|
النمرود
عبد الرحيم العلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8398 - 2025 / 7 / 9 - 15:00
المحور:
الادب والفن
قلت للشيخ الجالس على كرسي خشبي صغير، أخبرني عن النمرود، أسمع كل من في المصنع يتحدث عنه، دون أن يفصحوا عن تفاصيل أكثر، وإذا سألت أحدهم يكتفي بقوله اسأل " شيخنا الشيخ"، ثم يفتر ثغره بابتسامة خفيفة، سرعان ما تتحول لقهقهة يصعب عليه التحكم فيها، فهل لك أن تغذي فضولي؟
جِلسته كانت لأخذ قسط من الراحة التي تمنح للعاملين، عشرون دقيقة بالضبط، لا تزيد، وإن نقصت فذاك محبذ لأرباب العمل، فمع توالي السنوات أصبح الإنتاج مقدسا، والإنسان ما هو إلا أداة ينبغي دفعها للكد وبذل كل الجهد لينتج، ما عادت المصانع تتوقف، فوج الصباح، بعده فوج المساء، وقبلهما فوج الليل.
وإذا تأملت في النظام العام للمصانع تجده كمجتمع مصغر، المالكون بعيدون كل البعد عن الصخب، قد تجدهم يحتسون القهوة في دول مختلفة، هناك في فرنسا، أو إيطاليا، أرقام حساباتهم البنكية في تزايد، وهذا جزاء عقلية استثمارية، حين تهيأت لها الظروف اقتنصت الفرصة. بعد المالكين مسؤولون على مستوى عال من الكفاءة وحسن التسيير، ولا يوظف المالكون إلا القادرين على ضمان استمرار الإنتاجية، يغدقون عليهم أموالا طائلة، فبدونهم تنحو الشركة للفوضى التي لا يستمر معها شيء. وبعدهم يبدأ الجهد يزداد، من مسؤولي الموارد البشرية، والمحاسبين، والكاتبات، ومسؤولي الإنتاج، وصولا إلى مراكز الصراع، عمال وعاملات، ومن يراقبهم.
أسفل الهرم القاعدة التي يبنى عليها كل شيء، تتحمل مشاق العمل، كالوقود المحترق للسيارات الفاخرة، التي لا يهتم مالكوها بالمستهلك من الوقود، بقدر ما يلزمه الأداء والسرعة، فمن يركب سيارة " الفيراري" لا ينظر في المبلغ الذي سيدفع في محطة البنزين، يكتفي بمد يده ببطاقة الائتمان.
هذه القاعدة قوية عموديا، متفككة أفقيا، فهي تبذل جهدا جهيدا في عملها، راضية بظروفها القاسية، لكن علاقاتها مع بعضها البعض تكاد تصير تنافرا لا ينجذب، صراعات مستمرة كأن بقاءها رهين بفناء الٱخر.
لقد استجاب الشيخ لطلبي، مشيرا إلي أنه سيخبرني قصة النمرود، التي منذ بداية اشتغالي ترددت في مسامعي، وأعجب لم يبدو العاملون سعداء لما يُذكر. الشيخ يحترمه كل العاملين، هو إمامهم للصلوات، بشوش، وقور، كل كلمة ينطق بها لها في النفوس أثر، يصدق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما وصف الأولياء أنهم إذا رؤوا ذكر الله، وإذا رأيته كأنما لسان حاله يقول: اذكر الله.
من محاسن الصدف، أو الأصح من القدر، أن يكون وقت راحتي نفسه راحة الشيخ، وبعد تردد استمر ثلاثة أشهر منذ توظيفي بالشركة، قررت أخيرا أخذ المبادرة لسؤاله، لاشك أنني هولت وأولت ردة فعله، لكن كل تأويلاتي انهدت مع بشاشة وجه، والتفاتة بهية، وترحاب ما توقعته.
قال لي: يا بني، أيهمك أمر الناس، أن تعرف أحوالهم المختلفة؟ أجبته: لا، إنما تكرر الحديث عن النمرود، فأردت معرفة قصته، خاصة أن العاملين فرحون بمصاب ألم به. ابتسم ثم قال: حق لهم أن يفرحوا، فالنمرود أنت محظوظ لأنك لم تقابله. ـ ألهذا القدر هو مبغوض، فمن يكون! دعاني للجلوس، مد إلي تفاحة، وأخذ واحدة، قضم قضمة، ثم نظر إلي مبتسما: حين التحقت بالشركة، وكنت شابا مثلك، أحتاج عملا لأعف نفسي ووالدي، وزوجي وابنتاي، بشق الأنفس، وبعد بحث أضناني، تيسر العمل هنا، وكما ترى فالمصنع إنتاجه لا يتوقف، أنتم الٱن في نعمة، لأننا اشتغلنا وقتا أطول من وقتكم، من الثامنة صباحا، إلى الثامنة مساء، نرجع إلى المنزل للراحة، ثم في الغد نسلم أنفسنا للرحى تدور لتعصر الزيت من أجسادنا. مع كل الألم الذي كنا نشعر به صبرنا، ومع توالي الأيام ألفناه حتى ما عدنا نشتكي، ما أعاننا لحمتنا وتعاوننا، وما أحب أحد الشر لأحد، انتخبت لأكون ممثل العمال لدى الإدارة، وانتزعنا حقوقا ما كانت لتُمنح لولا نضالاتنا المستمرة.
حنى الشيخ رأسه، حوقل ثم سكت لبرهة، علمت أن شيئا ٱنذاك كدر صفو عملهم، وأكمل: لما التحق بنا رجل رحبنا به، ظهر جليا عليه الحاجة للعمل وكسب قوت اليوم، أوصافه نسيتها لأصفه، فما ترك أثرا طيبا يستحق أن يذكر، نصحته ألا يذِل، فكان نصحي له يستقر في قلبه كرها لي ولأمثالي، طردناه من تمثيلية العمال فقد ثبت أنه أذن الإدارة، رمقته مرات عديدة يقصدها، وبأوقات مضبوطة يوميا.
إذا تذكرت ما يمتاز به فحاسة السمع التي بها يلتقط دبيب النمل، وحاسة البصر التي يرسلها مراقبا العمال، وخطى سريعة نحو الإدارة واشيا، وإني يا بني لا أريد أن أحط من قدر الإنسان، فالله كرمه، لكنني أشبه فعله بفعل كلاب الحراسة، فعله يا بني، وأرجو أن تفهم قصدي. أجبته دون أن أفكر : أفهم قصدك.
لن يدلس شيخ مثله الحقيقة، حاله التي كانت تخاطبني قبل أن أجالسه رسخت في قلبي محبة له، لم يبذل لنيلها غير سمت حسن، وهذا عطاء، ونعم العطاء.
لما شعرت بانشغاله عن الطعام بالحديث، طلبت منه أن يتغذى، أتيت بسلطة خضار، وقليل من اللحم، وموز، فرشت السفرة، ثم قلت له: هذا طعامي، عسى تقبل مشاركتي فيه. رحب بالأمر، بعدها وضع طعامه الذي كان تمرا ولبنا، وفواكه. بسمل بصوت مسموع، بسملت أيضا، ولنستغل الوقت، أتممنا حديثنا بينما نلقم ما يقيم الصلب، ويعين على الجهد.
ثم ما لبثت سائلا: لم سموا الرجل النمرود؟ هل كان طاغية؟ حمد الله بما حمده رسوله الكريم: الحمد لله الذي أطعمني وسقاني من غير حول مني ولا قوة، وأفادني بحديث جليل المعاني والفضل، فقال: أو تدري أن الله يرضى عنك إذا حمدته على الأكلة والشربة! قلت متعجبا: يرضى علي الله! أجاب: نعم، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا. فتتالى قولي الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.
وعاد بي لقصة النمرود التي شعرت كم مرة أنه يتفادى الخوض فيها، ليقول: لطالما حذرته من غِيَر الدهر وصروفه، وأن ما هو مقبل عليه خيبة وخسران، ولكم أمسكت بيدي أفواها لكيلا تدعو عليه، ورغبت عمالا وعاملات تسبب لهم في إيقاف ترقية، أو خصم مرتب، وبعضهم بالطرد، فما وجدت حيلة لكفهم عن سؤال الله الانتصار لهم، وٱخرهم امرأة لطيفة، أخطأت خطأ بسيطا ترصده، فتسبب بطردها، وما أبأس حاله وهو يدعي القوة، ناظرا نحوها حين بلغوها الخبر، جثت على ركبها، وما صبرت فشقت ثيابها كمدا على وظيفة تحتاج أجرها.
وما أجرأه على الله لما ادعى قدرته على إبقاء من شاء بالشركة، وطرد من شاء، حقا كان لا يملك قلبا، إنما صخرة صماء، وعقلا بليدا يظنه فريدا.
سمعنا خصومة بين رجلين، علا صوتهما، وبما أن الشيخ هو ممثل العمال، نهض ليعدل بينهما، كانا من الفريق الذي أعمل فيه، وقد توقعت قبل أن نصل أحد الطرفين، هو رجل يشتغل بجانبي لا يهدأ، يعاني فرط الحركة، ويكاد لا يريح لسانه، في كلام وحركة دائبين، قد يسبك، أو يقلل من قيمتك، لا يلق بالا للنساء اللائي قد يسمعن فحش كلامه، يتدخل في شؤون كل من يشتغلون رفقته، وربما يفضح ما عرف من أسرارهم، وكنت أحمد الله أنه ما عرفني، بالرغم من محاولاته العديدة لسبر أغوار ما يخفى مني، وكما هو معلوم يظل البيت ٱمنا مادامت أقفال الباب عصية على الفتح، وحتى القيل والقال لا يعجبني الخوض فيه، وقد تفاديته مرات عديدة لكيلا ينشب بيني وبينه صراع أنا في غنى عنها، تكفيني شدة العمل وظروفه، أرجع والتعب يسري في كل جزء من جسمي، نفسي مرهقة من أجواء مشحونة أسعى جاهدا لعدم الالتفات إليها، ولكم حاولت تغيير ما استقر في أذهان العاملين معي، لكن إرادة التغيير عندهم كأنها نسج من الخيال.
ما إن رأيا الشيخ حتى هدٱ، وقد بدا عليهما التوتر. قال لهما: لا أريد أن أسألكما عن سبب الشجار، لأنه كيفما كان تافه، ما لكما في هذه الشركة سوى عمل تقومان به، وأجرة ٱخر الشهر، لا شيء مهم لتحقدا على بعضكما. انصرفنا عنهما، وقد تركناهما يؤنبان بعضهما على ما فعلا، في نقاش هادئ أكثر. عدنا لمكاننا، وقد أخبرني أنه تعب من النصح، وما تعبوا من الخصومة، وأن الإصلاح سبيله مضنٍ.
ما بقي من راحتنا الكثير، فأردت أن أعرف مصير النمرود، فعدت به إلى سيرته قبل أن ينقضي الوقت، فبادرته بقولي: ما مصير النمرود الٱن؟ ظهر على الشيخ التحسر، ليقول وقد حنى رأسه: كما روي عن النمرود، أدبه الله بما نظنه أضعف المخلوقات.
بدأ في يوم يجول بين صفوف العمال والعاملات، يختال في مشيته كما عادته، يصفر مزهوا برتبته التي لا تتميز عن بقية القاعدة في الأجر، إلا بالاعفاء من العمل ليتأتى له المراقبة صباح مساء، كان حاملو المسؤوليات الجسام لا يقدمون ولا يؤخرون إذا أمرهم أو صرخ في وجههم أن يلبوا اتقاء شره، ينظرون إليه بطرف خفي، والأكيد أن ما يجول في أنفسهم دعوات لا تصمت.
سلك إلى ٱذاننا صراخ شديد نابع من ألم شديد، عيني لا أرى بها، ويتكرر الصراخ، عيني لا أرى بها، حين اجتمع العمال وجدوه يتقلب في الأرض.
منذ عملي بالشركة ما سمعت صوت بعوضة، ولا وقعت عيني عليها، وكذلك جل العاملين لما سألتهم، حتى رأيناها ذاك اليوم، سرب من البعوض يلتصق بعينيه، تلدغه بلا توقف، وهو يصرخ بأعلى صوته، إلى أن بح، وظل يشير بيديه إلى عينيه، حاولنا مساعدته دون جدوى، لأن البعوض كان مصرا كأنه ينوي سحب ٱخر قطرة دم أو ماء من عينيه. عرفنا بعد الحدث أنه فقد بصره، وبعدها بيوم أرسلت الشركة رسالة إقالته، متمنين له الشفاء العاجل، ومع الرسالة باقة ورد لن يراها.
ظللت أحدق بالشيخ، كنت في خشوع تام مع كلامه، دق الجرس، انتهى وقت الاستراحة، ما تأخر الشيخ، بل قام نشطا، عجل بجمع السفرة، ترك ما فضل من طعام جانبا لعل غيره يستفيد منه، ربت بعد ذلك على كتفي، ثم قال : ها أنت قد عرفت النمرود، فإياك أن تسخر منه كما يسخرون، وفي الشركة كما في الحياة إن استطعت أن تلجها بقلب فارغ، وتخرج منها بقلب فارغ فقد سلمت، وإياك يا بني أن تسجن قلبك وعقلك هنا.
عاجلته بتقبيل رأسه قبل أن يصدني، وما سألت من يومها عن النمرود، ولا ذكرته قط لأحد، وكلما سمعت مجمعا يخوض في سيرته ابتعدت عنه.
#عبد_الرحيم_العلاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجازر المدينة
-
أسطورة الداما
-
ورقة جموح
-
العملة واحدة
-
فرصة العمر
-
نائم ومستيقظ
-
مفارقات
-
في عيد الحب.. وما الحب؟
-
البغل
-
نهيق
المزيد.....
-
يحقق أرباح غير متوقعة إطلاقًا .. ايرادات فيلم احمد واحمد بطو
...
-
الإسهامات العربية في علم الآثار
-
-واليتم رزق بعضه وذكاء-.. كيف تفنن الشعراء في تناول مفهوم ال
...
-
“العلمية والأدبية”.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الثانوية العام
...
-
تنسيق كلية الهندسة 2025 لخريجي الدبلومات الفنية “توقعات”
-
المجتمع المدني بغزة يفنّد تصريح الممثل الأوروبي عن المعابر و
...
-
دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار
...
-
تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025
...
-
-خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
-
لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا
...
المزيد.....
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
المزيد.....
|