أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - احمد عبد الستار - كتاب: الناصرية وكوخ القصب















المزيد.....



كتاب: الناصرية وكوخ القصب


احمد عبد الستار

الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 21:30
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


كتاب: الناصرية وكوخ القصب
المقدمة
 
لطالما شغلني ومنذ حداثة سنّي سر الجفاء والفتور بين أبناء المدينة وأبناء الريف، وما يكمن وراء هذا الواقع الذي نصطدم به يومياً، والقائم على انعدام الثقة وحالات من الازدراء من طرف بوجه طرف آخر. كنتُ شاهداً على التصرفات الفظة والنعوت القاسية التي يطلقها بعض من أهل المدينة، أو ربما الكثير منهم، بحق أبناء الريف الذين كانوا يزورون المدينة لتلبية حاجاتهم، أو النازحين والمقيمين منهم فيها، حتى إني تبنيتُ أفكاراً من أهل المدينة بحق أولئك الريفيين في مرحلة من مراحل عمري.
كان ثمة سؤال يراودني سنوات مديدة: هل أبناء الريف، العشائر، هم هكذا حقاً كما يصفهم أبناء المدينة، أم هذا سلوك مصدره التعالي بلا مبررات تستحق كل هذا التحامل؟
منذ دخولي المدرسة الابتدائية زاملت العديد من الطلاب من أصول ريفية، وكان كثير منهم أصدقاء لي، وكذلك في الجامعة والحياة العسكرية، لم أجد أي دليل يؤشر على حقيقة هذه التهم ضد أبناء الريف، وليس أكثر من صحة وجود فوارق حضارية وطرق حياة وقيم بين طبيعة مكانين: الريف والمدينة، لا ترتقي إلى تجريم ابن الريف بإفساد المدينة وإلحاق الفوضى والخراب فيها بجهله وتخلفه وسوء طباعه.
الريفي يشعر بصعوبة التكيف مع واقع المدينة بسبب الاختلاف الحضاري بين الثقافتين، وبسبب النمط الاقتصادي المفروض عليه فرضاً، على العكس من حياة الريف القائمة على الزراعية ونمط  سلوك اجتماعي وثقافي معين، وخبرات بسيطة غير معقدة مثل علاقات وخبرات المدينة. والأجدر أن لا يوجه الاتهام لابن الريف شخصياً، بل يجب فهم الطابع المعيشي والاجتماعي في الريف، بدلاً من وضع حدود بين الريف والمدينة قائمة على الثنائية والتعارض والمقابلة. فالريف والمدينة عالمان متكاملان منذ البداية، يعتمد أحدهما على الآخر في الإنتاج والتبادل السلعي والخدمي والثقافي، يعني ذلك تعدد الأنماط المعيشية داخل المجتمع الإنساني الواحد وتعدد الثقافات، للمدينة طابع وللريف طابع آخر، ومن الصعب على الريفي  التخلي عما نشأ عليه في بيئته، عندما يسافر أو ينتقل للعيش في بيئة المدينة المختلفة.
وبطبيعة الحال، هاجر الريفي إلى المدينة تحت ضغط ظروف فاقت طاقة تحمله، والظروف هي المتهمة التي حملته بعيداً عن موطنه أو كما يقول الريفيون عن "ديرته"، أي عن مصدر إقامته ومعيشته كعامل في المهن الزراعية، وليس ذلك فحسب بل حامل لثقافة يعتز بها، وليس المتهم هذا الإنسان الأعزل من كل شيء سوى قدرته على العمل.
وهل هذا الاختلاف بين الثقافتين، بين عالمي الريف والمدينة، يستوجب نزع إنسانية الإنسان، أم إنّ الأمر قائم على حرب طبقية وثقافية، عندما يرى بعضٌ أنّ الآخرين ليسوا سوى مصادر للاستغلال: فإلى أي أساس تستند هذه الصورة النمطية وكيف شاعت؟
البحث في عمق هذا الموضوع يتطلب قبل كل شيء الوقوف عند مجتمع المدينة وكيف تشكّل، ومن هم أبناء المدينة وأقصد مدينة الناصرية بالذات (موضوع هذا البحث)، بالرغم من إن الصراع الطبقي والحضاري- الثقافي، موجود في كل مدينة على مستوى العالم، وفي العراق. إلا إن للناصرية خصوصية، تعود لحداثة نشأتها وما أحاط هذه النشأة من صيرورة اجتماعية وتداعيات اقتصادية وسياسية طبعت تاريخها بميسمه الذي اتسم بالحدة والغليان المتواصل على مدى عشرات العقود.
من أجل الإحاطة بمفهوم المدينة، قررتُ البدء بتعريف المدينة بوجه عام في الفصل الأول من بحثي، كظاهرة تاريخية ولدتْ من القرى الأولى خلال خطوات الإنسان للاستقرار والتحضر، والأسباب التي دعت لنشأة المدن عالمياً، وأسباب نشأة الناصرية وبنائها كحاضرة ومركز سياسي واقتصادي، بعد تمليك أراضيها لأمراء وشيوخ العشائر. وبعد قرار التمليك الصادر من الدولة العثمانية، وتوزيع أراضيها وتملكها من الشيوخ، تغيرت العلاقة بين هؤلاء الملاكين وأبناء عشائرهم من علاقة أبوية إلى علاقة استغلال، وتحول الشيوخ من شيوخ عشائر إلى مؤجري أراضي إلى الفلاحين، وصار الشيوخ جباةَ ضرائب لدولة الاحتلال العثماني ومن بعده الاحتلال البريطاني، وأنظمة الحكم المتعاقبة لإدارة حكم العراق، وإدارة مصالح طبقة الأرستقراطيين.
وقع الفلاحون فريسة الظلم بأنواعه تحت ظل أنظمة الحكم المتعاقبة منذ قرار تمليك الأراضي، وغدوا غرباء عن أرض آبائهم وأجدادهم، يعملون ليل نهار، من أجل تأمين ضرائب الأرض والديون المتراكمة عليهم، وساءت العلاقات الاجتماعية مع سوء أوضاع الريف، وبات جميع الفلاحين وعوائلهم تحت رحمة نظام بلا رحمة، برز ذلك في عبودية المرأة والأطفال، والتدني الخطير في الحال المعيشي لجمهور الفلاحين. ومع توالي الأنظمة الحاكمة، لم يتغير شيء يذكر في حال الفلاح، بل سارت بشكل عجيب في إحكام القبضة على الأرض والفلاح، رغم تعدد الأنظمة الحاكمة وتعارضها أحياناً، بقوانين صدرت عبر عقود في عملية مستحكمة، للاستيلاء على الأرض ومحاصيلها ومنتجيها.
لهجرة الريفيين إلى المدينة دوافع كثيرة ولا تتوقف عند دافع واحد، منها على سبيل المثل لا الحصر، توفر الخدمات الحضرية في المدينة بمختلف أنواعها مثل الصحة والتعليم والنقل وتوفر الخدمات السلعية والمرافق الترفيهية الخ، وتوفر الأمن وتحسين الحياة الاجتماعية، والتغير المناخي والتصحر، والفقر. لكن ضرورة البحث حدتْ بيّ إلى التركيز على اضطهاد الفلاح وتعرضه للسوء من ملاكي الأرضي، لأنّي اعتقد أنّ هذا هو العلة الرئيسية لموجات النزوح الكبرى، وعذاب الفلاح وعائلته، فترك جروحاً غائرة تنكأ روحه وتشعره بالحيف والصدود، وحتى الشعور بالنقمة تجاه المجتمع.
ومن أجل التقصي للبدايات التاريخية لنشأة مدينة الناصرية، راجعتُ المصادر التاريخية التي دونت وسجلت لهذا الحدث، لمؤلفين عراقيين وأوروبيين وأتراك، وكذلك لما كُتب عن قوانين تملك الأرض وأنواع التصرف بها، ومصادر من المكتبة الماركسية، فيما يخص طبيعة تملك الأرض في الشرق والغرب، وللاقتصاد وعلم الاجتماع، ومذكرات السياسيين الغربيين والعراقيين حول علاقة ملاكي الأرض وتحالفهم مع السلطات البريطانية، والتقارير السرية للحكام السياسيين البريطانيين، مع دراسات لقوانين ما سُمي بالإصلاح الزراعي في عهد ما بعد الملكية. مستنداً في بحثي إلى المنهج المادي التاريخي، الذي يرى أن أسلوب الحياة المادية يشترط ويحدد العلاقات الاجتماعية والسياسية والروحية لحياة المجتمع.
وعلى حدود بحثي لم أجد بحوثاً ارشيفية، أو مصادر قريبة أو بعيدة، تدرس أو توثق حياة الفلاحين المعدمين القادمين للاستقرار في مركز مدينة الناصرية للأسباب التي سبقت الإشارة إليها، ومع شح هذه المصادر أو انعدامها أحياناً ممكن أن نقول، آليتُ على نفسي أن أواصل تسجيلي لما يمكن أن أحصل عليه من أي توثيق ما، يحفظ لهؤلاء المهمشين ذكراهم وجهادهم. ولهذا كان السبيل الوحيد للاطلاع على تفاصيل ظروفهم وأحوالهم المعيشية والشخصية في مركز المدينة عن طريق المقابلات الشخصية مع شخصيات منهم من يسكن المدينة ومنهم في الريف، عاشوا وعاصروا مخاضات مجتمع الناصرية منذ عقوده الأولى. وكانوا شهود عيان أو قريبي عهد من جميع مظاهر الصراعات الاجتماعية والديناميات المختلفة بين الطبقات ومستوياتها ومرجعياتها الثقافية التي شكلت تركيبة مجتمع المدينة، منذ ذلك الحين. قابلتُ معمَّرين وفلاحين ووجهاء ومعارف وأصدقاءً يسكن منهم في الريف وفي المدينة، ونساءً ريفيات ومن أصول ريفية يسكنّ في المدينة، أغلب الريفيين الذين قابلتهم رفضوا ذكر أسمائهم وعشائرهم، واكتفوا بشهاداتهم، أو ذكر اسمه فقط دون ذكر مكانه أو عشيرته تجنباً للإحراج أو العواقب العشائرية، وسجلت ما قصّوا ورووا لي دون ذكر أسمائهم أو حتى ذكر العشيرة أو المكان الذي حصلت فيه الوقائع والقصص، والنساء على الإطلاق رفضن ذكر أسمائهن وعشائرهن.
لاحظت أمراً لابدّ من أن أذكره وهو تعاطف كل من قابلته تقريباً في الريف أو المدينة مع الفلاحين وما تعرضوا له من ظلم وقع عليهم في أرضهم أو في المدينة، ذكروا مشاهداتهم وذكرياتهم وما منقول عنهم بأسى شديد، ومشاعر الإشفاق غالبة عليهم، بل لاحظت بعضاً من الفلاحين من يضيع في برهة مع الصمت قبل أن يمضي في الحديث عمّا يتذكره عن حياة آبائهم وأجدادهم.
إلا أشخاصاً معدودين ممن  قابلتهم، لم يكونوا متعاطفين أو من يفهم حال الفلاح والواقع الريفي. يرد عليّ أحدهم أثناء حديثي معه: "أبناء العشائر كنّا نكرمهم ونضيفهم ونهتم بهم كل اهتمام"، يقصد شيوخ العشائر، وعندما كررت عليه بأني أقصد الفلاحين النازحين للمدينة اكتفى  بهز رأسه والنظر إليّ كالمستغرب، وهو يعود في أصوله إلى عائلة الحمداني من عوائل تجار المدينة المؤسسين.
ومن أهم الأشخاص الذين ساهموا مساهمة سخية في الإجابة على حاجتي للمعرفة واستفهاماتي عن حياة الريف والمزارعين والنازحين وساكني المدينة كان السيد عكاب آل سيد كريم آل مضيف، وهو من أصحاب البساتين ووجهاء صوب الشامية في الناصرية، وكذلك الفلاح الخلوق شاكر الحاج ثامر الحاج شهاب العطا الله، يسكن منطقة العثمانية في ناحية أور، ومن أبناء المدينة المعروفين عباس الحاج ابراهيم النداف.
 مدينة الناصرية مركز إداري وحضري، تحيطه وتتخلله أكواخ الفلاحين المهاجرين من القصب وسعف النخيل، ولهذا جعلت عنوان البحث (الناصرية وكوخ القصب)، وما يمثله كوخ القصب في الحضارة السومرية القديمة التي ورد ذكره في اللوح الحادي عشر من ملحمة كلكامش " كوخ القصب! يا كوخ القصب! أيها الجدار! أنت يا جدار!.."، فمنذ ذلك التاريخ هو تقليد موروث استخدمه أول بناة المدنية.
وفي الختام أوجه شكري لصديقي الدكتور علي حاكم صالح، لما بذله من جهد استثنائي، من خبرته الأكاديمية، وتزويدي ببعض الكتب، والمصادر الرقمية، وصبره معي طوال فترة كتابة البحث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
مدينة الناصرية: الحدث والولادة
يكاد يكون عدد تعاريف المدينة بعدد المفكرين، والدارسين، والمهنيين، وعلماء الاجتماع، الذين تناولوا موضوعات علم الاجتماع الحضري، أو ما يُعرف بـ"سوسيولوجيا المدن"، وتفاعل الإنسان مع بيئته الاجتماعية، كلٌّ حسب انتسابه ومنطلقه الفكري والمعرفي. والتعاريف أيضا تعددتْ، بتعدد الأسباب التي دعتْ لنشأة المدن وتطورها.
المدينة ظاهرة تاريخية، اقترن وجودها مع أولى خطوات تطور الإنسان منذ حقب تعود إلى آلاف السنين، عندما شرع بالانتقال من المراحل الأولى لجمع القوت، والتقاط الثمار من الطبيعة السخية، المشاعة للجميع إلى درجة من اليسر جعلت هذه المرحلة التاريخية من شكل الحياة، توصف بصفحة "من اليد إلى الفم"، أو المشاعة البدائية. ثم الصيد وتعقب الطرائد واتقان صناعة أدواته وطرقه المختلفة، والترحال بحثاً عن مناطق أوفر صيداً وآمن. هذه الخطوات الأولى التي بدأها الإنسان لتأمين مصادر معيشته، فتحت أمامه حلقة من سلسلة التأمل لكيفية التصرف بقوى الطبيعة وتسخيرها لحاجاته، وكان من أولها السيطرة على الحيوانات البرية وإخضاعها ورعيها. أما الأراضي قليلة الخصوبة أو الموسمية، فقد فرضت عليه التنقل بحثاً عن أراضٍ خصبة أو الانتجاع في الموضع أي الاستقرار بأرضٍ ذات مراعٍ ثابتة، والأخيرة مهدت السبيل أمام خطوات ثورية تالية بشّرت بولادة المجتمعات الإنسانية الأولى.
الزراعة: فلاحة التربة من حرثٍ وغرس وري، سواءً أكانت لعلف  الماشية[1] أو غذاء للبشر، تتطلب قدراً من العمل المشترك بين الأسر الفلاحية الأولى، بالأخص أعمال الري والحفاظ على خصوبة التربة وصيانتها، وعلى أساس هذا العمل الجماعي الواجب،  نشأت المجتمعات الزراعية أو القرية الزراعية الأولى، عند تجمع عدد من الأسر بهدف خلق عالم مكتفٍ بذاته، وهذه المستقرات وحسب الإشارات الأولى كانت قد بنتها المرأة، أو العائلة ذات الطابع الأمومي لأنّ المرأة كانت هي المسؤولة بحكم طبيعتها البيولوجية عن حياة الأطفال، وتحضير كل ما يلزم لرعايتهم وتنشئتهم، وصيانة المنزل. كما إنها شاركت بالأعمال التي يقوم بها الرجال، وفق التوازن في تقسيم العمل الجماعي آنذاك. "كانت المرأة، هي السيدة، والحاكمة، وصاحبة القرار، الطبيبة، المدبرة، المالكة، المعلمة الأولى، والحكيمة. هي التي تورث أبنائها، وهي التي ينسب إليها الأطفال."[2] والنسب هذا هو المؤكد قبل تطور أشكال الزواج الأولى تاريخياً، وقبل ظهور وانتشار الزواج الأحادي بصورته الأخيرة. والحاجة إلى التآزر والترابط العضوي بين الأفراد والأسر كعشيرة، في إنتاج وإعادة إنتاج وسائل البقاء تمليها وقائع الحياة المتدنية والشاقة، قليلة الإنتاجية والخالية أي فائض.
وبعد تراكم الخبرات واكتساب المهارات التقنية، والتوسع في تربية الحيوانات، واستصلاح الأراضي الزراعية في عهد أكثر تقدماً أضحت هذه المجتمعات قادرة على إنتاج ما يزيد عن حاجتها اليومية، من فائض من الغذاء، ومستلزمات المعيشة الأخرى. وظهرت مستودعات التخزين، لحفظ الغلة لزراعتها في الموسم القادم، أو لتبادلها مع مستوطنات أخرى. وفي أعقاب التبادل ظهرت التجارة السلعية وملكية هذه السلع ووسائل إنتاجها، أي ظهور الملكية الخاصة وانقسام المجتمع إلى طبقات، طبقة مالكة وحرّاس ملكيتهم. مما أفضى إلى ظهور فصائل عمل جديدة من مدافعين وحرفيين، وشرائع قانونية ومنفذيها، كأول انفصال اجتماعي كبير، وترسيخ تقسيم العمل وآثار هذا التقسيم بين البشر كأسياد وعبيد، كما اشترط هذا التقسيم في العمل إلى ترسيخ وضمان سيادة الرجل داخل العائلة، لكون أسباب المعيشة كانت قد اقترنت به من قبل، واضطرت المرأة إلى الاكتفاء بالعمل المنزلي، وتغير نظام الوراثة فيما يُعرف ب(حق الأم)، وانتقاله إلى نظام الأبوة وغدتْ الزوجة "آلة لتربية الأطفال"[3]، وبلا ملكية.
التوسع بالتجارة خلق مراكز تجارية، ومهناً ووظائف متعلقة بالعمل التجاري، وأسواقاً مختلفة، وظهور النقد، "كمعادل عام لجميع البضائع."[4] والنقد أي المال أوجد وظائف جديدة أيضاً من سكّاكين للعملة وصيارفة، ومرابين... وتحولتْ التجمعات البشرية الزراعية وتربية الماشية الأولى إلى مدن تجارية وأسواق. وتنافس بين التجار ومنتجي البضائع، وبحكم الضرورة وجدت هيئة تنظم الحياة الجديدة، هي الدولة ومؤسساتها المادية والروحية.
والتنافس والسعي، لنيل المزيد من الأرباح في السوق الداخلية، أو الخارجية، أو من أجل استقرار السوق والتجارة، خلقَ التباري بين المتعاملين في الأسواق، ودفع بالأمر إلى درجة العداء، والاعتداء والغزو طمعاً بالثروات والموارد الذي استلزم اللجوء إلى القوة لحماية الممتلكات ومنع العنف، وتشييد دفاعات محصنة من حصون وقلاع، للحماية من الاعتداءات والغزو وغارات المنافسين والطامعين، فصارت هذه المراكز الدفاعية بمثابة عواصم تقي السكان من أخطار الحروب، وهي المخابئ الآمنة، أو المدن العسكرية.
إن نقطة انطلاق الحضارة بدأت مع نشوء المدن، ومع توسع النشاط التجاري وجمع الثروات. وهي الأسباب التي أدت بالنتيجة لظهور مدن تكميلية للبواعث الأولى، مثل محطات الاستراحة عند تقاطع الطرق التجارية، ومدن إدارية لمتابعة الأنشطة التجارية والعسكرية والسياسية، (ومدن سياحية وموانئ، ومدن دينية وصناعية، ...الخ.)، ولكل مدينة وجدت بالتاريخ قصة تتعلق بكيفية وأسباب ولادتها، مهما اختلفت وتنوعت هذه المدن، منذ خروج أولها من القرى البسيطة، حتى أعقدها في الزمن الراهن وأكثرها سعة.
المدينة
 كلمة مدينة كما وردت في لسان العرب: "مَدَنَ بالمكان: أَقام به، فِعْلٌ مُمات، ومنه المَدِينة، وهي فَعِيلة، وتجمع على مَدَائن، بالهمز، ومُدْنٍ ومُدُن بالتخفيف والتثقيل؛ وفيه قول آخر: أَنه مَفْعِلة من دِنْتُ أَي مُلِكْتُ. قال ابن بري: لو كانت الميم في مدينة زائدة لم يجز جمعها على مُدْنٍ. وفلان مَدَّنَ المَدائنَ: كما يقال مَصَّرَ الأَمصارَ. قال وسئل أَبو عليّ الفَسَوِيُّ عن همزة مدائن فقال: فيه قولان، من جعله فَعِيلة من قولك مَدَنَ بالمكان أَي أَقام به همزه، ومن جعله مَفْعِلة من قولك دِينَ أَي مُلِكَ لم يهمزه كما لا يهمز معايش. والمَدِينة: الحِصْنُ يبنى في أُصطُمَّةِ الأَرض، مشتق من ذلك. وكلُّ أَرض يبنى بها حِصْنٌ في أُصطُمَّتِها فهي مدينة ... ابْنُ مَدِينَةٍ أَيِ الْعَالِمُ بِأَمْرِهَا. وَيُقَالُ لِلْأَمَةِ: مَدِينَةٌ أَيْ مَمْلُوكَةٌ، وَالْمِيمُ مِيمُ مَفْعُولٍ، وَذَكَرَ الْأَحْوَلُ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْأَمَةِ ابْنُ مَدِينَةٍ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ الْأَخْطَلِ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَاْلَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ابْنُ مَدِينَةٍ ابْنُ أَمَةٍ، قَاْلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: يُقَالُ لِلْعَبْدِ مَدِينٌ وَلِلْأَمَةِ مَدِينَةٌ...
وفي مختار الصحاح: (مَدَنَ) بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ وَبَابُهُ دَخَلَ وَمِنْهُ (الْمَدِينَةُ) وَجَمْعُهَا (مَدَائِنُ) بِالْهَمْزَةِ وَ (مُدْنٌ) وَ (مُدُنٌ) مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا. وَقِيلَ: هِيَ مِنْ دِينَتْ أَيْ مُلِكَتْ.
وفي معجم العين: الديِّن الطاعة، ودانوا لفلان أي أطاعوه. وفي المثل كما تُدين تُدان، أي كما تأتي يُؤتى إليك. والمَدينة الأمة والمَدين العبد."[5] وكذلك في عدد آخر من معاجم اللغة، لا تخرج عن سياق هذه المعاني.
وسواءً أكان المعنى هو الإقامة في المكان، أو في المعنى الآخر وهو الحمل على الإتباع والخضوع، كما في "مُدان لك" أي مُلزم لك، يمكننا أيضاً أن نفسر هذا المفهوم بمعنى الانقياد إلى نظام، وسلطة مفروض قانونها فرضاً في مكانٍ ما أي سلطة مدينة. وهذا المعنى قريبٌ أيضاً إلى حدٍ ما من المعنى اللاتيني للمدينة "(civitatem)"  مجتمع المواطنين، المشتق منه التعبير في اللغة الانكليزية " citizen" بمعنى المواطن التابع إلى نظام مديني.
أما اصطلاحاً، فهناك تعاريف كثيرة أطلقها فلاسفة وعلماء اجتماع وصناعيون تعبيراً عن رؤاهم وتخصصاتهم المختلفة، ولهذا لم نجد تعريفاً محدداً وواضحاً، يشمل مفهوم المدينة ومعناها. فهي ذات هوية وطبيعة متنوعة، ومتحركة، بمختلف الأبعاد. يأتي تعريفها مرة حسب الموقع أو الوظيفة أو السمة أو مؤشر ما عند مفكر ما، ومرة يأتي كأمنية لما يجب أن تتوفر عليه "المدينة الفاضلة" لساكنيها من الأمن والانسجام والرفاه كما عند أرسطو وأفلاطون ومن بعدهما الفارابي وإخوان الصفا، وغيرهم.
ومن رواد علم الاجتماع  الذين تناولوا التخطيط العمراني خلال القرون الوسطى كان الأبرز ابن خلدون، فقد خصص فصولاً عديدةً في مقدمته الشهيرة يعرض فيها نظريته في "المدن والأمصار وسائر العمران. يقول شارحاً: "اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤْثِر الدَّعَة والسكون، وتتوجَّه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولمَّا كان ذلك القرار والمأوى، وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها، وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها.. أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة.. يجب أن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرة، فإن وجود الماء قريبًا من البلد يسهِّل على الساكن حاجة الماء، وهي ضرورية؛ فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة.." وأن يراعى "طيب الهواء للسلامة من الأمراض" و "أن الهواء إذا كان راكدًا خبيثًا، أو مجاورًا للمياه الفاسدة.. أسرع المرض للحيوان الكائن فيه.. كما تفشَّت الأمراض بين السكان." ويدعو إلى تعزيز دور الصناعة التي يميزها بين نوعين: "اعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران فهي بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد، منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضع فنخصها بالذكر ونترك ما سواها . فأما الضروري، فالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة. وأما الشريفة بالموضع فكالتوليد والوراقة والغناء والطب..." ويوصي أبن خلدون بأن لا تكون المدينة "كرسياً للملك" حتى لا" ينقص عمرانه...وربما ينتهي انتقاضه إلى الخراب".[6]
ومع ظهور وتطور العصر الصناعي الحديث، برزتْ صراعات وتفاوتات حادة بين الطبقات داخل المدن الصناعية الغربية، نجمت عنها واستشرت مشاكل اجتماعية، ومن أبرزها ما بحثه أنجلز في "مسألة السكن، بعنوان المدن الكبرى" عن حال الطبقة العاملة في بريطانية، الكتاب الذي أصدره عام 1844، ويعتبر من أول الجهود النظرية التي أسست بالاشتراك مع رفيق دربه كارل ماركس النظرية الماركسية.
في تحليل أنجلز في هذا الكتاب للبؤس الذي يعانيه العمال في مدن بريطانيا الصناعية، نجد ربطاً بين ازدهار المدن الغربية (والبريطانية مثلاً هنا عنده) لفائدة الطبقة الرأسمالية، وبين استغلال وتشويه حياة العمال كما يذكر في الفقرة التالية: "تحويل المدينة إلى حاضرة فخمة. إنما أعني هنا بـ"هوسمان"[7] الممارسة التي جرى تعميمها، الممارسة القائمة على فتح شروخ في الدوائر العمالية، ولا سيما التي تقوم في المركز من مدننا الكبيرة- أكان ذلك يستجيب لعناية بالصحة العامة، ولرغبة في التجميل، وللطلب على محلات تجارية كبيرة في المركز، أم لمتطلبات حركة المرور( وضع تجهيزات للخطوط الحديدية، شوارع، الخ). ومهما يكن السبب، فأن النتيجة هي ذاتها في كل مكان: الأزقة والدروب المسدودة تختفي، والبرجوازية تتباهى بهذا النجاح العظيم- ولكن الأزقة والدروب المسدودة تعود إلى الظهور في أماكن أخرى، وغالباً في الجوار المباشر... بؤر الأوبئة، وأقذر الأقبية، التي يحبس فيها نمط الانتاج الرأسمالي شغيلتنا ليلة بعد أخرى، لم تتم ازالتها، بل جرت فقط.. ازاحتها! الحاجة الاقتصادية ذاتها تلدها هنا كما تلدها هناك. وما استمرار بقاء نمط الانتاج الرأسمالي فسيكون من الجنون أن يراد الحل منعزلاً لمسألة السكن كما لكل مسألة اجتماعية أخرى تتعلق بمصير العمال. فالحل يقوم على إلغاء هذا النمط للإنتاج، على تملك الطبقة العاملة ذاتها لجميع وسائل الانتاج والعيش.
كيف إذن تحل مسألة السكن؟ في مجتمعنا الحالي، مثل كل مسألة اجتماعية أخرى: بإقامة توازن اقتصادي، تدريجياً، بين العرض والطلب. وهذا الحل، الذي لا يَحول دون قيام المشكلة من جديد على الدوام، ليس بالتالي حلاً. أما الاسلوب الذي ستقوم به ثورة اجتماعية بحل المسألة، فهو تابع أيضاً لمسائل تذهب ابعد كثيراً، من أهمها إزالة التعارض بين المدينة والريف. ولما لم يكن علينا أن نقيم قواعد طوباوية لتنظيم المجتمع المقبل، فليكونن أكثر من لغو في الكلام التوسع في هذا الموضوع. والأمر المؤكد هو إن المدن الكبيرة قد بات فيها من العمارات للاستخدام السكني ما يكفي لمعالجة كل "أزمة سكن" حقيقية، عن طريق استخدام هذه العمارات بدون إبطاء استخداماً عقلانياً. وهذا، بالطبع، أمر لا يمكن أن يتم إلا بنزع ملكية المالكين، باحتلال عماراتهم من قبل شغيلة لا مأوى لهم أو متكدسين في مساكنهم تكديساً لا اعتدال فيه. ومنذ أن يكون قد تم للبروليتاريا الاستيلاء على السلطة السياسية، سيكون تحقيق هذا التدبير الذي يتطلبه الخير العام بمثل سهولة ما تقوم به الدولة اليوم من نزع ملكية ومصادرة للمساكن."[8]
وفي كتابهما المشترك الأيديولوجيا الألمانية، استفاض ماركس وأنجلز في تبيان أطوار التحضر التي مرتْ في أوروبا، وتكوّن المدن والفرق بينها وبين البادية والريف، وتقسيم العمل إلى زراعي وصناعي وتجاري. ذاكرا: "إن أكبر تقسيم للعمل المادي والفكري هو الفصل بين المدينة والبادية. إن التعارض بين المدينة والبادية قد أخذ في الظهور مع الانتقال من التوحش الى الحضارة، من التنظيم القبلي إلى الدولة، من الإقليمية إلى الأمة. وظل هذا التعارض قائما على امتداد تاريخ الحضارة إلى اليوم. إن وجود المدينة يستدعي في نفس الوقت ضرورة وجود الإدارة والشرطة والضرائب....الخ. أو بكلمة واحدة ضرورة التنظيم الجماعي، ابتداء بالسياسية عموما، وهنا سيظهر لأول مرة تقسيم السكان الى طبقتين كبيرتين. وهو تقسيم يرتكز مباشرة على تقسيم العمل ووسائل الإنتاج"[9].
وفي توضيح أدق بَيَّنا أن المدن سوف تشهد تركيزاً للملكية وتنظيماً حرفياً وتجارياً يدعو إلى الحاجة إلى أيدي عاملة وفيرة، من أقنان هاربين من تنكيل وعذاب أسيادهم الاقطاعيين...وفي عدة مصادر نظرية لماركس نجد فقرات مبثوثة عن المدينة، تتلخص بما معناه: أنّ المدينة لم تكن حيّزاً أو فرصة لمكاسب المال، والمنافع المهنية فحسب، بل إنها فسحة مثالية للعيش والاستقرار، لأنها نتاج تاريخي لتركز السكان، وتقانات الحرف ومنافع الصناعة والفنون، والمتع، وحاجات الإنسان الكثيرة.
وعند اطلاعنا على كتابات منظري الماركسية المؤسسين، أو الذين اقتفوا آثارهم، لم نجد، رغم الاهتمام الذي يشغل مساحة واسعة من كتاباتهم وبحوثهم، نظرية عن "المدينة" أو تعريفاً محدداً لها، بل كان شاغلهم ما يجب أن تكون عليه المدينة، والقوى والطبقات الاجتماعية التي تعيش داخلها، والمدينة كمجتمع إنساني أن تعود "بالخير العام" على جميع ساكنيها.
وتعريفات أخرى معاصرة من علماء اجتماع ومن مدرسة شيكاغو، يطلعنا عليها الدكتور سعيد ناصيف في كتابه (علم الاجتماع الحضري المفاهيم والقضايا والمشكلات)، قائلاً:" يعتبر "ماكس فيبر" من أوائل الذين حالوا إيجاد تعريف محدد للمدينة حيث أشار إلى إنها تتكون من مجموعة أو أكثر من المساكن المتفرقة، لكنها نسبياً تعتبر محل اقامة مغلقاً...، كما يقرر إن المدينة بمعناها الكامل لا بد من أن تتوفر على خمسة مقومات هي: الحصون القلاعية، والاسواق، ومحكمة خاصة، وأخير حكومة ذاتية وإدارة مستقلة نسبياً عن طريق الانتخابات بين السكان.
ولقد قدم "لويس ويرث" تعريفاً سوسيولوجياً للمدينة على إنها موطن للإقامة كبير نسبياً ودائم لأفراد متباينين اجتماعيا (socially Heterogeneous). ويؤكد كذلك على أن التعريف السوسيولوجي للمدينة ينبغي أن يسعى لاختيار وانتقاء عناصر الحضرية، التي تميزها كأسلوب لحياة الجماعة الإنسانية. ويُعرف جون فريدمان وروبرت وولف المدينة  بأنها "عالم اجتماعي صغير، ومن ثم فهي ظاهرة متعددة الأبعاد تُبدي خصائص طبيعية ومكانية وثقافية وتنظيمية واقتصادية وديموغرافية واجتماعية متنوعة، ولذلك فالمدينة كنسق اجتماعي Social System  للمجتمع توحي بتفاعل عميق بأنها جزء من كل اجتماعي شامل، وكنسق فرعي منظم من حيث المكان توحي بأنها تعمل كمكان مركزي داخل التدرج الهرمي للأماكن الحضرية على تنظيم المناطق المحيطة، وأحياناً البعيدة في أمكنة اجتماعية واقتصادية وثقافية. ويذهب" روبرت بارك" إلى أنه يحاول فهم المدينة بوصفها مكاناً، وأيضا باعتبارها نظاماً أخلاقياً Moral Order، ومن ثم يعتقد أنه ينبغي وصف المدينة من خلال التحليل الوظيفي، ذلك لإظهار إمكانية الحياة الثقافية والأخلاقية. أما المصطلح الذي صاغه "بارك" إيكولوجيا المدينة Ecology of the City، فإنه لا يعني الاقتصار على تتبع التقسيم المكاني الداخلي للمدينة، أو وضع خريطة لمختلف الأشياء التي توجد فيها، وإنما هو اكتشاف تأثير هذه الظواهر الفيزيقية في خبرة سكان المدينة الإنسانية والعاطفية ودورها في تشكيلها." [10]
وللمفكر وعالم الاجتماع الفرنسي ديفيد إميل دوركايم (1858- 1917)، أثر واضح في علم الاجتماع الحضري، وضعه في كتابه "في تقسيم العمل الاجتماعي"، وتصوراته عن التضامن بين أفراد المجتمع الإنساني في أطواره التاريخية، التي يقسمها إلى نمطين، تضامن آلي يقوم على التشابه في إيقاع الطقوس والعادات والأعراف دون تروي، أو استقلال فردي، وتضامن عضوي عكس الأول يقوم على الاستقلال والتمايز الفردي، ضمن التخصصات الوظيفية في تقسيم العمل الاجتماعي، ككائن عضوي، تعتمد أعضاؤه على بعضها لتحقيق متطلباته. وهذه الحرية الفردية لا تتحقق، كما يرى دوركايم، في أي بناء حضري سوى المدينة، التي منحها في نظريته دوراً مهماً في بناء الإنسان، وإطلاق حرياته في اختيار ما يناسبه من تخصص ووظيفة. [11]
تأسيس مدينة الناصرية
لتأسيس الناصرية ونشأتها مدينةً حكاية: حكاية أهلها وانحداراتهم الحضارية وبُناهم الاجتماعية، وصراعاتهم الطبقية، وتداعيات هذا الصراع ومآسيه المتواصلة على الطبقات الشعبية وكادحيها.
لنقل بدايةً إنّ ما أحدثته قناة السويس، عندما فُتحت عام 1869، من أثر كبير على العراق، في ازدهار الحركة التجارية وخصوصاً في وسطه وجنوبه، قد شكّل طفرة نوعية بالنمو التجاري وفروع إنتاجية واقتصادية أخرى، وما احتاج ذلك من ظهور مرافق عمرانية كثيرة ومهمة، تعكس صورة هذا التوسع المتنامي. يقول الدكتور علي الوردي عن هذه الفترة:
"ظهرت خلال تلك الفترة منها قرى لم يكن لها وجود، من قبل أو كانت قرى صغيرة فنمت، وفيما يلي أسماء القرى والمدن مرتبة حسب سنوات تأسيسها أو بداية نموها: العمارة 1861- علي الغربي 1864- الكوت 1869- الهندية 1870- الرمادي 1870- الناصرية [12]1870- شيخ سعد 1871- الصويرة 1872- قلعة سكر 1973- ابو صخير 1875- المجر الكبير 1876- الكميت 1878- البغيلة 1882- الرفاعي 1893- الشامية 1897...والواقع  أن ظهور هذا العدد الكبير من المدن في تلك الفترة المحدودة له دلالاته الاجتماعية، فهو يشير إلى ازدياد السيطرة الحكومية من جهة كما يشير إلى نمو الحضارة من الجهة الأخرى..."[13].  
تجمع المصادر والدراسات التاريخية، التي سجلت وحققت تاريخ مدينة الناصرية الحالية وتأسيسها، بأنها ولِدتْ عام 1869م من اتفاق بين الوالي العثماني على العراق مدحت باشا(1822_1883)، مع ناصر الأشقر(1815_1885) أحد أهم مشايخ المنتفق وأبرز زعمائها آنذاك، بعد مداولات وعروض لإقناع الأخير استحداث حاضرة جديدة، تسمى نسبةً لاسمه (الناصرية)، ويكون هو متصرفها وشيخ مشايخها. 
والأمر هذا حصل، حسبما تشير الوثائق والمصادر التاريخية، بمختلف تسلسلها الزمني[14]، عندما توجهت الدولة العثمانية إلى نظام المركزية في إدارة مستعمراتها، منذ أواسط القرن التاسع عشر، وهذا التوجه يرجع إلى جملة أسباب داخلية وخارجية، أوجبتْ إجراء تغييرات إدارية في العراق تحت حكم السلطة العثمانية.
في مقدمتها تطلع الدولة العثمانية إلى اصلاح ادارتها وتحديث نظام الحكم للالتحاق بحضيرة العالم المتقدم، ولاسيما وهي الجارة الملاصقة لأوروبا المتمدنة. ومعظم القادة والموظفين العثمانيين الكبار، قد تعلم أو خدم  في أوروبا ولابد من أن يكون قد تطبع أو تأثر بالطابع الأوروبي الراقي، ولا يخفى أثر هؤلاء أو ضغوطهم على السلاطين لتبني التحديث والإصلاح، وبالأخص بعد الصدمة التي أجهرت بالفارق بين تخلفهم وعظمة أوروبا عندما غزى نابليون مصر وهي الولاية العثمانية، عام 1798م، وسحق جيش المماليك التقليدي بالقوة النارية للجيش الفرنسي، حديث العدة والتدريب. وكذلك بعد ما تعرضت الدولة العثمانية من تهديد جدي لوجودها من قبل والي مصر الطموح محمد علي باشا، بعد إعلانه العصيان على السلطان ومطالبته بولاية الشام، لقاء خدماته في القضاء على الوهابيين والمساهمة المكلفة في حرب اليونان، وولده إبراهيم المستنير والجسور، الذي وصلت قواته إلى مشارف العاصمة اسطنبول عندما تجاسر عليهم بالقوة. بعدها ظهرت عدة حركات ومحاولات إصلاحية في النظام العثماني امتدت لعقود تالية، من ابرزها حديثاً ما أصدره السلطان عبد المجيد الأول تحت تأثير مستشاره المتحضر (مصطفى رشيد باشا 1800_1858)، الذي شغل منصب سفير فوق العادة في لندن وعدة مناصب مهمة في الدولة، وإلحاح السفير البريطاني كاننغ (Stratford Canning) في اسطنبول، الذي رأى ضرورة اصلاح الدولة العثمانية وتحديثها خشية من سقوطها بيد قياصرة روسيا الطامعين، وهم الذين أطلقوا عليها لقب "الرجل المريض"، وضياع طرق التجارة البريطانية مع الشرق. أدت أطماع روسيا القيصرية إلى تحالف بريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية لخوض حرب لثلاث سنوات عُرفت بحرب القرم فُرض التراجع على إثرها على روسيا وإيقاف توسعها تجاه ممتلكات الدولة العثمانية. أصدر السلطان عبد المجيد مرسوماً عام 1856 بعد نهاية حرب القرم سُمي (خط همايون) اصلاحا للمرسوم السابق (خط شريف كولخانة) الذي صدر عام 1839، وهما تنظيمان وفق الأنظمة الأوروبية الحديثة، رضوخا عند رغبة أصدقائهم الأوربيين واللجوء إليهم لتأمين الحماية من روسيا ومن محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا، وإمدادها بقروض من مليارات القروش بعد إرهاق الميزانية بتكاليف حرب القرم، وتكبيلها بشروط هذه القروض. ونزولاً عند رغبة الاتجاه النازع نحو  التحديث والعصرنة من لدن أوساط اجتماعية عديدة، وقادة يتطلعون لحكم عصري حديث ومتمدن.
إنّ توجه بريطانيا الدائم لضمان طرقها التجارية البحرية وتوسعها جعلها تتفرد، بعد سلسلة هزائم تعرضت لها فرنسا من حروبها النابليونية، كقوة استعمارية بحرية شبه وحيدة، وتوسعت باتجاه كل القارات، وبنتْ مستعمراتها وفتحت طرق المواصلات إليها، منها الطريق الجديدة، قناة السويس وما تمثله من أهمية، في اختصار طريق التجارة العالمي بين الغرب والشرق، بديلاً لرأس الرجاء الصالح. أدرك العثمانيون الأهمية البالغة لهذا المشروع الجديد، وما سيترتب عليه من فوائد سيحظى العراق بها من عودة العمل بشط العرب والخليج العربي بعد تحول تجارة شركة الهند الشرقية لهذا الطريق المختصر، الرابط بين آسيا وأوروبا. وكان البريطانيون قد لفتوا انتباه العثمانيين بطرق المواصلات في العراق، من زمن أقدم على فتح قناة السويس مع بعثة الخبير البحري البريطاني (فرنسيس رادون جسني، 1789-1872)[15] عام 1834م لاستكشاف مدى صلاحية نهر الفرات للملاحة البحرية. تبين لهم بإصلاحها فوائد اقتصادية وسياسية، تعود عليهم بترسيخ حكمهم في هذا المكان المهم لدولتهم.
وكانت من أفكار مدحت باشا الذي وصل إلى بغداد، عام 1869 خلال الأعمال الأخيرة للانتهاء من قناة السويس، أن يجعل من "طريق الفرات" من البصرة حتى سواحل الشام، موازياً في الأهمية لقناة السويس. ومن هنا تنشأ ضرورة استثمار الأراضي الممتدة على طول هذا الخط التجاري المؤمل، عبر إصلاحات إدارية وسياسية حاسمة. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى ضرورة وضع حدٍ كافٍ لحروب امتدت لقرون، خاضتها الدولة العثمانية مع أمراء ومشايخ السعدون المنتفق، دون رجحان كفة طرف على آخر لبسط الأمن وتنفيذ الاصلاحات، والخطط الإدارية لتطوير العراق وتحديثه.
وليس هناك من وسيلة كفيلة بهذا الشأن سوى توطين القبائل وتوزيع الأراضي الزراعية عليهم، ومن ثم تجريد الزعماء القبليين المتمردين من سلطتهم على قبائلهم، وتحويلهم إلى جُباة ضرائب، يجمعون رسومها من غلة الأرض، من كدح رعاياهم الفلاحين ويسلمونها للدولة، كبدل إيجار أو عند المزايدة على المشيخة. وبالتالي اكتساب صفة رسمية حكومية غير الصفة المعنوية، التي كانوا يتمتعون بها طيلة قرون عديدة وسلطة غير محدودة، بأي قانون سوى منظومة العرف القبلي. شهدت على الأخيرة حياة جغرافية واسعة من أرض العراق، تحت حكم المنتفق مدة ما يقارب أربعة قرون.
منْ هم المنتفق، ما معنى المنتفق، ولمَ سُموا كذلك؟
جاءت المنتفق بعدة ألفاظ: بالقاف، والمنتفج بالجيم، و المنتفگ بالكاف الاعجمية، وبالكاف المنتفك. وتباينتْ الآراء وتعددتْ، حول أصل تسمية المنتفق، من المؤرخين والباحثين من يرى بأن الاسم مرتجل، أصيل سابق على مفهوم أي اتفاق، ومنهم من يرى بأنه مولّد، نسبةً لاتفاق قبلي، كما سيرد تفصيل عنها من المصادر أدناه.
جاء في الجزء الثاني من مجلة (لغة العرب):" ...أما رأينا الخاص فهو أن بني المنتفق لم يسموا بهذا الاسم لكون جدهم كان من منتفقة اليرابيع أي محرشها ولا من المنتفقة بمعنى سكنة الكهوف. إنما سموا كذلك لكونهم اتفقوا على التناصر والتكلف اشتقاقاً من الاتفاق لا من الانتفاق. ويؤيد قولنا هذا أن بني المنتفق هم عبارة عن ثلاث قبائل كبيرة قد اجتمعت متحدة بينها كل الاتحاد وهي: قبيلة بني مالك وبني سعيد والأجود ... وكثيراً ما كان يفعل العرب والأعراب على التعاقد والتعاهد والتناصر ليكونوا أشد صولة على أقرانهم."[16]
يرجع سليمان فائق بك في كتابه "عشائر المنتفق" إلى القصة المثيرة للخلاف، عن تولي الشريف حسن القادم من نجد، إلى منطقة الشامية في أعالي الفرات، مشيخة الحلف الذي ترتب بين قبيلة بني مالك والأجود بعد حرب بينهم قُتل فيها ولده الصغير(عبد الله) وهو المستجير ببني مالك وصهر زعيمهم، وعندما وضعت الحرب أوزارها أراد الأجود إرضاء النزيل المستجير، الشريف حسن وعرضوا عليه دية كبيرة "عشرون بنتا من اشراف بناتنا." رفض هذا العرض وطلب عوضا عنه مطالب يكون بتنفيذها سيداً على القبيلتين قبل انضمام بني سعيد إليهم، وافقوا على ذلك بعد تردد. واستند إلى ذلك سليمان فائق بك وكتب قائلاً "أما السيد الشريف حسن فإنه أجابهم لما طلبوا، ونجح باتحاد واتفاق هاتين الطائفتين العظيمتين "بني مالك والأجود"، وكان من أجلّ مآربه ومنويّات ضميره الصعود إلى أريكة الإمارة، فوضع اسماً لهما (المتّفق) ليكون تذكاراً له. ثم بإضافة حرف النون سميت عشائر المنتفق، وبقي هذا الاسم علماً عليهم حتى اليوم."[17]
ويرى المؤرخ محمد بن مبارك النبهاني في كتابه التحفة النبهانية بأن " المنتفق: اسم قبيلة مشهورة منسوبة إلى المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن... فبنو المنتفق هم بطن من عامر بن صعصعة اشتهروا باسم أبيهم، فقيل لهم المنتفق، وكانت منازلهم آجام القصب بين البصرة والكوفة وكانت الإمارة فيهم في بني معروف..." [18]
ويُبسط راجعاً في نسبهم الشاعرُ والمؤرخُ علي الشرقي في كتابه "في ذكرى السعدون" إلى إشارات من مصادر تاريخية عديدة توثق تسميتهم وحدود منازلهم، ونبدأ معه مع ابن خلدون في ما جاء" في كتاب العبر ... وأما بنو عجل بن لجيم بن صعب، وهم الذين هزموا الفرس بموقعة يوم ذي قار، فمنازلهم اليمامة إلى البصرة، وقد دثروا، وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق. وفي هذا الكلام دلالة على قدم احتلال المنتفگ لهذه البلاد، وفي القرن السادس للهجرة نزلوا آجام القصب بين واسط والبصرة، وذلك لما استقدم المستنجد بالله العباسي مقدم المنتفق ابن معروف.
جاء في بعض الكتب التاريخية أن في أخريات أمر السلاجقة كان المتولي على البصرة معروف رئيس المنتفق، وذلك سنة 554 هجرية، وقد بقيت الزعامة في بنيه المشهورين ببني معروف، ويقال إنه من ربيعة، وإن بقيتهم آل معروف لجلاء بي أسد، فنهض ابن معروف بجماعة من المنتفق الذين كانوا نازلين حوالي البصرة وبجهاتها من القرن الثاني للهجرة، كما يظهر ذلك من نصوص التاريخ، ونزل ابن معروف ومن معه من قبائل المنتفق الآجام بعد جلاء بي أسد، وبقيت قبائل كثرة من المنتفق في البادية. وإذا أردت أن تعرف انتشار المنتفق قديماً بن العراق وجزيرة العرب تحر الربوع التي احتلوها قديماً، فمنها (الميثب) وزان مرد. ماء بنجد لعقيل ثم صار للمنتفق ( عن ياقوت الحموي)... قال الهمداني: في جزيرة العرب عقيقان. العقيق الأعلى للمنتفق، والعقيق الأسفل لِطَيْ.
وبنو المنتفق هؤلاء عرفوا باسم أبيهم المنتفق، وهو معاوية بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من العدنانية. هؤلاء هم المنتفق، وهذا أبوهم. أما اليوم فالمنتفق ثلاث عماير كبيرة قد اجتمعت متحدة ومتفقة، وهم بنو مالك وبنو سعيد وآل أجود، وكل هؤلاء منتفق، ويعرفون بالأثلاث، والذي يظهر من سبر الأنساب وتفتيش التاريخ أن بني المنتفق عميرة واحدة من هؤلاء الثلاثة، والأخريان إخوة بني المنتفق وشركاؤهم بالنسب الأعلى. اجتمعوا واتحدوا، فأطلق عليهم لفظ المنتفق توسعاً ومجازاً، وقد وهم من تصوّر أن لفظ المنتفق من الاتفاق، والنون من زيادات المولدين، كما هي في إجانة ونجانة، فإن المنتفق لفظة عربية، وهي اسم مرتجل لا منقول من صفة، وكتب الأنساب تذكرها بلفظة بني المنتفق لا بلفظ المنتفق."[19]
ونجد هذا الرأي نفسه، وهو صحيح برأينا، لدى المؤرخ الخبير بأنساب القبائل والعشائر العراقية عباس العزاوي صاحب الموسوعة المفصلة عن تاريخ العشائر العراقية البدوية والريفية وبيان أحوالها، يؤكد بأن أصل تسمية المنتفق يعود إلى " اسم جدهم (المنتفق) الذي تسمت به العشائر المتفرعة منه والمنتفق هو عامر بن صعصعة وهو جد عشائر المنتفق أو تتصل به بقربى ووشائج... وربما اتصلت بالمكان واشتركت بالدم والمصيبة فصارت بعض العشائر داخلة في عدادها وان كانت ليست منها. ومن ثم صارت المنتفق على من حل اللواء وكذا صار يقال لنفس اللواء(المنتفق)."[20]
الإمارة وفروعها وحدودها الجغرافية
من فروع المنتفق المهمة التي ترأست الإمارة مدة طويلة فرع آل سعدون، أو السعدون. يتفرعون من آل شبيب وهم "فخيذة" منهم، ويرجع نسبهم إلى سعدون الكبير جدهم ابن محمد ابن مانع ابن شبيب، ... والمتصل بالشيخ حسن أول رئيس للاتحاد القبلي. وهم هاشميون حسينيون انحدروا من الحجاز وأول سكناهم كان في بادية الشامية غرب الفرات وتوسعوا بداعي الغزو أو طلباً للانتجاع في جميع الاتجاهات، في حقبة أمارتهم الصاخبة، حتى تأسس لواء المنتفق بحدوده من الكوت والحلة شمالاً وبادية السماوة جنوباً، والديوانية غرباً، والعمارة والبصرة شرقاً. وتفصيلاً عن علي الشرقي، كانت حدودهم الجغرافية منذ ظهور إمارتهم حتى زمن تأسيس (الناصرية) لواء المنتفق "انما هي مواقع واسعة في الطول وفي العرض: برية ونهرية.
أما البرية فتكاد تشمل كل بادية العراق، من اليمامة إلى البصرة، وكانت منازلهم فيها: (الشبيبية، والميثب، والبيضاء، والعقيق، وهو العقيق الأعلى، والباطن، وهو اليوم حد من حدود العراق ونجد، وأبو غار)، وأما النهرية فكانت تشمل كل شط العرب مصعدة في الفرات إلى ما وراء (السماوة) عند (سدرة الأعاجيب)، ومادة في دجلة إلى ما وراء (العمارة). ثم تقلصت من الجهة النهرية، حيث اختزلتها الحكومة العثمانية قطعة قطعة، وأدخلتها في حيازتها النظامية، ولم يبق إلا (لواء المنتفق) الذي أقحم فيه مدحت باشا النظام الحضري...  وآخر ما تبقى في الجهة الفراتية فقط وهو (لواء الناصرية)..."[21] ورغم ذلك وغيره من وصف وتحديد، لموطنهم الجغرافي وحدوهم، فإنها على ما يظهر مع كثير من المصادر غير متعينة بحدود معلومة ويكتنفها الاضطراب والشطط. ولكن مع كل حال، تفي بمنحنا تصوراً عن مكانهم ومنازلهم.
دامت سلطة زعماء المنتفق على هذه الأرض أربعة قرون، يمارسون أسلوب حياة البداوة بالتنقل بحثاً عن المراعي الخضر والغزو والنهب والسلب. ويفرضون سلطانهم بالقوة والدهاء على الريف الزراعي والحواضر المدينية وحرفيّيها لانتزاع الأتاوة منهم بالقوة والغزو والاحتلال؛ لأنهم أعراب والأعراب هذا ديدنهم، ونمط معيشتهم.
وكانت الدولة العثمانية، بعد ما خاضته من معارك كثيرة معهم لإرضاخهم كانت معظمها فاشلة، اختارت أن تسلمهم شأن إدارة المنطقة كشيوخ مشايخ عليها، ووكلاء لهم عن طريق المزايدة. والمزايدة سوف تخلق صدوعات ومنافسة بين الأخوة السعدون على الإمارة وهي سياسة مقصودة لإضعافهم وتشتيتهم. يدفعون بموجبها للوالي آلافاً من أكياس قروش الذهب، تذهب لخزينة الدولة العثمانية المركزية. ولكن النزاعات والمنافسات بين رؤساء العشائر مع المنتفق من جهة، ومع السلطة العثمانية من جهة أخرى لم تهدأ بل تواصلت بدون حسم لأحد الطرفين، حتى قرر نامق باشا  والي العراق أن الوقت قد حان لإلغاء نظام المشيخة القديم وإحلال نظام القائم مقام لإدارة شؤون الألوية بديلاً عنه. بعد إن كانت المشيخة تتم عبر المزايدة على توليها، فمن يدفع أكياس من القروش الذهبية أكثر تكون من نصيبه، وكل كيس يحمل 500 قرشاً ذهبياً. مثلما حصل آخر مرة لمشيخة المنتفق في عام 1860م في عهد الوالي توفيق باشا جرت المزايدة بين الراغبين في المشيخة بين الشيخ منصور بك باشا وبين الشيخ بندر الناصر الثامر، فأسندت المشيخة إلى الأخير منهما في 20 شوال لمدة ثلاث سنوات ببدل سنوي قدره 4900 كيس، وثم منه إلى ناصر باشا الشهير.
بعد ذلك رسمت الدولة العثمانية إلى تقطيع منطقة المنتفق إلى متصرفيات، تعهد أجزاؤها إلى متصرف مقابل أكياس ذهب متفق عليها، وبعد منازعات ومنافسات مطولة بين أبناء العمومة السعدون، وبعد الإصرار من مدحت باشا لتطبيق نظام الإصلاحات، وحدث فتح قناة السويس عام 1869م المدوي يلوح أمامه، حسم الأمر إلى تنفيذ نظام الولاية في العراق.
 دعا ناصر باشا ليقنعه بتحويل مشيخة المنتفق وكان رئيسها إلى متصرفية وبناء حاضرة الناصرية، والانصراف إلى الزراعة والمدنية، بدلاً من حياة البداوة. وكان لابد له من أن يقتنع بهذا المقترح، لأن المقترح بالرغم مما يبدو عليه من بساطة ويسر إلاّ إنه ينطوي على إرادة أقوى من الرفض، ولا يبدو إن هناك طريقاً للتراجع ولا لتغيير القناعة، لأن العصر آخذ باتجاه نظام الاصلاحات، رغم كل تردد.
أخيراً قبل ناصر باشا بالوضع الجديد للمشيخة، لتكون متصرفية وإدارة حكومية مع معاونين وإداريين حلوا معه، بعد صدور فرمان رسمي بتعيينه متصرفاً للواء المنتفق، وتحولت أراضيها إلى أراضي أميرية تسند إلى المشايخ المتصرفين الجدد، بتفويض الطابو، وهو حرية بالتصرف في توريثها أو إيجارها دون حق بالتملك الصرف، مقابل بدل إيجار معلوم. ويقول علي الوردي، "وممكن القول إن "الناصرية" أول مدينة تشاد في العراق على الطراز الحديث، إذ هي ذات شوارع عريضة مستقيمة وقد تقاطعت تقاطعاً هندسياً جميلاً، وهذا أمر لم يكن مألوفاً في العراق يومذاك."[22] وكذلك يتحدث المؤرخ عبد الرزاق الحسني:
"واستدعي المهندس البلجيكي ( جولس تيلي Julis Tilly) فخطط المدينة المقترحة تخطيطاً عصرياً رائعاً بأن جعل لها شوارع عريضة متقاطعة تقاطعاً هندسياً جميلاً، ثم شرع في إقامة صرح فخم للحكومة فكان أول بنية أُقيمت فيها وكانت هذه البناية ماتزال ماثلة للعيان حتى سنة 1950 م حيث هدمت واستعيض عنها بسراي محكم حديث، ثم قصدها التجار والباعة والزراع والحاكة من شذاذ الآفاق ومختلف القبائل، وكل منهم يبني له بيتاً أو منزلاً  و"كان أول من بنى فيها داراً للسكنى نعمة الله نعوم- بن اكوبجيان بن سركيس...وبنى أسواقا وخانات وقهوات."[23]
وهكذا اتُخذت "الناصرية" مركزاً لمتصرفية لواء المنتفق، وعين ناصر باشا السعدون متصرفاً على اللواء، فلم تزل في تقدم وتوسع حتى أصبحت أبدع مدينة في العراق من حيث التخطيط الهندسي ونظام الأبنية، ومن حيث فسحة الشوارع واستقامتها..."[24]
بعد التأمل والنظر... وبعد أن استقرتْ الآراء على تأسيس بلدة، واتخاذها مركزاً أو قاعدة لإدارة لواء المنتفق، وإلغاء المشيخة والإمارة، كانت الخطوة التالية ضرورة اختيار مكان مناسب لتشييد هذه البلدة. تراوحتْ الأفكار بين عدة مرابع كانت قائمة، قبل اختيار المكان الأخير. دارَ النقاشُ حول اختيار سوق الشيوخ كمركز، البلدة التي أسسها الشيخ ثويني بن عبد الله بن محمد بن مانع آل شبيب السعدون، جد الأسرة السعدونية الأخيرة، كسوق دائمة يمتار منها شيوخ المنتفق والمنطقة قوتهم وحاجاتهم ويتبادلون البضائع والصفقات المالية والتجارية محل السوق القديم الموسمي المعروف بسوق النواشي ( نسبة لأحد عشائر المنطقة) في سبعينيات القرن الثامن عشر.
 رُفض هذا الاقتراح، لوخامة هوائها، كما رُفض مكان العرجاء (العرجة) الإمارة المستقلة، التي حكمت هذه المنطقة منذ القرن السادس عشر، كانت مُهابة ويُحسب لها الحساب من الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية. تبعد بنحو 4 كم شمال مركز الناصرية، تلاشت فيما بعد عن مسرح التاريخ، وتقلصت إلى قرية وبقعة يقصدها صيادو الأسماك الموسميون. وكذلك اسُتبعدت بساتين سديناوية، وصوب الشامية المقترح من المهندس (جولس تيلي) لارتفاع أرضه مقارنة مع الصوب المقابل المقترح من السعدونيين. ومناطق أخرى غير المناطق المذكورة، ليستقر الرأي أخيراً عند مقترح منصور باشا شقيق ناصر باشا المؤسس، عند منخفض قريب من بحيرة أبو جِدّاحة سُميت بهذا الاسم لأن قاعها الفسفوري تقدح أضواؤه ليلاً.
وعن أسباب اختيار هذا المكان يذكر المؤرخ عبد الرزاق الحسني: "مما يؤثر عن منصور باشا السعدون...إنه كان يرى إن تأسيس (الناصرية) سيؤدي إلى إضعاف المشيخة السعدونية والقضاء عليها، وعارض في ذلك معارضة شديدة، ولكنه تجاه تصميم أخيه وعزمه على تحقيق رغبة الوالي مدحت باشا لم يرَ مندوحة من الموافقة على إنشائها، إلاّ إنه اشترط أن تشاد على منخفض من الأرض لتكون تحت خطر مياه " أبو جدّاحة" التي يدخلها ماء الفرات، حتى إذا أرادت بهم الحكومة سوءاً سلطو عليها مياهها وأغرقوها بأقل من لمح البصر. أما الوالي فأنه كان أبعد من هذا التفكير ولهذا فقد أمر بتحكيم السداد لوقاية المدينة من الغرق"[25].
مقترح منصور باشا مماثل لخطط "أوسمان" العمرانية في باريس في فتح الشوارع وجعلها مستقيمة وعريضة لتيسير حركة القوات الحكومية في استهداف السواتر وتدميرها عند حصول أي عمل مناوئ لها كما حصل إبّان كومونة وحكومة عمال باريس، لأن بُناة كثير من المدن كان من أولى أهدافهم تصميمها كمراكز بيروقراطية للإدارة والاطمئنان على مصالحهم الطبقية. وهناك شواهد ماثلة للعيان في كل مدينة اليوم بالعالم، في الفرق الظاهر بين فخامة وجمال المؤسسات الحكومية، وأحياء الطبقة الثرية، والأحياء والضواحي الفقيرة، وما يسمى بالعشوائيات.
وضع حجر الأساس صيف عام 1869، وخطط جولس تلي مركز المدينة بالتشاور واطلاع الوالي مدحت باشا بأسلوب عصري على طراز المدن الغربية بسبع شوارع عريضة ممتدة ومتقاطعة، مع الحدائق العامة، والجزرات الوسطية لتزيين الشوارع. "وأول ما تم بناؤه سراي الحكومة، وهو بناء يضم في حينها مقرات الجيش والشرطة والحاكم والبلدية ولا يبعد عن نهر الفرات إلا قليلاً وبنى أمامه ساحة لوقوف الحرس واستقبال الزائرين وحديقة كبيرة."[26]
"وعندما ارتفعت الأبنية على الشوارع كانت من الدقة بمكان بحيث تسر الناظرين، ويمكن القول إن مدينة الناصرية أول مدينة في العراق تجمعت فيها هذه الخصائص الهندسية...ومن ثم خططت البيوت والأسواق والخانات وجامع فالح باشا الكبير. فكانت عملية البناء تتم بالآجر المشوي واللبن والجص والطين. كانت أجور العمال والصّناع مجزية بحيث كانوا في سباق مع الزمن. فمضى البناء يرتفع والأسواق تُعمر، وشيدت الحمامات ووزعت بعض الدور والدكاكين والخانات مجاناً على بعض الأشخاص لتشجيع السكن في هذه الحاضرة، التي سرعان ما أصبحت مركز جذب، وأخذت بالتوسع السريع حيث وفدت اليها عوائل من الحلة وكربلاء والسليمانية وكركوك والموصل وبعقوبة وسوق الشيوخ. مارست هذه العوائل شتى الأعمال التجارية والصناعية والوظيفة العسكرية، وماهي إلا أقل من سنتين حتى بلغ عدد سكانها 30000 ثلاثون الف نسمة، وعدد دورها 5000 خمسة آلاف دار، وتم بناء سوق خاص بالعمال والصناع وجامع آخر صغير أيضاً اسمه جامع فالح باشا؛ في موقعه الحالي المعروف لأهل الناصرية، وبذلك بدأت تكبر المحلات والأسواق فكان ميلاد محلة السيف ومحلة السراي ومحلة السويج (تصغير سوق) ومحلة الجامع نسبة إلى جامع فالح باشا الكبير. وفتحت دوائر حكومية مهمة منها دائرة التلغراف والبلدية ومدرسة رشيدي، وقد أُنشئ حولها سور على هيئة نصف دائرة وترها نهر الفرات وله أربعة أبواب.."[27]
"وكانت هذه الأبواب تفتح مبكراً وتغلق قبل صلاة المغرب وهناك لكل باب من أبواب الناصرية (مسؤول) ولديه غرفة في بداية البوابة ومهمته هي فتح وأغلاق الباب، وتسدد له مبالغ تستوفى من أصحاب الماشية والخضروات الذين يسوقون بضاعتهم إلى المدينة، وكذلك من مهام هذا المسؤول الإشراف على حراسة الأبواب مع مجموعة من الحراس لقاء أجر يتفق معهم عليه..." و الأبواب الأربعة هي:                                                       
1-       باب الشطرة: قرب الصفاة وأسواق اللحوم والخضروات الحالي ولأنه أقرب باب لخروج القوافل بين الناصرية والشطرة سمي باب الشطرة.
2-       باب السديناوية: يقابل بستان حجي عبود الجازع الذي أصبح الآن منطقة سكنية ويقع أمام محلة الصابئة المندائيين في شرق المدينة ويتجه ناحية سديناوية ويستمد اسمه منها وخلفه يسكن اصحاب الدواب والجاموس وكانوا يوردون حاجاتهم إلى المدينة صباحاً من مادة القيمر واللبن والحليب أي قرب شريعة الدواب.
3-       باب القلعة: يقع حالياً قرب بيت العلاّمة السيد محمد حسين بن السيد راضي العثمان ومدرسة قرطبة وكان هذا المكان معسكراً للجيش المحتل ويمر بجواره نهر قادم من الفرات لسقي البستان وكان يقع قرب هذا المكان قصر الوجيه سيد زيدان النعيمي.
4-       باب الزيدانية: قرب محطة الكهرباء القديمة وبستان الحاج فليح المدو ومكانه اليوم في مدخل الشارع الملاصق لمدرسة الزهراء الابتدائية للبنات المقابل لحديقة الاطفال (حديقة غازي) والتي كانت تستخدم كمقبرة قبل أن تكون حديقة...وهناك  رواية أخرى تقول إن للسور ثلاثة أبواب وليس أربعة، وإن باب (القلعة) هو عبارة عن فتحة استحدثها الجنود البريطانيون من سور المدينة للذهاب للمحرقة ...لحرق النفايات وهذه المحرقة غير بعيدة عن السور الذي كان يعسكر الجيش البريطاني بجواره..." [28]
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ملكية الأرض الجماعية، وتحولها إلى تملك خاص، وآثارها على الفلاحين.
 
كتب مؤسسا الشيوعية، كارل ماركس وفريدريك أنجلز، في العديد من مؤلفاتهما ورسائلهما الكثير عن سمات مجتمعات ما قبل علاقات الإنتاج الرأسمالية في آسيا القديمة وغيرها من المناطق حول العالم. وعرّفا أسلوب حياة هذه المجتمعات بنمط الإنتاج الآسيوي. ويمكن تمييز أهم سمات هذا النمط الاجتماعي التي أشارا إليها بدءاً من طبيعية ملكية الأرض بصفتها ملكية جماعية لا تخص أي فرد من الأفراد بصفة شخصية. ويوضح ماركس هذه الميزة الأساسية:
 "إنّ عضو المشاعة هو مالك شريك في الملكية الجماعية. وحيثما لا يكون للملكية من وجود إلا بصفتها ملكية مشاعية، يكون الفرد بوصفه عضواً مجرد مالك بالوراثة أو بغير الوراثة لجزء محدد من تلك الملكية، لأن ما من قسم من أقسام الملكية يخص أحد الأعضاء لذاته وإنما يخصه فقط بوصفه عضواً مباشراً في المشاعة، وبالتالي بوصفه جزءاً متحداً بها بصورة مباشرة وغير متمايز عنها... والموجود إنما هو فقط الملكية الجماعية والتملك الخاص"[29]. أي ما يُعرف بالمشاعة القروية التي يعيش أفرادها تحت ظلها حياة متوافقة ببيئة اجتماعية تشاركية إلى درجة كبيرة، جعلتهم غير متمايزين عن بعضهم، بصفتهم كياناً اجتماعياً متناسقاً، توحدهم طريقة معيشتهم الواحدة إزاء تحديات قوى الطبيعة في هذه البيئة الجغرافية والمناخية الجامحة في أجزاء واسعة من آسيا، ولا سيما المساحات الصحراوية الممتدة "من الصحراء الأفريقية عبر الجزيرة العربية وفارس والهند وبلاد التتار إلى الهضاب الآسيوية العليا"[30]. مناطق شحيحة الأمطار، ونادرة الأنهار التي لا تتناسب مع سعة فضاء البرية الشاسع، فكان الواجب إخضاعها والتكامل معها بما يؤمن أسباب البقاء للجميع.
ملكية الأرض الجماعية تتجسد في شخص الزعيم، فهو الضامن للانتفاع العام منها، وتنظيم وتعهد الأشغال العامة الكبيرة والضرورية لأعمال ري الأرض الصناعي، يقررها الأمير أو زعيم الحكومة المركزية "الطاغية الشرقي المستبد"[31]، صاحب السلطة المهيمنة، والقمينة بحشد طاقات المجتمع، من أجل إنشاءات الري على مساحات واسعة وتدابير الحماية من الفيضانات، وخطط الزراعة، وتجنيد الرعايا لأعمال السخرة والحرب. وخير مثال عن ذلك من واقعنا في لواء المنتفك إيعاز ناصر الأشقر ببناء سد لدرء الفيضانات المخربة للتضاريس يحيط بأرض الجبايش "على طول الضفة اليمنى لنهر الفرات من (سوق الشيوخ) حتى (القرنة) صان من الفيضان منطقة شاسعة تنحدر من تلك الضفة إلى (هور الحمّار).."[32]
سلطة هؤلاء الزعماء الواسعة أتاحت لهم الاستحواذ على الأرض والسيطرة على قوى الإنتاج المختلفة، وبناء حيازات خاصة بهم وإنشاءات ترمز لوجاهتهم الاجتماعية، واقتطاع من فائض إنتاج رعاياهم الفلاحين، لدعم سلطتهم السياسية والحفاظ على سيادتهم الاقتصادية. وهو التصور الذي شددّ كارل ماركس على تبيانه بقوله: إن "..تحول المشاعة القروية، التي كانت ما تزال مجتمعاً بلا طبقات متناحرة، إلى "وحدة عليا"[33]  سادتها هم مستغِلو المشاعات التي اندمجت بهذه الوحدة العليا".[34]
هذه السمة أو الخاصية لنمط الإنتاج الآسيوي تميزه كنظام استغلال قائم على الضرائب، تؤدى غالباً للزعيم وجهازه الإداري، من فائض الإنتاج عيناً من المحصول. ويتميز أيضاً هذا النمط  بسمات الاكتفاء الذاتي انتاجاً واستهلاكاً، كاستثمار أسري أو كميسم طبيعي داخل حدود الحيازة الفردية في القرية. وهذا هو أصل "الطابع السكوني لذلك الجزء من أسيا"[35]  وسيطرة الأعراف والتقاليد القديمة على الحياة الاجتماعية، وعدم انفصال الصناعة اليدوية عن الزراعة، فالأولى بطبيعتها مكملة للأخيرة.
ويجدر التنويه هنا إلى أن هذا النمط شائع كذلك في افريقيا وأمريكا قبل كولمبس، وروسيا وأجزاء من أوربا القديمة جداً، وفي آسيا، ولكن ليس كلها، "إنما فقط في المناطق التي لا تكفي الهواطل للإنتاج الزراعي."[36] شُملت هذه المناطق بتعابير متعددة  مثل "نمط الإنتاج الآسيوي، أو المجتمع الشرقي، أو النمط الشرقي" للدلالة على ما يميزه عن شكل الملكية الجرمانية للأرض. "يرى (ماركس).. أن الفرد في النمط الجرماني لا يندمج في المشاعة إلا بوصفه سيداً فردياً على قطعة من الأرض، [بينما] يتميز النمط الآسيوي بصرامة رقابة المشاعة على الأفراد الذين لا يتسلمون الأرض إلا على أساس انتمائهم إلى هذه المشاعة..." [37].
إنّ مرورنا هذا على طبيعة نمطي الإنتاج الآسيوي والغربي هو محاولةٌ منّا لتبيان بعض الملامح أو السمات التي لا زالت متواصلة، غير منقطعة، بين ذاك العصر التاريخي القديم وعصرنا الحديث والحالي، في حياة المجتمع  القائمة على نمط الإنتاج الزراعي، في مجتمعنا في جنوب العراق، والروابط الاجتماعية الداخلية، وعلاقاتهم مع أسيادهم. من الصحيح بلا مراء أنّ بعداً تاريخياً واسعاً يفصل ذاك المجتمع وطبيعته عن تاريخ القرى في جنوب العراق القريب. لكن هناك أوجه شبه جوهرية في جزء منها لازالتْ متأصلة وباقية. وكما يقول ماركس إنّ "الحبل السري" الذي يربط الإنسان بالمشاعة لم ينقطع"[38]، سواءً أكانت المشاعة الأولى أو المشاعات القروية التالية.
مرتْ على الأرض الزراعية في وسط وجنوب العراق،[39] حقب زمنية طويلة امتدتْ منذ نهايات العهد المغولي وحتى منتصف القرن التاسع عشر خلال حكم الدولة العثمانية. لم يُذكر بأن سُجلت عائدتيها إلى ملاكين فرديين ملكية مطلقة أو حتى مجرد تملك خاص. كانت مشاعات قروية يستثمرها المزارعون القبليون مقابل ضرائب تُدفع إلى السلطات الحاكمة عَبر الزعماء القَبليين الذين بدورهم كان تأتيهم حصة مقطوعة من الغلة عادةً، كمورد للنفقات العامة للعشيرة.
كان شيخ القرية بمثابة الأب لجميع أفراد العشيرة أو الأخ الأكبر (كبير أخوته كما يُقال)، أو المثل الأعلى لهم، توافق الجميع على رفع مكانته بينهم، وتنازلوا عن ربع أو ثلث من مساحة الأرض المزروعة له وعن حصة من منتوجهم طوعياً لتمويله ودعمه اقتصادياً، وعدم إشراكه في العمل لكي يخصص وقته وجهده لإدارة شؤون العشيرة، كونه العميد المنحدر من سلالة الآباء المؤسسين الفعليين، أو المتخيَّلين، للعشيرة، المؤلفة من عوائل وأسر ممتدة ومركبة ينتسبون لجد واحد حسبما يعتقدون. ورابطة الدم هذه لا تقتصر على كونها علاقة قربى وحسب، بل تشمل كل ميادين حياة القرية بكافة مجالاتها ويجعل منها وظيفة اجتماعية بالغة التعقيد.
سادتْ القرية الزراعية خلال هذه الحقبة الزمنية علاقات اجتماعية يمكن القول عنها طبيعية بين مجتمع المزارعين وسادتهم، وفي هذه الحقبة "للتصرف بالأرض عند العشائر أصول اشتراكية"[40]. لم يكن هناك استغلال مقصود أو تناحر ظاهر بين طبقات المجتمع، ومجتمع العشيرة وفق هذا النظام تعايشي يتبع الرعايا سادتهم، في إعمار الأرض وزراعتها وإصلاح السداد، وفي الصراعات من أجل النفوذ مع عشائر أخرى، أو دفاعاً عن السيادة، في مواجهة جشع الحكومات وتعسفها. ولم يكن إنتاجهم مخصصاً من أجل السوق بل انتاج معاشي، ونادراً ما يسوّق تجارياً، أو من أجل المقايضة مع ضروريات لا توفرها أرضهم التي يشتركون جميعهم بملكيتها واستثمارها.
تدهورت العلاقة الطيبة إلى حدٍ ما بين أفراد العشائر بعد قرار الدولة العثمانية تفويض الأراضي ومنحها بالطابو إلى أمراء وشيوخ العشائر، نهايات القرن التاسع عشر. أدت الإجراءات العثمانية هذه إلى نتائج وآثار غائرة هزت العلاقات الاجتماعية التقليدية وعلاقات الانتاج داخل العشيرة. وأدت إلى ولادة علاقات استغلالية أوجدها نظام الطابو. وتهافتُ أثرياء المدن، وأمراء العشائر على المزايدات على الأراضي دليلٌ على دراية هؤلاء بما سيكسبونه من عوائد مالية ضخمة من ثمار هذه المزايدات. عندها تحول الفلاحون إلى أجراء لديهم مجردين من حقوقهم على أراضيهم، فتحولوا إلى شغيلة لا يملكون سوى قوة عملهم، وساءت أحوالهم المعيشية ولم يجدوا في قراهم سوى البؤس والاضطهاد.
وقبل أن نمضي إلى داخل القرية والمجتمع العشائري، ونتعرف على العلاقات الاجتماعية وكيف أمستْ بعد الطابو بين أمراء وشيوخ العشائر وتجار المدن وموظفي الدولة الساعين للتملك، وبين الفلاحين وأحوالهم. لنلق نظرة على أنواع الأراضي وتقسيماتها وكيف مُلكت، ليساعدنا في رسم صورة عن الأرض في العراق وقتذاك، وهي الثروة الوحيدة، والأظهر من بين كل ثروة أخرى. وهي بالأصل ثروة طبيعية، قبل أن تستحيل إلى مورد اقتصادي أي وسيلة إنتاج مملوكة، وكيف تصرفتْ بها السلطات، ومن بينها أرض الناصرية.
 
أنواع الأراضي وتوزيعها وتملكها
 
قُسمت الأراضي في الامبراطورية العثمانية ( وفق قانون الأراضي العثماني عام 1858 م)[41]  إلى خمسة أقسام أساسية:
1-       الأراضي الأميرية (أو الميرية)
2-       الأراضي المملوكة
3-       الأراضي الموقوفة
4-       الأراضي المتروكة
5-       الأراضي الموات
الأراضي الأميرية، هي جميع أراضي الدولة ومالكة رقبتها مهما كانت أوجه التصرف حيالها، وشروط التصرف بها محددة بأمر وإرادة (الأمير) الرسمية، وإلى حدٍ ما هي امتداد لطبيعة ملكية الأرض في فترات الحكم الإسلامي بما كان يُعرف ببيت المال. وهذا القانون وضّح كيفية التصرف بالأرض الأميرية، بإحالتها لكل شخص بمفرده أو بِنية اجتماعية ما، وإثقالها بسندات الطابو، ومنحه حق استثمارها زراعيا كما يشاء، مع إلزام المتملك عدم إهمالها أو وهبها للوقف، أو عدم تسديد ضرائبها ورسومها، وإلا سيبطل حقه بالتصرف بها، أو إثقالها بحقوق (اللزمة) غير المفوضة بطابو.
الأراضي المملوكة، ما فُرز من الأراضي الأميرية من عرصات وأراضٍ سكنية وزراعية، تُملّك للمستثمرين تمليكاً بموجب قانوني للتصرف بها كملكية، يحق لصاحبها بيعها ورهنها وتوريثها، ولا تعود لبيت المال، إلا في حالة غياب الوريث.
والأراضي الموقوفة هي الأراضي المملوكة صحيحاً، أوقفت للمؤسسات الدينية الشرعية، كدور العبادة والمدارس الدينية، ورقبتها وجميع حقوق التصرف بها تعود لجهة الوقف، وأراضٍ أوقفت من الأمير أو السلطان، كتخصصات للمقربين وقادة الجيش، أو لمنافع خيرية كالمدارس والجامعات والمستشفيات.
والأراضي المتروكة قسمان، أحدهما متروك لفائدة مشتركة لعموم الناس، مثل الطرق بأنواعها، والجسور والأسواق والمتنزهات، والمسطحات المائية من بحار وأنهار وعيون ماء. والثانية تترك لسكان مدينة أو بلدة ما، مثل المراعي والمحتطبات، والغابات. ولا يحق لأي شخص التصرف بها كأن يبتني منزلاً عليها، أو غراسة زرع، لأنه يُعد تصرفاً بأملاك الغير.
والأرض الموات جاءت تسميتها من الحديث النبوي "من أحيا أرضاً مواتاً فهي له"، وفي القانون العثماني المذكور: "هي الأراضي التي ليست ملكاً لأحد ولا هي مرعىً ولا محتطباً لقصبة أو قرية وهي بعيدة عن أقصى العمران يعني أن جهير الصوت لو صاح من أقصى الدور التي في طرف تلك القصبة أو القرية لا يسمع منها صوته". وسمح قانون الأراضي العثماني  للناس بإحياء هذه الأراضي، شريطة موافقة الحكومة، على أن يكون إحياؤها في مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات، وإذا لم يستصلحها خلال هذه المدة تؤخذ منه وتعطى لشخص آخر، أما إذا أحيا رجل أرضًا مواتًا بإذن الحكومة فعليه دفع بدل الطابو.
وأراضي أخرى مثل: الخاص، والزعامة، والتيمار، والهبة، والشفاعة، والعقر، والأراضي السنية لها قوانين تملّكها وحقوق التصرف والانتفاع الخاص بها، مشروحة في هذا القانون.
توزيع أرض الناصرية
وزعتْ أرض الناصرية بين العشائر الساكنة على ضفاف دجلة والفرات، وجداولهما وذنائبهما الكثيرة، وسكان الأهوار مربي الجاموس وصائدي الأسماك، وصانعي الحصران (المعدان). وهذه العشائر منها متوطنة ومشتغلة بالزراعة والبستنة وإنتاج الألبان ومشتقاتها، وتربية الدواجن، وبعضهم يزاول صناعة الأدوات المكملة في الزراعة والقوارب، تعيش حياة الاستقرار. وهناك العشائر "الشاوية"، وهم رعاة أغنام نصف مزارعين ونصف رحَّل، وهناك بدو أصحاب جِمال ومساكنهم خِيام من الشعر، مترحلين بين البادية ومواضع الماء والكلأ، وهؤلاء يتميزون عن الآخرين كونهم يعيشون حياة عسكرية، على استعداد دائم للغزو والقتال، أخضعوا المزارعين والحواضر تحت سطوتهم، وهم (السعدون) أسياد تحالف المنتفق وأرضها ومدينة الناصرية.
وهؤلاء العشائر، كما مرَّ سابقاً، مؤلفون من تحالف ثلاثي: بني مالك، والأجود، وبني سعيد، بزعامة السعدون.
يبدأ المؤرخ عباس العزاوي في موسوعته عشائر العراق، عند استقصائه الشامل لعشائر لواء المنتفق، موضحاً مسلّمة  بأن" لواء المنتفق عشائري، وان بلدانه حديثة العهد. لم تكن طبيعية في تقسيماتها الادارية لتعيين مواطن العشائر بصورة ثابتة. وانما كانت أيام الامارة وعلاقاتها بالحكومة." [42]
هذا هو الواقع الذي قام عليه لواء المنتفق أو أرض الناصرية. فلقد تأسست هذه المدينة وشُيدتْ بناءً على اقتران مصالح قادة هذا التحالف العشائري مع الدولة العثمانية. وتُعد عشائر اللواء الرئيسية بالعشرات، ومئات العشائر الأخرى المتفرعة منها والملحقة بها، سكنتْ هذه الأرض واستقرت اعتماداً على نمط المعيشة الزراعي على الحقول الواقعة بجانب ضفاف الأنهار وفي الأهوار، وفي بواديها. منهم من يسكن عند تخوم مركز المدينة، أو على مشارفها. وتتوزع هذه العشائر، الرئيسية أو الفروع، حول شعاع المركز وتمتد إلى أقضية مجاورة، ومنها إلى حدود مدن بعيدة. وهم: الزيرج والحسينات، والغزي والبدور وآل مناع، وكنانة والكنازوة، وآل بو عظم وآل بو فياض، والشمامرة، والحساوية والقطيف، والعصوم والجواريين، والزهيرية والشريفات وآل إبراهيم، والحصونة، وعدد من فروع آل بو صالح وخفاجة.[43]
وأما احتساب أعدادهم فهذه من المسائل المثيرة للجدل كحال جميع مناطق العراق في فترة الحكم العثماني. فالدولة العثمانية لم تعتمد أسلوباً عصرياً في إحصاء السكان في عموم إمبراطورتيها حتى وقت متأخر من تاريخها لجملة أسباب: لتخلفها الحضاري، ولكونها دولة عسكرية تعتمد في قوتها على الرجال حملة السلاح، وأهملت باقي السكان.
فهذا محمد خورشيد باشا المسؤول الكبير في عهد السلطان عبد المجيد، في كتابه (سياحتنامة حدود)، يعد السكان الذكور لبطون وعشائر تحالف المنتفك قائلاً: بني مالك الفان وخمس مئة، وعشائر الأجود بهم الف نسمة، وبني سعيد 1800نسمة.[44] ولم يتطرق إلى الفئات السكانية الأخرى من نساء وأطفال،  وأسباب أخرى تتعلق برفض سكان العراق احصائهم يشرحها سفير فرنسا في بغداد بيير دي فوصيل، قائلاً:" لقد ارتفع عدد سكان العراق في القرن التاسع عشر إلى نحو مليونين من الأنفس, وقد حاول معتمدونا في بعض الأحيان أن يحصوا السكان عن طريق احصاء عدد أفراد كل قبيلة، ولكنهم لم يوفقوا إلاّ إلى إحصاء عدد الخيم. أو بالأحرى إلا إلى احصاء عدد الرجال القادرين على حمل السلاح. وهذا العدد قد قدر تقديراً اعتباطياً بعيداً كل البعد عن الحقيقة والواقع. وكان الأعراب يقاومون كل احصاء ويتمردون عليه، تارة خوفاً من جامعي الضرائب، وطوراً من المُكلفين بتجنيدهم. وعلاوة على ذلك فأن العادات الإسلامية تناهض وتحرم كل تدخل في شؤون الحريم."[45]
وعقّبَ كذلك الباحث والمؤرخ عبد الله الفياض، عند تطرقه لأحوال العراق الاجتماعية والاقتصادية أواخر القرن التاسع عشر منطقة اتحاد قبائل وديرة المنتفك قائلاً: "أما عدد نفوسها فيقدره سليمان فائق على الصفحة 149 من كتابه الموسوم بـ" تاريخ بغداد" المطبوع ببغداد عام 1962 بمائتي ألف نسمة. كما قدره الشيخ ثامر السعدون، نائب عن المنتفك، بنصف مليون نسمة. ولكنني أعتقد أن هذه التقديرات لا تخلو من مبالغة وذلك لقلة نفوس العراق في العهد العثماني وقد قدر نفوس العراق في نهاية القرن التاسع عشر الاستاذ عبد الرزاق الهلالي على الصفحة 33 من كتابه الموسوم بـ"تاريخ التعليم في العراق في العهد العثماني" المطبوع ببغداد، 1959، بمليون وربع مليون نسمة".[46] 
ولهذه الأسباب المذكورة، ولغيرها، لا يمكن الحديث عن إحصاء سكّاني ناجز، يشمل خصائص السكان الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية، لأنها كانت بمثابة تخمينات وتقديرات، جرت في الغالب لدواعٍ عسكرية لأجل إحصاء القادرين على حمل السلاح، أو اقتصادية تخص دافعي الإيجارات والضرائب، لملاكي الأرض والتجار، يشوبها الكثير من النقص في طرق الإحصاء والمعرفة الأصولية بتعداد السكان. ولعدم دقتها وشموليتها لا يمكن الوثوق بهذه التعدادت (التخمينات) أو الركون إليها.
أما الأرض فلم تُمسح جيداً، ولم تُسجل تسجيلاً سالماً من النقص، بسبب فساد موظفي الدولة العثمانية المعروفين بالمحسوبية، والارتشاء بهبات من رؤساء العشائر، ليسهلوا  للأخيرين وضع أيديهم على أجزاء من الأرض من دون تسجيل ومن دون ضريبة. فقد سُجلت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، بطريقة عشوائية، ودون اعتماد التقنيات الحديثة لتعيين حدودها، وتم تمليكها كيفما أتَّفق. كما إن سجلات الدولة العثمانية الرسمية، يتجنبها رؤساء العشائر، بكل الأحول، خشيةً على أبنائهم من الجندية الإجبارية، وعلى أفراد عشائرهم كذلك لكي لا يحصل النقص في أعداد القائمين على العمل في أراضيهم.
والسياسة العثمانية التي اتُبعت في استثمار الأرض لم تثقل بحملها إلا على كاهل الفلاحين، المشتغلين فعلياً على الأرض، بأعباء مضافة لأعبائهم الأصلية، والاستيلاء على منتوجهم وجهدهم، بل غدتْ وسيلة لاسترقاقهم ووسيلة للإمعان في إفقارهم وبؤسهم.
من الضرائب المتعددة والمتكدسة عليهم، ابتداءً من النسبة التي تبلغ قيمتها بين 20% إلى 40% من المحصول تُدفع للحكومة رغم زهده، وفي سلسلة من الوكلاء، من المتعهد الأول للحكومة شيخ المشايخ أو المتصرف السعدوني، يمنحها باللزمة، لرؤساء العشائر وهؤلاء بدورهم يعهدون بها إلى السراكيل، والأخيرون يؤجرونها على الفلاحين، ببدلات إيجار نقدية أو عينية من الغلة. وفي الغالب يدفع الفلاحون بدلات عينية من منتوجاتهم، لأن ضيق واقعهم الاجتماعي والمعيشي القائم في معظمه على الكفاف، لم يتح لهم التعامل بالنقد.[47] وبعد هذه السلسلة، تتبعها سلسلة أخرى من الضرائب والمكوس يدفعها الفلاحون لحرس الشيخ، وهم بمثابة شرطته الخاصة ما يُعرف بالحوشية، ولمعّد قهوة المضيف، وحصة المضيف للمناسبات العامة الاجتماعية والدينية، وللكيالين وحمالي الزرع، ولرجال الدين في العشيرة، والسادة العلويين، ولوكلاء المراجع المقيمين في المدن المقدسة، ولمعدمي ومرضى العشيرة، ولمحاسبي الدولة، حصص معلومة أيضاً. وهذا الذي ذكرناه لا يتم تطبيقه في كل عشيرة، فبعض الشيوخ يأخذون بهذا ويصرفون النظر عن ذاك. 
تراكمت هذه الاقتطاعات إلى درجة لم تبقِ للفلاحين من محاصيلهم شيئاً ذا قيمة تحقق أبسط شروط العيش. يذكر الدكتور عبد العزيز شريف نوار عن رفع شيوخ السعدون إيجارات الأراضي مع كل زيادة في الضرائب أو أي هزة سياسية تحصل في المنتفق، وعواقبها على الفلاحين قائلاً: "تحرج مركز شيوخ السعدون بسبب تنازعهم على المشيخة من جهة، وازدياد قيمة الضريبة السنوية من جهة أخرى، فضلاً عن اقتطاع أراضٍ منهم من وقت لآخر. وكان آل السعدون- لتغطية هذه الخسائر- يرفعون من قيمة المفروض على كل فرد حتى اضطر عدد كبير من الزراع إلى هجر ديرته إلى الحويزة التابعة لفارس"[48]. وكذلك هاجر عدد كبير أيضاً، منهم باتجاه البصرة، ومدن الفرات الأوسط والكويت، وضواحي مدينة الناصرية.
 
مركّب السلطة العثمانية والشيوخ والفلاحين
 
السلطة العثمانية بمحاولتها لحسم مسألة الاتحادات القبيلة القوية، التي تنازعها سلطتَها، اتخذت وسيلة تفويض الأراضي كسياسة تهدف إلى زعزعة سلطة الأمراء والمشايخ على عشائرهم، ورفع عائدات الضرائب ومكوس المزايدات، وتحفيز العشائر على الاستقرار والزراعة. ولم يدخروا لأجل ذلك جهداً، فقد تسابق المشايخ ورؤساء العشائر على هذه الوظيفة الجديدة إذ تقلد بعضهم رتبة باشا وتعيّن متصرفاً كما هو الحال مع ناصر باشا متصرف لواء المنتفك من أجل رفع مكانتهم ووجاهتهم بين عشائرهم وزيادة ثرواتهم، وتعظيم شأن المشيخة أمام الآخرين.
ومن نتائج هذا التوجه من السلطة العثمانية والمشايخ، هزلَتْ منزلة المشايخ، وأمسوا وسيلة بيد السلطة تستخدمها كيفما تشاء ومتى تشاء، ولم يعد الشيخ صاحب الإرث البدوي التقليدي الذي يحظى بالاحترام والطاعة بين أبناء عشيرته، بل غدا موظفاً تعينه الحكومة شيخاً على العشيرة، ليجمع لها الضرائب، أو تعزله متى ما تمرد على سلطتها. انعكس أثر هذا الحال على الحياة الاجتماعية داخل العشيرة، وعلى معيشة وحياة الفلاحين. فهم لبساطتهم لازال في حسابهم إنهم يتبعون الشيخ الأب، ويتفانون من أجل هذه الرابطة المنزهة، كما يتصورون، ولارتباطهم الذي لا يقبل الانفصال عن الأرض مصدر قوتهم الوحيد، يضطرون إلى تلقي أفدح الإساءات وهم يكدون في حقولهم تحت وصايا الشيوخ.
انقسم المجتمع العشائري إلى طبقتين متقابلتين وشبه منعزلتين عن بعضهما إلاّ من رابطة الدم العامة: طبقة أصحاب الأرض والمال والجاه، وطبقة الفلاحين الأجراء.
يقوم شيخ العشيرة، صاحب الأرض بتقسيمها إلى أجزاء وتوزيعها على الفلاحين المستأجرين. ويوكل متابعة الدورة الزراعية وشؤونها إلى السراكيل معاونيه، مقابل أجر نقدي متفق عليه أو من المحصول، أو منحه قطعة أرض محددة يتعهدها الفلاحون مجاناً. ويقرضهم البذور أو المال لشرائها بسعر الشراء أي بالسعر الذي يشتري به الفلاح البذور من السوق، ويستوفي القرض منه بسعر البيع أي بالسعر الذي يبيع به الفلاح الغلةَ في السوق. ويكون وفق هذا التعامل قد كسب الشيخ مرتين عند الإقراض، وعند تسديد الدين، ويخسر الفلاحون مرتين. ويلبي لهم حاجتهم الملحة للمال بفائدة ربوية عالية رغم يقينه بحرمتها دينياً مثل حاجتهم لدفن موتاهم أو للتعازي أو للزواج  وللعلاج، ولشراء أدوات العمل، أو لإيجار الحيوانات للحراثة.
إضافة إلى قروض البذور والقروض الأخرى من مرابي العشيرة، يقترض الفلاحون من دكاكين القرية أو من دكاكين السوق، لتأمين مستلزمات حياتهم وضرورياتها، مثل السكر والشاي والتبغ والكبريت والصحون وقدور الطبخ والاقمشة والثياب والنفط وغيرها. ويسدد هذه القروض مع أرباحها في نهاية الموسم بطريقة ما يسمى "على الأخضر" في أغلب الأحيان، أي عيناً من محاصيلهم. ويضطر الفلاحون في أحيان كثيرة إلى بيع جُلّ محصولهم لحاجتهم الماسة للمال لتسديد الديون المتراكمة عليهم، أو لتدوير القرض مع الدورة الزراعية الجديدة، والتي سيبدأ معها الفلاحون بدورة اقتراض خاسرة جديدة.
ومع التطور التكنولوجي الذي دخل حقل الزراعة حضر أصحاب المضخات (المكاين) من أغنياء المدن، ليشكّلوا مع أسياد القرى اتحاداً ويربطوا الفلاحين بعقود متعسفة مضافة، من أجل تزويدهم بالماء. اضطر على أثرها الكثير من الفلاحين إلى ترك أراضيهم لأصحاب (المكاين)، عندما لم يستطع أحدٌ منهم تسديد أجور المضخات وكل هذه الديون المتراكمة عليه، لجملة أسباب، منها سوء الموسم أو آفات تهلك زرعهم، أو جهلهم بشروط التعاقد. مع مصادرة ائتلاف أصحاب الأرض محصول الفلاحين وما تبقى من أموالهم القليلة، يلاحقونهم إلى استثمار قوة عملهم، بأعمال سخرة مجانية بين ثلاثة إلى أربعة أشهر. تبدأ أول أشواطها من بداية الموسم الزراعي بتهيئة أرض الشيخ والسركال الخاصة، وحراثتها، وسقيها وحصادها ونقل المحاصيل ودراستها، ونوع العمل هذا يدعوه الفلاحون (الشكارة). وكري وتنظيف الجداول والأنهار، وإقامة السدود والمبازل.
وتتم هذه الدعوة إلى العمل الجماعي عبر السراكيل أو حوشية الشيوخ وعبيده، يُخرجون كلَّ أفراد العائلة القادرين على العمل بطرق وأساليب خشنة، باستثناء العجزة والمسنين. وهو السبب الذي جعل الفلاحين يسمون هذا العمل القسري والمرهق (الحشر). اعتاد الفلاحون على القيام بنوع العمل الجماعي هذا كعرف عشائري طوعي قبل أن يتحول إلى سخرة وإلى قانون اقطاعي بعد الطابو. وهؤلاء الحوشية والعبيد "فإن كانوا يُرهبون من قبل أفراد الحمايل فذلك ليس إلا لأنهم يمثلون الشيخ ويتصرفون نيابة عنه"[49]، وعليه قالوا بحسرة: "زُودْ العبد من زُودْ عمَّه". وإذا صرفنا النظر عن تقليد العبد شبح الشيخ، لبدا العبد بصورته الحقيقية التي لا تقل هزالاً وبؤساً من الفلاح، بل أسوء. يروي سيد عكاب آل مضيف، خلال لقائي معه، العديد من الخلاصات التي خلفتها العلاقات بين الأسياد والعبيد التي عاصرها أو السابقة عليه، قائلاً: “ كان السعدون يأتون بالعبيد من مكة وهم عادةً من أصول أفريقية من أجل الخدمة في المنازل أو في الأرض أو في المضايف ومنهم من يجد فيه قوة ويقظة، يجنده للحماية الشخصية. وكان كذلك يأتي شيوخ العشائر الآخرون بالعبيد والعبدات من مكة أيضا.. ومن الشيوخ من يحمل روح سمحة قد تزوج عبدة راقت له وغدت أم لأولاده ونُسبوا أليه وحملوا القابه كما حصل مع شيخ أمويت شيخ حمولة آل منسي من عشائر السهلان الذي جاء بعبده من مكة.. ومنهم من يكسي العبد ويطعمه كفرد من افراد عائلته، وحتى بعضهم من يدعو عبده لتناول الطعام معه.. "ويستدرك قائلا:" على العموم حياة العبيد مع الشيوخ لا تخلو من اضطهاد.. عملهم يخلو من أي استراحة يومية أو اسبوعية ويكلفوهم بأعمال مرهقة ومحرجة.. ويتعرضون لعقوبات قاسية للغاية وأحيانا مميتة وعملهم في العادة بدون مقابل سوى ما يحصلون عليه من قوت وثياب وكما يُقال يشتغلون على أكل بطونهم فقط.."
 وهناك خدمات مجانية أخرى يقدمها الفلاحون للشيوخ والسراكيل، مساهماتهم في بناء دورهم ومضايفهم وترميمها، وخدمات الولائم والمناسبات العامة والحراسة.
والدعوة الاكثر تكلفة، امتثال الفلاحين للتعبأة للحرب في النزاعات المسلحة مع عشائر أخرى، أو مع السلطة، تحت قيادة وتوجيه شيوخهم، يخوض غمار الحرب باندفاع وبسالة، لا يستتر ولا يتخاذل أو يتراجع على الإطلاق، مما يكلفه كثيراً عند الاشتباك، أما أن يفقد حياته أو يُصاب إصابات بالغة نتيجة لقيم الرجولة التي لا تنازعها قيمة أخرى عنده. والخاسر الوحيد هو وعائلته عندما يفقد حياته أو يُعاق، تفقد العائلة معيلها وتغرق في الفقر أكثر من فقرها الأول.
ومن يتمرد أو يحتج أو يقصر في عمله، أو تسديد ديونه، يُذل أمام أفراد العشيرة، بالضرب المبرح و"الفلاح لا يخشى من شيء قدر خشيته من أن يُجلد أمام الملأ"[50]، وعقوبات قاسية عديدة، تصل أحياناً إلى حد القتل، وإهانات لفظية تترك ندوباً في النفس لا تقل عن الندوب الجسدية أثراً. وأيضاً من أشد العقوبات خزياً على نفس الفلاح، الطرد من العشيرة." باستطاعة شيخ العشيرة أن يأخذ الأرض من أي من أتباعه ويعطيها لغيره، وأن ينفي أي واحد من أتباعه من إقليمه، والذين يعصون أوامر الشيخ تحرق أكواخهم وتنهب ماشيتهم وممتلكاتهم"[51] أو يساومه على ابنته أو أخته.
وتروى قصص من هذا السجل لا زالتْ تحتفظ بها ذاكرة الأجيال، مؤثرة للغاية. يُذكر في إحدى المرويات، في واحدة من القرى المحيطة بالناصرية بأن شيخاً أراد إذلال فلاح شق عصا الطاعة ولإظهار سطوته عليه، قيده حسب ما يروى بخيط كنديرة (بكرة الخياطة)، بوتد تحت أشعة الشمس الحارقة، وقال له مهدداً "إذا أنت زلمة اقطع الخيط وأمش لأهلك."
ويذكر آل مضيف عقوبات آخرى مثل "بعض السراكيل يدخل خيزرانته بإذن الفلاح ويخرجها من الأخرى هكذا يقتله، أو الدفن للنص، أي دفن جسد الفلاح المعاقب منتصباً في حفرة ً حتى رقبته مدة طويلة من الزمن، مهما كان الطقس، والشيخ نايف آل جريان شيخ آل بو سلطان كان يأخذ الفلاح بسيارته ويلقي به بالصحراء بعز الحر في تموز أو بالشهر الثامن أواسط القرن الماضي، سواءً أمات هناك أو عاد  حياً يتركه هو والظروف.. وكذلك الشيخ عبد الله آل ياسين آل بلاسم يأمر الفلاحين بعبور النهر سباحةً بالشتاء، بالأزرق، وهذه الفظاظة لا يتخذها كل الشيوخ مع الفلاحين، هناك من الشيوخ من تغلب عليه الرحمة والتسامح، ولكن الأكثر فتكاً بالفلاحين شيوخ العمارة مثل آل بو محمد وآل بو خليفة وفيصل ابن مجيد غضبان البنية ومحمد العريبي، لا يتردد أحدهم باصطياد أي فتاة جميلة في العشيرة ، قائلين للفلاحين: هاي بنتك حلوة جيبها."
ومن طيش الشيوخ وقرارتهم غير المتروية والسخيفة، بحق أتباعهم "يتداول القَبَليّون في المنطقة (الشامية) قصة الشيخ الذي أجبر حراس حديقته على التغوط أمامه ليتأكد بأن أحداً منهم لم يأكل من كرومها.."[52]
وأخذ أثرياء المدن ممن تملكوا سندات الأرض من شيوخ العشائر اسلوب تعاملهم مع الفلاحين. يُحكى عن محمد عبد الغني حمادي، وهو من أثرياء مدينة الناصرية يلتزم أرضاً في منطقة الهرزة التابعة إدارياً لقضاء البطحاء، يزرعها له الفلاحون معظمهم من الحسينات والغزي، في زيارة له تفقدية لأرضه صادف أثناء جولته أحد الفلاحين مشغولاً عن عمله، ناداه وخبطه "بالخيزرانة" بقوة، توقاها الفلاح بكفه ومن شدة الضربة أدت إلى قطع خنصرها.
تغدق الثروات الضخمة التي يحصل عليها الشيوخ الاقطاعيون، والسراكيل والسادة العلويون والملحقون بهم، من فائض إنتاج الفلاحين الكبير، حياة متنعمة ومرفهة وينال على الأخص شيخ العشيرة وعائلته حصة الأسد منها. منازل الشيوخ مبنية من اللبِن أو الآجر، واسعة الفناء وتحتوي على عدد كبير من الغرف وحمامات، مسقوفة تسقيفاً آمناً من المطر وأحياناً من طابقين أو أكثر. وحدائق غنّاء بالفواكه والخضروات، ومَضيف واسع بسعة "الجاه" الذي يتمتع به الشيخ مع الحوشية وفريق من العبيد والحراس والخدم، كلاً حسب وظيفته الخدمية. يُعالجون إن شكى أحدٌ منهم من مرض في المستشفيات العراقية، أو لبنان[53] أو لندن. وأثاث من أسرّة ودواليب وخزانات ملابس، ثيابهم من قماش وطرز فاخرة وأحذية فرنجية. ونساء العائلة تتزين بالاكسسوارت والعطور والمصوغات الذهبية وفساتين ملونة ومزكرشة. ومخازن للمؤن وأدوات مائدة وعدة طبخ مختلفة أحجامها وكميتها ومعدنها لطبخ ما لذ وطاب من المائدة اليومية، والولائم الكبيرة الباذخة. وصابون لمختلف الاستخدامات[54]، وأفرشة وأغطية شتوية وصيفية مصنوع أكثرها محلياً بشكل مميز (توصا) لطلب "المحَفوظ" الشيخ.
عن دار محمد العريبي، شيخ عشيرة آل بو محمد في لواء العمارة يتحدث جمعة الطرفي قائلا: "شيدت من الطابوق على ضفاف نهر الكحلاء قرب ملتقى نهر ام الطوس.. ويديرها الغلمان، ويحف بها المغنون والشعراء والمثقفون وكنا نشاهد مضيف الشيخ محمد عريبي وهو يضم العديد من الفلاحين الذين يتواجدون ليلا والذين يربو عددهم على خمسمائة رجل تقريباً وهم الحوشية يحيطون بالقصر لحماية الشيخ محمد عريبي ويتصدر تلك الدار مضيفٌ واسع جداً مشيد أيضاً من الحصران والقصب يجتمع فيه العديد من الأشخاص المختصين بالشؤون الاستشارية الذين يعتمد عليهم الشيخ محمد ويتشاور معهم يومياً مثل الوكلاء والسراكيل."[55]
فضلاً عن هذه المزايا التي يتمتع بها الشيوخ في إماراتهم، يشيدُ الكثير منهم دوراً فارهة في المدن أو في بغداد، لينعم مع أفراد عائلته بيسر الحواضر وأسواقها ومؤسساتها الصحية والتعليمية، والبعض منهم يختار زوجة من المدينة للوجاهة، ومنهم من ينبسط  بشرب الخمر، وجلسات الطرب الماجنة ويُدمن على القمار، يبدد المال بلا "وجع قلب". المال الذي مصدره "شحم عيون" الفلاحين ولحمهم ودمهم.
وقصة أحد شيوخ العشائر القريبة من مركز مدينة الناصرية مع القمار وآثاره، متداولة ومعروفة لدى أبناء عشيرته وأبناء مركز المدينة: كان يفد المدينة كل مساء ليلعب ورق القمار في منزل إحدى العوائل المسيحية، يمتهن جميع أفرادها الطبابة، يخسر كل ليلة مبالغ طائلة. راوده شك بعد فترة من وقوف زوجة صاحب الدار القابلة، خلفه باستمرار. استدرجها يوماً من الأيام مستأذناً من زوجها الطبيب، بحجة أن واحدة من نساء عائلته حضرتها الولادة، واستجوبها هناك في كوخ من أكواخه المنعزلة واعترفتْ بتنفيذها خطة وقوفها خلفه تناور بمرآة لكي تعكس أوراقه للمراهنين المقابلين له على الطاولة، أوسعها ضرباً و"فعل بيها" أي اغتصبها كما ذكر الرواة، جزاءً على جنايتها.
الفجوة بين من يملك ومن لا يملك في الديرة العشائرية الجنوبية واسعة جداً. يُلاحظ هذا الفارق في المستوى المعيشي بين الطبقات بصورة واضحة. الأمراء والشيوخ والدائرة الملحقة بهم يعيشون حياة هانئة، ويبددون كميات كبيرة من الثروة ويستهلكونها استهلاكاً غير منتج. بعض الشيوخ يودعون المال الفائض عند أصحاب الدكاكين ويستعيدونها عند الحاجة كمصارف بدائية. يعود السلوك المُسرف للثروة هذا إلى اعتمادهم على ثمار ريع الأرض. ريع الأرض أو الريع الزراعي هو جزء من المحصول (نتاج العمل) يدفعه الفلاحون لصاحب الأرض كثمن انتفاع من الأرض أو أداء أعمال سخرة معينة، وكمية المحصول أو شدة أعمال السخرة، مرتهنة تفاضلياً مع خصوبة الأرض أو نوعية المحصول والقرب من الأسواق.
لا يوفرون من أجل إعادة إنتاج الدورة الزراعية، لأن هذا النمط لا يحتاج إلى إعادة إنتاج إلاّ بنسبة بسيطة من المال. وأحياناً كثيرة يُنفق مال الريع برمته مما يضطرهم إلى الاستدانة، تُسدد الديون بعد الحصاد بخلاف ما يفعله الرأسمالي عند إنفاقه كمية ملحوظة من المال المتراكم لديه من فائض قيمة عمل العمال على إعادة إنتاج مشروعه الرأسمالي. دورة الإنتاج الرأسمالية دورة متصلة لا تنفصل إلاّ في ذهن صاحبها، وتتم حساباته باستمرار بصورة كلبية مجردة، يفرز منها المستقطعات من أجل إعادة الإنتاج ويحصي الأرباح. وليس كنظرة القبلي العيانية للمال، كما وردت على لسان أشهر الكرماء حاتم الطائي:
" أَمَاوِيّ  إنَّ  المالَ  غَـادٍ   ورائِـحٌ
                          وَيَبْقَى  مِنَ  المالِ  الأَحَادِيثُ  وَالذِّكْرُ"
وهذا سبب اتهام الاقطاعيين للبرجوازيين بالبخل، وانسحاب هذه النظرة عند أبناء العشائر على ساكني المدينة من موظفين وحرفيين وعمال وأصحاب دكاكين بالشح[56]، كون نمط معيشة هؤلاء تراكمياً يعتمد على الأجر اليومي والراتب الشهري وفارق أرباح البضائع التجاري. يضطر الاقتصاد الريعي ودوراته أبناءَ العشائر إلى اللجوء إلى  الاستدانة دائماً حتى جرتْ كالعادة لديهم مما يجعلهم يتوجهون إلى الانتقائية في علاقاتهم مع الآخرين وهذا بدروه سبب اتهام سكّان المدينة لأبناء العشائر بالمنفعية والمجاملة في علاقاتهم.
وإن أراد أحد ما أن يتكلم عن كرم الشيوخ وفيض سخائهم، والقصص عن هذا الكرم تملأ أحاديث أجيال كاملة من المتحدثين، ونُظم عنها أشعار وقيل فيها أمثال، لابد لنا ولغيرنا أن يعرف إن هذا الكرم والعطايا الوافرة لمن يحتاج أو يجازى، مصدرها من أفراد العشيرة، أكانوا فلاحين أم رعاة، تستحصل منهم طوعاً أو فرضاً، أي إن كرم الشيوخ هو متاع غيرهم، والكرم الحقيقي كما ينقل العطى الله عن الراحل ملا راضي الشواليش مأثورةً "الكريم هو الفقير"، لأن سخائه أساسه من ماله المباشر الخاص الذي جاء من جهده ومن عرق جبينه، رغم زهده أحياناً.
أحطَّ نمط الاقتصاد الريعي الزراعي من معيشة الفلاحين وتركهم في ضنك متواصل. يصف عبد الله الفياض حال الفلاحين في لواء المنتفك قائلاً: "وقد زرت مناطق زراعية مختلفة في هذا اللواء واتصلت ببعض الفلاحين وسألتهم عن غذائهم ولباسهم فكانت اجابات معظمهم أن غذائهم لا يتجاوز خبز الشعير أو الدخن. أمّا لباسهم فيتكون غالباً من القماش الهندي الأسمر ويطلقون عليه "جوبان" يعملون منه لباسا يعرف بـ"الدشداشة" وهي ثوب طويل، ويرتدون على رؤوسهم الكوفية ويطلقون عليها "اليشماغ" والعقال الأسود المصنوع من المرعز أو شعر المعز. وقلة منهم من يلبس الزبون والسترة ويلبسون عباءة من الصوف وكلهم حفاة،"[57] يسكنون أكواخاً من "الطين وتُشيد أسوارها من سعف النخيل وبالإضافة إلى توفير السكن لعوائلهم فقد كانت هذه البيوت تخدم وظيفتين رئيسيتين هما: توفير المأوى لماشيتهم وخزن محاصيلهم."[58] ومعدمو القرى وهم الأكثرية والعجزة وفلاحو الأهوار صففوا صرائفهم من حصران القصب وسعف النخيل، تسكن معهم ماشيتهم ودواجنهم ببيئة غير صحية تماماً وبلا ماء صحي، لا وجود لمرافقات مخصصة لقضاء الحاجة ولا حمامات ولا صابون. ويكونون تحت رحمة الظروف المناخية من برد وأمطار ورياح عاصفة، بلا أثاث أو أغطية تستحق الذكر، معظم أوانيهم معمولة من طين النهر والجداول، ووقود الطبخ والخبز من السعف والقصب وفضلات الحيوانات. غذاؤهم خبز الشعير أو خبز الدنان وقليل منهم من يتناول خبز حنطة أو رز مع الشاي والخضروات واللبن ولم يكن أحدٌ منهم قد تعرف على الفواكه والحلويات.
أتذكرُ فقراء قرية قريبة من محطة قطار الناصرية في ثمانينيات القرن الماضي، كان يدعون كل أنواع الحلويات والنساتل الموجودة في الدكاكين (ضروك الفار)، "يتهافت على المضيف يوم قدوم أحد الضيوف الفلاحون دون دعوة ومنظرهم يدعو إلى العطف والرأفة"[59]، شظف حياتهم وقسوتها حرمتهم الكفاية من الطعام إلاّ في المناسبات، لذا تراهم يعبّرون عن ميزة الميسورين قائلين شباعة أو شبعانين. وربّ قائل يقول إن هذا التعبير شائع كذلك بين فقراء المدينة، نقول نعم، لأن الطبقة العاملة المدينية هم من أصول ريفية وانتقل معهم هذا التعبير، ولأن الفقر صُنع في الريف في البداية، ثيابهم غبر حائلة ألوانها وينتعلون قتام الأرض.
يقول الكاتب عبد الجبار فارس: "دخلت الصف على أحد المعلمين عام 1933 وجدته قد أوقف طالباً يستجوبه بعد ذلك ناوله الطباشير ليكتب على السبورة فرفض هذا معتذراً بأنه لا يستطيع أن يترك ثوبه الذي أمسك به بيديه لأنه خلق ممزق لا يستر عورته. وهنا أدار المعلم وجهه إليّ قائلاً ’يردون تثقيف الفلاح وقد قتلوه جوعاً.‘"[60] كيف يتثقف ويتعلم الفلاحون وابناؤهم وهم يشقون ليلاً نهاراً طيلة أيام العام بالعمل المُضني من أجل حصولهم على ما يقيم أودهم فحسب. "الفلاح بحالته الاقتصادية الحالية، وأغلاله التي يرسف فيها لا يمكنه أن يرسل ابنه إلى المدرسة ويحرم جهوده في رعي الماشية أو حراسة مياه السقي، ولقد رأيت بعيني أطفالاً لا يبلغون التاسعة، وقد اضطر والدهم إلى تكليفي بتدريسهم القرآن عندما كنت (ملا) في إحدى القرى، على أن يتناوب كل أبوين الرعي عوضاً عن ابنهما، ولكن لا تمضي غير أيام حتى يرى الأبوان عدم استطاعة التعويض عن خدمة ابنهما فيعود إلى عمله تاركا القراءة."[61]
يروي الفلاح شاكر العطى الله ملحة عن التعارض بين الميل للدراسة والتعلم عند الأولاد والتهرب من العمل في الحقول يقول “ كان البعض منّا يتحجج نهاية العام الدراسي بأنه مُكمِل، لكي يكرس وقته للمطالعة ويتملص من العمل، مما أدى في أحد الأعوام أن يذهب أحد وجهاء القرية لمدير المدرسة طالباً منه أن تكون نتائج أبناء القرية أما ناجح أو راسب”.
يضاف إلى عدم قدرة الفلاحين إرسال أبنائهم للمدارس للحاجة إليهم في العمل رغم شغف الأولاد وحبهم للدارسة والتعلّم، ممانعة بعض الشيوخ "إنشاء مدارس ومستوصفات في مناطقهم." يشكو الفلاحون معبرين عن مرارتهم من خذلان الحكومات زيادة على ظلم الشيوخ لهم: "(الحكومة تكدر تسوي كلشي).. غير أن (الحكومة ما تريد خيرنه)"[62]. تتعمد الحكومات وشيوخهم ابقائهم في جهل مستدام إلى حد البلاهة، لكي لا يدركوا معنى ولائهم للعشيرة وشيخها ويبقى كقوى غيبية غامضة ومسيطرة عليهم، لكي يسهل بالتالي استغلالهم بدون اعتراض. والحكومات مثل الشيوخ تحتاج هذا الولاء الأعمى لكي تأخذ أكثر مما تعطي.
ومن جمعة الطرفي كشاهد عيان على تهاون الحكومة عن واجباتها وممالأتها للشيوخ، نقرأ ما حصل يوم قدوم متصرف لواء العمارة مع موظفيه على الشيخ فالح الصيهود، شيخ عشيرة آل بو محمد من أجل تسجيل أسماء الفلاحين في سجلات الدولة، قائلاً: "جرت أحاديث بين المتصرف وبين الشيخ فالح كان مفادها أن زيارتهم جاءت خصيصاً لتسجيل الفلاحين في سجلات رسمية، وعند سماعه هذا منهم غضب وارتجف لمعنى السجلات الموضوعة لتثبيت الأسماء في سجلات ثم تكلم معهم بأسلوب مقنع مفاده أن تثبيت الفلاحين في سجلات معناه تدمير الريف وقتل الزراعة.. وحاول اقناعهم مراراً وطلب منهم فيما بعد تأجيل ذلك ثم ودعهم وقفلوا عائدين محملين بأكياس الرز العنبر مع السمن الحيواني وغيرها."[63]
ولنتابع شهادة أخرى من محمود الجندي يصف حال الفلاح وصفاً وافياً: "هناك كثير من قرى وأرياف العراق لا يرى أبناؤها الطبيب إطلاقا ويغمرهم الجهل المطبق فلا يعرفون غير الكي بالنار وأدوية (الصليبي) والبخور اما حالة سكناهم فلا تختلف عن حالة حيواناتهم فهم وأياها يسكنون زرابي القصب والحصر جنباً إلى جنب. لذلك فهم ضعاف الأجسام منهوكو القوى لا يفهمون شيئاً من الحياة أكثر من العمل والأكل والحياة الجنسية، ولا يشعرون برابطة تربطهم بالمجتمع بل بالعكس هم يرون المجتمع والحكومة ما هي إلا عبء ثقيل عليهم لا همّ لها إلا استيفاء الضرائب والتجنيد وهم غير ملومين على ذلك، لأن فقرهم يَحُول دون تمتعهم بأي نشاط اجتماعي، وعملهم المضني واستغلالهم الفظيع يَحُول بينهم وبين التفرغ للتمتع بالحياة يزيد ذلك سوءاً ضعف العناية الحكومية بحالهم الاجتماعية[64].
كان سكّان مركز مدينة الناصرية يعيبون على فقراء الريف عدم غسلهم يشماغاتهم (الكوفية) وثياب المناسبات، والعودة إلى خزنها على اتساخها حتى لو تعطنتْ. والريفي يعلل ذلك من خشيته عليها أن تبلى من الغسل "خاف تتكطع". وفاتَ المديني انعدام قدرة هؤلاء الفقراء على شراء يشماغ أو ثوب جديد. كذلك استهجانهم الذي ذاع مثلاً في المدينة من تهوين ريفي عندما أصابتْ قدمَه زجاجةٌ جرحتها جرحاً بليغاً هاتفاً "بريلي ولا بالاحَمَر" [بريلي = برِجلي] يقصد تمزق قدمه أهون عليه من تمزق نعله الجلدي الأحمر، فالجرح يلتئم والنعل يبلى. [65] ولطالما كان صدام حسين يُشين فقراء شعبه بالقول" كنتم حفاة عراة قبل مجيئنا للحكم."
ممانعة الشيوخ واعتراضهم الشديد على مجرد تسجيل الفلاحين في السجلات الحكومية، وبناء المدارس وبناء المراكز الصحية في أراضيهم، يجعل من ثالوث الفقر والجهل والمرض المشؤوم، دائرة مكتملة تعمل كالدائرة الكهربائية المفتوحة يتدفق خلالها التيار الكهربائي لا تقطعه لا مفاتيح ولا قواطع أمان. سوء التغذية وعناء العمل المتواصل المُستنزف للطاقة، وبيئة غير صحية تماماً، والخرافات والجهل المزمن. هذه هي البواعث الأساسية التي تنشأ منها الكثير من الأمراض بين الفلاحين وانتشارها واشتدادها عليهم. "ولو حاولنا أن نعبر عن الوضع الصحي في الريف العراقي اليوم (اربعينيات القرن الماضي) ونرسم الصورة الحقيقية له على ضوء الاحصاءات المتيسرة لدينا نجد انها صورة مؤلمة تستدر الرحمة وتستدعي العلاج العاجل. هذا برغم ما يجب أن نتذكره من أن الاحصاءات الموجودة تحوي أرقاماً تقريبية مهما كانت دقتها، لأن نسبة كبيرة من الذين تفتك بهم الامراض ويتعرضون إليها لا يتيسر لهم التطبب والتداوي؛ أما تقاعساً منهم أو لعدم تيسر ذلك لهم في المؤسسات التي تنظم الاحصاءات وتمسك السجلات اللازمة لها... فيظهر من الاحصاءات الصحية أن معدل عدد الإصابات المرضية التي سجلت في العراق بأجمعه سنة 1938 حتى سنة 1946 يبلغ (4,360,000) اصابة في السنة. وهذا يعني بالطبع ان قسما لا يستهان به منها اصابات متكررة لنفس الاشخاص." [66]
هذه صورة تقريبية تيسرت لوضع الريف العراقي الصحي في أربعينيات القرن الماضي، ويورد صاحب هذه الدراسة الاستاذ جعفر الخياط، جداول احصائية عن نسب مختلف الأمراض الشائعة والسارية وتوزيعها بين السكان في صفحات تالية، تظهر أن أكثر الأمراض انتشاراً هي الملاريا ونسبته من مجموع الأمراض السارية 50,4، التراخوما 40,5، الزحار الديزنتري 1,6، البلهارزيا 1,2، النزلة الصدرية 1,6، انكيلوستوما 0,5. ونتابع معه وهو يعلق بأسى:
"وهذا يدل على أنّ مَرَضَيْ الملاريا والتراخوما هما أكثر الأمراض شيوعاً في العراق. والملاريا منتشرة كما لا يخفى في أنحاء كثيرة من الريف بالنظر لكثرة وجود المياه الآسنة والمستنقعات التي تعد أوكاراً صالحة لتفريخ البعوض الناقل لهذا المرض الوبيل. والمعتقد أن هذا المرض يؤدي الى حوالي (50,000) اصابة وفاة في السنة.."[67]. مع العلم إن نسبة زيادة عدد السكان في العراق وقتذاك تُقدر سنوياً، ب(80,000) نسمة[68].
وفي جدول موضوع عام 1944، يُظهر أن عدد الاصابات في هذا المرض في لواء المنتفك وحده بلغ (53,269) ونسبتها بين السكان (14,3)، والبلهازيا نسبتها بين سكان المنتفك بلغت 17,1%. " وسبب هذا المرض دودة البلهارزيا التي تعيش في المياه الراكدة داخل قشرة تنتزعها حين تمس جلد الانسان فتخترق الجلد وتستقر في الشرايين ثم تنتقل من الدم إلى المثانة فتسبب جروحاً فيها فتسيل الدماء وتمتزج بالبول. ويكثر هذا المرض بوجه خاص في جنوب العراق، ويقدر نسبة المصابين به بين (50- 90) بالمئة من السكان.. وخير وسيلة لمكافحته القضاء على الحفاء إذ أن أكثر المصابين من الفلاحين والعمال الحفاة." [69] "وأما السل في العراق فمرض شائع وقتذاك، مهلك ومعد، وخطره أكثر من أي مرض آخر.. وأول أسبابه هو التغذية والسكنى في مساكن غير صحية التي لا تتوفر فيها التهوية ولا تدخلها الشمس، والمصابون بفقر الدم من جراء الاصابة بالملاريا والبلهارزيا والانكلستوما معرضون للإصابة بالسل.."[70]
هذا جانب مما كانت عليه الأوضاع الصحية في عقدي الأربعينيات والخمسينيات المتقدمين على أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، العاصفة بالأحداث السياسة الدامية، وأطماع وانتهاكات الدول الاستعمارية على أرض العراق، من العثمانيين والانكليز وغيرهما، والنزاعات العشائرية المتفاقمة، وتدني الوضع المعاشي والصحي والثقافي، الملوثة للأجواء الاجتماعية والمعيشية والصحية، إلى حدود قصوى. وبرأينا إن  هذه هي الأسباب التي تفسر لنا ظهور الحركات اليسارية المبكرة انطلاقاً من هذه الأرض. 
يشكو الباحث شاكر مصطفى بحسرة من كثافة البعوض خلال وجوده في الجبايش عام 1953: "كنت أحارب البعوض النهم بطرق عدة أغلبها غير مجدية، وكم تمنيت على الدهر لو ملكت مئة يد بدل اثنتين لأحمي جسمي من تلك الحشرات .. وتكثر الأفاعي في هذه الفترة وتنشط فتزيد هي وبقية الزواحف والحشرات وتسبب كثيراً من الإزعاج الذي يواجهه الإنسان في موسم الحر"[71]. وجنوب العراق، إقليم مناخه صحراوي، يطول صيفه الحار إلى سبعة أشهر منها أشهر لاهبة ومع نسب رطوبة عالية، يُعتبر مصيفاً واسعاً لعيش وتكاثر البعوض والحشرات والزواحف. و"لأن الدواء غير موجود فكانت الأسر الفلاحية تصنع حرائق ليلية يتصاعد منها الدخان لقتل (حشرات البق) وهكذا كنا نشاهد المداخن الليلية باستمرار"[72] بين الصرائف والأكواخ المتداعية وغير الحصينة، والطافية فوق البُرك الراكدة. أضف إلى كل ذلك كمثال من منطقة الجبايش [هو] امتناع الكثير من أهلها".. مراجعة المستوصف لعدة أسباب. فهم بصورة عامة يؤمنون إيماناً قوياً بالطب العشائري المحلي القائم بصورة أساسية على (الدك) بالإبرة والكي وشرب أدوية مستخرجة من بعض الأعشاب إلى جانب (الخرز) والتمائم وما أشبه ذلك...وأغلب النسوة يعتقدن إن من العيب مراجعة المستوصف وهن لذلك يعتمدن بصورة أساسية على الطب المحلي. ولقد وجدت أن أكثر من 80% من الإناث المريضات اللواتي راجعن المستوصف في عام 1952 كن أما بنات صغيرات أو عجائز مسنات."  "ولو وجدت في مستوصف القرية دكتورة أو ممرضة لازداد عدد الاناث المراجعات للمستوصف زيادة كبيرة"[73].
ومع ملاحظة الأستاذ شاكر مصطفى سليم الأخيرة، عن أوضاع المرأة في مجتمع الجبايش الذي يمتاز ككل مجتمع عشائري بصفة الذكورية ومكانة أدنى للمرأة، يكون من المهم تخصيص مساحة أوسع للحديث عن أوضاعها العامة. 
 
المرأة في المجتمع العشائري
إنّ اضطهاد المرأة والتساهل مع العنف المُسلط عليها أمر ملازم في المجتمع الطبقي منذ نشأته، انطلاقاً من دورها الدوني داخل الأسرة وتبعيتها للرجل، واستعبادها في المنزل بما أُصطلح عليه بعبودية "العمل المنزلي." العبودية مبدئياً هي سيطرة شخص (مالك) على شخص آخر (عبد مملوك)، يُكرههُ على القيام بخدمات وأعمال له دون أجر، بواسطة شتى وسائل الإكراه التي لا تخلو من العنف في العادة. وضعتْ من أجل ذلك تشريعات توثق العبودية منذ ظهور أقدم الحضارات في التاريخ، وإلى حدٍ ما ساوتْ تلك التشريعات العبد مع الزوجة[74]، بنزع جميع حقوقها في الملكية، ومصادرة أجور عملها. إلا ما جاء كتشريع أو عرف كحسن معاملة، في بعض المجتمعات القديمة، في "موضوع حصول المرأة على «البائنة» هبةً من والدها، والتي كانت تمثل حصتها في ميراثه عند زواجها... والتي عززت من مكانتها الاجتماعية" [75] أو يمكن أيضاً اعتبار هذه البائنة جزءاً من أجرٍ عن اشتراكها في العمل الأسري، أو هي آخر ذكرى باقية في التاريخ لحق المرأة في التملك.
وحتى هذه الهدية من عائلة الزوجة اختفتْ فيما بعد في أغلب المجتمعات، ولم يبقَ إلا المهر الذي يقدمه الزوج، وصولاً للمجتمعات القبلية التي مُسخت في نظامه وعرفه المرأة، إلى كائن أقل من الرجل ينعتونه بأنه "مَرَة" و "تكرم عن طاريها"، واختزالها إلى آلة عمل صماء.
 لم ينل كائن من البشر من سوء العذاب، والانتقاص من الآدمية والكرامة، مثلما حاق الفلاحة من قهر في المجتمع العشائري. كانت وطأة المعاناة عليها مضاعفة، تشارك أسرتها المحرومة الفقر المدقع، والعمل المضني في الحقل وأعمال السخرة، علاوةً على ذلك أداء واجباتها المنزلية المنوطة بها ورعاية الأطفال والكبار، ناهيك عن النظرة الدونية الممعنة بالتخلف إليها مع قلة الاعتبار.
تبدأ الأنثى منذ يوم ولادتها ككائن غير مرحب به، في المجتمع العشائري بالذات أكثر من كل مجتمع آخر، ويعكس هذا المعيار الاجتماعي بوضوح المثل القائل "مكروهة وجابت بنت". لا تحظى الوليدة بالاهتمام الواجب من الذكور في اسرتها إلا من والدتها أسيرة العمل والواجبات، ورغم عطفها الأمومي يجبرها العرف القاسي عدم التأني على اعداد بنتها للعمل ما أن تتخطى أعوام الرضاعة بقليل، وتحرمها برسم المجتمع العشائري من ألعاب الطفولة. تجعل منها والدتها مساعدة لها في دوامة العمل، بل تتكلف أحيانا بأعمال خطرة قياساً لعمر قريناتها في المدينة أو من بنات الشيوخ، وتعتاد على ذلك كما اعتادت معلمتها الأولى والدتها منذ إن كانت بعمرها.
تنهض الوالدة وإن كانت مرضعةً مع أول طلوع لشعاع الشمس لحلب البقرة لإعداد فطور العائلة، وتهيئة العجين للخبز وإيقاد التنور، وتنظيف المنزل وعلف الحيوانات وتنظيف مكانها. بعد الفطور وبعد غسل الصحون بالسبوس تذهب لجلب الماء وجمع الحطب لطبخ وجبة الغداء والخبز. والعشاء يُسخّنُ ما فضل من وجبة الغداء أو طبخ مائدة جديدة مع وجبة ثالثة من الخبز، بعدها تهيأ أفرشة وأغطية النوم ومعظمها مصنوعة ومحاكة بيدها - ولا بيت ريفي يخلو من المغزل (نول الحياكة) وعدة الحياكة-. يخلد للنوم ذكور وأطفال العائلة وتعرج هي لطحن الحبوب لوجبات خبز يوم غد بالرحى الحجرية، مثقلة بآلام يومها وغدها وهي صاحبة المسؤولية الأثقل مما يقع على عاتق الرجال.
سألتُ عدداً من النساء من أصول عشائرية عن هموم العمل المنزلي في الريف سالفاً، وكانت أغلب إجاباتهن مع شيء من الاشفاق: "الرحى والياون (الجاون)"، يتذكرن جيل أمهاتهن وجداتهن وكيف كنَّ يعانين من الآلية المملة والمجهدة وكأنها عذاب سيزيف لا نهاية له.. عذاب الرحى الذي جعل من المرأة قوة محركة حالها حال الماء والهواء والحيوانات، وكيف كنّ يلتذنَ بالبكاء والنواح أثناء الطحن ليلاً للترويح عن أنفسهن[76]، الذي يأخذ منهن وقتاً وجهداً شاقاً ومديداً، ولاسيما لموائد الضيوف والمناسبات العامة، وفي الليالي الباردة والممطرة.
بسبب انعدام المعنى للحياة عند المرأة الريفية ومشاعر اليأس، جعل منها خزانة حزن تهرب منها إلى ساحة البكاء، لتهدئة صحتها النفسية. اقترن البكاء في المجتمع العشائري بالنساء لأن الرجال من المعيب عليهم البكاء، وتعزز طقساً تمارسه كطقوس العبادة اليومية، تنشج بعويل مخيف فيما إذا اختلتْ مع نفسها. وكأنها تريد أن تفرغ الحزن الكامن داخلها بواسطة النشيج، والملاحظ - ليس في الريف حصراً- تزف قريبات العروس ساعة مغادرتها المنزل بالبكاء الشديد، ليس لداعي الفراق، بل لأن خبرتهن تؤكد لهن إنها ماضية إلى عبودية الزواج وبالأخص إن كان قسرياً، المنتشر على نطاق واسع في الريف. وهذا البكاء يفترض أن يكون في محله بهجة وسرور. وهذا البكاء يعادله ولكن في مضمون معاكس، في عدة حضارات قديمة تشييع العبيد رفاقهم الموتى بالدفوف وأناشيد الفرح لتحررهم من العبودية حتى ولو كان إلى جوف القبر.
 والعمل المرهق الآخر جرش حب الشلب وتخليصه إلى رز، وشكوى النساء من أوجاع المجرشة (الجاون)، ترويها مطولةُ الشاعر ملا عبود الكرخي (المجرشة)[77].
في الحقل تشارك زوجها وأولادها في الحراثة والزراعة والسقي والحصاد والدياسة ونقل المحاصيل، وكذلك التذرية أغلب الأحيان يلقى واجبها على النساء لوحدهن. وبعض من نساء العشائر والأهوار يقمن بأعمال يأنف منها الرجال، مثل بيع السمك أو اللبن والحليب ومشتقاته، والحصران على ناصية الطرق العامة أو أسواق المدن، ورعي الماشية وعلفها.
اختصتْ نساء بعض العشائر ببيع منتوج معين في أسواق المدينة، مثل آل خويبر والزيرج، في الألبان، والقيمر والجبن والحليب والبيض. ونساء عشائر أخرى لبيع الخضروات بمختلف أنواعها، والتمور والنبق، وحلوى الخريط من الأهوار، والدهن الحر والطيور الموسمية. والمكانس والمهاف وحصران الطابك من سعف النخيل، والأصواف، وأكياس من فضلات الحمير والغنم المعروفة بالحَرز، يحملن بضائعهن الثقيلة على رؤوسهن بحرص مسافات بعيدة، تحت توالي الأحوال والظروف المناخية، وأحياناً كثيرة معهن أطفالهن، وجميع هذه البضائع من جمع وإنتاج أيديهن. ومن النساء من تدخل سوق العمل الشاق مع عمال البناء في البلدات والمدن القريبة، لمساعدة أزواجهن معسري الحال أو إن كنَّ أرامل أو مطلقات لإعالة العائلة. ورغم كل هذا الصبر والجلد من المرأة، فإن الانتقاص من الرجل الجبان أو المتخاذل يكون بوصمه بأنه "امرأة".
 بمقتضى ما عُدتْ المرأة في التقليد العشائري أداة عمل، احتسبتْ أيضاً خامة في التعويضات والزيجات والصفقات التجارية لنفس السبب. توهب المرأة كما يدفع المال لديات القتل أو لجرائم أخرى في ما يُعرف بالفصل العشائري، وتخمين عدد النساء الواجب دفعهن بدل النقدي أو العيني أو كجزء منه، يقرره الفِريضة وهو الحكيم متولي الاحكام العشائرية (السواني.. السنينة)[78]، غير مدونة في الغالب، متواضع عليها من علية العشائر وأقطابها وأفرادها.
في حالة حصول جريمة قتل تفاوض عشيرة القاتل عشيرة القتيل بمضيف الشيخ عادةً، لتلافي الثارات والضغائن ودفع تعويض مبلغ من المال مع (نسوان)، أو امرأة واحدة. في رأيهم يُقصد من زواج المرأة التعويض لذوي القتيل المصاهرة ومد صلة قربى وتذويب الأغلال في الصدور. وإن لم تتوفر فتاة بكر عند أهل وأقارب القاتل تقدم عوضاً عنها مطلقتان أو أرملتان. تدعى هذه المرأة (فصلية)، وسوء معاملتها والانتقاص منها طار صداه في الآفاق، وصار مضرب مثل كما يقال في حالة الدفاع عن الكبرياء "شنو أنا فصلية". يقرر أهلها دفعها دية دون علمها وإرادتها، يقودونها مع المال ويسلمونها لعشيرة القتيل، يعقدها الشيخ مومن القرية إلى من وقع عليه الاختيار من الرجال لتكون زوجة له. وحسب ما روي عن كثيرات منهن، تبدأ معاناتها من ليلة الدخلة، يُدشن الحياة الزوجية بعض العرسان عند دخولهم إلى زوجاتهم الفصليات، بصفعة شديدة بدلاً من القبلة على جبهتها المتعارف عليها كعربون للود. تنهار أمامه وتكظم حزنها ووحشتها، ولا تشكو لأي أحد لأن الفصلية لا يحق لها الشكوى، وتُحرم من زيارة أهلها عشرات السنين أو طيلة حياتها. يتحدث بعض من أبناء الريف عن حصول حب أحياناً بين الزوج وزوجته الفصلية، ويتلطف في التعامل معها عائلياً وغالباً بعد الإنجاب وبالخصوص إن كان المواليد ذكوراً.[79]
لا تهذيب معها بالطلبات، أو التكليف بالعمل والواجبات بل أوامر تتلقاها ليلاً نهاراً من جميع أفراد العائلة نساءً ورجالاً، وحتى من الأطفال. تقوم بكل أعمال المنزل وفي الحقول دون أن يحق لها التظاهر بالكلل، تخدم الجميع مطيعة دون أي تأخير أو اعتراض وإلا سيكون الرد عليها الضرب المبرح والإهانات القاسية. إن كانت عاقراً أو ماتت أثناء الولادة يحق لزوجها المطالبة بأخرى جديدة غيرها. الفصلية تدفع حياتها ثمناً وتعويضاً عن جرم لم تقترفه هي. والأنكى من كل هذا الاعتداء على كرامة المرأة وسلامتها البدنية والنفسية، معادلتها بالحيوانات. كما هو الحال مثلاً مع قاعدة الفصل عند آل البديّان  " .. 750 شامياً، أو 750 روبية، وبقدرها من الدنانير بدل النساء الاثنتين. واذا قتل أحدهم واحداً من الإمارة أو من عشيرة ربيعة أدوا 12 امرأة. ويؤدى عن المرأة 75 نعجة. والخيار في هذا لولي المقتول[80]".
المرأة بضاعة العشيرة، وكل بضاعة تظهر "بادئ ذي بدء، بوصفها شيئاً مزدوج الوجهين: القيمة الاستعمالية، والقيمة التبادلية."[81] القيمة الاستعمالية للبضاعة هي كفاية خصائصها المادية للاستعمال والاستهلاك البشري. والقيمة التبادلية ما تتضمنه البضاعة من نسب يمكن أن يجري وفقها مبادلة قيمتها الاستعمالية مع البضائع الأخرى أو مع المال. كفاية خصائص المرأة البضاعة استعمالها وسيلة عمل، ويمكن استخدام وجهها الثاني للمبادلة، مع المال للديات والتعويضات المختلفة، أو دفعها كتسوية عن العجز في سداد الدين، أو منحها كمجرد هدية.
ويمكن أيضا أن تدخل في طرق أخرى للاستخدامات العشائرية، في الزيجات مثلا، مبادلتها بما يُعرف بزواج الصداق، ومضمون طريقة الزواج هذه: اتفاق رجلين في مبادلة بنتيهما أو اختيهما، كزوجة لكلٍ منهما مع شيء من المال. وسوء هذا الزواج إضافة إلى حرمان الشابة من الاختيار عواقب المعاملة بالمثل. إرجاع الزوجة أو تطليقها إن عادت (زعلانة) أو طلق زوجته الطرف الثاني، هذا وإن كان للزوجين أولاد ويعيشان في حب ووئام، يفرض العرف على الزوج الانفصال والتخلي عن حياتهما الزوجية، لأن الطرف الآخر فعل ذلك. وإن لم يرغب بطلاق زوجته عليه أن يزوج الآخر المُطلق زوجة جديدة من قريباته، وحتى التعنيف والحرمان من المصروف يحصل بالمثل. واحتكار هذه البضاعة ليس على أساس ندرتها، أو من أجل رفع ثمنها، بل إيقافها للاستخدام الشخصي وإبطال رواجها، كما يحصل في اقتصاد السوق. وأحياناً حظر حق الزواج عليها استنكافاً، أو يعتبره البعض أمراً معيباً "شنو واحد يزوِّج أخته" وتسمى المرأة بمثل هذه الحالة "المعضلة". وخصوصاً إذا كانت صاحبة جمال لافت، يأنف ولي أمرها العشائري من تزويجها، أن تذهب ابنته ليستمتع بجمالها رجل آخر كما يعتقد، وعن هذا الأمر قصة روتها لنا زوجة صديقي الكهربائي نعيم التميمي من منطقة سديناوية، عن أبيها: "كان صديق والدي سبعينياً حرّم على ابنته الجميلة الزواج حتى ناهزت الثلاثين عام، وحتى أوصى أبنائه قبل وفاته عدم تزويج أختهم لأي كان.. بعد وفاة والد الفتاة بمدة قصيرة زار أبوها والدي بعالم الطيف قائلاً له أرجوك أريد كأس ماء، إني كل ما أطلب ماء يؤتى لي بكأس دم، ذهب أبي لأخوة الفتاة وحذرهم من عواقب هذا الحلم على أبيهم لأنه منع الفتاة من الزواج، وتقول هي "جان أبوي عاشجها" ، رد أخوتها عليه قائلين" خلي أدور السنة مال أبونا وأخذها"، وفعلاً بعد مضي عام على وفاة أبيها تزوجها الرجل الستيني."
في مسألة النهوة عن بنت العم فيما إذا تقدم شاب خارج حدود العائلة، أجنبي كما يقولون بطلب الزواج منها، يمنح العرف العشائري ابن عمها سواءً أكان متزوجاً أم عازباً صلاحية مطلقة لمنع هذا الزواج بعبارة موجزة للخاطب "أنت مَنهي"، ليبطل الزواج نهائياً. وقد يؤدي كما حصل كثيراً إلى قتلها فيما إذا رفضت الزواج من ابن عمها[82]، أو إلى إبقاء الفتاة عانساً مدى حياتها. وقد تكون نهوة ابن العم مجرد ابتزاز، ويستخدم كذلك هذا الحق سلاحاً بين أولاد الأعمام المتخاصمين ينهون عن بنات عمهم، ولا يتنازلون عن النهوة إلا مقابل مال أو تسوية معينة. ومنهم من تزوج أكثر من واحدة من بنات أعمامه متتاليات باسم حق ابن العم وسطوة نهوته. ولم تصبح الفتاة حرة من هذا القيد، إلا إذا صرح ابن العم علانية بعدم الرغبة من الزواج منها.
كما إن تزويج الفتاة يتم أغلب الأحيان دون اختيارها، وإن وقعت في الحب واختارت فتى من غير العائلة، تواجهها النهوة وإن أصرا على الزواج وهربت مع حبيبها، فمصيرها القتل ذبحا إن عثر أخوتها وأولاد عمها عليها، وقطع كفها وتعليقه على مدخل المضيف، ليشهد الآخرون الدليل على غسل عارهم. وأتفه من هذا وجود مجرد إشاعة تلوث سمعتها يكون سبباً كافياً لقتلها.
وقصة عادل عبد علي يتذكرها والألم يعتصر قلبه، بادلته الحب شابة تعود في أصولها إلى المبعدين من الكويت، خطبها أكثر من مرة من أهلها، وفي كل مرة يرفض أخوتها تزوجها منه، قررت بالنهاية اللجوء إليه وأن يتزوجا خفيةً، لكن أخوتها وأبناء عمومتها مصرون على معاقبتها بالموت، وقد استأذنوا بقتلها من وطبان أخو صدام حسين وقتها كان وزيرا للداخلية وسمح لهم بذلك، ويقول عادل كان الخطأ مني عندما قررنا العودة للناصرية تاركين بغداد التي لجأنا إليها بعد أن رزقنا ببنت، زارني أبوها الرجل المسن وحذرني بأن أولاد عمها قرروا قتلها وقد عثروا على عنوان بيتك، لم يمض سوى يوم واحد وإذا بأولاد عمها يقتحمون المنزل ملثمين ويطلقون الرصاص عليها من بنادق كلاشنكوف ويقتلوها هي ورضيعتها التي كانت بحجرها.
لا تُسأل الفتاة عن رأيها في الغالب في الزواج، عليها أن تكون راضية بما يقرره الرجال في العائلة حتى لو قرروا تزويجها من معاق أو مُسنّ. ولا تملك المرغمة على الزواج من أساليب التحدي سوى الدارمي، قصيدة المرأة الريفية الميلودرامية المؤثرة، تحلق في فضائه لتعبّر عن انفعالاتها ومكنونات نفسها، وترديد الشكوى مع إحداهن: "جابوني بالمكوار لِلْبَرَدَ حِيلَه.. حَبْني وتَرَسْني تْفال من وَرا الشِيلة"، أو تنادي مع يائسة:" ياهي التبدل وياي رَيْلي برَيِلها.. نعيره بالميزان والزايد الها" أو مع ساخرة أخرى على تعاستها مع زوج غير كفؤ "عمت عيني على ابو شعيرة..المامش بالزلم غيره"[83] ممسوخة وبلا ملامح شخصية، ويمكن الاستغناء عن كل ما هو غير ضروري في عالمها، حتى اسمها الإشارة المُعرّفة على فرديتها.
وهناك قصة تؤكد هذا سمعتها من الراحل السيد غضبان السيد علي، وهو من الوجهاء المعروفين في مدينة الناصرية، عن أحد فلاحي الأهوار قدّم طلباً مع زوجته للمحكمة في خمسينيات القرن الماضي لاستحصال هوية أحوال مدنية (جنسية)، سأله القاضي عن اسم زوجته، أجابه القروي "والله ما اعرف اسمها"، استغرب القاضي قائلاً له وكيف تناديها وأنت تعيش معها عمراً قال" اصيح الها ولج".
وكم من الرجال لمّا أجدبتْ معهم الحياة ولم يتمكن من إطعام عائلته أو أن يجد وسيلة ما لفكاك ديونه راح يفاوض دائنيه الشيخ أو السيد أو أحد أصحاب الدكاكين على دفع بنته أو أخته كمقدار تعويضي عن المال الذي بذمته. والوسيلة هذه متداولة كثيراً حتى بات من السهولة على الدائنين طلب فتاة من المدينين بدل المال وكجائزة. "وروى هيجكوك[84] قصة عن تحكم الملاكين في رقاب الفلاحين فقال: ان احد الفلاحين الغارقين بالدين اضطر تحت تهديد الملاك بأخذ فرسه وكوخه وأدواته ان يهب ابنته للملاك، وقد وصف الفلاح لهيجكوك مأساته بمرارة فقال: "الحقيقة ان المبلغ الذي أنا مدين به له (للملاك) يفوق قيمة كل ما املك، فلم أجد مخرجاً من ذلك إلا أن اقول له هاك ابنتي خذها.."[85]، وهل في هذا اختلاف جوهري، رغم مرور آلاف السنين عمّا عُرف في حضارات العراق القديمة "بعبيد الدَّين debtors slaves" وسن قوانين تشرع علاقة الملاكين بالمُستعَبدين على أساس الدَّين، كما احتوت شرائع حمورابي على الكثير من هذه المواد وغيرها من الشرائع غير البابلية. أو اضطرار الناس لبيع أولادهم أثناء الحصار والمجاعات، ونصوص أثرية كُتبت اثناء تعرض (نفر) للحصار والمجاعة، تصور "تصويراً مؤلماً لحالة أب يعرض ابنته على تاجر قائلا" خذ صغيرتي .. وابقها حية، ستكون طفلتك الصغيرة، اعطني 6 شيقل (فضة) لأعطي... وبذلك استطيع ان اتغذى، وفي نص اخر أب يعطي ابنته وبدون مقابل الى التاجر نفسه لإبقائها على قيد الحياة... وبعد هذا الوصف يناشد كاتب النص تاجرنا السابق قائلاً: "خذ... أختي (فلانة) وابقها حية وانها ستكون أَمَتَك، اعطني 6 شيقل لأسد بها ريقي."[86]
أفضى لي ضابط مسؤول في مكافحة الإتجار بالبشر، بأنّ عدداً من الشابات ومنهم صغيرات بالعمر العاملات في مجال الجنس في بيوت الدعارة حسب قوله، نجد إنهن هاربات من زيجات كونهن هدايا أو تعويضاً عن دين.
 ومن الفلاحين من جعلت منهم متربة الفقر أشباحاً بشرية، غضوا الطرف عن بيع أجساد زوجاتهم أو بناتهم من أجل المال، حتى ولو كان مصدره اهراق الشرف والعِرض الذي لا يقبل مجرد خدش بلفظة في العرف العشائري[87].
أتذكر أنا شخصياً عائلة لم يتبق منها سوى أب أرمل وثلاث بنات، أعمار اثنتين منهن بين الثانية عشر والرابعة عشر، والثالثة شابة عشرينية طويلة ونحيفة ومطلقة هامدة المشاعر تدعى وعد، العائلة جاءت في نهاية عقد السبيعينيات من قرية تتوسط طريق سوق الشيوخ، الأب عمل حارساً لمنزل قيد الإنشاء، في منطقة الزاوية في الجهة المقابلة لمستشفى الأمراض الصدرية حالياً، قريبة من منزلنا. وعندما أكتمل بناء المنزل استغنى عنها، ظلت العائلة بسبب فقرها الشديد تسكن نفس الصريفة المقامة من القصب وسعف النخيل، الرجل كان مريضاً مصفر الوجه شبه مقعد  وأنفاسه لاهثة، تعمل الفتاتان الصغيرتان في خدمة المنازل مقابل مئة فلس أو درهم، أما وعد فقد اختارت طريقاً باتجاه واحد، بيع جسدها. لاحظتها في كثير من الأحيان تتزين بمكياج رخيص وتمضي أمام أنظار أبيها العاجز والذي على ما يظهر لم يكن ليفعل شيئاً، لممارسة هذا المهنة المدمرة، فجأة اختفت الفتيات الثلاث، والأب لجأ إلى التسول في شوارع المدينة.
   ومن القصص المستطرفة بهذا الصدد، روى لي أحد أفراد عشيرة شمال الناصرية: وصلت شكاوى متعددة عن مُلاينة بعض بائعات اللبن (الروبة) في المدينة للمتغزلين بهنَّ، لشيخ هذه العشيرة، جمعهن الشيخ في مضيفه ليوبخهن ويحذرهن من عواقب هذه التصرفات. منهنّ من خجلت ومنهنّ من سكتت، ردتْ عليه أجرؤهن أثناء جلسة المحاسبة قائلة له "عمي بلوة شسوي إذا هذا يكلي من اشوفج اتخربط، وهذا يكلي فدوة لطولج ...". ويظهر إنها تبرر استجابتها للمتشببين بطولها.
وهذه الجرأة لدى الكثيرات منهنّ جعلت سكان المدينة يلاحظون على الريفيات بأنهنّ "يفشرن" بلا حياء خلاف نساء المدينة، وتحمل وجهة النظر هذه شيئاً من الصحة، فاستعمال الألفاظ المكشوفة غير المتحفظة أحياناً، يتجاوز المرأة وحدها، منتشر على جميع المستويات في الريف، وأما ما يخص المرأة الريفية، لأنّها امرأة عاملة في المقام الأول، وتُعد هذه الطريقة في الحديث أمراً ثانوياً يسهل التغاضي عنه. وكثيرات منهنَّ أيضا مُنحن هدايا من أجل التقرب زلفى لأصحاب المنزلة العالية، "أجتك بنتي أو أختي خدّامة لتراب رجليك" ينفح أحد الواهبين. أو منح الفتاة هدية لرجلٍ ما أعجاباً بتميزه، أو لقاء خدمة أو مساعدة ما.
فرضت قساوة الشيوخ وحاشيتهم وسراكيلهم على المجتمع العشائري التجرد من الإنسانية ولطف التعامل الاجتماعي والأسري. وعمقت من العرف القبلي الذكوري الأبوي، وجعلت منه لعنة على المرأة والأطفال. الفلاح ورغم إنه محروم من نتاج عمله يتصرف مع نساء وأطفال عائلته كمالك لهم، يرغم الأطفال على العمل بكل قسوة مستعارة من سيده، بقصد التدريب وكسب المهارات الشاقة وعدم الميوعة، يجعل منهم عمال سخرة أشداء ويحرمهم من طفولتهم. وشهادات وقصص تعامل الآباء مع أبنائهم القاسي لا عد لها في هيكل كل عائلة فلاحية في الريف، وبعض الفلاحين من يتوعد أبنه قبل أن يُولد ليليقي عليه جزء من تعاسته وضغوط العمل المفرطة كما يقول العطى الله عن أحد الفلاحين "متى أصير أبو".
روى لي أحد فلاحي عشيرة خزاعة جنوب الناصرية، قصة حصلت في ثمانينيات القرن الماضي، عن أب قاسٍ مع ابنه البكر يوسعه ضرباً بالعصا المتينة، لأبسط تلكؤ أو غياب عن العمل، في حالات اللهو مع أقرانه "اذا راح يلعب وي ربعه"، أو عند الشعور بالملل من العمل، وكان يعاني من قساوة أبيه كثيراً رغم نصائح الأقارب والأصدقاء للأب بحسن التعامل مع ابنه. تأخر مرة في العودة من المدرسة مدة طويلة، وكان الأب بانتظاره حاملاً عصاه، سأله من بعيد "وين جنت"، رد عليه ابنه بصلف ودون احترام: "حمزة والله إذا جستني...يكون اسوي بيك مثل ما تسوي بيّ" ، صُعق الأب من هذه الجسارة المباغتة وانزلقتْ عصاه من كفه وانهار على الأرض فاغراً فمه لا يلوي على شيء، أدرك فوراً إن ابنه يضمر أمراً خطيراً، وكان هذا الأمر الذي أخفاه الأبن عن أبيه: تقديمه إلى سلك الأمن سيء الصيت في الثمانينيات، وقد قُبل أميناً بسيطاً أي شرطي أول في هذا السلك، فجّر ذلك معلناً بوجه أبيه، ومحتمياً عمَّا يجب أن يكون راعياً وحامياً له، ببربرية تفوق قسوة أبيه وحاله انقلب "كالمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّار."
وقصة أخرى لصديق أخي الحاج وهاب: كان هناك فتىً في مقتبل العمر من عشائر البدور يوجهه أبوه برعي أغنام العائلة والاحتطاب في مراتع نائية، يذهب للرعي يومياً بصحبة كلبهم وحمارهم. يدرج في العودة للمنزل، كل يوم ظهراً، مع الأغنام إلا الحمار من طبيعته يسير متمهلاً بعيداً قليلاً عن القطيع الصغير. ومرة اختفى الحمار ولم يعد له أثر، سأله أبوه "أين الحمار؟" أجابه الفتى "ما ادري يمكن ظل بالحماد". غضب عليه أبوه غضباً شديداً وصفعه بقوة عقاباً على غفلته، ومن شدة الصفعة حدث خلل وحرقة في عينه، زعل الفتى على أبيه وقرر على أثر هذا العقاب العاتي، هجر عائلته والهرب إلى الكويت سيراً على قدميه واضعاً كفه ككمادة طيلة الطريق إلى الكويت على عينه لتخفيف الألم. مردداً بأسى" اعوف أبوي الي عنده المطي أعز مني"، وعند وصوله الكويت أخذه معارفه لمراجعة طبيب العيون، بعد الفحص أخبره الطبيب بأن عينه عمياء (طافية). والتهبت بعد ذلك وقلعها أطباء المستشفى. لم يعُد بعدها إلى الناصرية حتى وصول خبر وفاة والده إليه.
وانتقل هذا التعامل مع أولادهم معهم إلى المدينة عندما نزحوا إليها رغم غياب متطلبات العمل الزراعي. ويمكن اعتبار ما حصل في طفولة صديقي قاسم هلال مع والده الراحل، وسطوته الأبوية القاسية على جميع أفراد العائلة، نموذجاً شائعاً للآباء النازحين من الريف الذين عانوا من الجراح والخراب، وحملوا معهم ما ألفوه من غلظة في تعاملهم مع زوجاتهم وأبنائهم، إلى المدينة. من لسانه روى لي متأثراً: "ولدنا نحن الأشقاء ستة ذكور وفتاة  في حي الشعلة، يعمل أبي شرطياً. كان  شديداً مع جميع أفراد العائلة، وكثيراً ما كانت تهرب أمي من المنزل لاجئة إلى أهلها من شدة قبضته، حتى زهقت روحها وتوفيتْ وهي شابة، كنت حين وفاتها في الخامسة من عمري. يوقظني الوالد وأنا في الرابع الابتدائي عند الساعة السادسة صباحاً أيام العطل المدرسية، للعمل على عربة حديدية ثقيلة صنعها هو بنفسه، ليست كعربات البناء الخفيفة نسبياً، أنقل بضائع المتسوقين من دكاكين سوق العصري إلى منازلهم، مقبضها حديدي صقيل، تتجمد كفّاي خصوصاً في الأيام الباردة في عطلة نصف السنة الشتوية. أعمل من أجل أن أوفر المال لشراء ملابس المدرسة ومستلزماتها، أجمع يومياً بين دينار ونصف إلى دينارين، يتملكني باستمرار هوس عد نقودي لأستمتع بنتاج شغلي، وإن زاد منها فكة (خردة) قد تكون مئتين وخمسين فلساً أو أقل، أهرع راكضاً لشراء الحلويات والبسكويت. مرة من المرات شعرتُ بأنني ثري بعدما أدخرتُ ثلاثين ديناراً، قررت عندها أخذ استراحة من العمل وعدت لبيتنا في الثامنة صباحاً وعندما لاحظ أقراني دافعو العربات عودتي قرروا هم كذلك العودة إلى منازلهم. اضطجعتُ استريح في المنزل، وإذا بدخول والدي عليّ مزمجراً وغاضباً "كيف تترك العمل" وأنهال عليّ سوطاً بالعقال، ومن شدة الألم عدتُ راكضاً إلى سوق العصري بعربتي الثقيلة، ورجع أيضاً بعض أصدقائي معي للعمل عندما شاهدوني أهرول عائداً، والأشد من العقال يستعمل معنا خيزرانة يدعوها (بازوكة)، ليعاقبنا على هفواتنا والتحكم في سلوكنا. كان يحضنا على التطوع في الجيش، وأول من تطوع شقيقي الأكبر عباس، في الثمانينيات في الجيش الشعبي. يستلم مرتبه الشهري يقتطع منه جزءاً كبيراً للوالد ويوزع علينا نحن اخوته بعض المال، ونصيبي نصف دينار من راتبه الشهري. أدمنت على تناول سندويج خاص بيّ أعمله من قطعتين من البسكويت وبينهما حلقومة، انفق النصف دينار كله قبل حلول نهاية الشهر واستلام عباس لراتبه. لم يبق عندي من المال ولا والدي يمنحني مصرف (يومية) مطلقاً، أحيا أياماً وأنا في شوق لسندوجيتي، وأحلامي الليلية وأنا مفلس كانت معظمها بتناول حلوى الحلقوم. زاد وضعنا سوءاً بعد أن تزوج الوالد زوجة جديدة، عزلا نفسيهما هو وزوجته عنّا نهائياً داخل المنزل لا مأكل ولا مصرف ولا أفرشة ولا أغطية، واتجهنا جميعنا نحن الأشقاء للعمل لتكفل أمر معيشتنا وشقيقتنا. لعدم وجود وسائد لدينا اضطررنا أنا وشقيقي حسن أن نتوسد أحذيتنا. تطوعت بعد بلوغي السابعة عشر للجيش لأتكفل معيشتي، ووفر لي الجيش سريراً وغطاء ووسادة أتمدد عليه براحتي وثلاث وجبات طعام. وأكثر الجور وقع على شقيقتنا الوحيدة، حرمها من التعليم ومن كل ما يمت بصلة للحياة خارج المنزل، لأنها المرأة الوحيدة في المنزل بعد وفاة أمي وقبل زواجه، وما يحمله من أفكار مانعة لتعلم البنت في المدرسة. طرقتْ الباب علينا لجنة من التربية نهاية السبعينيات، يخبرونه بأن لديك ستة أولاد ذكور وبنت واحدة، ولم نرَ البنت مسجلة في المدرسة، أجابهم أنا ما عندي بنت أساساً، البنت ولدتْ وماتت. وكان هو لما وصله خبر هذه اللجنة، أخفاها في منهول البالوعة ولم تعثر عليها اللجنة رغم تفتيشهم للبيت بشكل دقيق. ومن المحاسن إنها أصرت على التعلم رغم عدم ذهابها للمدرسة تعلمت معنا واتقنت القراءة والكتابة. وهذا كلامي ليس قدحاً بالرجل، هو نفسه نتيجة قساوة أبيه وحتى أمه كانت قاسية عليه، وبيئته، وصار قاسياً هكذا، نتاج القسوة والتعب الذي تعرض إليه في الحياة. وعندما تقدمت به السنون، ووهنت قواه شملناه بعطفنا ورعايتنا، تمتلئ عياناه أحياناً بالدمع ويعتذر "بويه انا ظلمتكم وجوعتكم" واعتذرَ إلى أختي أيضاً وردتْ عليه هي قائلة: "لا بويه بري الذمة ماكو كل اشكال". أنا لا ألومه وأرجو أن تذكر كل ذلك".
بعد تحكم أمراء وشيوخ العشائر وشراكتهم مع الحكومات المحتلة أو الوطنية التابعة بمصير المجتمع العشائري، تكلّف الفلاحون قروناً من الظلم السافر، وجُردوا من كل ما يلزم للحياة الكريمة، يمكن أن يعيشها إنسان عيشة سوية. والمرأة الريفية بالذات حملتْ أعباء هذا المجتمع المتخلف، والمُفرّغ من الرحمة، على رأسها طبقات من الجور والذل، وحتى الأطفال عوملوا كعبيد. وعندما لم يبق في الريف للفلاح شيء يدعو إلى البقاء من أجله أو يدعم وجوده، أصبح وحيداً منعزلاً وبائساً يتسلط عليه "الوُلاةُ الحَاكِمُونَ عَلَى القُرَى"[88]، إلا هجر موطنه والتوجه إلى ديار ريفية أخرى، أملاً بحياة جديدة عسى أن تؤمن له ما يسد الرمق لا غير. أو يقصد أطراف المدن ليعرض ملكيته الوحيدة الباقية لديه (قوة عمله)، للبيع في أسواق العمل المختلفة ووظائفها الممكنة.
وهل هذا العبور سهلٌ عليه أم سيلتهمه ضياع آخر كما ضاع من قبل في موطنه؟ وستظهر عليه علامات بؤس لا تقل جسامة من بؤس الريف، لسبب بسيط لنقص الموارد الطبيعية المحيطة به في الريف وغيابها في المدينة، وهنا تم الانفصال نهائياً عن الطبيعة وعمّا تبقى من المشاعة القروية القديمة، التي تعلّم منها الكفاف والزهد وحكمته الدارجة "الفلوس وسخ دنيا"، أي أدران التملك الخاص، وأعراضه.
ولتوفير موارد المعيشة يحتاج لبدل نقدي أكثر ممّا كان يجب عليه توفيره في الريف، وسيدخل في دوامة جديدة في السعي وراء المال ودوامة الفقر الحضري المفتقدة لأبسط شروط الحياة الأولية مثل السكن والصحة والنظافة، والثقافة بوجه عام، وهذا حمل إضافي لا مفر منه. وسيضاف أيضاً من "شطّار المدن" وبرجوازيتها، مظهر آخر من مظاهر الضياع الموحش، تمييزه على أساس قيمي وحضاري، بل وعنصري ووصمه بالمعيدي الجاهل بلا مؤهلات يَعتمد عليها في حِرف المدينة وأشغالها، مقدمةً لنبذه واستعباده. فالفلاح بعد أن كان مسيطراً على وسيلة إنتاجه-الأرض- تحولت بعد سندات الطابو إلى قوى مسيطرة عليه واستعبدته، وأدت إلى التضحية بكل مؤهلاته واستعداداته العقلية والجسدية، وهزاله يزداد يوماً أثر يوم، مع كل صيغة تتجدد لإحكام القبضة من الملاكين لتملك الأرض. وهذا الاغتراب يصل أحياناً حد تقلص شخصية الإنسان إلى قطعة من ذاته مثل حنش.
 وقصة حنش روتها لي سيدة مُسنّة من عشائر خفاجة، وحكايتها: عائلة من العبيد من أصحاب البشرة السمراء يستعبدهم شيخٌ من شيوخ الشطرة، وكان عملُ أبيهم الوحيد، الذي ورثه أباً عن جد، راعياً لقطيع أبقار الشيخ. بعد وفاة الأب ورثَ عنه هذا الاختصاص ابنُه الصبي الصغير، يسرح بالقطيع يومياً في عزبة الشيخ الواسعة، وفي واحدة من جولات الرعي جلس الصبي مستنداً إلى شجرة قرب النهر، في صباح نيساني عليل النسيم، فترتْ حواس الراعي الصغير وتسلل إليه النعاس ونام وقتاً طويلاً، وسرحت البقرات بعيداً عنه. أيقظه بعد فترة نداء خفي، يحذره وينبهه إلى مسؤوليته، نهض والتفت إلى جميع الجهات فلم يجد لقطيع البقر أي أثر، انتبه وسأل نفسه "أنا منو؟ أنا حنش؟، جا إذا أنا حنش وين الهوايش؟ إذن أنا مو حنش" وعاد إلى النوم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الهجرة إلى مدينة الناصرية
 
"بدأ حميد يفتح حزامه الجلدي العريض بعد أن انتزع منه الخنجر المفضض، ثم ألقاه على سريره المصنوع من جريد النخل، ورفع العقال والشماغ من فوق رأسه ورماهما فوق السرير أيضاً، تنفس بارتياح بعد ذلك وهو يجلس على الأرض فوق سجادة صوفية بهت بريق الوانها من الوسخ والقدم.
ودلفت حسنة وراءه إلى الغرفة وهي تسأله :
- إِتريد فطورك؟
هز رأسه بالإيجاب ثم اتكأ على الحائط، فانهال التراب متساقطاً، ولكن الحصيرة المعلقة على الحائط منعته من التساقط فوق السجادة·
سألها بإجهاد:
- ماذا عندك؟
- بيضة واحدة، وجدتها في القن قبل قليل.
- احتفظي بها للأولاد، هات لي شاياً وخبزاً فقط·
فأوضحت له حسنة قائلة:
- لقد أفطر الأولاد خبزاً وزبداً وخرجوا، عباس وكامل الى المدرسة ونجية الى السوق·
ثم أضافت:
- أنت سهران ومتعب وبحاجة الى ما يقيم أودك
أخذ يمسد بيده على لحيته الكثة وهو يقول :
- حسناً، ولكن بسرعة"
القمر والأسوار
 عبد الرحمن مجيد الربيعي
 
بعد أن أطبقتْ سلاسل العبودية والاستغلال على الفلاحين الفقراء في الريف، وتعسرتْ عليهم موارد المعيشة وسط هذا المجتمع، لم يبق أمامهم سوى الهجرة، أما هجرة مؤقتة للعمل خارج القرية ترتبط بالطلب على سلع أو خدمات موسمية، أو التطوع للجيش أو الشرطة إن قُبل أحدهم في هذه الملاكات وإن كان قادراً على تحمل ظروف الخدمة، أو الانتساب إلى ديرة جديدة توفر لهم فرصة تحفظ لهم ما يمسك قوتهم، أو التوجه إلى أطراف المدينة، وفي أطراف المدينة، سيفقد أيضاً إضافة إلى فقدانه أرضه، هويته كفلاح ويكتسب صفة جديدة، صفة المُشرد: الشقيق التوأم لكادحي المدينة وفقرائها.
والمُشرد الآن، لم يكن من قبل قد راوده شعور بأنّ المنتوج الذي كان يكرس عصارة حياته ويتغاضى في أحيان كثيرة عن المساس بكرامته، ويجمع طاقات عائلته من أجله، يعود عليه بالفائدة. بل يذهب جلّه كما يتسرب الماء من بين الأصابع إلى مراتب العشيرة وملاّكيها. ومن المؤكد سيترك الإجحاف هذا في نفسه حيفاً ممضاً سيحمله معه أينما توجه، وينعكس على مزاجه وسلوكه في حياته العامة بجملة من مشاعر الأسف على نفسه، والجفاء عن محيطة وأحياناً العداء لمجتمعه ومحيطه.
وهي أعراض أزمة شتتت كيانه، وما كانت خصلة من طباعه أصلاً، لأن الإنسان ليس كائناً مجرداً ومنعزلاً عن واقعه، بل كما يؤكد كارل ماركس: "إن الجوهر الانساني، ليس شيئاً مجرداً ملازماً لطبيعة الفرد المشخص. بل هو في واقعه، مجموع العلاقات الاجتماعية"[89]. وعندما يُقدِم إلى حزام البؤس الملتف حول المدينة، سيلاقي خراباً روحياً واقتصادياً آخر، فيضطر قسمٌ منهم إلى الانزواء عن محيطهم الاجتماعي، بغربة أشد بعداً من عزلتهم التي خبروها في القرية، أو منهم من يسلك سلوكاً وقائياً تجاه الآخرين بطرق وأشكال شتى من ردّات الفعل الإرادية وغير الإرادية. خصوصاً بوجه الفكرة الشائعة عند بعض أهل المدينة بأن الريفي مخلوق لئيم ميؤوس منه، والنظرة هذه تحمل بين طياتها تعبيراً عن علو كعب هوية اجتماعية معينة، أكثر مما تظهر حقيقة كونها اعتلالاً اجتماعياً وسلوكاً سلبياً تجاه الآخرين.
المدينة مسرح آخر من مسارح الصراع الطبقي غير الريف، يجمع طبقة من المالكين مقابل طبقة بلا ملكية، يتألف منعموها من رأسماليين وتجار وصنائعيين وموظفي الدولة ومرابين كبار، وطبقة وسطى تتألف من رؤساء عمل وحرفيين وأطباء وصيادلة وموظفين عسكريين ومدنيين واصحاب دكاكين، وطبقة عاملة تعيش حصراً على بيع قوة عملها لمن يشتري فتعيش الحاجة وفقدان الحماية المعيشية والاجتماعية. 
لا سيّما ونحن نتحدث عن مدينة الناصرية وخصوصيتها، المدينة التي شُيدتْ منذ قرار نشأتها عام 1869 م على الطراز الغربي، من جميع جوانبها العمرانية، من تنظيم الشوارع وبناء دوائر الدولة المهمة، ومنازل أعيانها والحدائق العامة، والمرافق التجارية والصناعية والصحية، ولم تكن قد نشأتْ من قرية نمتْ نتيجة لجملة عوامل وتكاملت وأصبحت فيما بعد مدينة. وحزام يلتف حولها من الصرائف، تسكنه قرى ريفية كاملة ببؤسها وانحطاطها، ومنذ ظهور مدينة الناصرية إلى الوجود رافقها هذا التمايز وواصل التناسل بدون انقطاع.
كان أغلب أعيان المدينة وأثريائها لا ينتسب للناصرية إلاّ قلة محدودة منهم كانوا قاطنين فيها. فقد كانت هي بمثابة أرض فرص لتنمية اعمالهم واستثماراتهم. تحميهم ثروتهم، والقيم والمعايير الأرستقراطية التي يحملونها معهم وتمنحهم التعالي على المجتمع، على من يرون إنهم أدنى منهم مستوى في السلّم الاقتصادي والحضاري، وصفة الغطرسة يتميز بها بالذات الأرستقراطيون المنحدرون من غير مدينة الناصرية، يتعالون على المجتمع، وهذا شأن كل طبقة متسيّدة تمارس سيادتها بألوان من التسلط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على الآخرين، فكيف إذا كانت غريبة على مجتمع ناشئ، غالبية سكانه من الفلاحين المسحوقين؟
ومن فوائد الفصل القائم على أساس ثنائية الريف والمدينة، لمصلحة ارستقراطية المدينة، ليس إضعاف العمال ومختلف شرائح الكسبة والتلاعب بهم وحسب، بل الحط من قدر وجهاء وشيوخ العشائر لدواعٍ حضارية وبالتالي استغلالهم، وكانوا عرضة لاستغلال مُرابي المدينة وصنائعييها على نطاق واسع، وأحياناً بلا حياء بواسطة النصب والمداهنة. 
وبما "إن أفكار الطبقة السائدة هي في كل عصر الافكار الرائجة أيضاً، اي أن الطبقة التي تمثل القوة المادية المسيطرة في المجتمع هي أيضاً القوة الفكرية السائدة"[90]، سادت هذه النظرة بين جميع طبقات وأفراد المجتمع المديني بما فيهم عمالها وكسبتها، تُمارس كنمطٍ متعالٍ ضد الريفيين اللاجئين للمدينة على إنهم أدنى مستوى حضاري منهم.
هذا من جهة وسبب آخر مضاف يدعو شغيلة المدينة وأجراؤها التحامل على الريفي، يعود لمنافسته الشديدة لهم على العمل، فهو بحكم حاجته الماسة لتدبر أمور أسرته المعيشية، يكون مرغماً على عرض قوة عمله مقابل أي أجر، وفي أي عملٍ كان. والمنافسة بهذه الطريقة تؤدي إلى تدني أجور العمل، مما تشكّل ارباكاً وتهديداً لمصادر معيشتهم، وهكذا يفتقد الانسجام بين قسم من أقسام المجتمع، الواجب ظهورهم بمظهر طبقة موحدة من أجل تأمين مصالحهم المشتركة.
وحتى شيوخ العشائر ما كانوا بمنجى عن هذه التمثلات المدينية، يتلقونها من جميع سكّان المدينة بتباين طبقاتهم. يحتاط الشيوخ لذلك عند دخولهم للمدينة مع فريق من الحرّاس، وقايةً من الاخطار المحتملة التي تهددهم، واعتماد مختلف الاستراتيجيات المتوازنة للحفاظ على هيبتهم وحياتهم. وفي حادث من حوادث التجاوز على اعتبار شيوخ العشائر التي تقع في المدينة باستمرار، روى لي الكهربائي عبد اللطيف السعدون، عن أحد أجداده من شيوخ السعدون قائلاً:" في كل مرة يدخل فيها جدي لِلْوْلاية، يهرع إليه أحد المتسكعين منادياً .. شيخ أنا أطلبك خمسة دنانير، أتذكرْ؟ والخمسة دنانير تُعد ثروة في الخمسينيات، يمتثل له جدي، نعم أتذكر ويخرج له من جيبه خمسة دنانير ويناولها إياه. استاء أبناء الشيخ ورجاله من هذا الابتزاز السمج، وطلبوا منه إذناً بوضع حد لهذا المتسكع، رد عليهم بحصافة قائلاً ..لا: أتركوه وشأنه إني أشتري هيبتي وكرامتي بخمسة دنانير.. مو أرخص النا من المشاكل أمام الناس!" 
يصوغ سكان المدينة تعريفاً لأنفسهم بأنهم أهل وْلاية، وتعبير أنا ابن وْلاية عند الكثير من الذين ولدوا وترعرعوا في المدينة، لتمييز أنفسهم عن النازحين والمنتقلين للسكن للمدينة، ليس كامتياز حضاري وثقافي وحسب وممكن أيضاً أرادوا من خلال هذا الوصف منح أنفسهم سلطة في ما يمثله المركز من سلطة فوقية باقية من تركات الزمن العثماني عندما قسموا العراق إدارياً إلى ولايات، مثل ولاية بغداد، والبصرة، والموصل، كمراكز سلطة رئيسية.
 عندما يتأخر الريفي في المدينة في العودة إلى أهله إلى ما بعد الظهر، لسبب من الأسباب، فإنّه يواجه أفعالاً شنيعةً من أخلاط من السوقيّين يطاردونه ويرمونه بالحجارة والخضار الفاسدة، أو ينتزعون عنه كوفيته وعقاله، وضاجّين خلفه: "إِلمنْ باقي لهسه معيدي." ولطالما ترادف مع كلمة معيدي عبارة قوّاد ولا زال هذا التركيب مستخدماً (معيدي قوّاد)، أو يتجاوزون على أعراض النساء المرافقات لهم. ظل هذا السلوك نهجاً عند الكثيرين منهم مدة عقود، واختفى هذا النبذ المباشر تدريجياً مع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات.
إنّ عبارة معيدي وصمة، والوصمة هي:" صفة أو خاصيّة تُعبّر عن هوية اجتماعية يُحَطّ من شأنها في سياق اجتماعي معيّن."[91] التعريف واضح بما فيه الكفاية لسلوك معظم سكان المدينة في الانتقاص من الريفيين سواءً أكانوا فلاحين أو شيوخ عشائر، تبعاً لمختلف البواعث وغاياتها، الصادرة من أثرياء المدينة أو من كسبتها.
يناقش الأستاذ شاكر مصطفى سليم بشيء من الاستفاضة التباس وعمومية عبارة معيدي: "وتعبير المعدان كان ولا يزال يستعمل بكثير من الغموض. فسكان المدن في العراق يستعملونه في معانٍ مختلفة، أما للتدليل على سكان الأهوار عامة بلا تمييز أو لوصف الشخص المنعوت بهذا التعبير بالغلظة أو عدم الانتظام سواءً كان المنعوت من سكان المدينة أو الأهوار أو الأرياف."[92] ويرى مصيباً "أن كلمة معدان يجب أن يُقصد بها قسماً واحداً من سكان الأهوار فحسب وهم رعاة الجاموس الرحل الذين يكونون قسماً صغيراً من سكان الأهوار."[93] وليس المقصود من وراء هذه العبارة إهانة لهؤلاء القسم من سكان الأهوار، بل هي تسمية شاعت عنهم منذ عهود سابقة، وضاع أصل اشتقاقها وسبب أطلاقها عليهم بين ثنايا الزمن، إنه نمط معيشي كما هو نمط معيشة رعاة البقر، أو الضأن أو الجِمال.  ولكن العبارة يظهر إنها درجت واتخذت إطاراً ثابتاً ومحدداً عن نمط اجتماعي معين.
ويرى كثيرون سواءً من أبناء المدينة أو من أبناء الريف، إن إطلاق صفة معيدي على كل شخص سيء التدابير أو متخلف حضارياً، هو توصيف بمحله، لأن حياة هؤلاء المعدان ومعيشتهم في أدنى مستوى من التطور الحضاري والقيمي والاجتماعي، إلى حدود لا تصدق. ينقل آل مضيف عن صديقه الحاج دهيّن احداث حصلت في العهد الملكي، في انتقاد الأخير لمجموعة من سكان الأهوار على انتشار عادة قتل الآخرين وتسليب ماشيتهم ببساطة ودون شعور بأي مسؤولية، يردون عليه قائلين "هذا سبيل من سبل معيشتنا"، بل يقول أحد سكّان الأهوار للحاج دهيّن قبل تدخله لإرشادهم وسعيه لتنظيم حياتهم "كنّا لا نعرف الجنابة ولا نعرف الحيض ولا نعرف عقد الزواج"، ودليل برهان على صحة هذا ما شهد عليه الحاج دهيّن عندما اتفق مع رجل دين لعقد قران أحد العرسان في أهوار سوق الشيوخ، هاجمته أم العريس بالمردي وقذفته بأقذع العبارات صارخة بوجهه "خلي يصير عنده طفلين أو ثلاثة حتى تأتي أنت لعقد قرانه".
 ويمضي آل مضيف إلى أبعد من ذلك ويقول "كانت العلاقات الجنسية منتشرة خارج الزواج إلى حد كبير بينهم - معدان الأهوار- يمارسونها بالسر بين خفايا القصب، وإذا ضبطوا يمارسونه يتعرضون للقتل، ويُرجع سبب تخلفهم إلى طبيعة معيشتهم التي تستوجب التنقل الدائم مع جواميسهم داخل الهور، العالم الذي لا يعرفون سواه، وهو الأمر الذي أبعدهم عن كل مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية..”
لا يُنتقص من رعاة الجِمال بمستوى الانتقاص من رعاة الجاموس، فبعض أعمال الإنسان لا تُقيَّم على أساس ما يتبلور فيها من جهد إنساني مشترك في كثير من المجتمعات، فإنها تخضع لمسارات وتمثلات اجتماعية وتاريخية مختلفة. "إن أشكال التعب المتميزة.. لقد تبين أنها فئوية وتخلق أوساطاً. إنها تستجيب لنظم اجتماعية، وتشير إلى أنماط جماعية. إن تعب المحارب مركزي في العصر الوسيط.. داخل حضارة يجسد فيها الجيش القيمة الأولى. إنّه مبجَّل ومضخم، في حين أن تعب الفلاح محتقر"[94].
هناك اعتبارات ونظم اجتماعية في المجتمع العراقي احتقرت عمل وجهد رعاة الجاموس، والفلاحين، وحرفيي المدن أيضاً، في الوقت الذي احترمت وقدَّرت رعاة الجِمال الغزاة وعَدَّتهم قيمةً أولى.
إن نعت "معدان" يُعتبر وصمة وإساءة بالغة إلى درجة "أنّ سكان الأهوار من غير المعدان يرون أن نعتهم بهذا الاسم إهانة." [95] بل "وفي الحالات القصوى، يُعتقد أنَّ الشخص الموصوم يختلف.. إلى الحدّ الذي يكفّ عنده عن أنه بشر بالفعل."[96]* كما في الحادثة التي لا زالت عالقة في ذاكرة الكثير من أبناء المدينة، التي حصلت في نهاية الأربعينيات، والمسؤول عنها سائق يُدعى حاشوش صاحب شاحنة شوفرليت بكابينة خشبية محوّرة محلياً (دك النجف)، مع مجموعة من سكّان الريف، كان يطلبون واسطة نقل تقلهم إلى منطقتهم، اختاروا شاحنته وعددهم كان أكثر مما تتسع لهم مقاعدها الثمانية عشر. أشار عليهم بأن يصعد الباقي منهم على شبكة سقفها، واشترط عليهم ربطهم بالحبال كي لا يسقطوا أثناء اجتياز شوارع المدينة ومرورهم بطرق ريفية غير معبَّدة، قَبلوا على بساطتهم بمقترحه وشدهم بالحبال وانطلقت بهم الشاحنة. وقبل الخروج من المدينة انتبه له شرطي مرور، أوقفه وسأله معترضاً، ما حملك هذا؟، رد عليه حاشوس باقتضاب: غنم! اندهش شرطي المرور وكرر عليه غنم؟، أجاب نعم غنم ولو لم يكن هؤلاء غنماً لما قبلوا ربطهم بالحبال، ويقال ضحك شرطي المرور وسمح له بالمرور.
وهذا الامتهان الغريب للكرامة الإنسانية، بقدر ما يصدر من بلهاء من المدينة، له منشؤه الآخر في الريف، أشد ازدراءً بهؤلاء الفلاحين البسطاء: "كان لآل السعدون وغيرهم من المشايخ الكبار جيوشهم الصغيرة للحفاظ على هيمنتهم ولتحصيل الجزية والإيجار. وغالباً ما تصورهم القصص حول طريقتهم في ممارسة السلطة على أنهم استبداديون بشدة، بل وحتى طغاة على الأقل في نطاق خارج أقاربهم القبليين. كان للشيوخ ذوي النفوذ في عهد السعدون نفس السمعة. على سبيل المثال، كان شيوخ بني أسد يطلقون على رجال قبائلهم لقب "كلاب" ويعاملونهم على إنهم كلاب."[97]
التعامل القاسي والخالي من الإنسانية مصدره نظرة الطبقة المالكة الريفية، للفلاحين على إنهم مجرد آلات تنفذ مهام محددة دون أن يحق لهم الاعتراض أو التردد، أو حتى امتلاك عواطف إنسانية. تستغرب جدة سيد عكاب آل مضيف من بكاء وعويل عائلة فلاحية على فقدانهم لابنتهم متسائلة "الفلاحون هَمْ يبكون على بناتهم؟"
وعواطف هؤلاء المحرومين بسبب تجاربهم التي عاشوها عادةً ما تكون متضامنة وتشيع بينهم الرحمة، والتعاطف والتعلق الرحيم لا يتداولونه بينهم فحسب بل يشمل عالمهم المحيط بهم وحبهم الغامر إلى حد التصوف لأرضهم فهم يمنحونها شقائهم وترقبهم وهي تمنحهم الحياة، وحتى لحيواناتهم التي يربونها للبيع أو للحراسة. مثل قصة الوفاء والشفقة التي رواها لنا الصديق أحمد الزبيدي وهو من العشائر الشاوية، بين أمه وكلبهم: "كنّا أربعة أولاد توفي أبونا ونحن أطفال، كان ذلك في بداية عقد السبعينيات، أخذونا أخوالي عند أرضهم وخصصوا لأمي أرض سكنية، وكان يعيش معنا كلبنا، الذي لا ينام ليلاً إلاّ عند رؤوسنا يحرسنا، أمي تخبز لنا أربعة أقراص خبز والخامس للكلب، وفي فجر يوم من الأيام استيقظنا فزعين على صياح أمي وهرع أخوالي ببنادقهم، متسائلين "هااا حرامي،" أجابت أمي لا الكلب قد مات، انتقدها أخوالي قائلين وهل يستحق الكلب كل هذا التفجع، ردتْ وهي تنتحب أي والله حاسبته مثل واحد من أولادي".
راقبت أثناء وجودي المتكرر في المناطق الريفية بعض المزارعين وهم يسوقون  بقراتهم نحو السوق بقصد بيعها، تعلو وجوههم مسحةٌ من الكآبة، لأنهم يدركون إنّ هذا الكائن الذي عاش بينهم وتواصلوا معه مدة أشهر طويلة وربما سنوات، سيغدو بعد بيعه أشلاء مقددة ومثرومة على صحون المطاعم وموائد البيوت.
أيد تخميني هذا رمضان أبو ماهر وهو سائق شاحنة بيك اب طن واحد يعمل في نقل الحبوب والطحين في منطقة السيف في مركز المدينة، استرجع قصة  قطيع الأغنام الأخير الذي قام بتربيته ورعايته، يقول وهو متأثر ”كنت راعي غنم في أطراف الناصرية الواسعة... جاهدتُ مدة طويلة لتكوين قطيع... أزداد عدد القطيع شيئاً ما، مما لفت أنظار تجار الأغنام الطمعين، أغروني بمبلغ لا بأس به من المال وعليه قررت بيع قطيعي لهم... وعندما أخذوا الأغنام ورحلوا وتأملتهم وهم يسوقون قطيعي أمام أنظاري ويبتعدون حزنت حزناً شديداً وأجهشتُ ببكاءٍ مر، جاء لي عمي يواسيني وقال لي لماذا تبكي يا أبني سيكون لك قطيع جديد بعد قليل من الوقت، ومنذ ذاك اليوم لمستُ إني لا أطيق هذا العمل أربي الغنم وأتعود عليها وتعيش معي ثم أبيعها مفارقاً إياها، وحزمتُ أمري لأترك هذا العمل وأنتقل إلى المدينة لأعيش هناك واخذ سيارة متواضعة وأعمل سائقاً".
وكل شخص تحمل هيئته ملامح ريفية يمكن أن يكون هدفاً للمشاكسين، ينالون منه مهما كانت منزلته، ومهما كان الأذى الذي سيلحق به. يتحدث ناصر - تعود أصوله إلى مدينة العمارة تولد عام 1949-  بشيء من التنفيس عن ذنوبه قائلاً: "كنت في صغري شقياً مؤذياً، لم ينعم الناس بالراحة من أذيتي حتى كبرتُ واقتربتُ من سن الزواج، وكنتُ أتقصد الإساءة للريفيين. بعد زواجي اعتدتُ على أخذ قسط من الراحة من عمل النهار، في الجلوس مساءً عند دكة باب منزلنا مع صينية شاي. يمر بمنطقتنا الحراس الليليون (الجرخجية) مع صفاراتهم أدعوهم لتناول الشاي وأمضي وقتاً معهم ببعض المسامرة، لفت نظري من بينهم أحد الحراس كان يظهر بمظهر (الختيار)، ومرة دعوته إلى تناول الشاي وقررتُ أن أسأله عن سره، بعد حديث قصير معه سألته: لا يبدو عليك أنك فقير أو محتاج للعمل حارس ليلي، قال نعم، رأيك في محله، فأنا كنت ميسور الحال، أملك مركباً نهرياً بمحرك بخاري، أنقل به أكياس الطعام (الحبوب) من المزارعين في الأرياف إلى الأسواق، وبضائع من الأسواق إلى أماكن عديدة في الريف والبلدات. صادف عام من عقد الستينيات زيادة في مياه النهر وعندما تقدمتُ لأرسو عند المرفأ المخصص لرسو المراكب مقابل مركز المدينة، طفا المركب على الحواجز الحديدية المنصوبة كإشارات لمستوى الماء ولم يتحرك. وخلال محاولاتي دفعه إلى النهر وهو محمل بأكياس حبوب كثيرة، وقفتُ دقيقة ألتقط أنفاسي على درجات المرسى وإذا بطفل سيء كان يسبح في النهر سحبني من ثوبي لا أعرف لماذا، فقدتُ توازني وسقطتُ في النهر، استطعتُ بعد جهد أن اتشبث بالمركب المعلق على الحواجز، اختل توازن المركب وانقلب وغطس في النهر مع البضاعة وضاع كل ما أملك، استمر حالي مع البؤس سنوات، مما اضطرني أخيراً إلى التطوع حارساً ليلياً لكي أعيش.
سألتُ الحارس الليلي هذا - يقول ناصر- أتعرف من كان هذا الطفل السيء الذي سحبك من ثوبك إلى النهر؟ قال لا أعرفه، قلت له أنا هذا الطفل السيء، بوغتَ الرجل وأسقط في يده، وظل صافناً محملقاً في وجهي لدقائق، وقال بأسى: شسويلك يعمي ناصر؟"
 ومثلما علمتنا فيزياء نيوتن الطبيعية قانونين يعملان كوحدة ضدين: قانون التجاذب الكتلي، والقوة الطاردة المركزية. فإن هذين القانونين يشملان الفلاح الريفي في تطبيقاتهما كذلك، ليس كمقدار فيزيائي، وإنما ككيان اجتماعي، جذبته أسباب تجاه المدينة، وهناك قوى مركزية كامنة تطرده منها.
مدينة الناصرية بين سكانها ومستوطنيها
أريدَ لمدينة الناصرية أن تكون مركزاً بقدر ما أُريد لها أن تكون مدينة. يُعرّف علي الشرقي الناصرية بأنها: "من أهم مدن الفرات المعروفة اليوم، وهي جالسة على ضفة الفرات اليسرى، وهي من العمارة الجديدة في العراق، لأن موقعها هذا وهو (ذنائب) الفرات الأسفل كان في القديم بطائح، وهي مركز إمارة المنتفق في الأيام الأخيرة، وذلك بعد انتقالها من سوق الشيوخ، كما أن العثمانيين اتخذوها مركزاً لحركاتهم الإدارية يوم تسلموا تلك البلاد من جراء ذلك أصبح أشهر أسمائها: (المركز)."[98]
وهذا الاسم ذاع واستقر كسمة دالة عليها، وحسب ما يذكر الكثير من أبناء مدينة الناصرية، ومنهم السيد عبد الحليم الحصيني صاحب موسوعة "الناصرية تاريخ ورجال" خلال حديث لي معه، بأن سكّان مناطق الأطراف والقرى والقصبات التابعة للناصرية، يتحدثون عند زيارتهم لمركز المدينة قبل عقود بالقول "رايحين للمركز". وهذه التسمية أيضاً منحتْ واحدة من أولى العوائل التي سكنت الناصرية لقب بيت المركزي.
ومن العوائل والبيوتات ذات المكانة الاقتصادية والاجتماعية المرموقة، التي قدِمت للسكن في مركز الناصرية، من مختلف الجهات، من أطراف المدينة، ومن معظم المدن والبلدات العراقية، ومن خارج العراق، تلبيةً لدعوة من ناصر الأشقر شخصياً أو قاصديها رغبةً بالاستثمار، تجاراً وصناعيين وحرفيين وصيارفة ومضاربين، أفراداً وعوائل:
           "عائلة الحاج عبود الجازع، عمل بتجارة الحبوب، وصاحب أرض زراعية، وبساتين معروفة.
-عائلة الحميضي، جاءت من القصيم السعودية.
-عائلة أسطة حبي، هاجرت من بغداد محلة الشيخ، عمل في تصليح المكائن المختلفة، وبعدها في صناعة المشروبات الغازية.
- عائلة السيد علي المغازجي، عمل باستثمار الأملاك التجارية.
- عائلة طوبيا جرجيس بهورا، قادماً من تلكيف، مدينة الموصل، عمل هو وزوجته حبوبة توما بالتجارة وأنشأ أول معمل للثلج في الناصرية، كان المعمل يرسو على دوبة بالمكان المقابل للأورزدي باك سابقاً.
- عائلة آل ملا عمران، قادماً من الحلة، عمل في بداية مجيئه للناصرية، مستشاراً للشيخ فالح باشا السعدون.
- عائلة آل عجام، من الحلة، امتهنوا التجارة ولهم في الناصرية أراضٍ وعقارات كثيرة.
- عائلة ملا خضر سلمان، سكنوا الناصرية منذ تأسيسها عام 1869، وهم من مدينة بغداد باب الشيخ.
- عائلة الحاج اسماعيل ملا حمد، من أصول كردية أمتهن التجارة.
- عائلة الطحان، قدومهم من بغداد محلة الدهانة يعمل أغلب أفراد العائلة في مجالات التجارة المختلفة والحبوب.
- عائلة الحمادي.. سكنوا الناصرية في بدايات القرن الماضي.. من سوق الشيوخ.. عبد الغني حمادي وهو كبير هذه الأسرة في الناصرية ومن وجهائها وتجارها المعروفين وهو صاحب أملاك وعقارات عديدة كان نائباً في مجلس النواب ل10 دورات.. ومن أولاد عبد الغني.. المحامي محمد عبد الغني..
- عائلة الحاج حسين عيسى الغرباوي .. نزحت من بغداد إلى الناصرية في أول عهدها وانصرف أفرادها إلى مزاولة التجارة والأعمال الحرة.. ومن رجالات هذه الأسرة المؤرخ والأديب والتربوي الأستاذ شاكر الغرباوي..
- عائلة الحاج محسن بن الشيخ راضي الدجيلي، من أوائل سكنة الناصرية، أصولهم من مدينة الدجيل، وهاجروا قديماً إلى النجف، ثم الناصرية، وأفراد هذه العائلة كسبوا سمعة طيبة بين الناس، خدموا المدينة منهم المهندس والأديب.
- عائلة الحاج فليح حسن المدو الخزاعي، من سوق الشيوخ، أصحاب أملاك وتجارة. وطيف آخر واسع من عوائل وأسر سكنت الناصرية مارسوا التجارة ومختلف المهن والوظائف....
... ومسيحيون إضافة لعائلة طوبيا، عائلة يوسف وداود أولاد سلمان وبيت يوسف برلزيز قادماً من البصرة وافتتح أول صيدلية في الناصرية عام 1928 وبيت فلاح جورج وعائلة جون ووديع وعبودي أولاد باكوس .. وعائلة جوزيف حنا وعائلة يوسف كركيس وعائلة عكوبي وعائلة جورج حداد... وعوائل أخرى.
وعوائل يهودية.. ومن بين أهم هذه العوائل التي سكنت الناصرية هي عائلة المعلم حنانيه أبو الياهو وهو رئيس الطائفة اليهودية في الناصرية.. وعائلة خضوري هارون يعمل في مجال بيع الأصواف وعائلة ناظم حاييم الصراف.. وعائلة شالوم قندرجي وعائلة موشي سحيمون وعائلة ساسون عكا والد ماير كان أبرز لاعبي كرة القدم في الناصرية.. وعائلة صبيح ابن مير "بائع مشروبات" وقد رفض السفر إلى فلسطين المحتلة وكذلك اخته مادلين رفضت السفر إلى فلسطين وتزوجت في شمال العراق.."[99]،  وعوائل يهودية أخرى عديدة؛ ولا زال هناك شارع من شوارع مركز المدينة الرئيسية تدعوه الناس شارع التوراة، كان تسكنه غالبية يهودية. وكذلك عوائل عديدة من أصول إيرانية، لا زال عدد كبير منهم يسكن المدينة. ونزح كذلك عدد كبير من عوائل الصابئة من العمارة وسوق الشيوخ والجبايش، ومنهم عائلة السبتي، والجيزاني، وآل بو مهنا، يتعاطون العمل في الصياغة والنجارة والحدادة، وأهم الوظائف الحكومية التي يقبلون عليها، التدريس في المدراس الابتدائية والثانوية، واستقروا في مركز المدينة في منطقة تُعرف بحي الصابئة، مواجهة لنهر الفرات. 
صوّر جون لوريمر ( 1870- 1914) في موسوعته (دليل الخليج..) مدينة الناصرية مطلع القرن العشرين، بعد مرور أقل من أربعة عقود على بناء مركزها. والصورة التي رسمها في ذلك الحين، تمنحنا مشاهدة حسنة لواقع مركز المدينة الذي يشغله، أصحاب المال والنفوذ، ومنازلهم الجيدة البناء وأسواقهم ومحال أعمالهم، ومؤسسات الحكومة، والشوارع النظامية، وأطرافها التي يسكنها العمال والفلاحون الهاربون من جور ملاكي الأرض أو ابتعاداً عن الثارات العشائرية، أو المطرودون من الديرة.
يقول: "المدينة غير مسورة وتحتوي على عدد كبير من الأكواخ في الضواحي وحوالي 600 منزل جيد من الطوب الأحمر، وهي مرتبة في شوارع واسعة ونظام جيد، وعدد السكان حوالي 10,000 نسمة معظمهم من الشيعة، ولكنه يوجد أكثر من 1000من أهل السُّنّة وحوالي 300 من الصابئة و 300 من العجم و400 من الأحباش و150 من اليهود و50 من الأتراك و50 من الأكراد و20 من المسيحين الشرقيين ويعمل الصابئة بصناعات الذهب والتجارة وبناء القوارب. وحجم التجارة في الناصرية لا بأس به وتستقبل وارداتها من بغداد والبصرة، والصادرات الرئيسة هي الجلود (مدبوغة وغير مدبوغة) والقمح والشعير والدهن، والواردات الرئيسة هي بضائع منشستر والتوابل والعقاقير ومواد البقالة. ويوجد بها حوالي 350 دكاناً وخمس خانات لمبيت المسافرين." [100]
وأهمية المدينة كمركز تجاري جاذب للتجار من أصحاب رؤوس أموال، ومضاربين، يخبرنا عنها القنصل الروسي في البصرة الكسندر أداموف في أوائل القرن العشرين قائلاً: ".. بلغ عدد القاطنين فيها بعد سنتين من تأسيسها أربعة آلاف نسمة.. يتألفون إضافة إلى العرب والصابئة أو المسيحيين من جالية يهودية كثيرة العدد، الأمر الذي يشير إلى أهمية الناصرية من الناحية التجارية. وتحتل الناصرية مكانة بارزة في التجارة باعتبارها مركزاً لشراء الخامات من جميع أنحاء السنجق وعلى الأخص الحبوب التي تكثر في المنطقة التي يرويها شط الحي." [101]
ملاحظة القنصل الروسي هذه عن اليهود وما يعنيه تواجدهم في المدينة، تحمل دلالة واحدة لا غير. هو صيد الفوائد المالية، من التجارة والشراكة[102] والربا، من شراء وبيع الحبوب وغيرها من المنتوجات الزراعية، وشراكة غير منصفة مع مضطرين إلى المال، ومن القروض التي يمنحونها للتجار، ولشيوخ العشائر المتكيفين مع نظام الاستدانة. والقروض أو رأس المال غير المنتج وجعله يفرّخ مزيداً من المال عن طريق الربا، هو علامة اليهود الفارقة. "لن نبحث عن سر اليهودي في دينه وإنما عن سر الدين في اليهودي الواقعي. ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ الحاجة العملية، والمنفعة الخاصة. ما هي العبادة الدنيوية لليهودي؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيوي ؟ المال."[103] ويجب أن لا نتوهم ونعد اليهود هم وحدهم سلاطين مملكة المال، بل ممكن لكل شخص يتصف بالحنكة، في تدبر طرق النجاح، أو تنمية موارده، أن يكون يهودياً دنيوياً. وهناك تعابير عديدة شائعة بين العراقيين تقرن الداهية صاحب الحسابات المجردة باليهودي. "فاليهودي الذي يعتبر عضواً خاصاً في المجتمع البورجوازي ليس سوى الظاهرة الخاصة ليهودية المجتمع البورجوازي."[104]
إذن انتظم المجتمع منذ بدايته في قلب مدينة الناصرية، الواحة الخضراء لا للتخييم الموسمي، وإنما للإقامة المسترخية لأصحاب رؤوس الأموال. وأموالهم واسطة تجعل من أي بقعة على الأرض موطناً لهم ولقد قيل قبل آلاف السنين ومن هذه البقعة من الأرض "المال مثل الطير لا يعرف موطناً ثابتاً"[105]، ينتقلون معها مثل الرعاة لتسمينها وتكاثرها، وهي -الناصرية- بالنسبة إليهم لا تتعدى كونها مدينة سوق(Market Town)، لتداول ما أنتجه الفلاحون من محاصيل ومنتوجات، وتحويله إلى مال، أو التغلغل إلى الوظائف الحكومية المهمة، للهيمنة على الاستثمارات والاستيلاء على مزيد من الأراضي. مثلما استغل آل حجي طالب وجود ناجي طالب رئيساً للوزراء بين عامي 1966و1967، وجددوا طابوات الأراضي بأسمائهم.
ويؤكد السيد عبد الحليم الحصيني، كباحث معاصر واقع الفجوة الطبقية المتجذرة الذي كانت عليه المدينة منذ نشأتها قائلاً: "كانت بداية البناء في المدينة من القصب والبواري بالنسبة للعوائل الفقيرة أما العوائل المتمكنة مادياً تم بناء دورها من اللبِن والجص والنورة."[106] يستمتع أهل المركز برفاهية الخدمات والأعمال والسكن اللائق. ومن مهمشين من أصحاب القصب والبواري، يرتادون مركز المدينة للعمل، أو قصد مختلف الوسائل والطرق لكسب العيش. وإن سكن عدد منهم داخل المدينة، يكون محله في الخرائب مثلما سكن ما يقارب من الأربعين عائلة نازحة من ريف سوق الشيوخ وكرمة بني سعيد، في ما يُعرف بالخرابة في سوق الندافين البالغ مساحتها 2000 متر مربع، تمتهن نساؤهم بيع الخبز (خبازات) والرجال أصحاب عربات شربت أو باقلاء ومنهم من يعرض عربة فيها مسابح وترب للصلاة، وجميع هذه العوائل أقارب تبعوا بعضهم إلى هذا المكان العائدة ملكيته لعائلة مسيحية يلقبون بالخواجة، كان أب العائلة كاتباً لدى ناصر الأشقر.  
تجمعتْ العوائل الفلاحية الفقيرة في قرى أشبه بأرصفة انتظار العمال أو ما يُعرف بالمسطر. قرى مستحدثة، وقرى قديمة تعرضت إلى خراب مصدر معيشتها الزراعي واستحال فلاحوها عمالاً. مثل قرية كريم آل عاتي، والزهيرية والوهابية، وقرية فرحان المستحدثة وكذلك آل بو جامل أو آل بو نصف المطرودين من أرضهم في الرفاعي وتمتد أكواخهم من منطقة الشرقية حتى شارع عشرين. وحسب ما يذكر الأستاذ ستار ملا خضر سلمان، وهو حفيد الحاج سلمان صديق ناصر الأشقر، تولده في ثلاثينيات القرن الماضي: إن آل بو جامل أجلاهم بالقوة المسلحة زامل المنّاع عندما انتقلت ملكية أراضيهم إليه، ولم يوافقوا على دفع بدل إيجار له عن الأرض مما سبب بغضبه وتكليف الانكليز بقصفهم بالطائرة عام 1932، في موقعة سُميت معركة الرشاش.
يقصد هؤلاء الفلاحون نساءً ورجالاً وأطفالاً مركز المدينة من أجل العمل. وأعمالهم تتوزع بين أعمال مستقرة، وأعمال موسمية أو مياومة. في العمل بمعامل الطابوق الملوثة بالأتربة والدخان السام، أو عمّال بناء لنقل الطابوق وطاسة الطين أو الجص، مقابل أجر يومي مع بنّائين معظمهم جاء من بغداد والفرات الأوسط إضافة إلى بنّائي الناصرية. والعمل في المكابس في موسم التمور، أو العودة المؤقتة للريف للمشاركة في الحصاد في نيسان. وحمالون في سيف الطحين وأسواق الخضار وعند موقف سيارات الحمل، أو خدم في الخانات- الفنادق حالياً- وعمال في مختلف الدكاكين والمقاهي والمطاعم. ومنهم من تطوع في الجيش أو في الشرطة، حارس ليلي أو دورية. أو يبيع النفط بعربات تجرها الحمير، وبيع الملح، وعمال مستخدمون في البلدية وفراشون في دوائر الدولة. هذا وإن لم يجدوا عملاً أو أصابهم عجز امتهنوا التسول.
يعمل أولادهم مع أصحاب الدكاكين والمقاهي والمطاعم والحرفيين بما يُطلق عليه لقب صانع صغيّر، أو يجوبون الشوارع لبيع السجائر علباً أو بالمفرد، أو مع آبائهم في بسطات الشاي على الأرصفة، أو مستقلين، وبيع اللبَن وطين الخاوة، ويطوفون شوارع المدينة في الصيف بالعربات أو حاملين صناديق الأزبري ويغنون "بالعربانة جابوك يا الازبري"، أو مع أمهاتهم في بيع الخضار والباقلاء والحمص المسلوق (الّبلبي) ومختلف بسطات الأشغال والأكلات الشعبية. ولقد خرج من حظيرة هؤلاء الأمهات المنشغلات والمتساهلات في ردع أبنائهن، عدد من الأبناء الضالين، سرحوا بعيداً عن أمهاتهم، واندمجوا داخل أوساط شاذة واقترفوا مختلف الجنوح والانحرافات. 
يروي لي السيد عباس إبراهيم النداف، مشاهداته وذكرياته عن هؤلاء الفلاحين وأسرهم وعلاقة والده مع كثير من شيوخ العشائر قائلاً:" كان الفلاحون يبيتون في الخانات للحاق بالعمل باكراً لتحميل القوارب بالتمور الذاهبة للبصرة لتصديرها. كان ’يودة الغافوري‘ الريفي القادم من قرى الناصرية يعمل مجبّر كسور، يعالج المفاصل وغيرها من مناطق الجسم بالوشم، والكي. اكتسب خبرته من كثرة إصابات العمل في بيئته الزراعية. كان يمدد مرضاه على الرصيف قرب مقهى عبد ضيدان، يأتي بأعواد الخشب من النجارين وأنا أزوده بقطع القماش من محلنا ويجبّر الكسور أو الخلع بمساجها بالزيت وثم يلفها.
أتذكر أحد العمال في سوقنا- سوق الندافين- من عشائر آل إبراهيم تطوع حارساً ليلياً، براتب شهري يتألف من دنانير معدودة، يوفر جزءاً منه مدة طويلة عند والدي، دون علم عائلته، توفي الرجل فجأة وترك أمواله التي جمعها وديعة عندنا. ذهب والدي إلى العزاء لقراءة الفاتحة على روحه وتسليم أهله الأمانة عند قرى آل إبراهيم، وكانت خمسين ديناراً مجموع ما وفره وهي ثروة كبيرة بالنسبة لوضع عائلة فلاحية في الستينيات، سلمها والدي إلى عائلته قائلاً لهم: هذه أمانة أبوكم من مال رواتبه كان يوفرها عندي. امتنوا كثيراً لصنيعه هذا، واستفادت العائلة من المبلغ في ترميم منزلهم وأعانتْ أولادهم في إكمال دراستهم حتى توظفوا.
أتذكر ذلك كما أتذكر الريفيات يعملن فيما يسمى سابقاً بالطين، أي يحملن طاسات الطين خلف البنّائين، وحمّالات (شكابين) أكياس الخضار والأسماك من الزوارق النهرية إلى سوق الخضار، يحملن الأكياس على ظهورهن مربوطة بسيور عريضة إلى هاماتهن. وعاملات في نخل التبوغ في الورش الخاصة بعمل سجائر المزبن.
كان والدي يسلّف شيوخ العشائر المال ممن كان تربطه معهم علاقات شخصية، مع شيء من التوبيخ على الإسراف يتقبله الشيوخ بإذعان. يسلفهم على ما يسمى الأخَضَر، أي عند موسم الحصاد يسلمون والدي محصولاً زراعياً يعادل قيمة القرض. علاقات تجار الناصرية مع شيوخ العشائر كانت عملية من ناحية واجتماعية من ناحية ثانية. مثلاً يأتي الشيوخ بأولادهم الصغار ليعيشوا مع عوائل أصدقائهم في المدينة، من أجل التعليم في المدارس. يبقون سنوات حتى يتجاوزوا صف السادس الابتدائي، وأتذكر أخواتي كيف كنَّ يعتنين بهؤلاء الأطفال حتى العطلة وعودتهم لديارهم. ونحن عندما كنّا صغاراً نذهب مع والدي إلى شيوخ العشائر أصدقائه، أثناء عطل المدرسة لنمرح في الريف ونتعلم ركوب الخيل والسباحة... وكل تاجر حسب اختصاص عمله يطور علاقات عمل معينة مع شيوخ عشائر محددين..."  (انتهى كلام السيد عباس إبراهيم النداف)
في نيسان من كل عام يشهد انطلاق الحصاد لمحاصيل الحبوب، الحنطة والشعير. يستلزم هذا الموسم أيدي عاملة كثيرة لأن الحصاد كان يدوياً قبل دخول الحاصدات الميكانيكية، وكانت الأراضي المزروعة واسعة وتتطلب جهداً كبيراً. يذهب معظم الفلاحين المقيمين في المدينة، إلى الريف للمشاركة في هذا الاحتفال الكبير فيما يعبرون عنه (اتنيسن). سببت النيسانية مأساة لأسرة من أصول فلاحية فقيرة، أب الأسرة كان صاحب عربة دفع، يعمل في شارع الجمهورية ويقيم دائماً في خان مهجور بين محلنا ومحل "أبو موسى" بائع الحلويات.
في أحد هذه المواسم ذهب مع زوجته المرضع  للمشاركة كعائلة في عقد حصاد مع باقي الفلاحين، مع أحد شيوخ عشائر آل بو صالح. أجهد الحصاد المُرهق زوجته وهي لما تزل نفساء، وسبب لها نزفاً حاداً أدى إلى وفاتها. دُفنت في مكان العمل وأقاموا عليها صلاة الميت هناك، تلقفت عوائل الفلاحين الفقراء الرضيع وأسمه علي، ترضعه الفلاحات ويعتنين به حتى تمكن من الأكل بعد عدة أشهر وعاد به أبوه إلى المدينة يتيماً وحيداً. قهر الفقرُ الأبَ أو تجرد من الأبوة، وفكّر في بيع أبنه وعرضه للبيع في سوق صفاة الدجاج، تنبه إليه شرطي أمن بملابس مدنية اعتقله وسلمه إلى مركز مديرية الأمن الواقعة قرب المحكمة آنذاك، تعرض إلى توبيخ شديد، وألزمته مديرية الأمن بالمثول مع الطفل والبصم مرتين يوميا، صباحاً ومساءاً للتأكد من وجوده معه. استمر هذا الالتزام سنوات حتى ناهز علي  سن المراهقة، وأدرك حقيقة ذهاب أبيه يوميا لدائرة الأمن والبصم هناك، نفر من أبيه الذي أراد بيعه، وولى هارباً إلى بغداد ولم يعد إلى الناصرية مطلقاً.
بطبيعة الحال لم تكن هذه الظاهرة، بيع الأولاد شاملة، ولكنها موجودة عند بعض الأسر المعدمة التي اضطرها الفقر المزمن إلى بيع أولادهم، أو إن كان الطفل نتيجة زواج غير قانوني، وخصوصاً المواليد الإناث يفضل شرائهن الغجر في الغالب. ومن أشهر صفقات بيع الأولاد في المدينة كان لسيدة محرومة من الإنجاب تُدعى صبرية القصاب، أشترت طفلاً رضيعاً وهو بلفافة قماطه من أمه بسبعين ديناراً، سمته سْمَير، تربى تربية دلال وتمرد وعندما بلغ مبلغ الفتيان ساء تعامله مع الآخرين، ومروق تصرفاته أدت به إلى كثير من الخصومات والعداوات حتى وجد في أحد الأيام مقتولاً طعناً قرب مدرسة العدنانية الابتدائية.
ظل النقص في مستوى معيشة الفلاح النازح ملازماً له، حتى في المدينة، لكن الفرق بين الجوع في الريف عنه في المدينة أنّه: "لم يكن جوعاً قاتلاً."[107]، لم تكن المدينة رحيمة معه، لكنها على شيء من الاطمئنان لما تضمه من مهن وصناعات كثيرة مقارنة بمحدودية العمل في الريف. ورغم ذلك يظل غريباً ملفوظاً من مجتمع المدينة كما لفظته قريته وغرّبته، وهو من جهته يَجد ويواصل المكافحة حتى يعثر على عمل أو وظيفة، تسد على الأقل جزءاً من ضروريات حياته، ويكتسب العضوية بعدها في مجتمع المهمشين. والمدينة مهما احتوت على فرص عمل كثيرة، تعجز عن تلبية حاجة الأعداد الكبيرة من النازحين من الريف.
وأي عمل يضطره وضعه إلى اللجوء إليه، وإن كانت هذه الأشغال أو الوظائف، وضيعة في نظر الآخرين أو تعود عليه بالسوء، مثل عمل نزّاح البالوعات "كراف طهاير"، وقت كان لا وجود لشبكة المجاري في المدينة. أذكر منهم الملقب (قبطان)، والآخر عبود عيطي أبو طالب، يسكن مع عائلته في حطام منزل في الشارع المقابل لمديرية التربية الحالية، يخرج للعمل صباحاً مع عربة دفع بثلاث إطارات مع برميلين وصفيحة (تنكة)، يطوف المدينة باحثاً عن عمل، ويعود للبيت مساءً ملوثاً بالقاذورات، وعندما تراه زوجته (سويرة) مقبلاً إلى المنزل، تصيح به "للشط للشط"، يستدير ويعود أدراجه متوجهاً للنهر يغسل العربة وأدوات العمل، وينظف نفسه وملابسه، ليُسمح له بدخول المنزل.
وإن كان منقطعاً عن محيطه وعن أهله، ويتقدم به العمر ويعجز عن العمل لأن الكثير منهم يأتي مع التراخوما التي سببت لبعضٍ منهم العمى أو الضعف الحاد في النظر، يحيل نفسه للتقاعد متسولاً طالباً معونة الناس، مثل (حريز) أمضى حياته مقيماً في خرائب شارع الجمهورية وحيداً منقطعاً بلا عائلة ولا أقارب، يعيش على ما تعود عليه عربته من دخل زهيد، وعندما تقدم به العمر ووهنت قواه عن العمل، سأل المارة الإعانة حتى داهمه الموت عجوزاً متهدماً. و"محاسن" القادم من هور العمارة عاش أيضاً وحيداً منقطعاً إلاّ من أقارب بعيدين في أطراف المدينة، لا مكان معيناً لإقامته، يصطاد السمك من النهر ويعرضه على الرصيف في شارع الجمهورية، منادياً بجملته الشهيرة "بُنّي الهو.. بُنّي الهور"، كنتُ شاهداً كيف ذوى عوده وذبلت قواه وغدا هيكلاً عظمياً أسود، حتى اختفى وغادر الحياة دون أن يعلم به أحد.
ألّفَ هؤلاء النازحون من القرى قاع المجتمع في المدينة، يمسكون أي فرصة أو ينفذون من أي منفذ ممكن أن يثمر عنه بعض الكسب، عملوا بمختلف الأعمال البسيطة والمعقدة، والمجهدة، التي سببت لكثيرين منهم أمراضاً مميتة وإعاقات وعجزاً، وهم على استعداد للإصابات لسوء تغذيتهم وبيئتهم غير الصحية بالمرة. من سكنهم المتراكم في أكواخ من الطين والصرائف، فوق مستنقع من مجاري وتجمع فضلاتهم ونفاياتهم المشبعة المكروبات والأوبئة، المسببة لهم بالأمراض الملازمة لمثل هذه الأحياء البائسة، التراخوما والبلهارسيا، والملاريا وغيرها، ووجود الحيوانات الداجنة أو السائبة التي تنتشر وسط هذه الأحياء، ناقلة رئيسية للأمراض كذلك. "المياه النقية في تلك الاحياء قليلة، وان وجدت فلا تكفي للشرب فكيف يستطيع هؤلاء العناية بأجسامهم؟ فلا عجب إذا ما رأينا القذارة في معظم تلك الأحياء، مظهراً عاماً شاملاً، ولا غرابة كذلك أن نجد أرجلَ هؤلاء وهم (حفاة) طبعاً قد كسيت بطبقة كثيفة من الأوساخ ضيعت شكلها ولونها الطبيعي!![108] وليس للحمامات والمغاسل - بعد ندرة الماء- ذكر في أوساطهم أما النور الكهربائي فليس له سبيل إليهم اللهم إلاّ في شوارع بعض المناطق ولذلك ليس غريباً أن وجدناهم يعيشون في ظلام دامس، يتلمسون النور من (الفوانيس) و(النفطيات) أو يستعينون بالنور المنبعث من أحياء المدينة الساطع من خلف السدة فيضيء لهم حلكة الظلام في ذلك الليل البهيم" [109]. قلة منهم حفر مرافق صحية داخل كوخه، والغالبية يقضون حاجتهم بالفلوات، والتعبير المنتشر بين الريفيين "رايح للجول" يدل على ذلك.
وسط هذا الافتقار الحاد إلى مقومات الحياة والذي يخلف بطبيعة الحال أثراً نفسياً بالغاً ينعكس أثره على نظرتهم لأنفسهم كونهم صنفاً من البشر غير مرغوب فيهم، وعاجزين عن تحقيق مستوى ولو أولي من شروط الحياة العادية:
"فهؤلاء الناس المنتزعين بغته من شروط حياتهم المعتادة لم يكن في استطاعتهم أن يتكيفوا، على النحو المباغت نفسه، مع قانون النظام الجديد." وقد عاملهم قانون المدينة دون أن يتقبلهم "بوصفهم متشردين عن سابق تصوّر وتصميم وافترض بأن بوسعهم الخيار والاستمرار في العمل شأنهم في الماضي، وكأن لم يطرأ أي تغير في وضعيتهم."[110]
ولقلة حيلتهم يكونون عرضة للاستغلال من الطبقة المهيمنة في المجتمع المديني، ومن السلطات الحكومية التي جعلت منهم كما أنشد الشاعر محمد صالح بحر العلوم في قصيدته الشهيرة أين حقي في نهاية الاربعينيات "من حفاة الشعب والعارين تأليف الجنود .. ليكونوا في اندلاع الحرب أخشاب وقود"، هذا نوع من الوقود لا يترك كما يُقال لا ناراً ولا رماداً.
ويحكي سيد عكاب آل مضيف وهو الشاهد على الضغوط الهائلة التي تعرض لها الفلاحون ورفيقاً بهم، سواءً في الريف أو عندما ارتحلوا إلى المدينة صفحات من هذا السجل ”.. الفلاح ينتظر النوبة وقت حصته من السقي بالشتاء مثلاً، وعادةً ما تكون ليلاً، يأخذ مطّال وبعض الخشب ويخفي نفسه في حفرة  وقايةً من البرد، وغذاء ناقص وبلا قيمة غذائية تذكر.. والنتيجة يأتي وقت الحصاد يخرج دون شيء يذكر جزاء جهده وصبره الطويل، والفلاح لا يتعرض لصعوبات الحياة وسوء التعامل وحده فقط، بل يشمل كل أفراد عائلته، مثلاً عندما يصاب أحد أفراد عائلته بالمصران الأعور يموت قبل إيصاله للمستشفى لأنهم لا يملكون وسائط نقل تضمن سرعة وصولهم للمستشفيات، أو عند حالات الولادة لزوجاتهم خصوصاً إذا كنت معسرة تموت وهي بالطريق وحصل ذلك كثيراً. وعندما يتعب من وضعه ومن اللاجدوى من الأرض التي لا تعود عليه بشيء له أو لأفراد عائلته، يأخذ مسحاته وأولاده ويهاجر إلى المدينة وعندما يبدأ بحفر أساساً لبناء صريفته، قلما يوجد من الناس من يشعر به هناك ويأتي إليه بفطور أو شيئاً ما، والبعض من أهل المدينة يتلقاه بجفاء ولا يقول له صبحك الله بالخير، يذهب إلى المدينة بدون خبرات وبدون مؤهلات فنية، الأمر الذي يدعو أهل المقاهي والحرف والدكاكين أن يبتعدوا عنه ولا يدعونه للعمل معهم، يعمل أغلبهم بأعمال بسيطة، عمّالة بالطين، مما يضطر معظم الفلاحين إلى العمل في معامل الطابوق ودخانها وحرارتها العالية التي لا تطاق، يبرد العامل نفسه هناك أما بالماء البارد أو رگية باردة، هذا النوع من العمل أي للعامل الذي يقطع الطين ويجعل منه طابوقاً قبل الفجر يأخذ أجراً أما سبع دراهم أو ربع دينار، والعامل الذي يشد على ظهره خشبة تدعى حميرة- نسبة إلى الحمار- تسع مئة طابوقة أو مئة وخمسون ويحملها على ظهره وإجرته تكون نصف دينار، وهؤلاء العمال انتهوا عن بكرة أبيهم وهم بعمر الشباب بسبب التلوث وقساوة العمل في معامل الطابوق وحرارتها العالية.
تجّار المدينة لم يقدموا أي منفعة للناس، لا يفكرون إلاّ بأنفسهم ومصالحهم الطبقية..اضطهدوا الناس وتملكوا الأرض دون وجه حق، لأنهم يملكون المال، يدفع أحدهم رسم الأرض ابتداءً من دينارين أو ثلاثة وحتى مئة أو خمس مئة دينار، حسب علاقاتهم مع موظفي الدولة، ويملكون الأرض ويتحكمون بالفلاح وحتى القضاء يقف إلى جانبهم لأنهم مقتدرون مالياً، ويلقون بالفلاحين المعترضين وأصحاب الجهد ورعاية الأرض في السجون، أو كما حصل مع المزارع الحاج محمد آل وداعة الذي يملك الأرض أباً عن جد، اشتكى عليه بيت حجي طالب وشيلوهم من أرضهم. يدفعون المال لموظفي الدولة مقابل اعترافهم بزراعة الأرض وتسجيلها بالعقاري، نهبوا أراضي العالم ويبيعوها فيما بعد بأثمان عالية ويرحّلوا الفلاحين عنها، رغم إنهم استوفوا ثمن رسمها منذ زمن بعيد وبمقدارين مضاعفة.
كل الذي يفعله التجار -والكلام لا زال لسيد عكاب- أن يبنوا جامعاً يحمل اسمهم، وما فائدة الجامع وهو مجرد مكان يُرفع فيها الأذان والله أكبر ويصلي فيه المصلون، لا يوجد فيه طعام للجائعين أو كم بدلة لمن ملابسهم ممزقة. والجميع أغنياء أم فقراء سوف يدفنون تحت التراب بدون تفاوت، وجميعنا نتذكر يوم وفاة الحاج كاظم طالب آل محمد علي، وهو من أبرز تجار الحبوب بالمدينة، تجمع جمهور كبير من المدينة إضافة إلى أهله ومعارفه ثم ذكروا بأن الحمّال الذي يعمل معه قد توفى بنفس اليوم، حملوه معه بنفس السيارة التي أخذت الحاج كاظم للنجف ودُفن بأرض على مقربه منه، علّق أحد أولاد الحاج كاظم قائلاً "هذه المالية والفلوس التي يملكها أبي تاليها وهذا الحمّال بنفس التراب؟".. ويعلق آل مضيف: هذا العمر الذي أمضاه بخدمتكم لم تسعدوه بشراء ملابس له أو لأطفاله إلاّ بالدفن.”
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
لا حل مع وجود المستغلين
 
تعاقب شقاء هذه الكائنات البشرية واغترابها، سواء على أرضهم التي كانوا يزرعونها فتطعمهم وتكسيهم، وهي موضوعهم وواقعهم، بعد إن انتقلت ملكيتها ذات الطابع التشاركي إلى أيدي شيوخهم بناءً على قرار خارج إرادتهم، من سلطة الاحتلال العثماني الذي أوكل للمشايخ ورؤساء العشائر مصير الأرض وجعل منها قيمة تجارية بإيجار دوري تتضاعف قيمته مع كل دورة مزايدة، ومع هذا التضاعف، يضاعف الشيوخ أجر الأرض على الفلاحين، مما يؤدي إلى الزيادة في وتيرة عملهم المرهق، لجمع تكاليف الإيجار وسداد الديون، واضطرارهم إلى التخلي عن الكثير من وسائل العيش والراحة، أو عندما التجأوا هرباً من ظلم شيوخهم الذين استعبدوهم إلى قرى أخرى أو إلى أطراف المدن بحثاً عن حياة جديدة، واجهوا واقعاً آخر لا يقل عسراً من الأول. فالشقاء ينتقل معهم من ديرة إلى ديرة أخرى، وفي أطراف المدن عاشوا عيشة المنبوذين في أحياء بائسة لا يمكن تصورها، وتعرضوا لألوان من الاستغلال والاستصغار، ولا حيلة لهم إلاّ الصبر والمكابدة تحت رحمة نظام وقواعد المدينة غير المألوفة لهم، وقوانين طبقتها المتنفذة.
والقانون بصفة عامة في مجتمع قائم على الاستغلال الطبقي ما هو إلاّ ترسيخ العلاقة بوسائل الإنتاج وهي الأرض قبل كل شيء فيما يخص العراق آنذاك، التي يمكن بواسطتها لجزء من المجتمع أن يستولوا لأنفسهم على فائض الإنتاج الاجتماعي. والقانون سلاح تعده الطبقة المهيمنة لفرض مصالحها الخاصة الواجب تلبيتها على حساب المصلحة العامة، بواسطة الدولة وأجهزتها التشريعية والتنفيذية. وإذا كان رجال الدولة منحدرين من سلالة ملّاكي الأراضي، أو هم ملاكون مباشرون، أو موالون لدول الاحتلال التي تشرع القوانين، تصبح الدولة رغم محاولات الظهور بالمظهر المحايد أو الاستقلال عن المصالح الطبقية، ممثلة لمصالح الطبقة الأرستقراطية بمجملها.
كانت مشاكل حيازة الأرض من أكثر المسائل جدلاً سياسياً، لما تتضمنه من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسة، ابتداءً من العهد العثماني وبعده عهد الاحتلال البريطاني، ومن ثم النظام الملكي وبعده النظام الجمهوري.
منذ إصدار قانون الأرض العثماني عام 1858، وإقرار مدحت باشا بعد ذلك لسندات تمليك الأرض بالطابو للأمراء والشيوخ، وما نتج على أثره من خلافات وصعوبات حول تمليك الأراضي ودفع الضرائب، واضطرار الدولة العثمانية إلى إصدار مرسومين الأول عام 1880، والآخر عام 1892، يُمنع بموجبهما تسجيل وتفويض الأراضي الأميرية، على اعتبار إن ملكيتها تعود للدولة حصرا، وهي صاحبة الحق بالتصرف بها كما تشاء، لوضع حدٍ للمشاكل المتفاقمة التي تحصل بين الشيوخ وعشائرهم حول ملكية الأرض.
كل ذلك لم يعد بأي نفع على الفلاحين، وما كانوا في حسابات أي من الطرفين لا من الدولة العثمانية المحتلة ولا من الاقطاعيين الشيوخ.
بعد دخول البريطانيين للعراق، أواخر عام 1914، بدافع الذريعة التي تمسكت بها بريطانيا عند تحالف الدولة العثمانية مع المانيا في الحرب العالمية الأولى، وهي الفرصة التي كانت تنتظرها وتخطط لها منذ قرون، لتهاجم الدولة العثمانية وتطردها من العراق بالقوة. واجهت القوات البريطانية الغازية مقاومة عنيفة من قوات مشتركة تركية وعدد من العشائر تحت قيادة رجال دين، امتثالاً لفتوى الجهاد، الصادرة من مراجع النجف. وعدد آخر من شيوخ عشائر تحالف مع القوات البريطانية مباشرةً، ومنهم من التزم الحياد منتظراً إلى ما سيؤول إليه مجرى الاحداث.
"لم يدرك العثمانيون حتى وقت متأخر أنهم أساؤوا التقدير بشأن العشائر ولم تسنح لهم الفرصة دون دفع ثمن باهض فبعد سنين من التخريب المتعمد للمؤسسات العشائرية اتجهت الحكومة العثمانية إلى العشائر طلباً للمساعدة ضد الجيوش البريطانية الغازية،"[111] الأمر الذي استغلته بريطانيا بدهاء، وتعاملت مع شيوخ العشائر بسياسة ذات حدين، فهي مرنة مع من ناصرها أو وقف على الحياد، يمنحونهم الهدايا والعطايا وإعفاءات ضريبية ضخمة، والإجراء الآخر، تجريد الذين ساهموا في مجابهة قواتها، من اراضيهم ومنحها لشيوخ موالين، بعد ملاحقتهم، وابعادهم، أو استبدالهم بشيوخ آخرين. والشيوخ على ما ظهروا عليه من ولاء ومحاباة، ومن موقف متذبذب، أو رغبات مستترة تجاه البريطانيين إلا إنهم في الحقيقة بمجموع مواقفهم وحتى المعادية، كان منطلقهم ضمانة مصالحهم الطبقية.
ظهر ذلك جلياً خلال سير المعارك بين البريطانيين والعثمانيين، في تقلب موقف الشيوخ حسب محطات الصراع بين الجيشين، من تراجع وتقدم، "كان موقف خيون  العبيد[112] الودي تجاه البريطانيين على أثر إبلاغه أنباء التقدم البريطاني نحو بغداد ودخوله في مفاوضات مع موظفين بريطانيين في الناصرية ظاهرياً، فقد تغير هذا الموقف إلى معادٍ حين بدأ البريطانيون تراجعهم من سلمان باك فاستطاع بمساعدة عشائر أخرى أن يطرد البريطانيين من الغراف. وبعد احتلالهم لبغداد اعتبره البريطانيون مع آخرين من شيوخ المنتفك من الخارجين عن القانون."[113]
وحتى قبل أن تستتب الأمور لصالح بريطانيا وتبسط سيطرتها على العراق بالكامل، اتجهت لرسم خطط لضمان بقائها واستقرارها على المدى البعيد، وبدأت قبل كل شيء في كسب ولاء شيوخ العشائر إلى جانبها، وهم كانوا جاهزين لذلك، عملاً بمبدأ اعتمده البريطانيون: عندما تكسب شيوخ العشائر، تسيطر على العشائر، ومن يسيطر على العشائر يمكن أن يحكم العراق بكل سهولة.
وكان رأي القادة البريطانيين في العراق اشراك الشيوخ بالسلطة ليكونوا دعامة  لحكمهم وذلك بإقرارهم لقانون دعاوى العشائر "الذي وضعه هنري دوبس في 1 شباط عام 1916، على غرار نظام الجرائم الحدود الهندي indian frontier regultio الذي وضعه وطبقه روبرت ساندمان R.sandeman في بلوجستان عام 1875م وقد صادق عليه الفريق بيرس لك Lake القائد العام لقوات الاحتلال آنذاك في 12 شباط 1916 ونشره العقيد نوكس في 21 شباط 1916."[114]
وبموجب محتوى هذا القانون، يكون التعامل مع المشاكل والقضايا التي تقع في المناطق الخاضعة للنفوذ العشائري، وفق الأعراف والسنن العشائرية، بإحالتها إلى مجلس مؤلف من محكّمين وشيوخ العشائر من الطرفين المتنازعين، للنظر واصدار حكم ابتدائي فيها، وتكتسب الصيغة القطعية بمصادقة الحاكم العسكري البريطاني في المنطقة.
وتُعد هذه الخطة بمثابة توكيل رسمي من السلطات البريطانية، للشيوخ بإشراكهم  بإدارة السلطة السياسية، ومنحهم مكانة اجتماعية مميزة واجبة الطاعة من جميع أفراد عشائرهم، ومن خلال هذه الطاعة استطاع البريطانيون بالفعل من السيطرة على العشائر، واخضاعهم بواسطة أعرافهم العشائرية، التي تخدم الشيوخ، وهؤلاء بدورهم يخدمون سلطة الاحتلال ومشاريعها.
يقول برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق عن شيوخ كربلاء والنجف " إذ كنتُ قد اتفقتُ مع شيوخ هاتين البلدتين عندما وفدوا إليّ في بغداد كما سبق لي من اتفاق مع شيوخ الفرات الأسفل، وبعدما أعطيتهم التعليمات اللازمة بأن يتولوا إدارة المدينتين هم بأنفسهم وكنت أرسل لهم بعض المنح المالية الشهرية وذلك لكي أساعد في تقوية مركزهم واعطائه شيئاً من الصبغة الحكومية الرسمية." [115]
ورغم "الصبغة الرسمية" الممنوحة لهم، إلا إن سلطتهم لا تتجاوز حدودهم مناطقهم، والمرسومة وبما يتفق مع مصلحة بريطانيا وتوجيهات ضباطها، وهم سعداء بما كسبوا من بريطانيا كما يصفهم الحاكم المدني أرنولد ويسلون" .. غدوا على استعداد لإطاعة أي امر يصدر اليهم لئلا يتعرضوا لخطر فقدان زهوهم الذاتي وشرفهم العائلي وهو اعز شيء لديهم بل اكثر من الحياة نفسها." [116] لذا نراهم على استعداد تام لتلبية المطالب والأوامر البريطانية، ولو أدى ذلك إلى التضحية بأفراد عشائرهم، يجمعون المئات والآلاف منهم للعمل سخرةً في المشاريع البريطانية.
وعن هذا الأسلوب في الطلب من الشيوخ والسراكيل حشد الفلاحين وتسخيرهم في العمل المجاني، استعارةً من الطريقة العثمانية إلى الانكليز ننقل بشيء من التفصيل من عماد الجواهري ما ذكره:
"أفادت السلطات البريطانية من سابقة كانت السلطات التركية تتبعها عند حاجتها لقوى العمل وتتخلص بالطلب إلى الشيوخ بتجهيز العمال اللازمين عند الحاجة. ومنذ احتلال البصرة كانت الحاجة شديدة للعمال من أجل شق الطرق وتعبيدها وبناء الجسور وانشاء المعسكرات فسخر الألوف من الفلاحين لهذا الغرض.. وعلى الرغم من معرفة السلطات البريطانية بكره العربي للعمل بهذه الصورة فإنها حثت الشيوخ بشتى الوسائل لإرسال الرجال للعمل. فقد اتخذت الترتيبات مع الشيخ عبد الله محمد الياسين والشيخ محمد القصاب لتجهيز الفلاحين لأغراض الري وبالفعل تم إرسال (100) رجلاً من قبيلة السراج و(120) رجلاً من قبيلة المياح. كما كان عدد كبير من أفراد عشائر ربيعة والمكاصيص يجهزون العمال لحماية سدود النهر وصيانتها بأمرة الضابط المسؤول عن قسم الري في المنطقة.. وفي سكة حديد الصياح كان يعمل (1050) رجلاً من الغزي والأزيرج والحسينات وآل ابراهيم.."[117]
وعن شدة هذه الأعمال وفتكها بالفلاحين، ووقوعهم فريسة بين مطرقة الانكليز وسندان الشيوخ يقول الجواهري: "لقد كانت طبيعة الأعمال قاسية، فكثيراً ما عجز الفلاحون عن العمل بسبب عدم وجود الطعام. وكان على الفلاحين أن يعملوا بعيداً عن ديار عشائرهم، بأجور زهيدة استلمها الشيوخ نيابةً عنهم واستفادوا منها للإثراء على حساب الفلاحين من أفراد عشائرهم. ولم تتورع السلطات البريطانية أيضاً من استخدام الأولاد والمسنين عند عدم توفر الرجال أو في حالة الماسة للعمل الزراعي، وأقسى من ذلك إن بعض الشيوخ والرؤساء سخروا الفلاحين للقيام بأعمال الحفر وبناء سدود الفيضانات مجاناً ولقاء حصول الشيوخ على تخفيض في حصة الحكومة على الحاصلات.. كما لجأت (السلطات البريطانية) في أحيان أخرى إلى الفزعة أو نخوة أبناء العشائر للحصول على العمل الجماعي، وقد عبّر تقرير بريطاني عن العمل الذي يمكن الحصول عليه بهذه الطريقة بقوله:" إنها طريقة فعالة للحصول على عمل في منتهى السرعة."[118]
وتحشيد آلاف الفلاحين وانتزاعهم من أراضيهم للعمل المرهق والمميت، في مد سكك الحديد وشق الطرق وبناء الجسور وحماية السدود وصيانتها وتطهير القنوات وكريها... لم يكن من أجل مصلحة البلد أو لتطوير الزراعة، كما في الخطة التي عُرفت بما اطلقوا عليه " مشروع التنمية الزراعية" الذي صُودق عليه في أيلول عام 1919. وإنما جاء جمع الفلاحين وتجهيزهم لهذه الأعمال من أجل المصلحة البريطانية قبل كل شيء، لخدمة مجهودهم الحربي واستغلال ثروات وغِلال العراق كمواد أولية للصناعة البريطانية، وجعله سوقاً مفتوحاً لتصريف منتوجاتها ومشاريعها الاستثمارية الربحية.
إن بريطانيا دولة استعمارية كبيرة، بل كانت زعيمة النظام الرأسمالي الاستعماري العالمي برمته وقتذاك، ولهذا لا يمكننا أن نناقش مدى حرص بريطانيا على اقتصاد مستعمراتها وتنميته، قبل حرصها على فائدتها من كل مشروع تتعقبه. ورغم ما تظهر عليه من سخاء في التسليف والإنفاق على مشاريع التنمية الزراعية في مثال ما "رصدت السلطات البريطانية ما يقابل 400،000 ليرة لتمويل مشروع الإنماء الزراعي ولابد أن تكون منطقة الفرات قد استأثرت بالجزء الأكبر من هذه المبالغ باعتبارها المنطقة الرئيسة التي حاولت السلطات البريطانية تنميتها"[119]، المنطقة المعروفة بسعة أراضيها الاروائية المنتجة للحبوب بأنواعها، وتقدم هذه القروض على طريقة الاقطاعيين على شكل بذور، وتعاد بعد الحصاد على شكل "ذخائر عينية" أي كما يطلقون عليه على الأخضر، ويلزمون المقترضين ببيعها حصراً لقوات الاحتلال لحاجتها لتموين وحداتها العسكرية، وتفادياً لدخولها سوق الحبوب المرتفع خلال العالمية الأولى.
ما ألمحنا إليه من هذا العرض عن تناغم المصالح، بين أرستقراطية الأرض والاحتلال العثماني وبعده الاحتلال البريطاني هو لكشف حقيقة باتت كاليقين القاطع بأن شيوخ العشائر لا يفقهون سوى مصالحهم، على حساب أي اعتبار آخر بالمطلق. تعاونهم مع الانكليز تشهد عليه عدد كبير من الوثائق البريطانية، والعراقية والمراسلات الشخصية لشخصيات نافذة من الطرفين، في المكاتبات الرسمية أو استخباراتية سرية. كان عدد من الشيوخ الذين وقفوا بجانب القوات التركية، وقد جردتهم أثر ذلك السلطة البريطانية من أراضيهم وسلطتهم القبيلة، صاروا يلتمسون من البريطانيين العفو وإعادة أملاكهم واعتبارهم، "وقد ألقى تقرير بريطاني بعض الضوء على موقف الشيوخ فقال: "إنه ليس عجيباً لهؤلاء الذين سارعوا، بجهل وبروحية خفيفة، بالجهاد ضد الكفار (الإنكليز) في معركة الشعيبة، أن يصبح عددٌ من قادتهم أصدقاء مخلصين ومساندين لنا"[120].
ما جاء أيضاً في تقرير سري آخر يقول في واحد من الأمثلة، عن شيخ عشائر الدليم "وقد استطاع علي السليمان الذي تعاون معنا تعاوناً مفيداً ومثمراً أن يفرض سلطته ونفوذه على أفراد عشائره الساكنة في الضفة اليمنى (من نهر الفرت) بعد احتلال الرمادي"[121]. 
ومثل هذه التقارير وغيرها الكثير، ومن بين صفحات رسائل المس بيل (Gertrude Bell 1868- 1926) المعروفة، والتي ذُكر عنها كثيراً بأنها جاسوسة بريطانية، المؤلفة من مئات الصفحات، مع عائلتها في لندن. تشرح بتفصيل متسلسل مشاهداتها الحيّة وتسجيلها للأحداث التي حصلت في العراق سياسياً وعسكرياً، وسياحتها المشبوهة بين البوادي والأرياف لجمع المعلومات عن العشائر وتقدمها للاستخبارات والجيوش البريطانية، وعلاقة شيوخ العشائر وممالأتهم للسلطة البريطانية، تشهد على هذه العلاقة الوثيقة، واتجاهها نحو التحالف لمشتركات مصيرية.
والمصالح المشتركة لابدّ من حراستها، عبر نظام خاص يدعى الدولة، والدولة" كقاعدة عامة، دولة الطبقة الأكثر قدرة، دولة الطبقة المسيطرة من الناحية الاقتصادية، والتي تغدو، بفضل هذا، طبقة مسيطرة سياسياً وتحصل بذلك على وسائل جديدة لقهر واستثمار الطبقة المضطهدة."[122]
والوسيلة الجديدة التي جاء بها الإنكليز بالتوافق مع الطبقة الارستقراطية العراقية من شيوخ العشائر وأثرياء المدن، وموظفي الدولة وضباطها، والمثقفين والمتعلمين ورجال دين، هو إنشاء دولة تتناسب مع طموحات مجمل هذه الطبقة، يقودها ملك، وبرلمان يُشرع قوانينها ويرسم شؤونها الإدارية وعلاقاتها الداخلية والخارجية. والحقيقة "كما نعرف فأن الدولة العراقية قد صُنعت "من فوق" ضمن التسوية السلمية بعد الحرب العالمية الأولى وعلى أسس سياسية ودستورية استوردته من بريطانيا. لقد كانت البنى الدستورية المشكلة حديثاً موجهة بشكل أساس لأجل توكيد وحماية وتأييد المصالح البريطانية ومصالح طبقة مُلاك الأرض التي أصبحت شكل القاعدة الاجتماعية الرئيسية للنظام الملكي."[123]
نُصب الملك فيصل الأول وهو من أولاد الحسين شريف مكة في الثالث والعشرين من شهر آب عام 1921م ملكاً على عرش العراق، الذي يرى الانكليز إنه مرحب به من المجالس الأهلية والأوساط الدينية، وتأليف حكومة يرأسها عبد الرحمن النقيب الكيلاني، ووزراء هم"
1-  طالب النقيب - أكبر أبناء نقيب البصرة- للداخلية
2-  ساسون حسقيل – ممثل الطائفة اليهودية في بغداد- للمالية
3-  مصطفى الآلوسي للعدلية
4-  الجنرال جعفر العسكري للدفاع
5-  عزة الكركوكي للأشغال العامة
6-  مهدي الطباطبائي للمعارف والصحة
7-  عبد اللطيف باشا المنديل – من أكبر تجار البصرة- للتجارة
8-  محمد علي فاضل للأوقاف.[124]
وبعد أن استقرت الأوضاع السياسية بفيصل والحكومات المتتابعة، أخذ بالقيام بجولات في أنحاء البلاد لإيضاح سياسة حكومته، ويدعو للاشتراك بالانتخابات النيابية. "واجتمع أول برلمان عراقي منتخب في السادس من تموز سنة 1925، وافتتح من قبل جلالة الملك.. وهكذا كان العراق في شهر تموز من سنة 1925 قد قطع المرحلة الأولى من تقدمه إذ إنه كان قَبِل بواسطة ممثليه معاهدة التحالف مع بريطانيا العظمى ووضع له دستور للحكم وأنشأت له حكومة دستورية.. نواب في أول مجلس أمة للعراق اغلبيتهم من الذين يحملون أطيب الشعور تجاه التحالف مع بريطانيا" [125].
ومما لا شك فيه إن طيب المشاعر هذه يودعها النواب وأعضاء الحكومة لمن يُحسّن سعادتهم ويفتح أمامهم أبواب الثراء، ومنحهم المزيد من دونمات الأراضي الزراعية، في الوقت الذي كان "السواد الأعظم من السكان يجهل الأصول البرلمانية، وواجباته وحقوقه الدستورية.. ولا يفهم معنى الحكومة وسر تأليفها.. إلا إنها مجموعة من الموظفين، تعيش على حسابه، دأبها السيطرة على أمواله باسم الضرائب تارة والاغتصاب أو الرشوة تارة أخرى.." [126].
السياسة البريطانية هذه، الساعية لاحتواء الطبقة الارستقراطية، وجعلهم متنفذين، ومرجعاً مباشراً أمام سلطتها من جهة ثانية، فكان لابد من أن يحتموا بها وتحتمي بهم خدمةً لمصالحها. وعبر هذه الوسيلة الفريدة، استحوذ شيوخ عشائر وتجار مدن، وموظفو الدولة، عسكريين ومدنيين، على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية ومعظمها في جنوب العراق ووسطه.
"وقد استمرت ممارسة الاستيلاء على الأراضي بعدة أشكال خلال القرن العشرين وكانت سمة مميزة للريف طيلة فترة الحكم الملكي في العراق. ولم ينغمس الشيوخ وحدهم في هذه الممارسة، بل الوزراء والنواب، بل حتى الأسرة المالكة نفسها.. ففي 1928، تم نزع ملكية مقاطعة البغيلة في الكوت من عشيرتي الجلبي وآل هاشم اللتين كانتا تملكانها منذ الزمن العثماني. وتبلغ مساحتها أكثر من 20،000 مشارة (أي 12،000أكر). وجرى منحها دون رسوم كطابو إلى الملك السابق علي، والد الوصي عبد الإله.." [127] وهذا شكل من أشكال الاستيلاء على الأراضي العامة، نلاحظ إن الاستحواذ عليها تم بطريقة نزع ملكيتها من ملاك ومنحها إلى ملاك آخر ذي دماء ملكية، أو بطريقة التعدي "على أراضي جيرانه وأراضي الدولة هو الشيخ موحان الخير الله، من الشويلات، الذي بقى طويلاً عضواً في البرلمان عن لواء المنتفك. وكانت عشيرة هذا الشيخ تزرع في العام 1919، على الغراف، ماسحة طولها عشرة أميال بعرض ستة، أي حوالي 60،000 دونم. وحسب قول ضابط منطقة قلعة سِكر، فإن الشيخ موحان الخير الله "وضع اليد" في العام 1949 على "أكثر من مليون دونم" من الأراض." [128]
وفي مقابل الشراهة للمزيد من الأراضي، شدد الإنكليز نظامهم الضريبي على ملاكي الأراضي، بأضعاف ما كان عليه في العهد العثماني، بنظام ضريبي عصري وكفاءة ودقة المخمنين الانكليز المعروفين عالمياً بمواهبهم، باعتصار اخر قطعة نقد في حوزة المستعمرات "وقد قيل إنه لم يحدث في أي جزء من العالم أن تعرض الإنتاج الزراعي لضرائب فادحة كالتي شهدتها منطقة الري في العراق أواخر العهد العثماني حتى عام 1937."[129]
وعندما يضاعف الإنكليز الضرائب على ملاكي الأرض، يتمادى هؤلاء بفضل السلطة الممنوحة لهم برفع الضرائب وإيجارات الأرض على الفلاحين بما يقوق طاقتهم، وكمثال على استشراء تحصيل الضرائب "عندما يقارن حاكم سامراء بيري E.Berry بين حصيلة ضريبة الأرض في سامراء في سنة 1917- 1918 وبينها في سنة 1918- 1919 يقول إنها ارتفعت من ( 29،745) روبية في سنة 1918 إلى ( 65،449) روبية في السنة التي تلتها. ولكن حاكم الشامية وينكت R. Wingat يقول "إننا نتأمل أن تكون ضريبة أشجار النخيل في السنة القادمة بعد أن تنظم تعداد النخيل ونرفع الضريبة على النخلة الواحدة إلى (8) أنات (كانت 5،5 أنات في سنة 1918) مائتين وخمسين ألف روبية."[130]
وفي تقرير آخر عن منطقة الناصرية وسوق الشيوخ، يقول صاحب التقرير:" في عام 1918، اجرت شركة (أي. بي. سي) المحلية تعداداً شاملتً لأشجار النخيل في عموم السوق، بدون اللجوء الى استخدام القوة المسلحة ولا حتى الزورق المسلح الذي وضع تحت تصرفها باستثناء بعض المعارضة الطفيفة. يعتبر هذا الإنجاز بذاته انتصاراً باهراً للشركة. بلغ معدل إيرادات المحاصيل الشتوية او القمح والشعير لعام 1918 1/10 ... من المتوقع أن تزداد هذه الإيرادات من هذا المصدر في عام 1919 ضعفين أو ثلاثة أضعاف."[131]
ويؤدي هذا التصاعد في وتيرة الضرائب إلى تدهور معيشة الفلاحين، ويؤدي إلى تعاظم سخطهم وغضبهم، ضد هذا الظلم والضيق في المعيشة، وساءت علاقة الفلاحين بملاكي الأراضي والشيوخ إلى أدنى درجة، على أثر تبدل العلاقات الانتاجية والاقتصادية داخل العشيرة، بحيث تجرد الشيوخ من مسؤولياتهم التقليدية ولم يعودوا بحال الاستماع إلى شكاوى فلاحيهم من الجوع وقسوة العمل. وقد يؤدي ذلك كله بشكل طبيعي إلى التمرد والانفجار وأحياناً يكتسي الغضب طابعاً مسلحاً من أجل الحصول على حقوقهم المشروعة، ضد الاقطاعيين الذين اجتثوا كل مظهر من مظاهر حياة الفلاحين.
لم يسكت الفلاحون عن المطالبة بحقوقهم، ورفع أصواتهم أمام سادة الأرض أو أمام السلطة، طيلة حقبة العهد العثماني وحتى القرن العشرين، وكان آخر هذه الانتفاضات عام 1911 للمطالبة بحقوقهم التاريخية في الأرض بوجه الملاكين الغائبين والسلطة العثمانية، هذه الانتفاضة قام بها صغار الشيوخ ورؤساء العشائر، بسبب الحيف الذي وقع عليهم وعلى أفراد عشائرهم، بالمشاركة الفاعلة من أفراد العشائر الفلاحين العفوية دفاعاً عن حق العشيرة أي حقوق التصرف على الديرة.
وبعد الاحتلال البريطاني للعراق، تفاقمت مشكلة الأراضي بين الملاكين الكبار وصغار الشيوخ، مالت السلطات البريطانية لشيوخ العشائر والسراكيل، نكايةً بالملاكين آل السعدون في المنتفك على سبيل المثل الذين حاربوا إلى جانب القوات العثمانية، وأصبح رؤساء العشائر والشيوخ هم الملاكين الجدد وتوسعت أراضيهم إلى مساحات واسعة جدا، ودخلوا في صراع مباشر مع أبناء عشائرهم، ودعموا سلطة بريطانيا حمايةً لأنفسهم من غضب عشائرهم، ودعمتهم بريطانيا، بالتشريع والقوة العسكرية.
تواصلت الانتفاضات الفلاحية ضد ظلم الشيوخ على مر عقود الاحتلال البريطاني المباشر، وخلال ما عُرف بزمن الانتداب والفترة الملكية،  ومن أهم هذه الانتفاضات ما حصل من إشكال حول ملكية الأرض والضرائب بين المناع وآل حاتم في الناصرية، فقد انفجر فلاحو آل حاتم بثلاث انتفاضات متتالية (عام 1927، وعام 1936، وعام 1941)، وانتفاضة الفلاحين في القرنة في البصرة عام 1952، وانتفاضة الزريج في العمارة عام 1952، ومناوشات الفلاحين بمنطقة الأوقاف في ديالى عام 1953، وانتفاضة 300 فلاحية في أربيل من نفس العام، وانتفاضة الشامية لفلاحي الديوانية عام 1954، طلباً لتحسين واقعهم المزري، وحقوقهم في أرضهم وحصص جهودهم عملهم.
ونأخذ مشكلة الأرضي بشيء من التفصيل بين المناع وآل حاتم كمثال لظلم الملاكين السافر، المدعومين من السلطات التي لا تقل ظلماً بل أسوء، لأصحاب الأرض الفعليين والفلاحين العاملين على هذه الأرض، وحكاية هذه المشكلة وما ترتب عليها من عبر ونتائج، ولكون المشكلة وقعت في أرض الناصرية، أرض الصراع الأزلي بين الملاكين والفلاحين، وهي بؤرة كل صراع على الأرض في العراق.
ترجع جذور مشكلة أراضي عشيرة آل حاتم أحد فروع عشائر بني ركاب التي تستوطن الضفة اليمنى من نهر الغراف في المنتفك إلى أواخر القرن التاسع عشر. فقد وهب ناصر السعدون أراضي مقاطعتي (المسبح وأبو مهيفة) التي تستوطن فيها آل حاتم تاريخياً منذ مئات السنين إلى أحد حلفائهم والمقربين منهم، وهم عشيرة المناع أحدى عشائر الأجود. لم تحصل مواجهات واشكالات بين عشيرتي آل حاتم والمناع خلال العهد العثماني، بسبب الخشية من آل السعدون وسطوتهم الفاعلة على منطقة المنتفك، رغم إن المناع قد مارسوا جميع السلوكيات التقليدية التي قام بها الاقطاعيون آنذاك مع الفلاحين وأبناء العشائر الأخرى، من قبيل التحريض الحكومي عليهم والتهديد بالطرد والتهجير ومعاقبة المقصرين جسدياً وضربهم وإرغام النساء على جلب الحطب يومياً إلى بيوت المناع واجبار كل فلاح على اعطاء الملاكين رأسَين من الغنم تسمى (المنيحة والذبيحة) والقيام بالسخرة لحفر الأنهار والترع والجداول وكريها. وقد استمر الوضع على ما هو عليه حتى الاحتلال البريطاني للعراق 1914- 1918 وانتهاء سيطرة السعدون وتسلم الحكام والضباط العسكريون الادارة المدنية في المنتفك، اذ تمردت العشائر على اعطاء حقوق الملكية لآل السعدون .. مستغلين وقوف الحكومة البريطانية ضد آل السعدون.. الإدارة البريطانية .. تعاملت مع هذا الملف بحذر شديد وانتقائية بما يتلائم مع مصالحها وهدفها في الهيمنة والسيطرة، ورحلت أعباء هذه الاشكالية المعقدة إلى الحكومة العراقية والنظام الملكي الجديد. ونجد هذا واضحاً في أول حركة تمرد قام بها آل حاتم ضد المناع إبان الإدارة البريطانية المباشرة واستغلالهم تلاشي سطوة السعدون إذ واجهها الانكليز بحزم وقوة..
انتفاضة عام 1927: عندما شرعت حكومة جعفر العسكري الثانية 1926- 1928 طريقة جديدة لجباية الضريبة تسمى التثليث (ثلث الحاصل للملاك والحكومة والفلاح) – يذكر الفلاح دائما بالمفرد وفي الحقيقة هم مئات وآلاف الفلاحين- وقد رفضت العشائر هذه الطريقة؛ بسبب اجحافها... ورغم تقدمهم بالشكوى والاعتراض على هذه الطريقة، إلاّ إن الحكومة لم تنصفهم ولم تسمع آرائهم، الأمر الذي جعلهم يطردون الملاكين من بعض المقاطعات، لكن الحكومة وقفت ضدهم بحزم وأنهت الاضطرابات.. فقد استخدم الانكليز الطائرات الحربية لقصف عشيرة آل حاتم.. الأمر الذي أدى إلى مقتل عدد من النساء من عشيرة البو جامل أحد فروع عشيرة آل حاتم، وطرد شيخهم العموم عبيد الكطران من المنطقة..
وقد أصدرت حكومة الجعفري الثانية وتحت تأثير وتداعيات هذه الانتفاضة قانون رقم (16) لسنة 1927 الذي أكد في بعض بنوده على تمليك الأراضي الزراعية الاميرية غير المغروسة مجاناً لمن يرغب بذلك، ومنح السندات بالطابو في الأراضي الأميرية وفق شروط محددة ذكرها القانون، ورغم إن هذه القوانين تصدرها الحكومة بين الحين والآخر من أجل إزالة الاحتقان والتوتر بين الملاكين والفلاحين في المنتفك، إلاّ إنها تصب في الأخير لصالح الملاكين وحيازتهم المزيد من الأراضي الزراعية وترسيخ سطوتهم، والسبب هو امتلاكهم مصادر القوة والنفوذ والأموال والعلاقات السياسية والحكومية.
كما صدرت خلال تلك الفترة العديد من القوانين وأهمها:
أ‌-          قانون اللزمة رقم 51 لسنة 1932: وشرع هذا القانون من أجل استغلال الأراضي غير المستثمرة وتشجيع الملكيات الصغيرة واستثمارها من قبل الفلاحين، إلاّ إنه لم يحقق النتيجة المرجوة. فقد استغله الشيوخ والسراكيل والاقطاعيين والتجار في زيادة ملكياتهم الزراعية وتمددها.
ب‌-         قانون حقوق وواجبات الزراع رقم 28 لسنة 1933: وهذا القانون يمنع استخدام الفلاحين في أي مزرعة أو دائرة حكومية أو شركة أهلية إذا كان مديناً للشيخ والاقطاعي وهرب من أرضه وعليه تسديد دينه.
إن صدور قوانين التسوية واللزمة وحقوق الزراع قد جعلت الفلاحين والمزارعين يشعرون بأن حقوقهم العرفية والتاريخية في استعادة أراضيهم وأراضي آبائهم وأجدادهم قد تلاشت نهائياً، وأخذوا يشعرون بالظلم السياسي والحكومي والاجتماعي، الأمر الذي نتج عنه المزيد من الاضطرابات العشائرية والانتفاضات الفلاحية كان أهمها انتفاضة عشيرة آل حاتم عام 1936."
والانتفاضة هذه قامت على أثر دعوة كيدية من قبل زامل المناع على عشيرة آل حاتم " من إنهم قد سرقوا قسماً كبيراً من الحاصل الزراعي لآل المناع دون تحديد المقدار المسروق أو حتى معرفة السارق ومن أي فرع أو عشيرة.. عين المتصرف محكمة عشائرية حسب قانون دعاوى العشائر للنظر في دعوى المناع، فقرر المحكمون- دون أي دليل أو اثبات- بأخذ ثلث الحاصل الزراعي العام لآل حاتم وتسليمه للمناع. كما قرر المحكمون ترحيل (18) شخصاً من شيوخ آل حاتم مع عوائلهم والسراكيل التابعين لهم من المنطقة.. راجع شيوخ بني ركاب وآل حاتم مقر متصرف المنتفك ماجد مصطفى بالناصرية، من أجل رفع مظلوميتهم والاجحاف الذي لحق بهم، إلا إن الحكومة المحلية لم تسمع منهم وقامت بطردهم من مركز اللواء. وكذا الأمر من مركز قضاء الرفاعي التابع له إدارياً، إذ راجعوا مكتب القائم مقام للنظر في قضيتهم، ولكن دون نتيجة تذكر، الأمر الذي جعلهم يقصدون العاصمة بغداد لطرح قضيتهم أمام وزير الداخلية رشيد عالي الكيلاني، الذي لم يكتف سوى بإرسال استفسار إلى متصرفية المنتفك حول إمكانية وجود محذور من ترحليهم من أراضيهم أم لا؟ .. لما يئس شيوخ آل حاتم من عدم ترحليهم عادوا إلى منطقتهم وشرحوا الحالة إلى أبناء عشيرتهم، فأثار الغضب والاحتقان والنخوة في نفوسهم، الأمر الذي عزز روح التحدي والمواجهة.. " سادت أجواء من التوتر وبعض المناوشات بين عشائر آل حاتم والمتحالفين معها إلا إن مساعٍ من رجال الحكومة العقلاء وبعض مشايخ المنطقة، استطاعوا اقناع الطرفين بحلول وسطية ودون الدخول في مواجهات قتالية.
انتفاضة عام 1941: .. عندما استدعى سمير عامر المناع أحد شيوخ آل بو جامل من الحاتم وهو علكم كزار شيخ فخذ آل كمرة إلى ديوانهم لمطالبته بدفع مستحقات من الأغنام التي كانت تفرض سنوياً على الفلاحين من قبل الاقطاعيين والشيوخ، قم بضربه وإهانته وتهديده. وعند عودته لم يذكر الشيخ علكم تلك الإهانة والضرب لعشيرته خشية حصول المشاكل والاحتراب، إلا أن بعض الشباب من آل بو جامل عرفوا بالحادثة، وأخذوا يقومون بالهجوم على مقر (الشحنة)[132]  وطرده والقيام بغارات منقطعة ومستمرة على مواقع ديرة المناع. وكالعادة قام زامل المناع بالشكوى عند المتصرفية وأخذ يحرض على آل حاتم. عندها طالبت الحكومة استدعاء شيخ عموم آل بو جامل/ آل حاتم فضيل السلمان إلى قضاء الرفاعي للتباحث في موضوع وحل الاشكال، إلاّ أن الشيخ فضيل وتحت إلحاح الشباب رفض طلب الحكومة بالقدوم.. لأن الحكومة عازمة على ضرب آل بو جامل بقوة.. فأن الحل العسكري السريع كان المفضل للحكومة العراقية لهذا الاشكال.. وقد اعطيت الأوامر في البدء للطائرات الحربية في شهر آب عام 1941 بالهجوم وتدمير وقتل كل أفراد العشيرة، وفعلاً قصفت الطائرات المنازل والحيوانات وأحرقت الحاصل الزراعي، رغم المقاومة الشديدة من الشباب.. كما تقدمت العسكرية والشرطة التي تحمل الرشاشات الآلية التي لم يستطع المقاومون مواجهتها، والتي من أجل ذلك أطلق الأهالي عليها (معركة الرشاش) لأنهم أول مرة يرونها. وأسفر الهجوم عن مقتل (49) شخصاً من عشيرة آل بو جامل/ آل حاتم وجرح المئات الذين هربوا في المزارع.. لم تصدر الحكومة العراقية أي بيان رسمي عن الحادثة. واشاعت بأن المعركة كانت بين عشيرتي آل حاتم والمناع فقط، وإن دورها كان الدخول بين الأطراف المتحاربة ووقف القتال بينهم خشية توسعه، وإن الضحايا البالغ عددهم (49) قتيلاً ومئات الجرحى كانوا نتيجة تلك المعركة، وليس انحيازهم لآل مناع وقصف القرى بالطائرات والاستخدام المفرط للقوة العسكرية.. أدى لحدوث المجزرة وتدمير القرى وتهجير أهلها.. وقدر عدد العوائل المهجرة بأكثر من (600) عائلة، واستمرت مرحلة الشتات من عام 1941 وحتى عام 1958..
بعد اندلاع ثورة تموز عام 1958 واسقاط النظام الملكي وقيام الجمهورية العراقية التي اصدرت قانون الاصلاح الزراعي رقم (30) لسنة 1958 الذي ألغى الملكيات الكبيرة والعمل بسندات الطابو، عادت عشائر آل حاتم لمناطقها التي هجروا منها، إلا إنها لم تستطع الحصول على أراضيها الأصلية كاملة التي سبق وإن استحوذ عليها المناع، لأنهم واجهوا مشكلة جديدة وهي إن آل مناع قد جلبوا عشائر وعوائل جديدة للسكن في أراضيهم إبان مرحلة النفي والشتات، وعندما صدر قانون الاصلاح الزراعي استحوذ أولئك الفلاحون والمزارعون على تلك الأراضي بدل اصحابها الأصليين، وحدثت اشكالات عند اللجان التي أرادت تطبيق القانون، الأمر الذي حسمته بالقرار الآتي: إن الأراضي التي تقع شرق نهر أبو مهيفة هي لآل مناع وحلفائها، والأراضي التي تقع غرب النهر هي لعشائر آل حاتم.[133]
نستنتج من قصة الصراع على الأرض والضرائب والأتاوات التعسفية، بين عشيرة آل حاتم وفرعها آل بو جامل وآل بو نصف، الذين سحقتهم الطائرات الحكومية والرشاشات الثقيلة وأدت بين فترة وأخرى إلى قتل الكثير منهم، وتهجير مئات العوائل وتوزعها بين العشائر الأخرى والمدن القريبة، ما حصل هو نتيجة تحالف الأنظمة الحاكمة مع الملاكين وحمايتهم، وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه الفلاحين والاستماع إلى دعواهم وتظلمهم. هاجر الباقي من هاتين العشيرين الجريحتين - آل بو جامل وآل بو نصف- إلى أطراف مركز الناصرية وسكنوا أكواخ القصب بحال يرثى لها، ولأنهم بدون مؤهلات تتناسب مع أعمال المدينة، ومن أجل المعيشة امتهنوا أكثر المهن مشقة وتواضعاً، وبسبب أحوالهم المعيشية الصعبة ومهنهم وأحيائهم البائسة، غدا لقبهم العشائري مثله مثل السُبة أو الوصمة، يخجل منه حتى المتعلمون منهم حالياً. 
الهجرة من الريف إلى المدينة تواصلت على مر وتوالي الأنظمة التي أدارتْ الحكم في العراق، وجميعها وقفت دائماً إلى جانب الملاكين والاقطاعين بكل قوة وحزم، سواءً بالبطش المسلح، أو عن طريق اصدار قوانين تخص الأرض، تتلخص نتيجتها في خدمة الاقطاع. وبعد تغير نظام الحكم الملكي إلى جمهوري بعد عام 1958 وإلغاء قانون دعاوى العشائر واصدار قانون الاصلاح الزراعي رقم (30) لسنة 1958 الذي حدد بموجب مواده، مساحات الأرض الزراعية الشاسعة عند ملاكي عدد من الأرض بين (1000 و2000) دونم للأرضي السيحية أو الإروائية، وبلغت مساحة الأرض المصادرة من الاقطاعيين الكبار بأكثر من أربع ملايين وخمس مئة ألف دونم، وزعت معظمها على الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً يزرعونها، بحيازات صغيرة تتراوح بين (80 و160) دونم، كما أسست الجمعيات الفلاحية ومواد جديدة تنظيم العلاقة بين الملاكين والفلاحين، وبهذا حطم القانون هيمنة الاقطاعيين الكبار وقلص من سيطرتهم على الفلاحين وعلى عشائرهم. إلاّ إن القانون أحاطه الكثير من النواقص والأخطاء في التطبيق والتشريع، يرجع ذلك إلى اصداره دون تحضير أو دراسة، فقد صدر بعد ثلاث أشهر من تسلم قادة 14 تموز للسلطة، في الثلاثين من أيلول من نفس العام وكان كالمرتجل في تفاصيله. فقد منحوا الأرض للفلاحين دون دراسة وتهيئة متطلبات ما يحتاجه الفلاح في العملية الزراعية، أضف إلى ذلك، فبعد العاصفة التي حصلت في الأرياف ضد رؤساء العشائر والملاكين وهروب الكثير منهم إلى العاصمة أو إلى المدن، وغياب دورهم التقليدي في تنظيم العملية الزراعية، الأمر الذي جعل من الأجهزة البيروقراطية الجديدة بعد عام 1958 عاجزة "عن التحرك بسرعة وفاعلية لملأ الفراغ مما أدى إلى حدوث فوضى واضطراب بسبب ذلك، وكثرت النزاعات حول حقوق الأراضي والمياه.. واجتاح الأجهزة الحكومية المحلية سيل عارم من الطلبات والشكاوى، وكان من المحتم أن تفشل هذه الأجهزة البيروقراطية في إيجاد الحلول لجميعها وبكفاءة عالية.."[134]. وأدى ذلك إلى انخفاض مستوى الإنتاج الزراعي، وعدم استفادة الفلاحين من الأراضي التي حصلوا عليها، وسبب بهجرة جديدة أوسع من كل نزوح وهجرة سابقة، إلى بغداد وأطراف المدن، وتلقي سوء المعاملة والضياع شبه الشامل للفلاحين المهاجرين داخل وبين أطراف المدن.
وبعد الانقلاب الذي قام به البعث واستيلاء البعثيين على الحكم عام 1968، وسيطرتهم الشاملة على مقدرات الدولة، ووارداتها المالية المتمثل بمجملها في عائدات النفط الكبيرة، بعد تأميمه واستقلال إنتاجه عن شركات النفط الغربية، وبعد ارتفاع اسعاره عالمياً بداية سبعينيات القرن المنصرم، "فقد تضاعف الدخل القومي من 1412،2 مليون دينار في 1973.. إلى 3002،5 مليون دينار في ظرف سنة واحدة وأصبح ثلاثة أضعاف في السنتين التاليتين ليبلغ 4478،8 مليون دينار في عام 1976"[135]. ولكن البعث ركز على بناء آلة الدولة الأمنية والعسكرية بشكل مهول للحفاظ على أمن دولته من المعارضين في الداخل وتدخلات الخارج، طغت على كل اهتمام بالبنى والمشاريع التي يستفيد منها المجتمع وتطمين حاجاته، وجعل البعث وشخص صدام حسين بالذات طاغوتاً يجثم على صدر المجتمع العراقي، وأهمل من ضمن ما أهمل من القطاعات الاجتماعية الأخرى، قطاع الزراعة رغم إصدار البعث قوانين الاصلاح الزراعي مثل قرار 117 لسنة 1970 وغيره،  لم تكن في حقيقتها، وكسابقاتها، سوى لاستخدام الأرض من أجل الربح والاستثمارات الشخصية، لأن جميع أنظمة الحكم بما فيها نظام حكم عبد الكريم قاسم أنظمة ممثلة للطبقة البرجوازية الوسطى، لا تؤمن بإلغاء ملكية الأرض الخاصة وتوزيعها على الفلاحين توزيعاً عادلاً ودعم الزراعة باعتبارها وسيلة انتاج اجتماعية، بل عملت على ابقاء الحقوق التصرفية في الأراضي الأميرية التابعة للدولة، واقتصرت قوانين عام 1958 وما بعدها، على معالجة الإفراط في حجم الحيازات الواسعة التي تبلغ مئات الآلاف من الدونمات، ومصادرتها دون تعويض. إلا إن البعث عاد وشرع القانون 35 لسنة 1983 لتأجير الاراضي الزراعية. واصدر القرار 364 لسنة 1990( ملحق بالقانون 35) ليستحوذ الاقطاعيون والملاكون القدماء وازلام النظام من مسؤولي الحزب وضباط الجيش وقوى الأمن، على الاراضي الزراعية في المشاريع التي ألغيت والمزارع الجماعية ومزارع الدولة. وكانت تقدم لهم قروضاً استثمارية بشروط تفضيلية على أساس مناطقي تمييزي في الغالب، في وسط وشمال العراق. ومن أبرز هؤلاء خير الله طلفاح خال صدام حسين، وقصة استيلائه على بساتين كبيرة وطرد الفلاحين بالقوة، في منطقة الدورة وقطع أراضي ومزارع خصبة ومميزة في مناطق عديدة في بغداد وديالى، معروفة لدى العراقيين حتى لُقب وقتها بحرامي بغداد. و"حيث تدهورت الزراعة بفعل العديد من العوامل البيئية ولأسباب أخرى "صوت" الفلاحون بأقدامهم واستمروا بالهجرة إلى المدن وخصوصاً بغداد وحتى بأعداد أكبر وأكبر" [136].
لم تعد عليهم بالنفع لا الجمعيات الفلاحية التي بلغ عددها عام 1977، 1889جمعية في عموم العراق ولا التسهيلات الزراعية الأخرى، لعدم كفائتها وشيوع البيروقراطية الحزبية والإهمال، فقد تراجعت الزراعة وخصوصاً في الجنوب والفرات الأوسط، إلا أن إنتاج الخضار والفواكه في المزارع التي يملكها القريبون من النظام في الوسط والشمال فقد زاد إنتاجها.
وعلى إثر ذلك " وبحلول عام 1980 كان 69% من السكان يعيشون في المدن و31% فقط يعيشون في الأرياف ويمثل هذا عكساً مباشراً في النسبة لإحصاء عام 1947"[137] ، ولا سيما إن السهل الرسوبي يضم على طول مجرى أنهاره 67% من مجموع سكان العراق بمساحة تبلغ ربع مساحة العراق[138].
اتجه هؤلاء المهاجرون من الريف، إلى مختلف أنواع العمل في القطاع الخاص والعام مثلهم مثل سابقيهم في المدن التي حلوا فيها، وكان الكثير منهم يعمل في مشاريع الإنشاء كعمال بناء، وفي الورش الصناعية في القطاع الخاص والمطاعم والأفران والمقاهي وباعة جوالون، أي قطاع الخدمات. وكونهم فلاحين تنقصهم الخبرات مهنية، لجأ عدد كبير آخر منهم إلى التطوع في مؤسسات الدولة العسكرية، في سلك الشرطة أو الجيش وشكّل المنحدرون من ريف الناصرية غالبية المتطوعين بالنسبة إلى المدن الأخرى، في ظاهرة نجم عنها إطلاق لقب مدينة المليون عريف.
وبالرغم من التحسن التاريخي الذي طرأ على المدينة العراقية في العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين، إلا إن التفاوت بين الريف والمدينة ظل قائماً كما في النسبة 1/10 ومتتاليتها 10/100، ظلت النسبة متفاوتة كما هي وإن تغيرت أطراف المعادلة. والزراعة تعرضت للإهمال وفشل مشاريع الإصلاح، والتخريب المتعمد من نظام البعث كتجفيف الأهوار وتجريف غابات النخيل الكثيفة في البصرة وغيرها من المدن والمزارع الكبرى، وظلت القرى طاردة لساكنيها، وهم أغلبية السكان بما يعادل أكثر من الثلثين من مجموع سكان العراق، واعتمادهم كتلة جاهزة للاستغلال الطبقي بكل أنواعه الاقتصادية والسياسية، وحماقات صدام الحربية التي أحرقت الأخضر واليابس بلظاها.
وفي عصر الديمقراطية المستوردة من أمريكا في بداية القرن الواحد والعشرين، كما استُورد للعراق من قبل النظام النيابي من بريطانيا في بداية القرن العشرين. جاء بول بريمر الحاكم المدني حاملاً بجعبته ما عُرف حينها بالقوانين المئة، وهي بمثابة أوامر ملزمة أو توجيهات للشعب العراقي، كما تدعي سلطة الائتلاف الموحد عام 2004. وما لها من آثار حاسمة على الأوضاع الاقتصادية والاستقرار الامني والمعيشة للبلد حاضراً ومستقبلاً، وفي حقيقتها هي لفرض الوصاية على العراق وتكبيله وجعله تابعاً للولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً، ومن هذه القانونين أو الأوامر قانون رقم 82 لسنة 2004 عن "براءات الاختراع والنماذج الصناعية والمعلومات غير المفصح عنها والدوائر المتكاملة والأصناف النباتية.. وهذا القانون يتحكّمُ بالأمن الغذائي في العراق، من خلال التحكّم بكيفية استخدام وخزن البذور، وتبادلها بين الفلاّحين، وهي عمليات كان الفلاّحون العراقيون يقومون بها لآلاف السنين."[139]، وهذه البذور معدلة وراثياً لا فائدة من خزنها وإعادة زراعتها في موسم جديد، مما يجعل الفلاحين مضطرين على شرائها في بداية كل موسم زراعي[140].
وهذه القوانين والأوامر الأمريكية، هي القاعدة التي أسس عليها نظام الحكم في العراق بعد 2003، وهي عملية ممنهجة لتدمير الدولة وبُناها التحتية الضرورية لمعيشة ملايين العراقيين، فالنظام الدستوري الذي أعدته أمريكا رغم مزاعمه بتأسيس دولة مدنية، إلا إن الواقع الذي ساد متسم بالشمولية الدينية المذهبية الإقصائية إلى أبعد الحدود، و استبداد الأحزاب الدينية كواحد من اسوء أنواع الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تاريخ العراق اليوم، كما حصل في قتل المتظاهرين وترويعهم خلال أحداث تشرين عام 2019. إضافة إلى الفشل في كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والسطو الممنهج على المال العام والفساد الهائل في كل مرافق ودوائر الدولة.
ويظهر ذلك في سوء الإدارة والعجز الحكومي من معالجة أزمة الكهرباء المزمنة، وفشل وتراجع المؤسسة الصحية والتعليمية والأمنية، وكذلك ظهر سوء الإدارة والفساد في القطاع الزراعي بشكل حاد، في إهمال معالجة شح المياه وقطع روافد الأنهار من تركيا وإيران، وتدني مستوى الأنهار مما يؤدي إلى التصحر، وتقلص المساحات الخضر وتدهور الزراعة وترك الفلاحين لأراضيهم والتوجه إلى المدن بحثاً عن فرص عمل، أو تحويل بساتينهم إلى قطع سكنية وبيعها، وهذا الأمر استغلته جهات حزبية نافذة في السلطة لأغراض تجارية، قامت بشراء الأراضي الزراعية من الفلاحين وتقسميها إلى قطع سكنية، بيعت بملايين الدولارات. والتغير المناخي المتمثل في ندرة الأمطار، والعواصف الترابية، ومع إن الأخيرة ظواهر طبيعية إلا إن حلولها ليست مستحيلة على دولة تملك قرار وإرادة سياسية وعمل برنامج وطني للتشجير.
يظهر ضلوع جهات حزبية عديدة والمتنفذين في السلطة، في تدهور الزراعة وضياع الأراضي الزراعية وتجريف البساتين، بسبب الفساد المستشري بين هذه الأوساط، ورغم صدور قوانين حكومية خاصة عن الزراعة والأرض الزراعية، مثل قانون الغابات والمشاجرة رقم 30 لسنة 2009، وقانون القرى العصرية رقم 59 لسنة 2012[141]، وغيرها من التشريعات، لكنها لم تفلح بإصلاح الواقع الزراعي ولم تمنع موجات هجرة الفلاحين من أراضيهم الزراعية وبساتينهم ومن الأهوار بعد إن جفت، بسبب تمادي "مافيا تجريف الأراضي الزراعية"[142] وسوء الإدارة والفساد الحكومي الشامل.
تعاظمت هجرة الفلاحين للأسباب أعلاه، إلى المدن وملأوا أطرافها وأحيائها، واستقروا في آلاف العشوائيات داخل المدن وفي أطرافها، لاجئين وباحثين عن مصادر عمل تؤمّن لهم معيشتهم وعوائلهم، وشاع أثر ذلك اصطلاح ترييف المدن غير الحصيف، من الذين يخشون مزاحمة الريفيين اللاجئين لسكان المدينة، وانتقال التقاليد العشائرية داخل الأوساط الحضرية بما يُطلق عليه ترييف المدينة، ولم يدرك هؤلاء إن ترييف المدن معادل لمفهوم إفقار الريف وتدميره. لم يترك أو يرحل الإنسان من موطنه وكما يقال "ما يجبر على المُر إلاّ الأمرّ منه"، لولا التعاسة التي يعاني منها سكان القرى والأرياف والأهوار، لما اضطروا إلى الهجرة وترك ديرتهم ومصادر معيشتهم.
تعاقبت حكومات على مدى عقود، ولكنها جميعاً كانت عبارة عن نخب برجوازية لا يوجه سلوكها السياسي إلا العمل من أجل ترسيخ سيادتها ووجودها الطبقي، والتعطش غير المحدود لواردات ريع الأرض والنفط. سلطة مؤلفة من الفئات الوسطى من الطبقة البرجوازية، التي تسعى بكل طاقتها للأثراء والارتقاء الطبقي، ومن ارستقراطية الأرض من شيوخ عشائر اقطاعيين، وأثرياء المدن وموظفي الدولة، مارسوا الاضطهاد الوحشي ضد كل اعتراض يقوم به الفلاحون، للحفاظ على أرضهم وضد الضرائب وألوان العبودية. وقامت بسحق هذه الانتفاضات لأن الجماهير التي قامت بها جماهير غير واعية وبدون هدف سياسي مرسوم، الذي له تغيير النظام السياسي الذي يحرمهم من أرضهم وينهب نتاج عمالهم بالتحالف مع كل القوى المحرمة بالمجتمع وسائر الكادحين، والاستعداد للمعركة الحاسمة، لبناء دولة تعمل على "إلغاء الفوارق بين الريف والمدينة."[143]
 
 
 


[1] أنجلز: أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، من مختارات كارل ماركس وانجلز، دار الطباعة الحديثة، ترجمة أحمد عز العرب، صفحة 16.
-[2] فراس السواح، لغز عشتار، دار علاء الدين، ص 33، نقلاً عن كتاب
Robert Briffault, The Mothers: the Matriarchal Theory of Social Origins, pp. 100_104"
-[3] أنجلز، مصدر سابق، ص 51.
[4]- كارل ماركس، رأس المال، مج 1، ترجمة محمد عيتاني، مكتبة المعارف، بيروت، صفحة 91.
[5]- لسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط الفيروز آبادي، وتهذيب اللغة للأزهري، وغيرها من قواميس ومعاجم اللغة العربية.
[6] - مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن محمد بن خلدون ( 1332-1404)، دار الفكر بيروت، من الباب الرابع الكتاب الأول، في البلدان وسائر العمران...ومن عدة أبواب أخرى.
[7] جورج أوجين هوسمان (1809 - 1891)، مهندس وسياسي فرنسي، بعد سحق كومونة باريس، مزق هوسمان أحياء باريس وشوارعها،  هدم 19 ألف و730 مبنى تاريخياً وشيد مكانها مبانٍ حكومية، وأحل محل الشوارع القديمة شوارع عريضة طويلة، لتتمكن المدفعية من قمع أي تمرد مستقبلي، مستخدماً صلاحيات نزع الملكية لدور ومشاغل عمال باريس التقليدية، باسم التحسين العمراني والتجديد الحضري. وتفاصيل كثيرة حول الخطط الحكومية التي نفذها هوسمان، في التغيير العمراني لباريس، والهجوم على عمال الكومونة، يُنظر كتابَي ماركس (الحرب الأهلية في فرنسا، والثامن عشر من برومير).
[8] - نصوص مختارة، فردريك انجلز، اختيار وتعلق جان كانابا، ترجمة وصفي البني، منشورات وزارة الثقافة السورية، صفحة 433.
[9]- كارل ماركس، الايديولوجيا الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع. 1976، صفحة 61.
[10]- د. سعيد ناصيف، علم الاجتماع الحضري المفاهيم والقضايا والمشكلات، ( د. دار نشر) 2006، صفحة 68_ 110.
[11] - يُنظر إميل دوركهايم، في تقسم العمل الاجتماعي، ترجمة: حافظ الجمال، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت 1982. صفحة 87، 171. 
[12] - هنا حصل اختلاف في التأريخ المشار إليه في تأسيس مدينة الناصرية وكذلك الرمادي، فالتاريخ في مجمل السجلات والمصادر يشير إلى عام 1869 لتأسيس المدينتين، وربما كان علي الوردي يقصد عام اكتمال إنشاءاتها الحكومية ومباشرة العمل فيها، أي بعد عام من وضع حجر الأساس.
[13] -علي الوردي، لمحات اجتماعية.. الجزء الثالث، صفحة 6.
[14] - يُنظر، مجلة لغة العرب للاب انستانس الكرملي، في ذكرى السعدون لعلي الشرقي، تاريخ المنتفق سليمان فائق بك، العراق بين احتلالين وموسوعة عشائر العراق كتابان لعباس العزاوي، العراق قديماً وحديثاً لعبد الرزاق الحسني، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث لعلي الوردي.
[15] - ضابط وخبير بحري بريطاني كُلف من السفارة البريطانية في اسطنبول لاستكشاف الملاحة النهرية في نهر الفرات، صاحب كتاب "حملة مسح ودراسة نهري دجلة والفرات."
[16]- لغة العرب الجزء الثاني، صفحة 42، 43.
[17]- سليمان فائق بك، عشائر المنتفق، الدار العربية للموسوعات، 2003، صفحة 23.
[18]- خليفة بن حمد النبهاني، التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية، ج 10 المنتفق، مطبعة الجامع الأزهر بمصر، 1344 هجرية، صفحة 23.
[19]- علي الشرقي، ذكرى السعدون، مطبعة الشعب، بغداد 1929، صفحة 7.
[20]- عباس العزاوي، موسوعة عشائر العراق، الدار العربية للموسوعات- بيروت، 2005، مج 3صفحة 38.
[21]- من ملاحظة سجلها علي الشرقي على كتاب عشائر المنتفق لسيمان فائق بك، مصدر سابق، صفحة 21.
[22] - الدكتور علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء الثاني، مطبعة الإرشاد بغداد صفحة 252.
[23] - من مجلة "لغة العرب" صفحة 21، من المجلد الثاني لعام 1912م.
[24] -  عبد الرزاق الحسني، العراق قديماً وحديثاً، في طبعته الثالثة المنقحة، مطبعة العرفان- صيدا عام 1958م، صفحة165- 171.
[25] - عبد الرزاق الحسني، مصدر سابق. صفحة 165.
-[26] عبد الحليم الحصيني، الناصرية تاريخ ورجال، ج 1 ص 61.
[27]- حسن علي خلف، بين السياسة والادارة.. هكذا نشأت مدينة الناصرية،  مقال في صحيفة المدى بتاريخ 24/2/2019
[28] الحصيني نفس المصدر ص 67، والمعلومات عن باب القلعة من لقاء  يذكره الكاتب في الهامش مع الباحث راشد محمد العودة.
[29] - كارل ماركس، الأشكال التي تسبق الإنتاج الرأسمالي عام 1857، النص الأصلي غير مترجم للعربية، أورد أجزاء مختارة منه موريس غودلييه مع مجموعة من المنظرين في كتاب حول نمط الإنتاج الآسيوي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الحقيقة للطباعة والنشر في بيروت، 1972، صفحة 175.
[30] - رسالة انجلز إلى ماركس، في 6 حزيران عام 1853، كراس مراسلات ماركس انجلز، دار الطليعة بيروت، ترجمة جورج طرابيشي، صفحة 55.
[31] - فردريك انجلز، ضد دوهريغ، دار التقدم موسكو، ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن، صفحة 206.
[32]- شاكر مصطفى سليم، الجبايش دراسة أنثروبولوجية لقرية في أهوار العراق، دار المأمون للنشر جمهورية العراق، صفحة 277.
[33] - الوحدة العليا هو الصلة الذي تجتمع حوله جميع الوحدات الصغيرة للأرض، بصفته مالك وحيد أو مالك أسمى متمثلا بشخصية الملك الشرقي، أو شيخ العشيرة بحدود ملكية عشيرته (علية العشائر)، وحتى كائن وهمي كجد أعلى أو مقدس، وما شابه ذلك.
[34] - جان شينو حول نمط الإنتاج الآسيوي صفحة 71.
[35] - رسالة كارل ماركس إلى انجلز في 14 حزيران عام 1853، في الاستعمار، دار دمشق للطباعة والنشر ترجمة فؤاد أيوب صفحة 334.
[36] - يوجين فارغا حول نمط الإنتاج الآسيوي مصدر سابق صفحة 84.
[37] - يوجين فارغا نفس المصدر صفحة 97، 99.
[38] - حول نمط الانتاج الآسيوي، جان شينو صفحة 72.
[39] - المناطق الكردية كانت أقرب لأسلوب الاقطاع العثماني بسبب اختلاف طرق الري المعتمدة على الأمطار وانتشار الجداول والأنهار، مقارنة مع التنظيم الاقطاعي العربي في الوسط والجنوب في اعتماده على الري الحوضي او السيحي. ينظر حول ذلك كتاب "تاريخ مشكلة الأراضي في العراق 1914- 1932، لعماد أحمد الجواهري، وزارة الثقافة والفنون العراقية عام 1978، صفحة 77.
[40]- دورين وورنر، الأرض والفقر في الشرق الأوسط، دار الكتاب العربي بمصر، ترجمة حسن أحمد السلمان، 1950، صفحة 172.
[41] -  - يُنظر، قانون الأراضي العثماني لسنة 1858، إعداد الأستاذ الدكتور خالد عبد القادر الجندي. ومقدمة في الاقطاع ونظام الارض في العراق للدكتور صلاح الدين الناهي. واحكام الاراضي والاموال غير المنقولة للأستاذ شاكر ناصر حيدر.
[42] - عباس العزاوي، موسوعة عشائر العراق، الدار العربية للموسوعات، الجزء الثالث ص 41.
[43] - وربما فاتنا ذكر احدى العشائر أو فرع من فروعها الساكنة قرب المركز، عن غير قصد، لأننا لسنا بصدد الأنساب العشائرية، بل بصدد جغرافية المكان.
[44] - خورشيد باشا، (سياحتنامه حدود Seyâhatnâme-i Hudûd)، ترجمه وقدم له مصطفى زهران بعنوان ( رحلة الحدود بين الدولة العثمانية وإيران)، المركز القومي للترجمة القاهرة، 2009، صفحة 106.
[45]- بيير دي فوصيل، سفير فرنسا، الحياة في العراق منذ قرن 1814- 1914 وزارة الثقافة والاعلام سلسلة الكتب المترجمة، ترجمة الدكتور اكرام فاضل، صفحة 59.
[46] - عبد الله الفياض، الثورة العراقية الكبرى، مطبعة الارشاد- بغداد عام 1963، هامش صفحة 17 و18.
[47]- ينقل الدكتور عماد أحمد الجواهري، في كتابه تاريخ مشكلة الاراضي في العراق، عن الرحالة البريطاني (GEERE) في هامش صفحة 91، تندره " إن الكثير من المناطق في العراق لم تكن تعرف النقود في العراق، لذا فقد كان الأطفال يرفضونها ويفضلون الطعام عليها".
[48]- الدكتور عبد العزيز شريف نوار، تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية حكم مدحت باشا، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، صفحة 389.
[49] - شاكر مصطفى سليم مصدر سابق، صفحة 195.
[50]- عماد أحمد الجواهري، تاريخ مشكلة الأراضي في العراق، دار الحرية للطباعة- بغداد 1978، صفحة 337.
[51]-  شاكر مصفى سليم، نفس المصدر السابق، صفحة 194.
[52] - نفس المصدر السابق، صفحة 23.
[53]- "يا اشكر لعد لبنان شسوي ماشي، كونك تريد تطيب حط بالنواشي"، قصيدة منسوبة لشاعر شاب في اربعينيات القرن الماضي من منطقة النواشي في سوق الشيوخ متيم ببنت من علية العشائر ويظهر من إعلانه إنها شقراء، وصله خبر نية السفر بها إلى لبنان من أجل العلاج.
[54] - الشيخ سالم الخيون شيخ بني أسد في الجبايش كان يأمر عبيده بغسل كلابه بالصابون. يُنظر كتاب الجبايش لشاكر مصطفى سليم دار المأمون للترجمة والنشر 2021، هامش صفحة 199.
[55] - جمعة عيسى صبري الطرفي، أهل الريف في جنوب العراق، الدار العربية للموسوعات، 2006، صفحة 54.
[56]- " عزيمة احضري" مثل متداول عند ابناء العشائر عن ولائم الحضر المدينيين.
[57]- عبد الله الفياض، مشكلة الأراضي في لواء المنتفك، مطبعة سلمان الاعظمي 1956 ، صفحة 162.
[58]  د/ حامد العطية المصدر السابق، صفحة 13.
[59] - عبد الجبار فارس، عامان في الفرات الأوسط، مطبعة الراعي النجف الأشرف 1353 هجرية، صفحة 98.
[60] - عبد الجبار فارس، المصدر السابق صفحة 68.
[61] - محمود الجندي، المشكلة الزراعية في العراق، دار منشورات البصرى 1950، صفحة 32,
[62] -   - شاكر مصطفى سليم، المصدر السابق صفحة 56 و242.
[63] - جمعة عيسى صبري الطرفي، المصدر السابق، صفحة 169. ولقد وصف الاستاذ صادق سعد في كتابه (مشكلة الفلاح المصري) حال الفلاح المصري الذي لا يختلف عن حال أخيه العراقي بوصف علمي بسيط إذ قال ( تألفت في مصر جمعية لمكافحة الحفاء المنتشر في مصر، فراحت تجمع المعونة الخيرية لشراء الأحذية بغية توزيعها على الفلاحين، ولكن هال الجمعية أن ترى الفلاح يعود إلى السوق حاملاً حذاءه بغية بيعه، فقالوا إنه جاهل لا يمكن تمدينه، وفاتهم أنَّ بطنه الفارغة أو جسده العاري حمله على بيع الحذاء ليسد به حاجة أكثر ضرورة من كساء رجله)"، يُنظر محمود الجندي المصدر السابق صفحة 32 
[64]- كارل ماركس:" يزداد الرأسمالي ثراء ليس تبعا لعمله الشخصي واستهلاكه المحدود، كما هو الحال لدى الشخص البخيل. بل بقدر ما يعتصر قوة عمل الآخرين، ويجبر العامل على التخلي عن كل متع الحياة"،. يُنظر رأس المال المجلد الثالث.. نظرية التقشف صفحة 846 وما بعدها. كذلك الشيخ الاقطاعي استنفد طاقة فلاحيه وحرمهم من كل مقومات الحياة ومتعها.
[65]- روت لي زوجتي الراحلة انعام، عن جدتها لأمها، قصة أحد فلاحي عشيرة بني زيد في أرياف كرمة بني سعيد في سوق الشيوخ يدعى حجي شليبة، انطلق من قريته إلى مكة سيراً على قدميه حافياً، وهناك أهدى له السعوديون حذاءً. وعند عودته إلى قريته غدا الحذاء حذاء كل القرية ينتعله الجميع، إن كان كبيراً على قدم أحدهم حشر خرقة بداخلة، وإن كان صغير يلبسه مثل النعال، وصار مضرب مثل " مثل قندرة حجي شليبة" الكل يطلبها.
[66] - جعفر الخياط، القرية العراقية، مطابع دار الكشاف بيروت، 1950، صفحة 34.
[67]- نفس المصدر السابق صفحة 35.
[68]- يُنظر محمود الجندي، المشكلة الزراعية...صفحة 27.
[69]- عبد المجيد حسن ولي، وعلاء الدين الريس، احوال العراق الاجتماعية والاقتصادية، مطبعة الرشيد- بغداد 1946، صفحة 202.
[70]- نفس المصدر صفحة 203.
[71]- شاكر مصطفى سليم المصدر السابق صفحة 26.
[72]- جمعة الطرفي المصدر السابق، صفحة 55.
[73]- شاكر مصفى سليم المصدر السابق، متن وهامش صفحة 229.
[74]- كلُ من عاش وسط المجتمع العراقي لابد إن تطرقت إلى أسماعه يوماً ما عبارة بين المتشاجرين، أهينه أو أهينك "مثل ما أهين مرتي". 
[75]- ميادة كيالي، مكانة المرأة في بلاد ما بين الرافدين وعصور ما قبل التاريخ، الموقع الالكتروني لمؤمنون بلا حدود، مايو 2026، صفحة 34.
[76]- من مأثور دارمي النساء عن الرحى " ما تنسمع رحاي بس أيدي أدير.. أطحن بكايا (بقايا)الروح موش أطحن شعير" 
[77]-  د.رعد العنبكي، الموقع الألكتروني لمجلة كاردينا، 29 شباط/فبراير 2016. الشاعر الشعبي ملا عبود الكرخي (1861-1946) من عشيرة البو سلطان الزبيدية تنتشر مساكنهم في بابل والقادسية وواسط ومناطق اخرى
الكرخي كان ذاهبا الى اقربائه هناك وفي القرية سمع فتاة تغني وهي تدير المجرشة :
ذبيت روحي على الجرش وادري الجرش ياذيها
ساعة واكسر المجرشه وانعل ابو راعيها...هم هاي دنيا وتنكضي وحساب اكو تاليها، فاخذ يكمل بها  حتى صارت ملحمة رائعة.
 
[78]- ألفاظ مشتقة من كلمة سُنة، وهي طريقة، نهج، تصرُّف يتَّبعه أناسٌ من جماعة أو منطقة معيّنة، (معاجم عربية).
[79] وعن الفتاة الفصلية وكيف تساق كقربان لأعراف غاية في الهمجية، وكيف تتلقى خشونة التصرفات والاستغلال المفرط والتسلط، عبر عنها في قصيدة مطولة الشاعر الشعبي ناصر محسن الساري، وغناها المطرب الشعبي عبادي العماري، وجاء فيها ضمن ما جاء: جابوها دفع للدار .. لا ديرم ولا حنه ولاصفگه ..ولا دف النعر بالسلف ..لا هلهوله لا ملكه ..نشدت الناس عن قصة هالبنيه ..شعجب جارو عليها بغير حنيه ..ورديت بگلب حزنان ..من كالولي .. فصلية ..لعنت ظلم التقاليد بألف حرگه ...تتحسر .. تدير العين محد يسمع الشكوه..ومحد يسمع النخوه اهانات وشتايم سود..والسطرات والبلوه ..أسيره اتكول جابوها لا رحمه ولا سلوه يديوان السلف بسك ..فحطنه أمن الفصل والثار والنهوه
يُنظر، حسين مسلم، اغنية الفصلية وحقوق النص بين عبادي والساري، الحوار المتمدن-العدد: 8014 - 2024 / 6 / 20
 
[80]- عباس العزاوي، موسوعة عشائر العراق، ج3، صفحة 109.
[81]- كارل ماركس، رأس المال مج 1، صفحة 52.
[82]- حادث مأساوي حصل بداية سبعينيات القرن الماضي هز سوق الكهربائيين في شارع الجمهورية، مع سائق سيارة حمل وعائلته، يتخذ من هذا السوق ميدان عمل، يدعى أزهر من عشيرة البدور يسكن غرب محطة توليد الطاقة الكهربائية في الناصرية. شقيقته أرمله تسكن معهم في المنزل، خطب حماها وهو ابن عمها ابنتها لابنه وكان أبنه معاقاً رفضته الفتاة بسبب عوقه. اتهم أبوه أمها (زوجة أخيه) على إنها هي التي لقنت الفتاة الرفض وقرر قتلها. ناشده أبوها (عمه) الرجل المسن باسم القربى، وشرح له الالتباس في الأمر وكذلك الأم جاءت بابنتها أمامه ليتعرف على حقيقة من هي الرافضة للزواج. لم ينفع كل ذلك مع الرجل المستهتر نهض وأصلاها الرصاص، تمرغت صريعة بالتراب وانكشف جسمها وهي تتلوى من ألم الرصاص. طلب أبوها من القاتل قائلاً "غطيها عمي هي هم أختك". هربت أبنتها الفتاة الصغيرة مستنجدة بشقيقها وكان يرعى غنماً ليس بعيداً عن منزلهم، شاط الفتى ثأراً لأمه، جاء وأفرغ رصاص مسدسه برأس عمه قاتل أمه وذهب ليسلم نفسه إلى مركز شرطة الثورة. تجمّع بعد ذلك أولاد العم شقيق القاتل والمقتول معلنين عن واجب قتل أزهر وهو لا يعلم بما حصل، خشيةً من ثأره لأخته، وما إن أنعطف مساءً بشاحنته نحو منزله، نازلاً من الشارع العام حتى نهضوا من بين الأحراش ببنادقهم وأمطروه وابلاً من الرصاص مزقوه هو وشاحنته.
[83]- تقصد صاحبة الدارمي هذا شعر العانة.
[84]- ضابط بريطاني برتبة متقدمة خدم في العراق في عشرينات القرن الماضي، زار الأهوار وكتب عنها كتاب (الحاج ريكان أو عرب الأهوار)، ترجمه الدكتور جميل سعد والدكتور ابراهيم شريف مطبعة العاني بغداد عام 1966.
[85]- عماد أحمد الجواهري مصدر سابق صفحة 352.
[86]- صالح حسين الرويح، العبيد في العراق القديم، مطبعة أوفيست الميناء- بغداد، 1977، صفحة 58.
[87]- بسبب لفظة خادشة للشرف حصلت حادثة عام 1983، صاحبها جندي مطوع من عشيرة بني حِسن في سوق الشيوخ. تقدم هذا الجندي بطلب المثول أمام الضابط آمر سريته للمطالبة بما يسمى بالمساعدة يومين، لم يوافق الضابط على طلبه وبعد إلحاح من الجندي نهره الضابط قائلا" روح أخ الكحبة"، أرعد مزمجراً "منو أخ الكحبة" ثم مضى إلى ملجأه وعاد حاملاً بندقيته قتل الضابط مع ضابطين آخرين أرادا التدخل بمسدساتهما ضده، وخرج من مكتب الضابط وقتل نفسه.  
[88]- من قصيدة "الفلاح" للشاعر أحمد الصافي النجفي نظمها عام 1933، وفيها أيضاً " لَكَ فِي الصَّبَاحِ عَلَى عَنَائِكَ غُدْوَةٌ
وَعَلَى الطَّوَى لَكَ فِي الْمَسَاءِ رَوَاحُ
 
هذِي الجِّرَاحُ بِرَاحَتَيْكَ عَمِيقَةٌ
وَنَظِيرُهَا لَكَ فِي الفُؤَادِ جِرَاحُ
 
فِي اللَّيْلِ بَيْتُكَ مِثْلُ دَهْرِكَ مُظْلِمٌ
مَا فِيهِ لا شَمْعٌ وَلا مِصْبَاحُ
 
فَيَخُرّ سَقْفُكَ إنْ هَمَتْ عَيْنُ السَّمَاء
وَيَطِير كُوخُكَ إذْ تَهُبُّ رِيَاحُ
 
هَذِي دُيُونُكَ لَمْ يُسَدَّدْ بَعْضُهَا
عَجْزَاً فَكَيْفَ تُسَدَّدُ الأَرْبَاحُ
 
حَسِبَ الوُلاةُ الحَاكِمُونَ عَلَى القُرَى
أَنْ ثَمَّ أَجْسَادٌ وَلا أَرْوَاحُ
 
قَدْ أَقْسَمَ البُؤْسُ الذِي بِكَ نَازِلٌ
أَنْ لا تَمُرَّ بِدَارِكَ الأفْرَاحُ...
 
 
[89]- كارل ماركس، طروحات عن فويرباخ، الطروحة السادسة، الأرشيف الرقمي "كارل ماركس وفردريك أنجلز"
[90]- كارل ماركس وفردريك انجلز، الأيدولوجية الالمانية، دار دمشق بيروت 1976، ترجمة فؤاد أيوب، صفحة 56.
[91]- مفهمة الوصمة، بروس ج. لينك، وجو ك. فيلان، ترجمة ثائر ديب، مجلة عُمران omran، العدد 31 المجلد الثامن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2020.  
[92]- الجبايش، مصدر سابق.
5- نفس المصدر السابق.
 
[94]- جورج فيغاريلو، تاريخ التعب، دار نشر صفحة سبعة للنشر والتوزيع السعودية 2023، ترجمة محمد نعيم، صفحة 11.
[95]- الجبايش مصدر سابق.
[96]- مفهمة الوصمة مصدر سابق.
*- وتجريد البشر من آدميتهم، مدون بالحديد والنار، فقد تعرضت شعوب وقبائل أصلية في المستعمرات إلى هذا التنميط أو الوصم، في أمثلة لا عد لها في سجل تاريخ الغرب الاستعماري، إلى حد إنشاء حدائق حيوان بشرية (Human zoo) في عدد من بلدان أوروبا أغلق آخرها عام 1958 في بلجيكا، وكان إنشاؤها بأمر من ملك بلجيكا ليوبولد الثاني، ولا يمكن نسيان تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت عن منظمة حماس "نحن نحارب حيوانات بشرية".
[97] Tom Nieuwenhuis, politics and society in Early Modern Iraq: Mamluk, Pashas, Tribal Shayk s and Local Rule Between 1802 and 1831 (Martinus Nijhoff Publishers, the Hague), p. 145
 
[98]- علي الشرقي، مجلة لغة العرب للأب انستانس الكرملي، ج9 من السنة الخامسة، موقع Internet Archive صفحة 538.
[99]- وللتعرف على مزيد من عن العوائل التي سكنت الناصرية عند بداية تأسيسها، يُنظر موسوعة عبد الحليم أحمد الحصيني، الفصل الثالث من الجزء الرابع. مؤسسة الرافدين للمطبوعات، 2013.
[100]- ج ج لوريمر، دليل الخليج القسم الجغرافي، الجزء الخامس، اعداد قسم الترجمة بمكتب أمير دولة قطر 2002، صفحة 100.
[101]- الكسندر أداموف، ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها، ترجمة هاشم صالح التكريتي، دار ميسلون للنشر العراق- بغداد صفحة 55.
[102]- "بالصابون ما تاجرت، وبالبحر ما سافرت، ويهودي ما شاركت، وكيف انكسرت؟" من كتاب اليهود في الامثال العربية العامية والفصيحة، لسعيد بنفرحي، دار السلام للطباعة والتوزيع- الرباط 2013، صفحة 50.
[103]- كارل ماركس، حول المسألة اليهودية، ترجمة د نائلة الصالحي، منشورات الجمل، 2003، صفحة 54.
[104] كارل ماركس، نفس الصفحة والمصدر السابق.
- [105] طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم، دار الحرية للطباعة بغداد، 1976، فصل الأمثال صفحة 157.
[106]- الحصيني، مصدر سابق صفحة، 139.
[107]- "في طنجة لم أر الخبز الكثير الذي وعدتني به أمي. الجوع ايضاً في هذه الجنة، لكنه لم يكن جوعاً قاتلاً. حيث يشتد عليّ الجوع أخرج إلى حي "عين القيوط" افتش في المزابل عن بقايا ما يؤكل.." الروائي المغربي محمد شكري رواية الخبز الحافي، دار الساقي، طنجة 1982، صفحة 10.
[108]- "قيم الركاع من ديرة عفج"، مثل شائع عن اسكافي انتقل إلى منطقة عفج، ولأن الغالبية العظمى حفاة، أفلسَ هذا الاسكافي.
[109]- عبد الرزاق الهلالي، الهجرة من الريف إلى المدينة في العراق، مطبعة النجاح بغداد 1958، صفحة 83.
[110] - مصدر سابق كارل ماركس رأس المال، صفحة 1088.
[111]- عمار يوسف العكيدي، السياسة البريطانية تجاه عشائر العراق 1914- 1945، اطروحة دكتوراه مقدمة إلى جامعة الموصل، المكتبة الاكاديمية لتاريخ الموصل، 2002.
[112]- شيخ قبيلة العبودة، وزعيم منطقة الغراف في الناصرية، وقائمقام الشطرة في العهد العثماني ونائب في مجلس الأعيان في العهد الملكي ويعتبر من أكبر الاقطاعيين في جنوب العراق.
[113]- عمار يوسف العكيدي، صفحة 98.
[114]- المصدر نفسه، ص 176.
[115]-  مذكرات برسي كوكس وهنري دوبس، صفحة من تاريخ العراق الحديث، ترجمة بشير فرجو، مطبعة الاتحاد الجديدة بالموصل، 1951، ص 25.
[116]- العكيدي، ص 157.
[117]- عماد الجواهري، ص 426. 
[118]- المصدر نفسه، ص 427.
-[119] نفسه، 423.
[120]- نفسه، 289.  
[121]- تقرير سري لدائرة الاستخبارات البريطانية عن العشائر والسياسة، ترجمة الدكتور عبد الجليل الطاهر، منتدى أقرأ الثقافي الرقمي، صفحة 53.
[122]- مختارات إنجلز مصدر سابق، صفحة 306.
[123]- ماريون فاروق سلوغت، بيتر سلوغت، من الثورة إلى الدكتاتورية العراق منذ عام 1958، ترجمة مالك النبراسي، منشورات الجمل 2003، صفحة 285.
[124]-  صفحة من تاريخ العراق الحديث، مصدر سابق، ص 45.
[125]- نفسه، ص 113و117.
[126]- أحوال العراق الاجتماعية والسياسية، مصدر سابق صفحة 85,
16- حنا بطاطو، الشيخ والفلاح في العراق 1917- 1958، ترجمة د صادق عبد علي طريخم، دار سطور بغداد، 2018، صفحة 98.
17- حنا بطاطو، العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الكتاب الأول، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الابحاث العربية بيروت، ط 2 1995، صفحة 139.
18- عماد العكيدي، ص 221.
19- نفسه، ص 219.
[131]- الوقائع السياسية اليومية في سوق الشيوخ وهور الحمار لشهر كانون الثاني/ سنة 1919م، برقم 779، تقرير الحاكم السياسي في الناصرية. الملحق هاء 656. تُرجم بجهود خاصة. 
 
 
[132]- حراس الحاصل خلال موسم الحصاد.
[133]- ينظر مجلة آداب ذي قار الالكترونية، مجلد 2 عدد 35 (2021): العدد الخامس والثلاثون القسم الاول يونيو 2021، بحث الاستاذ م. د. سلمان رشيد محمد الهلالي، مشكلة الاراضي بين عشيرتي ال حاتم والمناع في لواء المنتفك حتى عام 1958.
[134]- د. حامد العطية، مصدر سابق، صفحة 25.  
[135]- ماريون فاروق سلوغت، بيتر سلوغت، مصدر سابق صفحة 304.
[136]- نفسه، ص 319.
[137]-  نفسه، ص 321.
[138]- ينظر، السكان في العراق، الفصل التاسع المحاضرة رقم 9، الأرشيف الرقمي لجامعة بابل.
[139]- عماد عبد اللطيف سالم، أوامر بول بريمر المائة ، والغزو الاقتصادي - الديموقراطيّ العظيم، الحوار المتمدن-العدد: 6744 - 2020 / 11 / 26.
[140]- يُنظر، شذى خليل، انتباه لأصحاب القرار السياسي والاقتصادي في العراق، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية.
[141]- القاضي ناصر ياسين حمود، واقع التشريعات العراقية ذات العلاقة بالأراضي الزراعية، الموقع الرقمي لمجلس القضاء الأعلى. 
[142]- يُنظر مروة السوادي، العراق: غسل الأموال عبر مافيا تجريف الأراضي الزراعية، جريدة العربي الجديد الإلكترونية، في 20 اغسطس 2023. 
[143]- البيان الشيوعي.  



#احمد_عبد_الستار (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لنقف ضد العنصرية، ومع الملاكمة إيمان خليف.
- لا صلة لهربرت ماركيوز بالماركسية.
- يسمونها الديمقراطية وهي ليست كذلك
- غزة من يتحمل ويشعر بمأساتها؟
- مذكرات سجين سياسي في العراق ( في سجن الاحكام الخاصة)
- الحق في السكن، علينا أن نسترده
- مداولة...بشأن الغاز والمخدرات وحقول القمح.
- الحجاب بين نظام خامنئي، وجماهير إيران!!
- الغرب و-الإنسان-، ومنْ هو ضحية هذه الكذبة؟
- إنهم يسرقون حتى الفرح
- الاضرابات العمالية في أوربا، إلى أين؟
- لطالما الصراع الطبقي والعامل موجود، يبقى العداء للشيوعية! (ح ...
- عالم أفضل ممكن.
- ما وراء العنف في أمريكا!!
- الناتج الاجمالي المحلي، كذبة لا نصدقها.
- أزمة مصر في نظر السيسي.
- لماذا ينتحر (العشرينيون) في الناصرية؟
- عن سنوات الصراع الطبقي في السودان.
- بمناسبة اليوم العالمي للمرأة الريفية. لنتطرق إلى شيء من معان ...
- لعبة نكز الخواصر بين إيران وإسرائيل، إلى أين؟


المزيد.....




- ريانا تُحوّل السجادة الزرقاء إلى عرض أزياء عائلي وتستعرض حمل ...
- فضيحة محرقة الجثث.. رماد مزيف وجثث متعفنة تشعل حالة صدمة بال ...
- مصر.. أول تعليق من السيسي على تصريحات ترامب حول أزمة سد النه ...
- الجيش السوري يدخل مدينة السويداء وإسرائيل تستهدفه
- أعلى محكمة ألمانية ترفض شكوى بشأن هجوم مسيرة أميركية باليمن ...
- المغرب: فرصة ثانية.. عودة الشباب الى مقاعد الدراسة
- هل دخلت قوات الأمن السورية إلى مدينة السويداء؟
- العراق.. مريض يعزف على العود خلال عملية جراحية!
- الجيش الإسرائيلي يقصف القوات الحكومية السورية في السويداء وا ...
- ما تأثير انسحاب حزب يهدوت هتوراه من الائتلاف الحاكم في إسرائ ...


المزيد.....

- كتاب: الناصرية وكوخ القصب / احمد عبد الستار
- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - احمد عبد الستار - كتاب: الناصرية وكوخ القصب