأثر به.
فالفاعل الاجتماعي، وفق وضعه الاقتصادي والاجتماعي ومستواه الثقافي يعتنق أفكارًا سياسية تتماشى مع قناعاته الدينية التي تؤثر بدورها في سلوكه وتحدد، ولو نسبيًا، انتماءه السياسي، وما نجاح الأحزاب ذات المرجعيات الدينية في الانتخابات التشريعية، خير دليل على ذلك.
هذا التفاعل بين التدين والسياسة أثار اهتمام الباحثين السوسيولوجين من ماركس إلى فيبر إلى دوركايم وغيرهم. ذلك أن التناقضات الاجتماعية تفضي إلى تقارب وجهات النظر الذين يوجدون في نفس الوضعية أو في وضعيات مماثلة. ومن ثم إلى تكتلهم داخل جمعيات أو أحزاب سياسية تستمد أيديولوجيتها من نفس المرجعية، مرجعية يمثل الدين - في الحالة التي تهمنا - أحد عناصرها الأساسية.
هكذا يمكن أن يوظف الدين من لدن الطبقة الحاكمة لإضفاء الشرعية على سلطتها وسيطرتها على المجتمع، الشيء الذي ينتج عنه قبول الوضع القائم من طرف بعض الشرائح الاجتماعية، وهو ما يمثل حالة استلاب، حسب تعبير اتجاه سوسيولوجي معين، أو تمثلاً للثقافة المهيمنة حسب قاموس آخر.
كما يمكن أن يوظف الدين، انطلاقًا من نفس النصوص أو من تأويل جديد لها، لمقاومة السلطة، إن لم يكن للإطاحة بها. وإقامة سلطة جديدة بدلها. نفس السيناريو يمكن أن يتكرر، كما يمكن أن يفضي إلى وضع جديد يتيح تجاوز سابقه. هذا الوضع الاجتماعي السياسي، النتائج إلى حد ما عن التعاليم الدينية، يؤدي إلى إنتاج نصوص جديدة أو إعادة قراءة النص الأصلي. ما يفسر ظهور مذاهب وفرق جديدة.
وبصدد عبارة «الإسلام دين ودنيا»، تشير وجهة نظره إلى أن الواو هنا لا تفيد مجرد حرف عطف، بل تشير كذلك إلى العلاقة الجدلية التي تربط حدي العبارة دين ودنيا. فالدين ليس مجرد عقائد وشعائر وعبادات. إنه أيضًا سلوك ومعاملات، الشيء الذي يحيل على الدنيا. الدين لا يقنن فقط علاقة المؤمن بربه، بل كذلك علاقاته بالآخرين، علاقات الفئات المكونة للمجتمع مع بعضها البعض، وعلاقات هذا المجتمع مع المجتمعات الأخرى، أو ما كان يصطلح عليه - في الثقافة العربية الإسلامية - بدار الإسلام ودار الحرب.
الدين، إذن، يؤثر في الحياة الاجتماعية والسياسية، كما يتأثر بها. وبالفعل، كان على الإسلام أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمعات التي فتحها ليتكيف معها ويجعلها تقبل تعاليمه وتحتضنها، إذ وجد نفسه إزاء ثقافات مغايرة أصبح من الواجب عليه أن يتأقلم معها من خلال عملية أخذ وعطاء. ولم يكن الأمر يتعلق فقط بالمعتقدات والشعائر، وإنما كذلك بالقضايا التي تفرزها الحياة اليومية وبطريقة إدارة المجتمع.
وهنا يطرح السؤال الآتي: هل يمكن، في أفق كهذا، أي دون فصل الدين عن الدنيا، تصور دمقرطة حقيقية للمجتمع، والحديث عن حرية الاعتقاد؟
هنا يطرح مشكل العلمانية، التي لا ينبغي بتاتًا خلطها بالإلحاد. فالعلمانية تكمن فى تواجد عدة ديانات فى نفس المجتمع، تحترم كل منها الأخرى، دون أن تتدخل في شؤون السلطة ودون أن تتدخل الدولة في شؤونها، وفي إمكانية الفرد أن يختار عن قناعة الدين الذي سيعتنقه («لكم دينكم ولي دين»). هذا الفصل سيتيح لكل من الديني والسياسي أن يحقق ذاته دون أي اصطدام مع الآخر، وهو ما سيستفيد منه لا الفرد وحده، بل المجتمع في رمته، وإلا فالعكس لن يؤدي سوى لكوارث - من الممكن تجنبها - كما حدث بالنسبة لتقسيم السودان، أو كالحروب الدينية التي عرفتها عدة مجتمعات والتي تؤثر حتمًا في الحياة الاجتماعية والسياسية.
لايمكن، إذن، تصور مجتمع بشري خالٍ من معتقدات دينية وممارسات سياسية. كل ما هنالك أنه ينبغي العمل على أن تتعايش في جو سلمي ومفيد بالنسبة لأفراد هذا المجتمع، الشيء الذي لا يبدو بديهيًا لأول وهلة. إنها مسألة ثقافة. وهل يمكن تصور ثقافة دون عناصر تحيل على المعتقد وعلى التعايش بين أفراد المجتمع؟ يفترض، إذن، التعايش بين الديني والسياسي ثقافة الاختلاف، أي احترام الرأي الآخر دون محاولة استيعابه، وهو ما يحيلنا مرة أخرى على مسألة التنشئة الاجتماعية وخصوصًا على القيم التي تبثها المؤسسة التعليمية ووسائل الإعلام.
هذا التعايش بين الأديان، وبين الديني والسياسي، الذي بجسد حقًا العلمانية، نعثر عليه - بعيدًا عن التأويلات النظرية الفجة، وعن الحديث عن صدام الحضارات وما إلى ذلك - كمعيش يومي لا يطرح أي مشاكل.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟