|
في تذكر الدكتور عبد الرحيم بلال
حامد فضل الله
الحوار المتمدن-العدد: 8343 - 2025 / 5 / 15 - 10:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(10ديسمبر 1936 ــ 15 مارس 2025) حامد فضل الله برلين بدعوة من الجالية السودانية والنادي السوداني في برلين، اُقيم يوم السبت 10 مايو 2025 حفل تأبين للدكتور عبد الرحيم بلال. نستعرض هنا الكلمات والمداخلات: الكلمات:
ــ في رحيل الدكتور عبد الرحيم بلال (منال سيف الدين) أننا لا نودّع مجرد باحثٍ اجتماعي أو خبير في شؤون الدول النامية، بل نودّع ضميرًا حيًا، ونبضًا فكريًا قلّ أن يتكرر. كان بلال أكثر من موظف في مؤسسة أو ناشط في ورشة؛ كان حاملًا لرؤية كاملة عن كيف يمكن أن يُبنى السودان – لا من أعلى، بل من القاعدة، من الناس، من مؤسساتهم، من همومهم الصغيرة التي كان يراها هو أكبر من كل الشعارات. كانت "تنمية المجتمع المدني" العبارة المفتاحية التي ظلّ يرددها ويشتغل عليها، لا كمصطلح مستعار من الأدبيات الغربية، بل كإيمان متجذر بأن السودان لا يمكن له أن ينهض بدون مؤسسات مجتمع مدني حرة، قوية، متجذرة في واقع الناس. لم تكن الكلمة عبثًا، ولم يكن استخدامها ترفًا أكاديميًا؛ بل كانت بوصلة كل مشاريعه وأفكاره، وهي ما قادته إلى تشجيع الشباب، والعاملين، والنساء، والمهنيين، على تنظيم أنفسهم، وبناء أدواتهم للدفاع عن حقوقهم، وعن الديمقراطية، وعن بيئة صالحة للحياة. في مؤسسة فريدريش إيبرت، حيث عمل لسنوات، قاد نقاشات شجاعة مع القوى السياسية حول دور الجمعيات والتعاونيات، في وقت كانت فيه تلك المؤسسات تُحارَب وتُشكك فيها، خاصة من قبل الأنظمة السلطوية التي رأت فيها خطرًا على احتكارها للسلطة. لكن الدكتور بلال لم يتردد، ولم يتراجع، بل مضى في دعمه للمجموعات المهمشة – من النساء العاملات في الأسواق، إلى النقابيين الشباب، إلى البيئيين، إيمانًا منه بأن التغيير الحقيقي لا يأتي من القصر بل من الحوش، من الهامش، من الناس. لم يكن سهلًا في وقت كان فيه مجرد الحديث عن جمعيات تعاونية يُعتبر فعلًا سياسيًا، أن يُصرّ على تمكين النساء من تشكيل اتحاداتهن الخاصة، ليدافعن بها عن أنفسهن في وجه "قانون النظام العام" وغيره من أدوات القمع. لكن عبد الرحيم بلال، بهدوئه المعهود، وبصدقه الصارم، فعل ذلك، ومضى في مسيرته دون أن يطلب شكراً أو تصفيقًا. وفي الوقت الذي نشهد فيه اليوم انقسامات حادة، وتحلّلًا في البنية المجتمعية، وتمدّدًا للعنف المنفلت، يبدو إرث الدكتور بلال أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. إن ما نعيشه هو نتيجة مباشرة لإضعاف المجتمع المدني، لتهميش الناس، لإسكات أصواتهم – وهي بالضبط المعركة التي خاضها بلال قبل أربعين عامًا، وأطلق فيها جرس الإنذار مبكرًا فكرة المجتمع المدني فكرة المجتمع المدني، كما طرحها واشتغل عليها الدكتور بلال، لم تكن مجرد شعار أو مصطلح للاستهلاك، بل كانت مشروعاً فكرياً وميدانياً، آمن به وسعى لتجسيده من خلال برامج مؤسسة فريدريش إيبرت، خاصة عبر: . ــ تمكين الشباب وخلق قيادات قاعدية جديدة تؤمن بالعمل الجماعي والتشاركي ــ دعم الجمعيات التعاونية والمهنية، رغم ما واجهته من تضييق من السلطة آنذاك، لاعتبارها تهديداً لاحتكار الدولة. ــ الدفاع عن الفئات الهشة والمهمّشة، خاصة النساء العاملات في الاقتصاد غير الرسمي – مثل بائعات الشاي – اللاتي كنّ عرضة للقمع والكشات. كان يرى أن العدالة الاجتماعية، حقوق الإنسان، والمساواة الجندرية لا يمكن فصلها عن بنية المجتمع المدني القوي والمستقل. وهذا ما جعله يخوض، كما قلت، نقاشات حساسة مع القوى السياسية، ولم يتوانَ عن المواجهة الفكرية عندما تطلب الأمر ذلك مُبيناً إخفاقات الدولة في احتضان المجتمع المدني خلال العقود الماضية وكذلك ما نشهده اليوم من أزمات بنيوية وانفجارات أمنية واجتماعية – وكأن غياب التنظيم الأهلي الحقيقي خلق فراغاً ملأته قوى العنف والانقسام. قضية البيئة: بُعد أصيل في مشروع بلال
ومن الجوانب التي لا يمكن أن نغفلها في سيرة الدكتور عبد الرحيم بلال، هو دوره الرائد في حماية البيئة والدفاع عنها في وقتٍ كان مجرد الانتماء إلى جمعية بيئية يُعد مغامرة سياسية. لقد كان عضوًا فعّالًا في الجمعية السودانية لحماية البيئة، التي واجهت، شأنها شأن بقية مؤسسات المجتمع المدني، محاولات تضييق وملاحقة متكررة، لكن إيمان أعضائها ومنهم الدكتور بلال بعدالة قضيتهم أبقاها واقفة رغم العواصف. لم يكن العمل البيئي عند بلال مجرد نشاط جانبي، بل كان امتدادًا طبيعيًا لرؤيته حول التنمية الشاملة. كان يربط دومًا بين البيئة والمجتمع، ويرى أن الدفاع عن البيئة هو دفاع عن الإنسان، عن سُبل عيشه، وعن كرامته. ولذلك فإن بناء مجتمع مدني بيئي واعٍ لم يكن ترفًا عنده، بل حجر الأساس لأي تنمية حقيقية. ولعل من أهم ما يُحسب له، أنه ساهم في جعل منظمة فريدريش إيبرت قادرة على مواصلة عملها داخل السودان في ظروف سياسية وأمنية بالغة التعقيد، حين توقفت منظمات دولية كثيرة عن العمل. ويُعزى ذلك – عن حق – إلى حكمته في تهدئة النفوس، وأسلوبه الهادئ الراقي في إدارة الحوارات مع القوى المختلفة، حتى مع أولئك الذين لم يستوعبوا بعدُ أهمية فكرة المجتمع المدني. كان يرى أن البيئة ليست ترفًا نخبويًا، بل قضية معيشية ومجتمعية من الدرجة الأولى، وأن السودان لا يمكن أن ينهض من دون حماية موارده الطبيعية والالتفات إلى الكوارث البيئية التي تهدد حاضره ومستقبله. لقد ارتقى الدكتور عبد الرحيم بلال بفكرة العمل البيئي والتعاوني والإداري إلى مستوى الرسالة، فصار رائدًا في هذا المجال، وترك خلفه نموذجًا يحتذى به في كيف يُمكن للفكر والموقف الأخلاقي أن يُحدثا فرقًا في واقع مليء بالتحديات. رحل الدكتور عبد الرحيم بلال، لكن صوته باقٍ. باقٍ في من درّبهم، في من ألهمهم، في الجمعيات التي قاومت، في النساء اللواتي نظّمن أنفسهن، في الشباب الذين قرروا ألا يصمتوا. نم قرير العين يا عبد الرحيم، فقد قلت كلمتك، ومشيت على دربها، وتركت لنا ما يضيء الطريق في عتمات السودان المتكررة.
(منال سيف الدين بكالوريوس في العلوم الإدارية وماجستير في علوم الاقتصاد من جامعة ماربورغ في ألمانيا. تعمل حالياً في مجال إدارة وتنفيذ المشاريع، وخاصة في مجال الاندماج في برلين.)
ــ في وداع فقيد الوطن والمجتمع المدني السوداني (مرتضى عبد الكريم يوسف نمر) الدكتور عبد الرحيم أحمد بلال رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته أيها الجمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بقلوب مكلومة، وعيون دامعة، نجتمع اليوم لنتحدث عن قامة وطنية وإنسانية سامقة، وأحد الرواد الذين أفنوا أعمارهم في خدمة السودان وشعبه الكريم. نتحدث عن الدكتور عبد الرحيم أحمد بلال، الذي جسّد في حياته قيم العطاء، والالتزام الأخلاقي، والوعي الوطني، وظل منارة هادية لكل من عمل معه أو تتلمذ على يديه. لقد كان الفقيد، طيّب الله ثراه، من أوائل من وعوا بأهمية بناء مجتمع مدني قوي ومتماسك، يدفع عجلة التغيير والتنمية الشاملة. وسخّر حياته كلها لتعزيز هذا الهدف؛ مدربًا، مستشارًا، وموجهًا، ناشرًا للمعرفة، داعمًا لكل مبادرة تنشد النهوض بالمجتمع السوداني. عندما التحق بمؤسسة فريدريش إيبرت، حيث وتولّى إدارة مكتبها في السودان، جعل من المؤسسة رافعة حقيقية لمنظمات المجتمع المدني. دعم العمل النقابي، وعمّق الوعي البيئي، وربط الجامعات بقضايا المجتمع، واهتم بقضايا المرأة والشباب، عبر برامج تدريبية وورش عمل ودراسات متعددة الأبعاد. لم يكن الدكتور عبد الرحيم، رحمه الله، مجرد إداري أو خبير، بل كان رجلًا متواضعًا، متصالحًا مع نفسه والآخرين، جريئًا في الإفصاح عن رأيه، حريصًا على الربط بين المعارف التقليدية والحديثة، جامعًا بين الأكاديميين والممارسين والقيادات الشعبية من أجل بناء عقد اجتماعي عادل يجمع السودانيين على كلمة سواء. كتب كثيرًا عن العمل الطوعي في السودان، محللًا جذوره، مشخّصًا أدواءه، وراسمًا طريقًا لتطويره وتجاوز تحدياته، وكان يرى أن التنمية الحقيقية لا تتم إلا بمشاركة المجتمعات المحلية، وبتمكينها معرفيًا ومهاريًا. ظل طوال حياته يؤمن بأن التغيير الحقيقي يبدأ بالشباب، لذا أولى تدريبهم اهتمامًا خاصًا، مزودًا إياهم بالمعرفة والقيم، ومؤمنًا بقدرتهم على حمل راية الغد. وفي السنوات الأخيرة من حياته، كان الفقيد حزينًا لما آلت إليه الأوضاع في وطنه، منذ تعثرت ثورة ديسمبر المجيدة بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، وحتى اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، والتي أثّرت على صحته ونفسيته. ورغم ذلك، أصر على البقاء داخل السودان حتى رحيله في 15 مارس 2025، ظل مؤمنًا بواجبه تجاه وطنه. وكان يردد في أيامه الأخيرة: "يا إخوانا البحصل ده ما معقول. الحرب دي لازم تقيف. لازم نعمل حاجة. ولازم القوى المدنية تنسى خلافاتها وتتوحّد لوقف الحرب." فكانت كلماته وصية لنا جميعًا، وعلينا أن نُبقيها حيّة في ضمائرنا: أن الحرب يجب أن تتوقف اليوم قبل الغد، وأن نعمل من أجل ذلك بكل ما أوتينا من قوة. نم قرير العين، أيها الفقيد العزيز. نم وأنت من زرعت فينا حب الوطن، والإخلاص في العمل، والإيمان بكرامة الإنسان. لقد خسرناك جسدًا، لكن إرثك سيظل حيًّا، يلهم الأجيال، ويقود القلوب نحو ما آمنت به من قيم. رحمك الله رحمة واسعة، وجعل كل ما قدمت في ميزان حسناتك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مرتضى عبد الكريم يوسف نمر عضو الجمعية السودانية لحماية البيئة. ــ محجوب الطيب
بسم الله الرحمن الرحيم "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" صدق الله العظيم
الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
نقف اليوم وقفة وفاء، نستذكر فيها برحابة القلب، وحرارة المشاعر، أخًا عزيزًا، وصديقًا وفيًا، وعالِمًا من أبناء وطننا الأبرار، الدكتور عبد الرحيم بلال، الذي انتقل إلى جوار ربه بعد حياة حافلة بالعطاء والإخلاص والعمل الوطني والإنساني النبيل.
لقد سعدتُ شخصيًا بمعرفته، وعشت معه تجربة لا تُنسى في بيت العزّابة بحي الشعبية – بحري، وعملت معه في منظمة فريدريش إيبرت. وخلال هذه السنوات، لم أرَ منه إلا حسن الخلق، وطيب المعشر، وسعة الصدر، ومروءة لا تعرف الحدود. كان رحمه الله لا يتردد في مد يد العون للمحتاج، ولا يتأخر عن حماية الضعيف، وكان دائمًا حاضرًا في وقت الشدة، ناصحًا، ومعينًا، ومؤازراً. في أيام العدوان على العراق، حين تصاعد الغضب الشعبي وخرجت المظاهرات ضد الدول الغربية، كان الخوف يحيط بالأجانب المقيمين في البلاد. وكان من بينهم مدير منظمة فريدريش إيبرت – وهو ألماني الجنسية – فبادر الفقيد، بروحه المتسامحة وأخلاقه السامية، إلى اقتراح أن نزوره في بيته، لنطمئنه ونقف بجانبه ونؤكد له أننا أهل مروءة وإنسانية. لقد كان هذا الموقف صورة ناصعة من شهامة الدكتور بلال وإنسانيته.
كان رحمه الله مرحًا، ودودًا، متسامحًا مع من يخالفه، لا يحمل ضغينة، ولا يُبدّل خلقه خلافٌ في الرأي. كنا مجموعة من الشباب نختلف معه حول تقييم العدوان الغربي، ولكنه ظلّ أخًا كبيرًا لنا، يعاملنا بمحبة واحترام، كأن شيئًا لم يكن.
وكان له، فوق ذلك، قلب يتّسع للجميع. في بيت العزّابة، كانت تُقام جلسات مسائية تجمع البروفيسور بالشخص البسيط، يجلسون معًا في ألفة ووئام، ويُظهر كلٌّ منهم موهبته أو فكرته، في مشهد يعكس عمق إيمانه بقيمة الإنسان، مهما كان موقعه في المجتمع.
الحضور الكريم، إننا إذ نستذكر اليوم هذا الرجل العظيم، نُقرّ بأنه ترك أثرًا طيبًا في كل من عرفه، وبصمةً لا تمحى في سجلّ الوطن. ندعو الله عزّ وجل أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويجزيه خير الجزاء على ما قدم من خير، وعلم، وخدمة للناس.
إنا لله وإنا إليه راجعون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محجوب محمد الطيب
جامعة الخرطوم كلية العلوم فيزياء ورياضيات جامعة برلين التقنية كلية علم الحاسوب المداخلات: ــ جعفر سعد جاءت مداخلة جعفر غيبياً (أي من الذاكرة)، لقد ارتبط جعفر بصداقة متينة مع الراحل منذ تعارفهما في جامعة برلين الحرة، حيث كان يدرس جعفر، ويعد بلال أطروحته الجامعية. جاءت كلمات جعفر حميمية، ويقول "إذا أردت أن تبحث عن بلال فأذهب إلى مكتبة الجامعة، إذا قابلته على قارعة الطريق، وهو يحمل حقيبته، كانت تئن من حمولة الكتب. ويشير إلى المناقشات الجادة والحادة التي شارك فيها مع بلال وكانت تدور مع الزملاء الألمان حول الكثير من القضايا والهموم المشتركة، ومضيفاً، لقد أتسم بلال بتواضع العلماء، وهو فكه وحلو الحديث ...". جعفر سعد درس علم إدارة أعمال في جامعة برلين الحرة، وهو يعمل كمرشد ومترجم في قضايا اللاجئين. الحضور الكريم
بعد هذه الكلمات الرائعة والمضيئة والشاملة، سوف أقوم باختصار كلمتي ومركزاً على تقديم الجزء الخاص بالسيرة الذاتية لفقيدنا العزيز، وهذه سأقدمها بصورة مختصرة أيضاً. لم اتعرف على بلال بالرغم من تزاملنا في كلية العلوم، جامعة الخرطوم، حيث سبقني إليها بعام. حصل بلال على الشهادة الثانوية من مدرسة الأشراف الميرغنية بأم درمان، ثم التحق بجامعة الخرطوم كلية العلوم قسم الرياضيات عام 1955. تعرفت على بلال عندما تم اختيارنا للدراسة في ألمانيا الديمقراطية، بعد أن غادرنا مجبرين جامعتنا ( الجميلة والمستحيلة) نتيجة الفصل التعسفي في نظام التدريس أيام الانجليز. لقد قدمت الحكومات الأوروبية شرقاً وغرباً، بجانب الاتحاد السوفيتي لحكومة السودان منحا مجانية للدراسة الجامعية وللدراسات فوق الجامعية أيضاً، لمساعدة دولتنا الفتية بعد خروجها من ربق الاستعمار. وصلنا في منتصف أكتوبر عام 1957 مدينة لايبزج، وبعد عام من دراسة اللغة الألمانية، التحق بلال لدراسة الهندسة بالجامعة التقنية في مدينة درسدن، وهي من أشهر الجامعات الألمانية في مجال التقنية. بجانب الدراسة أنخرط بلال في العمل الثقافي والسياسي وسط الطلاب، وقتها كانت حركة التحرر الوطني في قمتها، مؤتمر باندوج، أزهري وعبد الناصر، سوكانو، كوامي نكروما. .. ترك بلال دراسة الهندسة، لأنه كان يريد أن يبني "الكل لا الجزء"، فتحول إلى دراسة الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة لايبزج. وهناك واصل نشاطه السياسي والثقافي، واختير رئيسا لاتحاد الطلاب السودانيين، وعدة مرات رئيسا لاتحاد الطلاب العرب، وكان يفوز دائماً بالتزكية. بعد حصوله على الماجستير، بدأ في التحضير لأطروحة الدكتوراه. عند اعلان استقلال السودان في يناير 1956، أرسل أتو قروتوفول رئيس وزراء المانيا الديمقراطية رسالة تهنئه للرئيس إسماعيل الأزهري أعرب فيها عن أمله بناء علاقات دبلوماسية طيبة بين البلدين، وبالرغم من أن المانيا الغربية، كانت ايضا من أوائل الدول التي بعثت بالتهنئة، الا انها تأخرت في إقامة علاقات دبلوماسية، خشية من ان يعترف السودان بجمهورية المانيا الديمقراطية، مما يجبرها، الذي يستند على مبدأ الحق التمثيل الحصريHallstein-Doktrin على تنفيذ مبدأ أي عقيدة هالشتاين بأن جمهورية ألمانيا الاتحادية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الألماني. ولذلك لا تتمتع حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية بشرعية تمثيل الشعب الألماني، ولكن أكدت حكومة السودان لحكومة ألمانيا الغربية، بأن ألمانيا الديمقراطية تدير في الخرطوم مكتباً تجارياً وثقافياً فقط. لقد تم الغاء هذا المبدأ في عهد حكومة المستشار فيلي براندت. بمرور السنين ازداد عدد الطلاب السودانيين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حيث كان يتم الترشيح من قبل حكومة السودان، وعن طريق نقابات عمال السودان، واتحاد الشباب السوداني واتحاد الطلاب العالمي والحزب الشيوعي السوداني. اعترف السودان في 11 مارس 1970 بجمهورية المانيا الديمقراطية، في عهد حكومة جعفر نميري، وتم التمثيل الدبلوماسي وتبادل السفراء، وتوسع حجم العلاقات الاقتصادية والثقافية. عندما احكم النميري قبضته على الحكم، وتحول عام 1971 نحو الغرب. انعكس ذلك على وضع الطلاب في المانيا الديمقراطية، والتشدد في تجديد الاِقامة، مما دفع بلال في مايو 1975 وضد رغبته لمغادرة لايبزج إلى برلين الغربية. وخاض بلال هناك بالتعاون مع أصدقائه معركة قضائية من أجل الحصول على الاقامة الشرعية وتجنب التسفير القصري. فواصل دراسته في كلية الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة برلين الحرة، كما نجح في الحصول على أستاذ في جامعة أخرى ليشرف على أطروحته، بعد أن حصل على منحة من مؤسسة "أتو بينكه" (Otto-Benecke-Stiftung) ولكن البروفيسور جروس من جامعة ماينز، رفض الأطروحة الجاهزة، واقترح موضوعاً أخراً. وتمكن بلال من تقديم أطروحته في عام 1979. التي جاءت في 400 صفحة بعنوان: Zur Analyse des Verhältnisses sozialistischer Länder- Entwicklungsländer am Beispiel der Herausbildung und Entwicklung der der Deutschen Demokratischen Republik (1945-1974) لتحليل العلاقة بين الدول الاشتراكية والدول النامية من خلال مثال نشوء وتطور جمهورية ألمانيا الديمقراطية (1945– 1974 ). جاء في مقدمة الأطروحة: ــ تم البحث الحالي حول دراسات البلدان النامية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية بإيعاز من البروفيسور جروس من جامعة ماينز – ورغم البعد الجغرافي الكبير بين برلين وماينز – فقد رافقني بتوجيهاته النقدية والمشجعة حتى الانتهاء من هذا العمل، ولذلك أَدين له بجزيل الشكر. ــ كما أتوجه بالشكر إلى العديد من الأصدقاء والزملاء وأبناء الوطن في برلين الغربية، وكذلك الزملاء من جامعة برلين الحرة، الذين ساعدوني بسخاء ونكران ذات، لا سيما في تجاوز صعوبات البداية، وساهموا أيضاً في تطوير هذا العمل لاحقاً . وأخيراً، أعبّر عن امتناني لمؤسسة "أوتو بينكه" التي لولا دعمها المادي، لما كان من الممكن إنجاز هذا العمل. ــ كما أرجو من قارئ هذه الأطروحة أن يتفهم ما قد يكون فيها من فجوات، والتي قد تعود لطبيعة الموضوع المعقد والخاص بألمانيا، وهو موضوع لم يتم دراسته كثيراً من خلال البحث العلمي.. كما أن هذا البحث لم يتم ضمن فريق عمل، بل أنجز بشكل فردي من قبل مواطن من دولة نامية. برلين، فبراير 1979 قام بلال في عام 1981 1983 مع زميلين من الألمان بتقديم اقتراح لمشروع بحثي "حول تحديث تربية الماشية البدوية في السودان"، وذلك في جامعة برلين الحرة، الذي لم يتم إنجازه، لعدم الحصول على التمويل الذي كان متوقعاً من مؤسسة فولكسفاجن، برغم ذلك تم إنجاز 3 أبحاث، بعد أن حصل بلال على وظيفة أستاذ مساعد في معهد علم الاجتماع، نذكر منهم: • ــ أسباب ونتائج عمليات التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجال الرعي البدوي. ــ قطاع الكفاف الرعوي البدوي في أفريقيا. عند عودته إلى الخرطوم التحق عام 1984 بوزارة الطاقة والتعدين، بقسم الطاقات الجديدة والمتجددة، وساهم في إعداد الخطة القومية للطاقة، رابطًا بين العلم والتطبيق. وحصل عام 1986 على وظيفة في مؤسسة فريدرش ايبرت وأصبح مديرا لها من مايو 1992 حتي عام 2005، وثم مستشاراً لها حتي عام 2007. لا أريد أن أتحدث هنا عن دوره الرائد في هذه المؤسسة، فقد تم ذلك بإسهاب في الكلمات السابقة، وإنما أضيف فقط، لقد حرص بلال دائماً للحصول على بعثات للطلاب للدراسة في المانيا، كما كان يشارك كمراقب في بعض محادثات السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، التي كانت تنظمها أحياناً الحكومة الألمانية في مدينة بون. وقام بترشيح الصحفي الكبير محجوب محمد صالح والسياسي والقانوي المخضرم أبيل ألير للحصول على جائزة السلام، وتم ذلك في احتفال ضخم في برلين. حصل بلال في عام 2000 على وسام جمهورية ألمانيا الاتحادية في عهد رئيس الجمهورية ، يوهانس راو وتسلم الوسام في 4 أكتوبر 2001 في احتفال مهيب في بون. واختتم كلامي أيها الجمع الكريم، بالعودة بكم إلى ديسمبر عام 1957 حيث اُقيم لنا كطلاب في مدينة لايبزج، أول احتفال بعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام «الكريسماس» كنا نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية لبتهوفن وإلى أغاني «كورس بنات المدارس». وجوه الملائكة، وتغريد البلابل، يهتف عبد الرحيم بلال وهو في قمة النشوة «يا إلهي يا إلهي هذه عصافير الدنيا، فكيف تكون عصافير الجنة؟».
#حامد_فضل_الله (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طبيب نساء سوداني برليني عند بحيرة ليتزينزي
-
رحلة في ذاكرة المسرح السوداني
-
الاِسلام السياسي وجدلية التأويل
-
في ذكرى اللاهوتي والمفكر والمناضل الحقوقي Friedrich Schorlem
...
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
-
الرحيل نحو الأبديّة في تذكّر يحيى علوان (العراق).
-
عودة الروح ! مع حرب بوتين، يعيش عالم الغرب آخر نهضة أيديولوج
...
-
هل الأخلاق قبل كل شيء؟ لماذا قلما تتوافق القيم والمصالح الوط
...
-
أبو شوك: العطاء المستمر والصبر على الوفاء
-
المرأة السودانية في برلين حاضِرة ومُكرّمة
-
من بوتن إلى أردوغان كيف السبيل إلى تهدئة المراجعين عودة الجغ
...
-
كولونياليّة الإسلام السياسي - مرة أخرى حول كتاب د. فتح الرحم
...
-
يوتوبيا الاشتراكية: بوصلةٌ لثورةٍ مُستدامةٍ
-
كولونيالية الإسلام السياسي
-
زمن التحوّل العالمي في عالم متعدد الأقطاب، لا غِنى عن التعاو
...
-
»الجاني الوحيد روسيا«: كيفية إخماد الحريق بالبنزين
-
التقليد والتجديد في النضال من أجل المستقبل
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
-
عبد المنعم عجب الفيا قراءة في كتاب الشعر السوداني
-
العنصرية، المفهوم، التاريخ، المسار والآفق - كتاب للباحث والا
...
المزيد.....
-
ترامب من الدوحة: قبل 6 أشهر كان العالم يسخر من أمريكا لكنه ل
...
-
ترامب يقدم -تصوراته- لغزة: دعوا الولايات المتحدة تتدخل لجعله
...
-
ترامب عن رفع عقوبات سوريا: سنمنحهم فرصة.. وهذا ما قاله عن ما
...
-
ترامب يؤكد مجددًا: إيران لن تحصل على سلاح نووي.. ولا أريد ات
...
-
البرلمان اللبناني يصدر تشريعات جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلي
...
-
رحمة ناطور: حياةٌ بين -نكبتين-
-
النكبة: ماذا حدث في 1948؟ ولماذا يحمل الفلسطينيون -مفتاح الع
...
-
مقتل أكثر من 90 فلسطينياً في غارات إسرائيلية، وحماس تقول إن
...
-
خطة المساعدات الأمريكية لغزة: ماذا نعرف عنها؟ ومن يتولى تنفي
...
-
محادثات سلام أوكرانيا ـ غياب بوتين وحضور ترامب لا يزال قائما
...
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|