توفيق التونجي
الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 16:13
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
يطرح الاستاذ الدكتور فارس كمال نظمي في كتابه الجديد (الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعية لرؤية الشباب الجامعي خلال عشرين سنة 2004- 2024) مفهوماً رائجاً للصورة النمطية للعنف في الشخصية العراقية، ثم يأخذنا في رحلة فكرية يعرض فيها الكاتب أهم النظريات حول الصورة النمطية وكيف إن العديد من الكتاب والباحثين العراقيين أثاروا موضوع كون الفرد العراقي عنيفاً أو متطرفاً في سلوكه مقابل سلوكيات أمثال المسالمة والتسامح، دون براهين علمية موضوعية بل انطباعات ورؤى ذاتية تخصهم.
ولاختبار ما إذا كان الشباب العراقي يحملون الصورة النمطية نفسها عن "عنفية" الفرد العراقي، تم اختيار عينتين من طلبة الجامعة، الأولى في سنة ٢٠٠٤ أي بعد سقوط النظام البعثي ذلك النظام وما جلبه من مصائب على الشعب العراقي وجيرانه وغيّر في شخصية الفرد العراقي جراء الحروب والحصار الاقتصادي؛ وأعيد تكرار التجربة علىً نفس الفئة بهدف القياس سنة ٢٠٢٤. فقد اختيرت كلية الآداب لتكون ممثلة عن الاختصاصات الإنسانية فيما اختيرت كلية الصيدلة لتكون ممثلة عن الاختصاصات العلمية ومن كلا الجنسين، بافتراض إن هذين العقدين من الزمن يعدّان فترة زمنية كافية لدراسة أي تغير نفسي في سلوكيات الأشخاص وأفكارهم بتأثير ما مر به العراق خلالها من عنف سياسي وانقسام طائفي وتبدلات في الثقافة السياسية والهوية الوطنية.
لا ريب ان المجتمعات البشرية تتأثر بالبيئة الاجتماعية والأعراف السائدة، والمجتمع العراقي لا يزال يعيش صراع البداوة والحضارة، وهذا ما شاهده البريطانيين عند احتلالهم للعراق إبان الحرب العالمية الاولى من كون المجتمع ذا تكوين قبلي عشائري لم يتغير حتى عند وصول قوات الاحتلال في٢٠٠٣، ولا تزال العشائرية اهم صفات المجتمع العراقي بتقديرنا.
إلا ان الاستاذ فارس يأخذنا في دراسته ليبحث اتجاهات الطبقة المتعلمة من المجتمع العراقي، وهي طبقة مستعدة للتغير نتيجة التعليم والدراسة وزيادة المعرفة بالمقارنة مع المجتمع الريفي والعامة من الناس وهم الأكثرية. وقد طُرحت النظرة النمطية للشعوب العنيفة للنقاش في الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية حيث كان النقاش علىً أشده حول كون الشعب الألماني عنيفاً، وكان رد علم النفس واضحاً بإن القطيع ينفذ الأوامر لأن المسؤولية توزع على القطيع بأكمله من ناحية، ومن ناحية أخرى تنفيذ الأوامر لا علاقة بها بالانتماء العرقي للشعوب.
كان من أهم ما توصل اليه الباحث نظمي في دراسته أن التغير قد حدث فعلاً بين الشباب وباتجاه موجب في نظرتهم النمطية للشخصية العراقية، أي إن الشباب الجامعي ومن كلا الجنسين يعتقدون سنة ٢٠٢٤ بإن الشخصية العراقية غير عنيفة رغم انهما متوترةً وانفعالية. وهذا يمثل تغيرا ايجابياً بالمقارنةً مع نتائج سنة ٢٠٠٤ .
وقد التقيت بالباحث لأسأله حول إمكانية تعميمً نتائج بحثه على جميع أبناء المجتمع العراقي أم إنها تبقى منحصرة في الطبقة المتعلمة؟
فردّ قائلاً «إن منهجية البحث العلمي ترشدنا إلى التريث بإطلاق مثل هذه التعميمات غير المسنودة بالبراهين الموثوقة. فللحصول على إجابة مستقرة ومسنودة لا بد من إجراء دراسات ميدانية مماثلة تشمل فئات أخرى من العراقيين، وعندها يمكن الخروج بصورة واضحة المعالم عن موقفهم من عنفية أو عدم عنفية الفرد العراقي. لكن دراستي تناولت الشباب حصراً لكونهم الفئة الأكثر عدداً من بين الفئات الاجتماعية الأخرى، ولكونهم الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث المستقبلية للبلاد. وهم بذلك يقدمون صورة مهمة وذات دلالة نفسية عميقة عن توجهات المجتمع وموقفه التقييمي الذاتي من نفسه خلال العقدين الأخيرين، دون إمكانية التعميم أو الإطلاق».
ختاماً يوصي الباحث فارس كمال نظمي بإن الباحثين والمؤرخين والكتاب والإعلاميين ممن يتصدون لموضوعة الشخصية العراقية، مطالبون بالتوقف عند نتائج البحث الحالي واستنتاجاته، والتمعن بها، وملاقحتها بمضامين مؤلفاتهم، سعياً لتحاشي الانبهار بالتصورات التعميمية المسبقة عن سيادة خصائص العنف لدى الفرد العراقي، فتكوين فهم شامل للشخصية الاجتماعية في أي بلد يستلزم - إلى جانب الرصد الموضوعي لها والملاحظات النخبوية عنها - أن نفهم أيضاً كيف يفكر الناس ذاتياً حيالها، أي إدراكهم الظاهراتي لها ، إذ يشكل هذا الإدراك ركناً أساسياً كاشفاً عن الديناميات الوظيفية لهذه الشخصية، بين خصائصها الموضوعية الواقعية وبين صورتها النمطية المتكونة ذاتياً في أذهان من ينتمون لها. هذه الوصية للكاتب عامة وهي طبعاً واردة في جميع المجتمعات الإنسانية، لكن تاريخ العراق – بتقديرنا- دموي وفترات سواد السلم الاجتماعي قصيرة بالمقايسة مع فترات العنف الشديد منذ شهداء كربلاء وصولاً الى حلبچة والأنفال والمقابر الجماعية والحروب في كوردستان وإيران والكويت. إلا إن شخصية الفرد العراقي يمكن أن تتغير وتتطور عن طريق المعرفة والتعليم ومحو الأمية من ناحية، ومن ناحية اخرى مع إزالة جميع مظاهر العنف في الشارع المدجج بالسلاح من عصابات وما يسمى بالميليشيات ووجود العديد من المجموعات الاجرامية المسلحة السرية منها والتي تعشعش هنا وهناك.
هذا يدفعنا للتساؤل المحق، هل العنف من الأمور السلوكية المنغرسة في شخصية الإنسان منذ ايام إنسان الكهف الذي كان علية النضال من أجل البقاء؟
يجيب نظمي بالقول «إن علم النفس الاجتماعي يرى إن العنف سلوك معقد ولا يتحكم به موضع واحد في الدماغ، إذ وجد أن ثمة أنظمة عصبية لدى الحيوانات والبشر تسهّل العدوان، وحين يتم تنشيط هذه المناطق في الدماغ تزداد العدائية، وعندما يتم تقليل نشاطها تقل العدائية. كما ثبت أن تفاعلاً معقداً بين العوامل البيئية والفسيولوجية هو الذي يقرر ما إذا كان العدوان سيحدث أم لا. فالدماغ نظرياً مزود بالقدرة على التصرف بعدوانية، إلا أن ممارسة هذه القدرة من عدمه يعتمد على عوامل بيئية عديدة أخرى، أي أن وجود هذه القدرة لا يعني أنها يجب أن تُمارَس بالضرورة، إذ يمكن للسياق الاجتماعي المحيط بها أن يكبحها أو يحيّدها أو يقننها. ومن جهة أخرى، يرى علم النفس التطوري أن العنف أصبح مبرمجاً في الجينات البشرية بوصفه أحد أهم الوسائل للبقاء على قيد الحياة، إذ أن الصراعات عبر التاريخ بين الجماعات البشرية قد رسخت جينياً حتمية التنافس من أجل الاستحواذ على موارد العيش والحياة. إلا أن هذه التفسيرات البيولوجية تظل تواجه نقداً علمياً مستمراً في ضوء البرهنة على أن جماعات بشرية عديدة في مراحل ما قبل التاريخ، وجماعات بدائية حالية، نادراً ما خاضت حروباً أو صراعات عنفية فيما بينها، بما يعني إن إنسان الكهوف لم يكن مبرمجاً على العنف، بل ظهر العنف في مراحل لاحقة من التطور الاجتماعي. فمثلاً لم تندلع الحروب إلا قبل عشرة آلاف سنة، ولم تصبح أمراً دورياً مشاعاً إلا قبل ستة آلاف سنة طبقاً لدراسات انثربولوجية وآثارية».
ختاما بدورنا نشكر الدكتور فارس على الإيضاحات التي تقدم بها والاضافة القيّمة لموضوع مهم هو الصورة النمطية التي تحملها الطبقة المتعلمة العراقية حيال الشخصية العراقية، وكيفية تغيرها ديناميكياً.
الاندلس
2025
السيرة الذاتية للكاتب:
الاستاذ الدكتور فارس كمال عمر نظمي، من مواليد بغداد ١٩٦٢. بروفيسور / كاتب وباحث في سيكولوجيا السياسة والمجتمع والشخصية. أستاذ علم نفس الشخصية، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم نفس الدين، وعلم النفس العام، والإحصاء النفسي. مُحاضِر في عدد من الجامعات العراقية، منها جامعة بغداد، وجامعة صلاح الدين-أربيل، وكلية بابل للفلسفة واللاهوت، وأكاديمية بغداد للعلوم الإنسانية. الاختصاص البحثي الدقيق: العدالة/ الحرمان/ الهوية الاجتماعية/ الاحتجاج/ السلوك الجمعي/ العنف/ الدين السياسي.
له أطروحة دكتوراه في علم النفس الاجتماعي:
((الحرمان النسبي والهوية الاجتماعية وعلاقتهما بسلوك الاحتجاج لدى العاطلين عن العمل))، بتقدير "امتياز" من قسم علم النفس/ كلية الآداب/ جامعة بغداد 2009.
لا تظهر الصور في الحوار المتمدن.
الإشارات:
لقراءة الكتاب بالكامل راجع الرابط التالي:
https://drive.google.com/file/d/1A54HrxajDgQy9Ow0jC8j2gXlmclrkDUX/view?usp=sharing
#توفيق_التونجي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟