|
خطورة الحركات الهوياتية، نموذج روندا
عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)
الحوار المتمدن-العدد: 8384 - 2025 / 6 / 25 - 21:52
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
[ هذا النَصّ هو فَصل مِن كتاب : رحمان النوضة، نـقد الحركات الأمازيغية، نشر غشت 2019، الصفحات 116، الصيغة 13 ]. الحركات السيّاسية الهَوِيَّاتِيَة (identity)، هي الحركات المَبـنية على أساس هَوِيَة تَـكون إمّا عِرْقِيَة (racial)، أو إِثْنِيَة (ethnic)، أو دِينية (religious)، أو طَائِـفِيَة (sectarian)، أو لُـغَوِيَة (linguistic)، أو غيرها مِن الهَوِيَّات المُمكنة. وكمثال على الحركات السياسية الهَويّاتية المشهورة، نَجد مثلًا في العالم الناطق بالعربية : الحركات الكُرْدِيَة، والحركات الأمازيغية، والحركات الإسلامية (لأنها مَبـنية هي أيضًا على أساس هَوِيَة دِينية إِسْلَامِيَة أُصولية)، الخ. قَاعِدَة نَظَرِيَة عامّة : إذا توفّرت بعض الشّروط المُجتمعية، يُمكن لأيّة حركة هَوِيَّاتِيَة (identity)، سَوَاءً كانـت مَبْنِيَة على أساس هَوِيَة عِرْقِيَة (racial)، أمْ إِثْنِيَة (ethnic)، أم دِينِيَة، أم لُـغَوِيَة، الخ، أنْ تُؤَدِّي إلى تَنَاقُضَات مُجتمعية، ثمّ تُؤَدِّي إلى صِراعات حادّة، ثمّ إلى صِدَامَات عَنِيـفَة، ثمّ إلى حَرْب أَهْلِيَة قَاتِلَة وَمُخَرِّبَة. وَحَيْتُمَا وُجِدَت حَركة هَويّاتية في مجتمع مُحدّد، يُمكن أنْ تَتـفاعل هذه الحركة مع عَناصر أخرى قَائمة في هذا المُجتمع. وَغَالبًا مَا تَكون تَـفَاعُلات هذه العَناصر مُتَـعدِّدة، وَمُتَشَـعِّبَة، وَمُعـقّدة، وَبِطُرق غير مُتوقّـعة. فَلْنَتَذَكَّر إِذَن وُجُود أمثلة مُتَـعَـدِّدة من الحركات الهَوِيَّاتِيَة، سَيَدْفَـعُها مَنطقها الدّاخلي، عَاجِلًا أم آجِلًا، إلى إشعال حُروب أهلية قَاتِلَة وَمُخرّبة. ومنها الأمثلة التّألية : 1 ■ نِظام الطَوَائِـف، والمُحَاصَصَة، في لُبـنان. وهو مَبـني على أساس هَوِيَّات دِينِيَة، أو طَائِـفِيَة، أو إِثْنِيَة. وقد أَدَّت الطّائِـفِيَة في لُبـنان إلى اِنْدِلَاع حرب أهلية، دَامَت 15 عامًا بين سنـتي 1975 و 1990. وَنَتَج عن هذه الحَرب الأهلية مَـقْتَل ما يَتَراوح بين 150.000 و 250.000 مُواطن، والعديد من الجَرحى، والمَفـقـودين، والنّازحين، والمَنْـفِيِّين. وفي وقت السِّلم، تُؤدِّي الطّائـفية في لُبـنان إلى تَـعويض المُواطنة العادية بِمُواطنة طَائفية. وَتؤدِّي إلى إلغاء المُنافسة الشَّريـفة فيما بين المواطنين، أو المؤسّـسات، أو الشركات، أو المُقَاوَلَات، الخ. وَتُؤدِّي المُحاصصة الطّائـفية فيما بين الطَوائـف إلى الرَّداءة العَامَّة. وَتَـغْدُو المُراقبة المُتبادلة، وكذلك المُحاسبة المُتبادلة، مُستحيلة. فَيَنْتَشِر فَساد عامّ، وَلَا تَـقدر الدّولة على مُكافحته. وَيَتَوَارَى الصِراع الطبقـي خَلـف الصراع فيما بين الطَوَائف. وَتَصِير "دولة القانون" هي كذلك مُستحيلة. وَتُضْحِي عَـقْـلَـنَـة الدّولة والمُجتمع غير مُمكنة. وَيُصبح المُجتمع، وكذلك مؤسّـسات الدّولة، غَارِقِين في مَنْطق عَبَثِي، أو غير عَـقْـلَانِي. وَيَسـقط مُجمل المُجتمع في سَيْرُورة مُتواصلة مِن التَخَلُّف، أو الانحطاط. وََتُبْـقِـي الطّائـفيةُ الدّولةَ في حالة ضُعف دائم. فَتَـغْـدو الدّولة بِسُهولة أُلْـعُوبَة بين أيدي الـقِوى الأجنـبية العَدُوَّة، وخاصّةً منها الإمبريالية الغربية وإسرائيل. وَتَصِير الدّولة عاجزة عن الدِّفاع عن استـقلالها، أو عن سيّادتها. وَتُصبح البِلاد مُهدّد بالغَزو مِن طرف قِوَى مُعادية. ومنذ أن أَدْخَلت الإمبريالية الأمريكية الطَائـفِيَة إلى العراق (بعد غزوه وتخريبه في سنة 1991، ثمّ في عام 2003)، لَاحَظْنَا في العراق نـفس الظَّواهر المذكورة سابـقًا، والتي شَاهَدْناها في لُبـنان الطّائـفـي. وَكُلّ مُجتمع يَعمل بِنِظام الطّائِـفِيَة، سَتَحدث فيه بالضّرورة نـفس الظّواهر المُخرِّبة. 2 ■ في بِلَاد الجزائر، أدّت الحركات الإسلامية [المَبْنِيَة هي أيضًا على أساس هَوِيَة دِينِيَة] إلى حرب أهلية بين سنـتي 1992 و 2002. وكانـت هذه الحركات الإسلامية تَرفض الـفَصل بين الدِّين والسياسة، والـفَصل بين الدِّين والدَّولة. بَل حَوَّلَت الحركات الإسلامية الدِّينَ الإسلامي إلى خَطٍّ سيّاسي، وإلى بَرنامج سيّاسي دَوْلَتِي، أو مُجتمعي. وَتُريد الحركات الإسلامية فَرض أَسْلَمَة الدّولة، وَأَسْلَمَة المُجتمع بالقُوَّة. وَسُمِّيَت هذه الحرب الأهلية في الجزائر بِـعبارة «العُشَرِيَة السَّوْداء». وكان الجانـبان المُتصارعان في هذه الحرب الأهلية هما : مِن جِهة أُولى حُكومة الجزائر (التي كانت تَـقودها "اللّجنة العليا للدّولة"؛ وكانـت هذه الحُكومة تَتَحَكَّم في "الجيش الوطني الشعبي" (ANP)؛ وَمِن جِهَة ثَانية، مَجموعات أو حركات إسلامية مُتـنوعة، وَمُسَلَّحَة، وَمُكَوَّنَة مِن أشخاص إسلاميين مُتمردين. ومن بين هذه الحركات الإسلامية نَجد خُصُوصًا "جبهة الإنقاذ الإسلامية" (FIS). وكان مُفَجِّر الحَرب الأهلية (في الجزائر) هو إقدام الحُكومة الجزائرية، في سنة 1992، على إِلْغَاء نـتائج الانـتخابات المَحلِّية والبَرلمانية، بعدما فَازَ فيها الإسلاميون بأغلبية المَـقاعد. وأراد الجيش أنْ يَمنـع الإسلاميِّين من السَّيطرة على مُجتمع الجزائر، ثمّ على السُّلطة السياسية، ثمّ فَرض «الشّريعة الإسلامية». وقد اِنْتَهَت الحرب الأهلية بِانْتِصَار القوات الحُكومية، والجيش الحُكومي، وَبِاسْتِسْلَام الحركات الإسلامية، والتي هي : "الحركة الإسلامية المُسَلَّحَة" (MIA)، و "جيش الإنـقاذ الإسلامي" (AIS)، وَ "المجموعة العسكرية الإسلامية" (GIA)، الخ. وبعد عَشْرة سنوات مِن الحَرب الأهلية، بَلغ العَدد الإجمالي لِلْـقَـتْـلَـى ما يَتراوح بين 60000 و 150000 قَتيل، بالإضافة إلى عَشرات الآلَاف مِن المُخْتَـفِين، وَقُرابة 1 مَليون نَازح، وأكثر مِن 20 مليارات دُولار أمريكي مِن الخَسائر المادية. [المعلومات مأخوذة مِن مَوسُوعة "فِيكِيبِيدًيَا" : https://fr.wikipedia.org/wiki/Decennie_noire]. 3 ■ الحركة الصَّهْيُونِيَة هي أيضًا حَرَكَة هَوِيَّاتِيَة. لأنها مَبْنِيَة على أساس هَوِيَة دِينِيَة يَهُودِيَة صَهْيُونِيَة. وَلَوْ أنّ عَناصر خُرافية، أو وَهْمِيَة، تُوجد في هذه الْأَيْدِيُّولُوجية الصّهيونية. وهذه الحركة الصّهيونية هي عَمليًّا مَبْنِيَة على أساس مشروع اِحْتِلَال واسْتِـعْمَار فَلسطين، والتَوَسُّع في ما جاورها. وَكُلَّمَا تَسَرَّبَت، وَتَـقَوَّت، الحَركة الصَّهيونية في أيّ مُجتمع مُحدّد (سواء كان هو إسرائيل أم غيرها)، يُصبح مِن المُمكن أنْ تُؤَدِّي إلى حَرب أهلية. 4 ■ الحركات الكُرْدِيَة هي في جَوهرها حَركات هَوِيَّاتِيَة، لأنها مَبـنية على أساس هَوِيَة عِرْقِيَة كُرْدِيَة. وهدفها هو جمع شَمل الجماهير الكُردية في إطار دَولة كُردية واحدة مُستـقلّة. وَتُوجَد الجماهير الكُردية في مَناطق تَتَخَطَّاهَا حُدود أربعة دُول، هي تُرْكْيَا، وإيران، والعراق، وسُوريا. وقد تَـعرّضت الجماهير الكُردية إلى اِضطهاد من طرف الدُول الأربعة المذكورة، ولو بدرجات مُتـفاوتة، وذلك حسب الظُروف التاريخية المعنية. وَنَـعرف أنّ أوضاعًا مُشابهة لأوضاع الجماهير الكُردية تُوجد في عَدد مِن مَناطق من العالم (في اِفريـقـيا، وأمريكا الـلاتينية، وأسيا، وأوروبا، الخ). حيث أنّ عددًا مِن الشّعوب، أو الأَعْرَاق، أو الإِثْنِيَات، تُوجد مُقَسَّمَة مِن طَرف حُدود دَولتين أو أكثر. وَكَيـفما غَيَّرْنَا حُدُود دُّول العالم، فإن المُجتمعات ستـكون دائمًا مُكَوَّنَة مِن أعراق، أو إِثْنِيَّات، أو طوائـف، مُختلفة. وكان مَوضوعيًّا أن تَطمح الجماهير الكُردية إلى بـناء دولة خاصّة بِالكُرد. وَنَـعرف أنّ مَنْطِق الحركات الهَوِيَّاتِيَة، أو العِرْقِيَة، أو الْإِثْنِيَة، يُـؤَدِّي ألى حُورب أهلية لَا مُنْتَهِيَة. وَتَستمرّ هذه الحُروب الأهلية إلى أنْ يَهلك أحد الأطراف المُتحاربة. وقد أقدمت الحركات الكُردية في تُركيا، والعراق، وسوريا، على تـكوين مِيلِشْيَات مُسلحة. وَمِن وقت لأخر، كانت تَخَوض معارك عسكرية. ومنذ تَـقسيم الإمبراطورية العُثمانية بعد "الحَرب العالمية الأُولى"، تَخوض حركات كُردية نَوعًا مِن "حَرب العِصابات". وَتَتَـقَطَّعُ أو تَتَسَلْسَل هذه المَعارك على اِمْتِداد عُقـود مُتَوَالِِيَة. ويظهر أنّ الـقَضِيَة الكُرْدِيَة لَن تَتَوَقّف غدًا أو بعد غَد. والمُؤسف هو أنّ مَنطق الحركات الهَوِيّاتية الكُرْدِيَة دَفعها إلى التَحَالـف مع الـقِوى السّائدة في العالم. فَتَحَالَفَت الحركات الهَوِيَّاتِيَة الكُردية مع الإمبرياليات الغَربية ومع إسرائيل بِهَدف الاستـقـواء بها. وَبَدَلًا مِن أَنْ تُوصِلَ الحَركاتُ الهَوِيَّاتيةُ الجماهيرَ الكُرديةَ إلى «التَحرُّر الوطني الشَّامِل»، حَوَّلَت الحَركات الكُردية هذه الجماهيرَ الكُرديةَ إلى قِوَى عَمِيلَة، وَتَبَـعِيَة، وَخَاضِعَة. وَتَسْتَـعمل الإمبرياليّاتُ الغَربيةُ وإسرائيلُ الحَرَكَات الهَوِيَّاتِيَة الكُرْدية في حُروبها العُدوانية، ضد دُوَل وَشُعوب المنطقة، في سُوريا، والعِراق، وإيران، وَتُركْيَا. وهذا هو نَقِيض الطُمُوح التَحَرُّرِي الذي كانـت الحركات الهَويّاتية الكُرْدية تَـعِدُ به. …..°°*°°….. وأحسن طَريـقة لِـفَـهْـم خُطورة الحركات السياسية المَبْنِيَة على أساس هَوِيَّة مُحَدَّدة (مثل العِرْق، أو الإِثْنِيَة، أو الدِّين، أو الطّائفة، أو الْلُّغة، الخ)، هي أن نَدرس تَجارب بعض الحركات الهَوِيَّاتِيَة، وأن نُحَلِّل الحرب الأهلية التي نَتَجَت عنها، وأنْ نَتَـعَـلَّـم منها كيـف تَتَـفَاعل الحَركات الهَوِيَّاتِيَة مع عَناصر مُجتمعية، أو دُوَلِيَة، لَا يُمكن أنْ يَتَنَبَّأَ بها أيّ أحد.
وَنَظَرًا لما في الحَركات الهَوِيّاتية، أو العِرْقِيَة، أو الطّائـفية، أو الْإِثْنِيَة، أو الدِّينِيَة، مِِن فَوائد سيّاسية، وَمِن دُروس نَظَريَّة عَامَّة وَهَامَّة، أَعرض فيما يَلي نَمُوذَجَ الحَرَكَة الهَوِيَّاتِيَة في بِلَاد "ارْوَانْدَا" (Rwanda). كما سَأُوَضِّح تَجربة الحَرب الأَهْلِيَة فيها. وَتُوجد "ارْوَانْدَا" في الوَسط الشّرقي مِن قَارّة إفريـقـيا. [والمَعلومات عن الرْوَانْدَا، المُستـعملة في هذا النَصّ، مأخوذة مِن مَوسوعة « فِيكِيبِيدْيَا » [ ,https://fr.wikipedia.org/wiki/Genocide_des_Tutsi_du_Rwanda https://fr.wikipedia.org/wiki/Rwanda ]. وَقد حَدَثَت في بلاد "ارْوَانْدَا"، صراعات بين "الإثْنِيَّتَين" البَارِزَتَيْن، أو العِرْقَيْن الكَبيرين، اللّذيْن هما "التُوتْسِي" (Tutsi)، 15% من السُكّان، و"الهُوتُو" (Hutu)، 84% من السُكّان. وكانـت طائـفة "الهُوتُو" هي الأغلبية السّائدة في البلاد. وكانـت طائـفة "التُوتْسِي" هي الأقلية المَسُودة. وفي سنة 1959، شَجَّعت السلطات المُستـعمرة، وكذلك الكنيسة الكاثوليكية، طَائِفَةَ "الهُوتُو" على القيّام بِثَورة عَنيـفة ضدّ "التُّوتْسِي"، مصحوبة بمذابح عرقية. وأدّت هذه الثورة إلى نـفي قُرابة 300 ألف من التُّوتْسِي في خَارج بِلاد الرْوَانْدَا. واستولت أغلبية الهُوتُو على السلطة السياسية في البلاد. وَأُعْلِن عن «استـقلال» الرْوَانْدَا في 1 غُشت 1962. وكان المُواطنون "التُّوتْسِي" ضَحايا لِصدامات عَنِيـفَة، ولمذابح جماعية. وَاِمْتَدّت هذه الصِدامات بَين سَنوات 1990 و 1994. وحسب المُستـعمرين (الألمانيِّين منذ سنة 1885، ثم البَلجيكيِّين منذ سنة 1923)، ينـقسم المجتمع الرْوَانْدِي التَـقليدي إلى ثلاث مجموعات مُحدّدة على أساس المِهنة. وكانـت هذه المجموعات تُعتبر في نـفس الوقت "أعراقًا" (races) ذات أصول متنوعة. وهي : 1) التُوتْسِي، وهم مُربّون لِلقُطعان؛ وَيُوجد داخلهم أشخاص أثرياء وأقـوياء؛ 2) الهُوتُو. وهم مُزارعون أو فلّاحون؛ 3) التْوَا (twa)، 1% من السُكّان، وهم حِرَفيون، أو عُمّال. بينما الرْوَانْدِيُّون يُمَيِّزُون فيما بين حوالي عِشرين «عَشِيرَة»، وكل واحدة مِن بين هذه «العَشائر» تَتـكوّن في نـفس الوقت مِن هُوتُو، وَتُوتْسِي، وَاتْوَا. وكان سُكان الرْوَانْدَا يتحدثون نفس اللغة، وهي الكِيَنْيَارَوَانْدَا، ويتشاركون نـفس الدِّين. وفي بعض الأحيان، كان الرْوَانْدِيُّون مِن مختلـف المجموعات يَتَزاوَجُون فيما بينهم. بَل كان بإمكانهم الانتقال من طائـفة إلى أخرى من خلال تَرْقِيَة، أو تَزْكِيَة، يُقـوم بها أحد زُعماء العَشَائِر. وأصبحت مصطلحات "الهوتو" (بِمَعنى العَامَّة) و"التوتسي" (النُبَلَاء) بمثابة مَرْجِع أساسي لِهوية المُواطنين الرْوَانْدِيِّين، وتُوجد أيضا قَوميّات "الهُوتُو" و"التُوتْسِي" في البلدان المجاورة لِارْوَانْدَا، مثل البُورُونْدِي، وَأُوغَانْدَا، والزَّائِير، وَطَانْزَانْيَا. وفي إطار سيّاسة «فَرِّق تَسُد»، كان المُستـعمرون الأوروبيُّون يَمنحون بعض التَسْهِيلَات إلى أقلِّية التُوتْسِي في مَجالات التـعليم، وفي التَوْظِيـف في إدارة الدّولة. لكن خلال فَتـرة المُطالبة بِـ «الاستـقلال الوطني» عن المُستـعمرين الأوروبيِّين، كان "التُوتْسِي" في طَلِيعة هذا النضال الوطني. وخلال نـفس الـفتـرة، كانـت آنذاك سَائدة في العالم «الحَرب البَاردة» بين المُعسكر الشَّرقـي الاشتـراكي، والمُعسكر الغَربي الرأسمالي. فَكانـت الإمبرياليات الأوروبية تُصَنِّـف "التُّوتْسي" ضِمن «الحَركات الشيوعية» العَدُوَّة. فَانْـتَـقَلَت تَـفضيلات أو تَحالـفات الإمبرياليات الغَربية مِن أَقَلِّيَة "التُوتْسِي" الوَطَنِيِّين إلى أغلبيّة "الهُوتُو" المُسالمين. ورأى المُستـعمرون الأوروبيّون أنّ مَصالحهم تَقتضي الاعتماد على أغلبية "الهُوتُو" ضِد أقلية "التُوتْسِي" ذَاة النَّزْعَة السياسية الثَّورية، أو الوطنية، والطُمُوح إلى الاستـقلال الوطني. ومنذ سنة 1959، كان المُستـعمرون يُسجِّلون الهَوِيَة العِرْقِيَة في بِطاقة التـعريـق الشّخصية. وكانـت الدِّعاية السّائدة تُروِّج أن إِثْنِيَة "التُوتْسِي" (الوطنيِّة) هي أجنـبية عن بلاد الرْوَانْدَا. وكانـت الاعتـداءات العَنيـفة المُسلّطة على "التُوتْسِي" تُجبرهم على اللجوء إلى المَنْـفـى في البلدان المُجاورة (مثل أُوجَانْذَا، والبُورُونْدِي، والكُونْجُو كِينْشَاسَا، الخ). وفي سنة 1959، خلـق بعض "الهُوتُو" حزبا سياسيا (بَارْمِي هُوتُو Parmehutu) خاصًّا بهم كَـعِرْق، للدِّفاع عن مصالحهم. وَنَظّم "التُوتْسِي" «الجَبهةَ الوطنيةَ الرَّوَانْدِيَةَ» (Front Patriotique Rwandais FPR). وحدثـت في رْوَانْدَا مَذبحة كبيرة "لِلتُّوتْسِي" في ديسمبر 1963، وَقُتل أثناءها ما يَتراوح بين 8000 و12000 شخص. وكانـت دائمًا رغبة العَودة مِن المَنـفـى تُراود المَنْـفِـيِّين "التُوتْسِي". وكان تَـكَاثُر السُكَّان، وتـزاحمهم على أراض غير كافية، يَزيد في حِدَّة المُنافسة أو الصِّراعات فيما بين مختلـف المَجموعات العرقية. وبعد عُقُود مِن التَـعبير عَن الأحقاد والكَراهيّات المُتبادلة بين العِرْقَيْن، أو الـقَومِيَّتَين، "الهُوتُو" و "التُّوتْسِي"، كانـت الرّغبة في تَصفية الحسابات فيما بين المَجموعات العِرْقِيَة مَوجودة، وَمُتصاعدة، وقويّة. وفي سنة 1987، أنشأ "التُوتْسِي" المَنْـفِيّون في بلاد أُوغَنْدَا المُجاورة "الجبهةَ الوطنية الرْوَانْدِيَة" (FPR). وفي أغسطس/آب 1988، وفي بِلاد بُورُونْدِي المُجاورة، تَسبّبت حرب أهلية، دَامت أسبوعاً، بين "الهُوتُو" و "التُوتْسِي"، في مقتل قرابة 60 ألف ضحية، معظمهم من "الهُوتُو". وبين سنـتي 1991 و 1992، وقعت مجزرة لِمَجموعات مِن التُّوتْسِي بَاجُوجْوِي (Tutsi Bagogwe). وكانـت جَرائد، وإذاعات، تَابِـعة لِـ "الْهُوتُو"، مثل إذاعة "ألـف هَضَبَة"، وإذاعة "مُوهَابُورَا" (Muhabura)، وإذاعة RTLM، وَمَجلّة "كَانْجُورَا" (Kangura)، الخ، تَنْشُر أقـوالًا تُشارك في تَأجيج النّزْعَات الهَويّاتية، أو العِرقـية، أو العُنصرية. وكانـت الدِّعاية العِرقـية تَنْهَى عن مُمارسة التجارة، أو الزّواج، مع الطّائـفة العِرقـية المُنافسة. وكانـت إذاعة "ألـف هَضبة" تَدعو صراحةً إلى «تَصْفِيَة التُّوتْسِي». وكانـت خُطَب هذه الإذاعات تصف جماهير "التُّوتْسِي" باعتبارهم عِرْقًا مُتَمَيِّزًا، أو فئةً مُتَدَنِّيَةً مِن البَشر، وَتَستحق أنْ تُعامل بِـعُنيف. وخلال المرحلة التي سَبِـقَت وُقُوع الإبادة الجماعية، كان يَسود في المُجتمع الرَّوَانْدِي شُعور بالإفلات من العقاب. كما أنّ "دَولة الـقانون" لم تَكن قَائمة. حيث أنّ كثيرًا مِن الأفعال المُجَرَّمَة قَانونيا بَـقِيَت بدون مُحاسبة ولا عِـقاب. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1993، قَام بعض مُقاتلي "تُوتْسِي" باغتيال الرئيس "مِيلْشْيُور نْدَادَايْ" في دولة بُورُونْدِي (Burundi) المُجاورة. وهو الرئيس المُنـتخب حديثًا في بُورُونْدِي. وهو رئيس مِن أصل "هُوتُو". وأشعل هذا الحَدث فَتيل حرب أهلية في بلاد بُورُونْدِي. وأدّى إلى تَدَفُّـق اللاجئين، من "الهُوتُو" و"التُوتْسِي"، الهَاربين مِن بُورُونْدِي إلى جنوب رْوَانْدَا. وفي 6 أبريل/نيسان 1994، حَدث هُجوم بالـقُرب مِن مَطار مدينة كِيجَالِي. وَأَدَّى إطلاق صاروخ على طائرة رئاسية تحمل رئيسي جُمهوريتي رْوَانْدَا وَبُورُونْدِي إلى مقتل هذين الرئيسين وَمُرافـقيهما. ولم يُحَدَّد بدقّة مَن هو المَسؤول عن إطلاق هذا الصّاروخ. لكن التُهْمَة كانـت تُُوَجّه بشكل عام إلى "التُوتْسِي". وكان هذا الحَدث هو مُطْلِق حَرب أهلية في الرْوَانْدَا. فَانْدَلَعت إبادة جماعية لِـ "التُّوتْسِي" على يَد مُتطرفين "هُوتُو". وبين أيّام 7 أبريل و 17 يُوليوز 1994، اِنْـفَجَرت الأحقاد العِرْقِيَة الـقَديمة الدَّفِينَة. وانْطَلَقَت مُحاولة لِإنجاز إِبَادَة جَمَاعِيَة لِـجماهير «التُّوتْسِي». وأقامت مِيلِشْيَات مِن "الهُوتُو" حَواجز على الطرق في العاصمة كِيغَالِـي، ثمّ في بقية أنحاء بلاد الرْوَانْدَا. وقامت باغتيال الأشخاص "التُوتْسِي" الذين يحملون بطاقات هويّة «تُوتْسِيَة»، أو الذين هُم مَحسوبون على هذه المَجموعة العِرقية. ودامت الإعدامات خلال ثلاثة شُهور. وكانـت الحكومة الـقائمة، وكذلك إذاعة "ألـف هَضبة"، تُذِيع تَـعليمات لِقَتل الأشخاص "التُوتْسِي". وشاركت في تَوجيه الاغتيّالات مِيلِشْيَا تَابِـعَة لِرئيس الجُمهورية، وفرق من الجيش، أي مِن "الـقُوّات المُسلّحة الرْوَانِدِيَة FAR" (وهي مُكوّنة في مُعظمها مِن «الهُوتُو»). وكانـت إسرائيل آنذاك تَبيع الأسلحة إلى حكومة "الهُوتُو" رغم اِتِّهام هذه الحُكومة بِمُمارسة الإبادة الجماعية. وظهرت بعض النِدَاءَات الدّاعية إلى وَقْف العُنف، وإلى السِّلم، وإلى المُصالحة، لكنها بقـيت بدون تأثير. والْتَزَمَت بِنَوْع مِن «الحِيَّاد»، أو بِصِنْف مِن «عَدم التَدخّل»، كُلٌّ مِن الـقُوّات الـفرنسية المُتَواجدة في غَرب الرْوَانْدَا في إطار عَمليّة "الـفَيْرُوز (Opération Turquoise)، وكذلك قُوّات "بِعْثَة الأمم المتحدة" (MINUAR). ولم تَتـدخّل هذه القُوّات لِوَقف المجازر، وَلَا لِتَـقديم المساعدة إلى المُواطنين الرْوَانْدِيِّين المُهَدَّدِين بِالقَتل. وفيما بعد، بَيّنـت تَقارير المُخابرات الـفرنسية (المُفرج عنها) أنّ فرنسا (تَحت حُكم الرئيس الـفرنسي الاشتراكي فْرَانْسْوَا مِيتِيرَان F. Mitterand) كانـت تَعلم بِوُجود «تَطْهِير عِرقي» ضدّ "التُوتْسِي". لكن الرئيس الـفرنسي لم يُرِدْ فِـعْل أيّ شيء لإيـقاف هذا «التَّطهير العِرقي». وَلِاعتبارات سيّاسية غير مُعلن عنها، كان الرئيس الـفرنسي فْرَانْسْوَا مِيتِيران يَرفض مُعاقبة الأشخاص "الهُوتُو" المسؤولين عن الإبادة الجماعية. وتـدريجيًا، وَمِن خلال معارك عسكرية، تَحوّلت الحرب الإهلية إلى صالح "الجبهة الوطنية الرْوَانِدِيَة FPR". وكان قائد قُـوّات "التُّوتْسِي" هو بُول كَاجَامِي (Paul Kagame). وفي يوم 4 يوليوز 1994، هَزَمَت «الجبهةُ الوطنيةُ الرَّوَانِدِيَةُ FPR» (وهي تُّوتْسِيَة) «الـقُوّاتَ المُسلّحةَ الرْوَانْدِيَةَ FAR» (وهي مُكوّنة مِن الهُوتُو)، وَأَحْكَمَت سَيطرتها على عاصمة "الرْوَانْدَا". وَاعْتُبِرَ يوم 17 يُوليوز 1994 بِمَثَابَة نِهاية "الإبادة الجماعية" في "الرْوَانْدَا". وهو اليوم الذي أَنْهَت فيه "الجبهة الوطنية الرْواندية FPR" سَيطرتها على مُجمل بِلاد الرْوَانْدَا. وَفَرَّ قُرابة 1 مليون ارْوَانِدِي "هُوتُو" مِن الرْوَانْدَا إلى بلاد "الزَّايِير" المُجاورة. وَخَوفًا مِن تَـقدّم الـقُوّات المُسَلَّحة التّأبعة لِـ "الجبهة الوطنية الرواندية FPR" (وهي مُكوّنة من "التُّوتْسِي")، وخوفاً مِن إِقدامها على الانتـقام، اُضْطَرَّ إلى الـفِرَار، أو إلى الهِجرة، مَليون وخمسمائة ألف من "الهُوتُو" إلى غرب بلاد الرْوَانْدَا. وكان بعض المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رْوَانْدَا يُـقيمون في مُخيمات اللّاجئين في بِلَاد الزَائِير Zaire المُجاورة. ثم قام هؤلاء "الهُوتُو" بغارات عُدوانية وَدَموية على رْوَانْدَا بين عامي 1994 و1996. وأدّت هذه الغارات إلى تَدخّلات رْوَانْدِيَة في داخل الزَّائِير Zaire. وقد تَسَبَّبَت هذه التدخلات بدورها في تأجيج الحرب الأهلية الأولى في الكُونْـغُو المُجاورة، ثم في حرب الكونغو الثانية، التي شاركت فيها نحو عشرة دول أفريقية، وَأَوْدَت بحياة ما يَتـراوح بين 3 و 4 ملايين كُونْـغُولِـي. وفي 18 يوليوز/تموز 1994، أعلنت "الجبهة الوطنية الرواندية FPR" وَقْفَ إطلاق النّار من جانب واحد. وفي يوم 19 يوزليوز 1994، أعلنـت هذه الجبهة عن «تَشكيل حُكومة وحدة وطنية خلال فترة انـتـقالية تَدُوم خَمس سنوات». وعيّنـت "الجبهة الوطنية لِارْوَانْدَا FPR" بَاسْتُور بِيزِيمُونْـغُو (Pasteur Bizimungu)، وهو من "الهُوتُو"، وَعُضو في "الجبهة الوطنية الرواندية"، رئيسًا لدولة الرْوَانْدَا. وَعَيَّنَت بُول كَاغَامِي (Paul Kagame)، قائدُ جَيش "الجبهة الوطنية الرواندية"، نائبًا لرئيس الجُمهورية. كما عَيّنَت "الجبهة" فُوسْتِينْ تُوَاجِيرَا مُونْـغُو (Faustin Twagiramungu) رئيسًا للوزراء، وفقًا لما نصّت عليه اتفاقيات أَرُوشَا (Arusha) السّابقة، المُوقّعة في غُشت 1993. وهذا الأخير هو مِن بين النَّاجِين من الإبادة الجماعية، ومنذ سنة 1996، عاد مُعظم الْلَّاجئين "الهُوتُو"، على شكل مَوجات مُتَتَالية، إلى الرْوَانِدَا. وَأُدْمِج مُعظم جنود "الـقـوات المُسلّحة الرْوَانِدِيَة FAR" (هُوتُو) في "الجيش الوطني الرْوَانِدِي" (وكانـت أغلبيّته مِن التُّوتْسِي). ونظرا لِمُعاناة ضحايا الإبادة الجماعية، فإنّ التَعايش بين المُتَّهَمِين "الهُوتُو" والضَّحايا "التُوتْسِي" أصبح صعبًا. وَوَجدت دولة الرْوَانْدَا صُعوبات كثيرة في محاكمة مَلَايِين مِن المُتَّهمين بالمُشاركة في ارتـكاب جرائم إبادة جماعية. وعلى عكس بعض الأطروحات التي تَنْـفِـي وُجود الإبادة الجماعية في الرْوَانْدَا، فإن الأمم المتحدة (UNO)، ومنظمة الوحدة الأفريـقـية (AUO)، و "المحكمة الجنائية الدولية لِرُوَانْدَا" (TPIR)، والبَرلمانات الرْوَانْدِيَة، والبَلْجِيكِيَة، والفَرنسية، تُؤكِّد كلّها أن الأحداث التي وَقَعت في رْوَانْدَا، في عام 1994، هي إبادة جماعية. وأشارت تقديرات "لجنة التحقيق" المُكَلّفة مِن طرف "الأمم المتحدة" (UNO)، أنّ هذه الإبادة الجماعية (في ارْوَانْدَا)، في سنة 1994، أَوْدَت بحياة مَا بين 800 ألـف و 1 مَلْيُون مُواطن رُوَّانْدِي تُوتْسِي. وَاتُّهِمَت "الجبهة الوطنية الرْوَانْدِيَة FPR" المُنتصرة، بِقتل ما قد يَتـراوح بين 25 و 45 ألـف شخص مِن "الهُوتُو". وَتَـعَرَّضَت قُرابة 500 ألـف امرأة تُوتْسِيَة إلى العُنـف الجِنسي. وَتَعرّضت قُطعان الماشية إلى النَّهب أو التَخريب. وفي سنة 2000، اِستـقال رئيس الرْوَانْدَا بَاسْتُور بِيزِيمُونْجُو، وَعَيَّن البَرلمان بُولْ كَاجَامِي رئيسًا لِلجُمهورية في مَحلّه. وفيما بعد، أي بعد اِنـعقاد "المحكمة الجنائية الدولية لِرُوَانْدَا" في عام 2008، اِعتبر بعض الشُّهود، وبعض المُلاحظين أنّه، نَظرًا لِتَرَاكُم الأحقاد العِرْقِيَة، كانـت هذه الإبادة الجماعية ستحدث حتّى لَوْ لَم يحصل ذلك الاعتـداء على تلك الطّائرة الرئاسية (في 6 أبريل 1994). واختلـف كثير مِن الشهود والخبراء في مَجال الجواب على السُّؤال التّألي : «هل كانـت الإبادة الجماعية مُبَرْمَجَة، وَمُخَطَّطَة، وَمُدَبَّرَة، وَمنظّمة» ؟ واعتبر بعض الملاحظين أنّه، بَـعد عَشرات السِّنِين مِن تَراكم الأحقاد والكَراهيّات العِرْقِيَة، أصبح مُحتملًا، أو مُتَوَقَّـعًا، بَلْ مُحَتَّمًا، وُقُوع مُحاولة الإبادة الجماعية، حتّى لَوْ لَم تَـكن مُخَطّطة، أو مُهَيَّأة، أو مُنظّمة، أو مُدبّرة. وَتُوجد "اِتِّـفاقية دُولية لِلْأُمَم المُتّحدة"، تَتَـعَـلَّـق بِمَنع جريمة الإبادة الجماعية ومُعاقبتها. وهي الاتّـفاقية المُؤرّخة بِـ 9 ديسمبر 1948. وَتُـعَرِّف هذه الاتفاقية «الإبادة الجماعية» بِكَونها «ارتكاب جريمة بِقَصد تَـدمير كُلِّي أو جُزْئِي لِجَماعة وطنية، أو عرقية، أو عنصرية، أو دينية». أَيْ أنّ الـقَتل في «الْإِبَادَة الجَمَاعِيَة» يُمارس على أساس «الهَوِيَة»، أو «العِرْق»، أو «الْإِثْنِيَة»، أو «الدِّين»، أو «الْلُّـغَة»، الخ. وكانـت أغلبية ضَحايا هذه الْإِبَادة الجَماعية من "التُوتْسِي" (أي مِن الـقَـوْمِيَة الأقلِّية المَسُودَة). كما قُتِل كذلك أثناء هذه «الإبادة الجماعية» الأشخاص "الهُوتُو" (من الأغلبية السّائدة) الذين أظهروا تضامنهم مع أَقَلِّيَة "التُوتْسِي"، حيث اُعْتُبِرُوا «خَونة» لقضية "الهُوتُو". وَقبل اِنْدِلَاع الإبادة الجماعية، كان مِن بَين أسباب هذه المجزرة الأخيرة، أنّ النَّوَاة الصَّلبة في الدّولة الرْوَانْدِيَة (Rwanda)، كانـت تَرْفُض إعادة دَمْج المُواطنين "التُوتْسِي" (Tutsi) الذين كانوا مَنْـفِيِّين في خارج ارْوَانْدَا. وكانـت دولة فَرنسا تُدَعِّم سُلطة "الهُوتُو" السياسية القائمة في الرْوَانْدَا خلال عَمَلِيَة نُورْوَا (Noroit). وكان هدف عمليّة "نُورْوَا" هو مَنـع "الجبهة الوطينة الرْوَانْدِيَة FPR" (تُوتْسِي) من السّيطرة على ارْوَانْدَا. وكانت السّلطة السياسية في الدّولة الرْوَانْدِيَة تَتَـكَوّن من أَغْلَبِيَة "الهُوتُو" (Hutu). وكان الصِّراع يَجري بين أَغْلَبية "الهُوتُو" مِن جهة أولى، ومن جهة ثَانية أقلّية "التُوتْسِي" (Tutsi). وكانت "الجبهة الوطنية الرْوَانْدِيَة FPR" المُعارضة تَتَـكوّن مِن مُواطنين «تُوتْسِي». وكانـت السّلطة السياسية (الهُوتُو) تَتَّهِم هذه "الجبهة الوطنية الرْوَانْدِيَة" (التُوتْسِي) المُعارضة بِـكَونها تُريد «فَرض عودة الأشخاص التُّوتْسِي المَنْـفِيِّين مِن الخَارج إلى بلادهم الرْوَانْدَا، واستيلائهم على السلطة السياسية بِالقُوَّة». وكانـت آنئذ الدُّوَل المُؤثِّرَة في المَنطقة (وخاصّة منها الدُّول الغَربية الإمبريالية، مثل فرنسا، وبلجيكا، وحتى الأمم المُتّحدة) تَتَجاهل، أو تَتَـعامى، عن وُجود هذه المَذبحة. وَلَم تَـكن تَـعتبر هذه المَذبحة «إبادة جماعية». كما كانـت مُعظم السِفَارات الغربية (الموجودة آنذاك في ارْوَانْدَا) تَعْرِف ما يَجري في البلاد. لكن دُولها المَعنية لم تَـقم بواجباتها بهدف تَـقديم المُساعدة لِجَماهير مُهَدَّدة بِالـقَتل، أو مُهدّدة بالإبادة الجماعية. وفي عام 1996، تَحالفت رْوَانْدَا مع أُوغَنْدَا، ومع المُتمردين الزَّايْرِيِّين في شرق زَائِير، وَغَزت بِلَاد زَائِير، وَسَاعدت الجَبهة المُتمرّدة بقيادة لُورَانْ دِيزِيرِيه كَابِيلَا L. D. Kabila، وذلك بهدف التَـغَلّب على مُرتكبي الإبادة الجماعية الذين كانوا مُتَمَرْكِزِين في دولة زَائِير المُجاورة. كَمَا أَطَاحَت هذه العَمليّة بِرَئِيس زَائِير مُوبُوتُو سِيسِـي سِيكُو Mubutu Sésé Sekou في مايو/أيار 1997. وفي عام 2008، اِنْـعَـقَـدت "المحكمة الجنائية الدولية لِرُوَانْدَا"، لِلْـفَصل في تُهم الإبادة الجماعية، وَارْتِـكَاب الجرائم ضد الإنسانية. وَبَيَّنَت تَجربة ارْوَانْذَا أنّ مَا يُسمّى بِـ «المُجتمع الدُّولي» (بما فيه "الأمم المُتّحدة") غَير قَادر على اتخاذ الإجراءات العاجلة، أو الفَـعَّالة، أو الْـلَّازمة، لمعالجة الأزمات الإنسانية النَّاتجة عن الصراعات العِرْقِيَة المُسلّحة. ومع ذلك فإن مَجازر التُوتْسِي كانت مُستمرة، حتى في "المنطقة الأمنية" التي كانـت فرنسا تسيطر عليها. وفي عام 2003، أُنْتُخِبَ بالاقتـراع العام بَرلمان جديد لبلاد الرْوَانْدَا. وكانـت قُرابة نصفه من النساء (49%). وَوَضَع رئيس الجمهورية الرْوَانْدِي بُول كَاغَامِـي P. Kagame (وهو القائد السابق لِـ "جبهة التحرير الوطنية الرواندية") دستورًا جديدًا يُنهي التَمييز فيما بين الطَوائـف، أو الأعراق، أو الْإِثْنِيَّات. وتمّ التّصويت عليه باستـفتاء شعبي. وصَادَق البرلمان على قـوانين تُجَرِّم «الحَلَقِيَة»، أو «النَّزْعَة التَـقْسِيمِيَة»، أو «التَمْيِيز فيما بين الهُوتُو والتُّوتْسِي»، في الميادين المَدَنِيَة، أو السيّاسية. ثم أُعِيد انـتخاب بُول كَاجَامِي رئيسًا لِارْوَانْدَا في سنة 2010، ثم في عام 2017، بِـ 98% مِن أصوات النّاخبين. ومنذ سنة 2003، أصبحت رْوَانْدَا تَحْظَى بِتَـقدير إيجابي مِن طَرف مُجمل الدبلوماسية الدولية. حيث لَاحَظَت مُعظم دُوّل العالم أنّ ارْوَانْدَا وَحُكومتها تُمارسان «الحُـكم الرَّشِيد». وَتَسْتخدمان أمْوال المَانِحِين على النّحو الأمثل لصالح البَرامج المُجتمعية المعنية. وَتُـكافح عَلنيةً دَولة ارْوَانْدَا ضدّ اختلاس الأموال العُمومية، وضدّ تَبْذِير المُمتلكات العامة، وضدّ الرَّشوة، وضدّ الفَساد. وابتـعدت الدَّولة الجديدة في ارْوَانْدَا عن مَجموعة "الفْرَانْكْـفُونِيَة". ودخلت ارْوَانْدَا في تَنْمِيَة اقتصادية هَامّة لم يسبق لها مثيل في إِفْرِيقيا. الشيء الذي دَفع بعض الدّول الإمبريالية الغَربية إلى مُناهضة الرْوَانْدَا على جميع المُستويات. وَتُقدِّم بعض الدُول الإمبريالية الغَربية الرْوَانْدَا على أنها «دِكْتَاتُورية مُعادية لِلدِّيموقراطية وَلِحُقـوق الانسان». لكنّ علاقات الرْوَانْدَا مع الدُّول المُجاورة لها أَخَذَت تَتَحسّن. وَيَبلغ عدد سكان رْوَانْدَا 13,9 مَليون نسمة في سنة 2023 ( +2.3٪ سنويًا بين عامي 2012 و 2022). وَيُتَوَقّع أنْ يصل عدد سكان رواندا إلى 23.6 مليون نسمة بحلول عام 2052. وَتُوجد في رْوَانْدَا أكبر كثافة سكانية في القارة الأفريقية (501 نسمة في كل كيلومتر مربع في عام 2022. وستـرتـفع الكثافة السُكّانية إلى 894 نسمة في كل كيلومتر مربع في العام 2052). لِنَتَسَاءَل الآن : كيـف حَدَث التَحَسُّن المُجتمعي في الرْوَانْدَا، الذي أَتَت به الـقـيّادة السياسية الجَديدة (المُعادية لكلّ تَمْيِيز عِرْقِي، أو إِثْنِـي) ؟ خَاصّةً وأنّ هذه المِنطقة مِن إفريـقـيا ظلّت تَعيش في الـفَوضى السياسية، وفي الحُروب الأهلية. لَقَد تَطوّرت في ارْوَانْدَا نِسْبَة السُـكّان الذين يعيشون تَحت عَتَبَة الـفَـقْر مِن 60% في عام 2016، إلى 38% في عام 2001. وَتُمثِّل النِّساء 55% من الوُزراء في رْوَانْدَا، و 61% من البَرلمانِيِّين (أوّل بَرلمان في العالم أغلبيته مِن النِّساء). وفي عام 2007، أَلْغَت رْوَانْدَا عُـقـوبة الإعدام. وَتُنـفـق الدّولة الرْوَانْدِيَة الجديدة 27% من الميزانية على الصِحَّة، و 19% على التّعليم (بين سنـتي 2000 و 2007). وأصبح التَّـعليم إلزاميًّا في ارْوَانْدَا إلى حُدود سِنّ 18 عامًا. وانـتـقل الوُلُوج إلى التـعليم مِن 7,5% إلى 96%. ومنذ عام 2010، يُـقَدَّم التَّـعليم العُمُومِي حَصريًّا باللغة الإنجليزية. وَيَتَمَـتَّع 92% مِن بين سُكّان رْوَانْدَا بِـ «تَأمين صِحِّي عُمُومِي». وَتَطَوّر مُتَوَسِّط العُمر المُتوقع عند الولادة مِن 46 سنة في عام 1978، إلى 69.6 سنة في عام 2022. وَانْخَفض مُعدّل وَفَيَات الرُضَّع مِن 49 لكل 1000 في عام 2012 إلى 28.9 لكل 1000 في عام 2020. وَفي سنة 2022، يَتَوَصَّل بالماء الشَّروب 82% مِن السُكّان، وَبِالكَهرباء 61%، وبالإذاعة 81%، وبالهاتـف المحمول 78%. وَيَتَوَزَّع الناتج المحلي الإجمالي (Gross Domestic Product) الرْوَانِدِي بين الـقطاعات كما يَلي : الزراعة 42.6٪؛ الصناعات 22.2٪؛ الخدمات: 35.2%. وَتُمَثِّل الأراضي الصالحة للزراعة 45.6% من مساحة البلاد. وَبَلغ مُتوسط النُمو الاقتصادي السَّنوي (GDP) +7.2% على مدى عَشرة سنوات الماضية الأخيرة. وَتَصِل الاستثمارات العُمومية إلى 13٪ من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) في عام 2019. وَمَنَعت الدّولة الرْوَانْدِيَة التِجَارَة السِرِّية ("السُّوق السَّوْدَاء") لِلْعُمُلَات. وَتُحَسِّن الرْوَانْدَا باستمرار قَوانينها، ومؤسّـساتها المُتـعلـقة بالتجارة، وبالاستـثمار، وبالاقتصاد. وهكذا، وَمِن خلال دراسة تجربة الحركات الهَوِيَّاتِيَة في ارْوَانْدَا، وَعَبر تَجارب وَاقع المُجتمع الحَي، أَدْرَكْنَا أنّ الحَركات السياسية الهُوِيّاتِيَة، أو الصِراعات العِرْقِيَة، تُؤَدِّي دائمًا إلى الـقَتل والخَراب. بينما العَقْلَنَة، والعَدل المُجتمعي، والتَضامن المُجتمعي، يُؤَدِّيَان إلى الازدهار المُجتمعي المُشترك.
رحمان النوضة (وانـتهى تحريره في يوم الثلاثاء 24 يُونيو 2025)
…..°°*°°…..
#عبد_الرحمان_النوضة (هاشتاغ)
Rahman_Nouda#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
-
حَرب سِرية بين المَلكيات والجُمهوريات 4/4
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 2/4
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
-
إِسْرَائِيل نَازِيَة مِن صِنْف جَدِيد
-
أَسْقَطَت الإمبريالية سُورْيَا في ثُـقْب أَسْوَد
-
هل يجوز توحيد العرب ولو بالقـوة؟
-
نَـقْد تَحْوِيل التَضامن مَع فَلسطين إلى مُناصرة لِلْإِسْلَا
...
-
نَقْد الزَّعِيم والزَّعَامِيَة
-
نَـقْـد شِعَار المَلَكِيَة البَرْلَمانية 2/2
-
نَـقْـد شِعَار المَلَكِيَة البَرْلَمانية 1/2
-
لماذا اُعْتُقِلَ مُدير تَطْبِيق تِلِغْرَام
-
الْإِسْلَام وَالرَّأْسَمَالِيَة
-
صِرَاع الطَّبَقِات، أَمْ صِرَاع الْإِثْنِيَّات
-
في مَنَاهِج النِضَال الجَمَاهِيرِي المُشْتَـرَك
-
أحزاب اليسار تـرفض التـنسيـق
-
الرَّأْسَمَالِيَة هِي اِنْتِحَار جَماعِي بَطِيء
-
نَظَرِيَة «الْأَنَا»، و«الْأَنَانِيَة»
-
مَوْقِع الحِوَار المُتَمَدِّن مُهَدَّد 3/3
المزيد.....
-
العدد 611 من جريدة النهج الديمقراطي
-
العدد 610 من جريدة النهج الديمقراطي
-
في ضعف النظام الإيراني
-
بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
...
-
فوز يساري مسلم في الانتخابات التمهيدية لرئاسة بلدية نيويورك
...
-
اليساري ظهران ممداني يفوز في الانتخابات التمهيدية لرئاسة بلد
...
-
بلاغ المكتب الوطني للنقابة الوطنية للعاملين بالتعليم العالي
...
-
بيان مشترك .. الاحزاب الشيوعية في البلدان العربية تدين العد
...
-
الاحزاب الشيوعية في البلدان العربية تدين العدوان الأمريكي -
...
-
تيسير خالد يهنئ الشعب الايراني بانتصاره على العدوان وحلف ترا
...
المزيد.....
-
الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي
...
/ مسعد عربيد
-
أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا
...
/ بندر نوري
-
كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة
/ شادي الشماوي
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
المزيد.....
|