أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - بئر السّاراسين














المزيد.....

بئر السّاراسين


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 02:47
المحور: الادب والفن
    


قصّة للكاتب بول أران
نقلها من الفرنسيّة: فتحي البوكاري

حين أُغلقت المسارح، وكان الفراغ أمامي يمتد لخمسة عشر يومًا أو يزيد، علمت مصادفةً أنّ حلق الوادي لا تبعد سوى ستٍّ وثلاثين ساعة بحرًا عن حصن سان جان، لذا قرّرت أن أتوجّه إلى تونس.
قال لي صديقي ماريوس، متنهّداً في استنكار: «فكرة جيّدة، في شهر أوت؟!»
قلت، وأنا أبتسم: «شهر رمضان...»
«نعم! مع اثنين وأربعين درجة في الظل!»
لكنني لم أبالِ بحرّ أوت، فقد اقتادني ماريوس، الخبير ببلاد البربر، إلى صانع قبّعات سبق أن باعه كميات لا تحصى من كرات الخيوط، وجعلني أشتري قبّعة بيضاء من لبّ نبات البلسان، ثمّ قال لي بكل ثقة: « بهذه، يمكنك الآن المشي، دون أن تخشى الشمس وستحظى مع ذلك باحترام العرب.»
وكان محقًا في ذلك، فقد كانت تلك الخوذة عونًا عظيمًا لي، خاصةً خلال رحلة الصيد الأخيرة التي نظّمها راباستول، صديقنا القديم الذي يعيش منعزلا في ظلّ كوخ من القصب الجاف على ساحل خليج صغير ينفتح على البحر.
في تلك الظهيرة، كانت الشمس حارقة، كأنّنا في إفريقيّة على أطراف الصحراء، وكان راباستول يحرّك حساء السمك "البويابيس"، ويسرد لنا قصصًا مدهشة وممتعة عن الأتراك، كما لو كانت من كتب الأساطير.
قال: «تونس؟ ستستمتعون هناك، بالتأكيد، مع هؤلاء الأتراك الطيبين. لطالما كان لدينا نحن، أهل الجنوب الفرنسي، ميلٌ غريبٌ للأتراك!»
وصمت برهة، فلم تسمع سوى صوت اشتعال أكواز الصنوبر، وغليان القدر، وهدير الصخور المجوفة التي تمتلئ وتفرغ مع حركة الأمواج البطيئة.
وحين أصبح الحساء جاهزًا، صبّ في صدف كبير شرائح السمك المذهّبة، ثم أخذ قطعة من العقرب البحري، ورشفة من النبيذ، وواصل حديثه: «الأتراك؟ طيّبون، لا سيّما في الجزائر. كنا أصدقاء لفترة طويلة. ثم، في يوم من الأيام، اختلفنا. كان ذلك بسبب النساء!»
،
قلت له ممازحًا: «ما علاقة النساء بقصف الجزائر واحتلالها؟ لم يكن لهن دور كبير في حادثة المروحة، أو إعلان الحرب، أو قصف الجزائر، أو سقوط الزمالة!»
قهقه وقال: «أنت تتحدّث عن كتب المدارس. أنا أتحدث عنّا، نحن أهالي جنوب فرنسا. نحن كنا قد قطعنا علاقاتنا مع الأتراك منذ سنوات قبل أن يُولد لويس فيليب وعبد القادر!»
وأشار بيده إلى بئرٍ صغير بجانبنا، على طرف الرمال، تكاد مياهه الباردة والمثالية لتبريد النبيذ تلامس الموج: « هل ترون هذا البئر؟ كان يومًا ما البئر الوحيد في قريةٍ صغيرة منتصبة على قمة الرأس، ولم تعد اليوم. كانت النسوة والفتيات ينزلن كلّ مساء لملء جرارهنّ وتبادل الأخبار. لكن الأتراك، بذكائهم، كانوا يعرفون ذلك، فكانوا، كل شهر أو اثنين، يرسلون قاربًا محملًا بالقراصنة، يختبئون خلف الجزيرة، بلا صوت ولا ضجيج. ثم، حين يحين الوقت، ينقضون على البئر، والخناجر بين أسنانهم، يركلون الجرار، ويخطفون النساء والفتيات، ليأخذوهن عبر خليج الأسد، إلى العواصم البربريّة.
في البداية، كان أهل القرية يغضبون. ثم... قبلوا بالأمر الواقع. أتدري لماذا؟
لأنّ النساء المختطفات كنّ يعشن هناك في بحبوحة: يتلقين معاملة حسنة، يلبسن ملابس فاخرة، ويُعطرن بماء الورد، وأحيانًا يُصبحن سلطانات. وهذا كان مصدر فخر للعائلات، إذ أنّهنّ كنّ يرسلن لأقاربهن رسائل مرفقة بقطع نقود تركية، ما سمح للأسر بشراء بساتين الزيتون والكروم. خطف فتاة جميلة كان يعني تقريبًا الثراء!
وكان للأمر مزايا أخرى أيضًا! فقد كانت الفتيات أنفسهنّ يذهبن عن طواعية، والفرحة تغمر الأتراك. من ضاق بها الحال، ومن لم تجد صداقًا، ومن هجرها حبيبها، ومن ملّت زوجها... كلهنّ وجدن في البئر خلاصًا.
في ذلك الوقت، لم تكن هناك نساء مطلقات أو عوانس. لا توجد حاجة للقضاة، أو المحامين، عاش الناس في رضا وانسجام بلا تعقيدات. الأتراك الطيبون كانوا يكفون ويشفون.
ومع الوقت، أصبح البئر مشهورًا. تدفّقت إليه الفتيات من كل صوب ليس من مرسيليا فحسب، وإنّما من كلّ مكان. دائمًا ما كانت هناك امرأة أو فتاة تتسكع وهي تحمل جرّتها، تنتظر الأتراك. حتى أنّ الأتراك ما عادوا يجدون قوارب تكفي!»
وصمت فجأة، أطرق رأسه، ثم رفعه مجددًا وقال بنبرة جادّة: «لكن... كما هو الحال دائمًا، كل شيء يفسد مع الزمن.
ذات يوم، بعد غيابٍ طويل، ظهرت أشرعة بيضاء في الأفق.
– الأتراك! صرخ الجميع.
فاندفعت الفتيات نحو البئر... لكنّ الأتراك لم يأتوا لخطفهن، بل لإرجاع العجائز المخطوفات منذ ثلاثين عامًا!
ثار القرويون ،واندلعت معركة عظيمة قُتل فيها من الأتراك عددٌ كبير، حتّى امتلأ البئر بالجثث، وغُطيت الرمال بالرؤوس والعمائم، إلى درجة بدا فيها الشاطئ كحقلٍ من القرع!
ومنذ ذلك الحين، لم يُرَ الأتراك مجددًا.
رفع ماريوس كأسه وقال: «وللذكرى، صار يُعرف هذا المكان باسم: بئر السّاراسين. لأنّ الأتراك، في زمن أجداد أجدادنا، كانوا يُعرفون أكثر باسم السّاراسين.»
من كتاب "عشرون يوما في تونس"،



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحطُّم منارة وينستانلي
- منارة إدستون: تاريخ هندسي ومغامرة بشرية
- في حضرة السرد وسحر الحكاية: قراءة في الخصال الأدبيّة لمحسن ب ...
- كنز القراصنة، مذكرات طبيب سفينة هولندي، لجورج غارتنر ج2
- كنز القراصنة، مذكرات طبيب سفينة هولندي، لجورج غارتنر - ج1
- وما زال الصوت يصرخ عاليا
- التعبير عن المقاومة الثقافيّة والبيئيّة في شعر محمد العروسي ...
- الشعبويّة في السلطة: تهديد أم تصحيح للديمقراطية؟
- أدب الأطفال في العصر الرقمي: دراسة السرد التفاعلي في كتب الأ ...
- مناورة
- في موقد تحت التحميص
- الأدب في عصر العلم والتكنولوجيا
- علاقة المثقّف بالسّلطة السياسية: رواية الكاتب البوهيمي المتع ...
- غربة
- تأثير أفكار ابن خلدون في الحضارة العربية والغربية
- طوفان العصر(*)
- إنعكاس الخطاب السياسي في رواية -المغتصبون- لسمير ساسي (2)
- انعكاس الخطاب السياسي في رواية -المغتصبون-(1) لسمير ساسي(2)
- غزّة، يا كبدي!
- خبزة البصّيلة


المزيد.....




- 5 منتجات تقنية موجودة فعلًا لكنها تبدو كأنها من أفلام الخيال ...
- مع استمرار الحرب في أوكرانيا... هل تكسر روسيا الجليد مع أورو ...
- فرقة موسيقية بريطانية تقود حملة تضامن مع الفنانين المناهضين ...
- مسرح تمارا السعدي يسلّط الضوء على أطفال الرعاية الاجتماعية ف ...
- الأكاديمي العراقي عبد الصاحب مهدي علي: ترجمة الشعر إبداع يوط ...
- دراسة تنصح بعزف الموسيقى للوقاية من الشيخوخة المعرفية.. كيف؟ ...
- كتّاب وأدباء يوثقون الإبادة في غزة بطريقتهم الخاصة
- حين أكل الهولنديون -رئيس وزرائهم-.. القصة المروّعة ليوهان دي ...
- تكريم الإبداع والنهضة الثقافية بإطلاق جائزة الشيخ يوسف بن عي ...
- أهمية الروايات والوثائق التاريخية في حفظ الموروث المقدسي


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - بئر السّاراسين