حامد فضل الله
كاتب
(Hamid Fadlalla)
الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 11:14
المحور:
الادب والفن
1Das Narrenschiffسفينة الحمقى ــ
Christoph Hein2 كريستوف هاين ــ
إلى الشفيع خضر وحامد بشري وصديق الزيلعي: "الحزب دائماً على حق" !
تقديم ومراجعة حامد فضل الله - برلين
صدر عن دار نشر زوركامب في برلين هذا العام (2025) رواية جديدة للكاتب الألماني كريستوف هاين، الذي اكتسب على مدى عقودٍ سمعة، كواحدٍ من أكثر المؤرخين اجتهادًا في توثيق حقبة ألمانيا الشرقية. وروايته الجديدة عبارة عن بانوراما لهذا المجتمع.
وتتألف الرواية التي تضمّ 751 صفحة، من أربعة كتب، يحتوي كلّ منها على عددٍ مختلف، ولكن كبير، من الفصول الفرعية. يتناول الكتاب الأول الفترة حتى انتفاضة 17 يونيو 1953. أمّا الكتاب الثاني فيدور حول زمن انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956.. الكتاب الثالث يتتبع الأحداث المُحيطة ببناء جدار برلين وربيع براغ ، أمّا الكتاب الرابع والأخير فيلخّص العقدين الأخيرين من عمر جمهورية ألمانيا الديمقراطية، بالإشارة إلى انتقال السلطة عام 1971 من أولبريشت إلى هونيكر، وصوره هاين على أنّه انقلاب وليس انتقالاً سلميّاً للسلطة، كما كانت تروّج له دعاية الحزب الاشتراكي الموحد، في رواياتها التقليدية.
تدور أحدث الرواية حول "الآباء والأمهات" الذين ساهموا في تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ويقدمها هاين عبر وجهة نظر نُخبها القيادية، ويتّخذ ثلاثة رجال وامرأتين كمثال لهذه النخبة: الاقتصادي كارستن امزر، وزوجته ريتّا، والمهندس يوهانس قورتسكا، وزوجته يفون والإنجليزي بنيّا كوكوك، الذين اعتادوا على اللقاء في منازلهم كمجموعة عبر العقود، يستعرضون مجريات الأحداث، ومن خلال أحاديثهم، يرسم المؤلف هيكل روايته لتشمل كامل فترة وجود "دولة العمال والفلاحين"، من تأسيسها حتى انهيارها.
تبدأ مسيرات أبطال الرواية في موسكو، تلك المسيرات التي ستقودهم بعد عودتهم إلى أرض ألمانيا المدمّرة بعد الحرب، إلى إدارة برلين أولاً، ثم لاحقًا إلى جهاز الدولة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية الناشئة. أقلعت في 30 أبريل 1945 وفي الأيام الأولى من شهر مايو، من هناك أربع طائرات تُقل شخصيات ألمانية بارزة مناهضة للفاشية عائدة من المنفى إلى وطنها. كانت أول من هبط على التراب الألماني "مجموعة أولبريشت"، والتي تضمّ أولئك الذين يعتقد الرجل القوي القادم للنظام الجديد أنه يمكنه الاعتماد عليهم أكثر من غيرهم. وكانت مهمتهم: أن يتولوا زمام المبادرة في الدولة التي لم تُؤسس بعد، وأن يضمنوا، بأسرع ما يمكن، تحول الديكتاتورية الفاشية إلى ديمقراطية تستلهم في بنيتها المجتمعية الاتحاد السوفييتي.
وكارستن امزر، أستاذ الاقتصاد وعضو لاحق في اللجنة المركزية للحزب الحاكم، والذي كان من المفترض أن يعود إلى الوطن كعضو في "مجموعة أولبريشت". لكنه، وبسبب الارتياب الذي واجهه من الرفاق المؤثرين حول أولبريشت بصفته مفكّرًا في المنفى، ينتهي به المطاف في الطائرة رقم 2.
ويأتي في رفقته يوهانس قورتسكا، الذي يخفي تاريخه السابق في الجيش النازيّ برتبة رقيب، ومؤيدًا متحمسًا للنظام الفاشي، وتحوّل وهو الذي كان يحمل جرحاً جسدياً ومعنويا بعد الحرب، ليعود بعد إعادة تأهيله في أحد معسكرات أسرى الحرب السوفييتية، كمناضلٍ شيوعيّ، يبحث عن موطئ قدم في الدولة الجديدة، وينخرطُ بحماس وطموح كبير في إعادة بناء الاقتصاد في الجمهورية الفتية.
وكما جاء في المجوعة الخماسية، التي جاء ذكرها من قبل، فبنايا كوكوك عالم اللغة الإنجليزية والألمانية والخبير اليهودي في شكسبير، يختار بوعي استبدال مسيرته الأكاديمية في منفاه الإنجليزي بالعودة إلى وطنه، ليُحكم عليه هناك بحياة كئيبة كموظف ثقافي في مجال لا يمتّ لتخصصه بصلة. هذا المثلي المتحرر ( الذي يخفي مثليته، فهي جريمة يعاقب عليها بالقانون في ألمانيا الشرقية) يتكيّف مع دولة الحزب الاشتراكي الألماني لأسباب براغماتية بحتة: ويقول "فأنا لست مادّياً جدلياً فحسب، بل أنا أيضاً لذّاتي جداً. لا أريد أن أتنازل عن مستوى معيشتي.
ويفون التي فقدت زوجها الأول اليهودي في أفران النازيّة وتاركاً لها طفلتهما كاتينكا، تتزوج يفون يوهانس قورتسكا، ليس بسبب الحبّ أو برابطة روحيّة، وإنّما كصفقة، للصعود ولأسباب تتعلّق بالتأمين المعيشيّ، فهي لم تكن من قبل، ليس أكثر من وظيفة مساعدة في مكتب للطباعة على الألّة الطابعة، لتصبح بحكم منصب ووساطة زوجها، إلى مديرة دار الثقافة، ثم لاحقاً مسؤولية رفيعة في الاِدارة العامة للأفلام كنائبة لبنايا كوكوك الذي أصبح المدير. وريتا تصل إلى منصب نائبة عمدة البلدية في دار البلدية الحمراء.
يتم مع الطعام والشرب في اللقاءات الدورية في منازل الخمسة، سرد أهم الأحداث في تاريخ الجمهورية الذي استمرّ لأربعة عقود، بدرجة أو بأخرى: انتفاضة الشعب في 17 يونيو 1953 في برلين والتي لم يتم السيطرة عليها، إلاّ بعد نزول دبابات الجيش الروسي، والخطاب السريّ الذي ألقاهُ نيكيتا خروتشوف عام 1956 في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، والذي مثّل أوّل اعتراف رسميّ بفظائع ستالين، لم يكن مجرّد فعل اعتراف سياسي، بل مثّل زلزالًا أخلاقيًا هزَّ ضمير كل من آمن بالوعد الشيوعي في صورته الطوباوية. ثم انتفاضة المجر بعد ثلاث سنوات، وبناء الجدار 1961، وقمع ربيع براغ في أغسطس1968 . والتغيير في القيادة من فالتر أولبريشت إلى إريك هونيكر عام 1971، وسقوط الجدار عام 1989.
تتمركز في هذه اللقاءات، شخصية البروفيسور في الاقتصاد كارستن امزر، عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الموحّد، فهو ممثل للطبقة العليا من الكوادر الحزبيّة. ينطلق بحماس كبير، مخلص وذكي، لكنه يدرك في النهاية أنه كان واقعًا في وهم، متجاهلًا الواقع، وقد ضحى بكلّ شيء من أجل مثله العليا. يقول لزوجته ريتا، في لحظة من أقصى درجات النقد الذاتي:
."لقد التزمتُ الصمت كثيرًا، يا ريتا، ولهذا أنا مذنب. صمتُ خوفًا، وجبنًا، وخشيةً على حياتي"
والشخصية المحوريّة الثانية هو يوهانس قورتسكا، الذي كان يتطلع لتحقيق مسيرة مهنية كبيرة في جهاز السلطة، وطالته أوّل الإجراءات، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكان حينها مسؤولًا عن قطاع التعدين الأسود في منطقة بوتسدام. لقد عارض قورتسكا خطّة الحزب التي كانت تهدف إلى تقليص الاستثمارات المُخططة في قطاعه، مطالباً من أجل تحويلها إلى "الثغرات الحساسة في قطاع الاستهلاك" و"تحسين الوضع السيئ لتوفير السلع للسكان".
لقد تمّ التشهير به بالاسم في المؤتمر الرابع للحزب عام 1952 باعتباره منحرفًا و "مخربًا لخطة السنوات الخمس"، استُخدم امزر مكانته داخل الحزب بالوصول إلى أعلى المستويات لصالح صديقة قورتسكا، وتم الحيلولة دون طرده من الحزب، ولكن تم تخفيض رتبته ونُبِذ اجتماعياً.
ويشرح امزر لصديقه، الوضع الحرج الذي أوقع نفسه فيه بالكلمات التالية:
يُسمح للمرء أن يُخطئ، لكن ليس ضدّ الحزب. وإذا أخطأ الحزب، فإنك ترتكب خطأً إن لم تشارك هذا الخطأ. "لا يجوز أبدًا أن تكون محقًا ضدّ الحزب، لأنّه وحده دائمًا على حق".
ربما كانت عقيدة أولبرشت التي لا تعرف المواربة تجول في ذهنه وهو يخاطب صديقة:
"يجب أن يبدو الأمر ديمقراطيًا، لكن يجب أن نكون نحن من يملك كل شيء في يده."
(الديمقراطية المركزية ــ المراجع ــ ) !
ونختتم عرص الشخصيات الهامة في هذه الرواية، بتقديم شخصية كاتينكا، فهي تمثل في جوهرها محور الرواية، وتمثل الجيل التالي، والرواية تبدأ بها، وهي فتاة صغيرة، وتنتهي بها كامرأة ناضجة.
تواصل كاتينكا تفوقها في المدرسة والجامعة ودراسة الفلسفة، برغم من الضغط النفسي عليها وهي تعيش مع زوج أمها يوهانس الفظّ ، والعابس، والبارد القلب، والمتقلّب المزاج. تنحو كاتينكا شيئًا فشيئًا نحو القطيعة مع عالم والديها. وكانت في سنوات دراستها، تشارك في فرقة مسرحية تذكّر بمسرح "العمّال والطلبة البرليني" لڤولف بيرمان في أوائل ستينيات القرن العشرين – وهو فضاء إبداعي حرّ سرعان ما حُظر من قِبل النظام، بعد فترة وجيزة من تأسيسه. ثم تقع في حبّ طالب من غرب برلين، لكن حبهما المشترك يتحطم بسبب بناء جدار برلين. وتعمل أثناء دراستها، فتحتك بالعمال، عندما تقدمت لوظيفة سائقة رافعة في أحد مجمعات التصنيع في برلين الشرقية، فتقول: أن هؤلاء العمّال الذين لم تعرفهم إلاّ من خلال ما قرأته عنهم أو سمعته، لم يولدوا من أمّ، بل خُلِقوا على يد مسؤولي الحزب الرسميين والمحررين الخاضعين في الصحف ومحطات الإذاعة.
وتتعرف الشابة الطموحة كتينكا في مدينة لايبزج على طالب الفلسفة رودولف كاتسْماريك، الذي نشأ في بيت قَسّ، وهو الأمر الذي أدى إلى منعه من الالتحاق بمدرسة ثانوية، والذي أصبح لاحقاً أستاذ المنطق في الجامعة، ثم تتزوجه، رغم معارضة والديها، وتنتقل معه إلى لايبزج. وبدأت تحضر في أواخر الثمانينيات، صلوات السلام في كنيسة نيكولاي. وتشارك في المظاهرات السلمية في مدينة لايبزج، التي كانت تدعو لها الكنيسة، ومظاهرة الرابع من نوفمبر 1989 بمشاركة ما يقرب من مليون متظاهر في ساحة "الكسندر" في برلين.
وبنايا كوكوك، الذي فقط الأمل في الحصول على وظيفة أستاذ جامعي المؤهل لها، يعمل كرئيس تحرير لمجلة ثقافية، كان عليه أن يواجه سياسة الدولة الثقافية ويتعامل مع رغبات الفنانين في مغادرة البلاد، وفي النهاية، بعد إصابته بمرض الزهايمر، ينتهي به الأمر في غياهب النسيان وفقدان التاريخ.
كانت يفون أخيراً، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، امرأة ضاعت ملامحها وسط زيف الرفاه الغربي، فلم تحتمل فيض البضائع ولا ضجيج الاستهلاك، فوجدت في التسوق عبر الشاشات عزاءً زائفًا"، حتى أودى بها الإدمان على الخمر إلى نهايتها الحزينة.
لقد أدرك كارستن امزر، هذا المثقف، الذي كان يمثل النخبة الحاكمة في ألمانيا الشرقية، متأخرًا جدًا، الجرائم التي ارتكبها ستالين في الاتحاد السوفيتي، كما أدرك متأخرًا، أن حتى شيوعيًا مستقيمًا مثله لا يستطيع أن يُبرّئ جمهورية ألمانيا الديمقراطية بضمير مرتاح من تناقضاتها الداخلية. أما يوهانس قورتسكا فظلّ دون تبصر، معانداً ومكابراً في الدفاع عن النظام .
إن انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية يتزامن، بالنسبة امزر وقورتسكا، مع المرض والموت – وهو تداخل رمزي، لخداع النفس لعقود من الزمن داخل النظام، بين من ظلّ وفياً له حتى النهاية، ومن انكفأ على جراح خيبته في صراع مرير مع الحقيقة.
مشهد يتكرر في بدء وختام الرواية:
نقرأ في الصفحة الأولى:
قالت لها المعلمة إنها ستجلس خلال احتفال رسمي إلى جانب أول رئيس لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، لأنها أفضل تلميذة في الصفين الأولين. لم تكن تعرف بالضبط ما هو الرئيس، لكن مدرستها كانت تحمل اسمه (فيلهم بيك). تنظر إليه بخجل، بينما يبتسم لها هو بودٍّ ورضا. هذا المشهد يتحول لاحقًا إلى بطاقة بريدية تُوزَّع على نطاق واسع في أنحاء ألمانيا الشرقية.
ونقرأ في صفحة الأخيرة (ص. 751) :
بعد إعادة توحيد ألمانيا، تعثر كاتينكا - وقد أصبحت الآن في السابعة والأربعين من عمرها - على البطاقة أثناء ترتيبها لأغراضها. تطبع قبلة سريعة على صورة طفولتها، ثم تمزقها إلى قطع صغيرة. لقد تصالحت مع ذاتها، لكنها حازمة في قرارها أن تترك هذا الجزء من حياتها خلفها، إلى الأبد.
يقول أحد النقاد: هل يمكن أن يكون الكاتب نفسه يُعبّر عن مشاعره من خلال كاتينكا؟ خاصّة وأنه وُلد في نفس العام الذي وُلدت فيه الشخصية؟ وهل كاتينكا هي رمز لزوجته الأولى الراحلة؟
هل كتب هاين هذا العمل الطويل ليغلق به هو أيضًا صفحة الماضي؟
احتفلت الصحافة ونقاد الأدب بهذه الرواية الكبيرة، والتي صدرت في هذا العام (2025) ، واعيد طبها 6 مرات حتى الآن، وقُدمت العديد من المراجعات. الرواية الضخمة تُقدَّم في العديد من الصفحات كدرس تاريخي جاف، واحياناً بلغة تقريرية، ربما ذلك مرتبط بأنها رواية اجتماعية بمقاطع تاريخية. ورغم ذلك فالرواية ليست مملة، بل العكس، فالقارئ يظل مشدوداً، يتابع السرد بشغف وفضول متتبعا مسار الشخصيات وصراعاتهم.
يصف بعض النقاد شخصيات الرواية بأنها منغلقة داخليًا، لا تتحدث عن تناقضات سيرها الذاتية ولا عن أكاذيب حياتها. فالمؤلف لم يقدم رؤية أعمق، مثلًا عن الحياة الداخلية لقورتسكا، الذي تحول في شبابه من نازي متحمس إلى اشتراكي نموذجي.
ولكن هاين نجح في تصوير التعسف الذي كان يطبع الحياة في ألمانيا الشرقية، وكذلك الخوف الذي كان يلاحق كثيرًا من الناس. كما نجح هاينه بدقة وحذر في توضيح لماذا فشل حتى أصحاب النوايا الحسنة، وحتى المسؤولون، في جعل جمهورية ألمانيا الديمقراطية بلدًا يمكن فيه للمرء أن يحقق ذاته وفقًا لاهتماماته وقدراته، وبلدًا ناجحًا اقتصاديًا.
ولكن قبل كل شيء، فالرواية هي درس تاريخي رائع حول التاريخ والعقلية الألمانية في فترة ما بعد
الحرب، وللجيل الأول الذي ظل متمسكاً بمثله العليا بأن الاشتراكية ستجلب العدالة والمساواة، لكن أبناءهم رأوا القيود والقمع، فبدؤوا بالابتعاد والتمرد (صراع الأجيال).
هل هي فعلاً سفينة حمقى؟ السفينة لا تزال على سطح البحر، تهتزّ، تقاوم الأمواج والعواصف، فلن تغرق، وستصل إلى البرّ بسلام. فالاِشتراكية الديمقراطية، هي حُلم البشرية، وستتخلص من الشوائب، والأخطاء، لتسود قيم العدالة والحرية والمساوة والرفاهية الاجتماعية. فالقول بأنّ الرأسمالية تجدد جلدها، نعم تجدده، ليصبح أكثر وحشيّة، وظلماً، وقسوة. وتكفي النظرة لما يدور في عالم اليوم.
حاشية:
حين يصبح الحنين بوابة للفهم: من سيرة ذاتية إلى مقاربة للهجرة
حين كنت أتصفح صفحات الكتاب، وأغوص في عوالمه المليئة بالإثارة، وجدتني أتابع بشغف وفضول تفاصيل سير الركاب، وكأنني واحد منهم، كأنني أتنقل بينهم وأعرف تلك الوجوه التي أطلت من بين السطور. خُيّل إليّ أنني على متن السفينة ذاتها، أشاطرهم الرحلة والمصير.
كانت ألمانيا الديمقراطية أولى محطاتي إلى القارة العجوز. وصلت إليها في ربيع العشرين من عمري، يافعًا وممتلئًا بالأمل، فاحتضنتني مدينة هاله/سالا، تلك المدينة الصغيرة التي تنبض بالتاريخ، وفيها أبصر النور الموسيقار العالمي جورج فريدريك هندل، وهناك تشرّفت بالدراسة في رحاب جامعة مارتن لوتر العريقة.
عشت في هاله أجمل سنواتي، وسط حراكٍ ثوريّ نابض، حيث تعالت أصوات التحرر الوطني، وتجلّت الدعوة إلى السلم العالمي، وإلى تضامن الشعوب. عايشت وجوهًا من شتّى الثقافات، التقيت برجال ونساء حفرت ملامحهم في ذاكرتي، واختبرت شعور الأمان والحلم بمستقبل مُشرق تتجسد فيه الأمنيات، رغم ضجيج الحرب الباردة والتخريب والاضطرابات ، التي كانت تتسلل عبر برلين المفتوحة.
وعندما عدت مجددًا إلى أوروبا، إلى برلين الغربية – "جنّة الرأسمالية كما وُصفت آنذاك"، كنت أعود بين الحين والآخر إلى هالة - سالا، أستنشق عطر الذكرى، وأجدد في القلب صدى تلك الأيام.
واليوم، تتجدد الذكرى بصورة أكثر إشراقًا. فحفيدتي تسير على ذات الدرب، تدرس في كلية الفلسفة والعلوم الاِنسانية، قسم الجغرافيا والأنثروبولوجيا (علم الاِنسان ) في جامعتي المحبوبة - جامعة مارتن لوتر – وقدّمتْ مؤخرًا في أحد السيمنارات الجامعية بحثًا بعنوان: "التنوع الديني في الفضاءات ما بعد الهجرة" ضمّنته فقرة قصيرة عن سيرة جدّها العجوز، كأنّما تواصل خيط الذاكرة عبر الأجيال، فامتزج الماضي بالحاضر، وتحوّل الحنين إلى مشعل يضيء الطريق.
_______________________________________________________________
1 - Christoph Hein, das Narrenschiff, Suhrkamp Verlag, erste Auflage 2025.
" 2ـ كريستوف هاين وُلد عام 1944 في هاينتسندورف/شيليزين ونشأ في مدينة "باد دوبن" بولاية ساكسونيا. درس الفلسفة والمنطق في لايبزيج وبرلين، وعمل ككاتب مسرحي وروائي واشتهر على نطاق واسع، وتُعدّ رواياته من أدق التحليلات الأدبية للتاريخ الألماني وقد نالت العديد من الجوائز. ويعيش الروائي الثمانيني الآن في مدينة برندبورغ.
#حامد_فضل_الله (هاشتاغ)
Hamid_Fadlalla#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟