سلامه ابو زعيتر
الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 16:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما نشهده في غزة من فوضى وسرقة ونهب للمساعدات ليس مجرد حوادث فردية، بل هو ظاهرة اجتماعية معقدة تتطلب تحليلًا من منظور علم الاجتماع لفهم أبعادها وتداعياتها العميقة على النسيج الاجتماعي، وبنية المجتمع وتفاعلاته، وخاصة أثناء وما بعد "المقتلة" وانتهاء الحرب، وذلك بالوقوف على تساؤل ما الاثار الاجتماعية لظاهر السرقة والنهب للمساعدات على أهل قطاع غزة؟
أن ما يحدث يؤثر بشكل مباشر على المنظومة الاجتماعي ويؤدي لانهيار الأعراف الاجتماعية والضوابط المؤسسية حيث كانت تعمل المؤسسات الرسمية (الحكومة، الشرطة، مؤسسات المجتمع، المنظمات الإغاثية) في الظروف الطبيعية، كضابط اجتماعي رئيسي، وتفرض القوانين وتنظم توزيع الموارد. ولكن مع استمرار العدوان والحرب لأكثر من 20 شهر، واستهداف وتدمير المؤسسات، والتهجير القصري والنزوح المتكرر، وإعادة احتلال 75% من مساحة أراضي قطاع غزة، ساهم في ضعف وغياب دور مؤسسات الضبط الاجتماعي والقانوني وأدي لانهيارها الجزئي في بعض المناطق، وهو ما أحدث فراغ تنظيمي؛ وهذا الفراغ نتج عنه تآكل في الأعراف الاجتماعية والقيم التي تحكم السلوك، مثل النزاهة، الأمانة، والتسامح، والتعاون واحترام حقوق الآخرين، وعندما يغيب الرادع الخارجي (القانون والمؤسسات)، وتصبح آليات الضبط الاجتماعي ضعيفة، وتبرز السلوكيات الفردية التي تخدم المصلحة الذاتية، حتى لو كانت على حساب المجتمع ككل، وهو ما يحتاج لإعادة التوازن الاجتماعي وتحصين وحماية المجتمع، وهنا يجب التعرف على ما هي تأثيرات الضغط الاجتماعي الشديد والفوضى والسرقة؟
ما يمر به قطاع غزة يصعب تفسيره بالنظريات الاجتماعية الكلاسيكية والثورية فالظروف القاسية التي يعيشها سكان قطاع غزة في ظل الحرب والحصار، القصف المستمر، النزوح، الجوع، والخسائر في الأرواح والممتلكات انتجت ضغطًا اجتماعيًا ونفسيًا هائلًا، وهذا الضغط، بالإضافة إلى حالة الفوضى العارمة واستمرار سرقة المساعدات والشعور باليأس، سيودي الي مزيد من التحديات والمشاكل الاجتماعية ومنها التالي:
أولا/ ضعف التماسك الاجتماعي فمع استمرار الحرب والأزمة القائمة وحالة الجوع وما تبعها من فوضى وسرقة للمساعدات ادي الي مزيد من تتفكك الروابط الاجتماعية التقليدية، وهو ما شهدناه اثناء نزوح العائلات مع بعض وما نتج عنه من خلافات عائلة ومشاكل وعنف، حيث اصبحت الأولوية القصوى هي البقاء الفردي أو بقاء الأسرة الصغيرة، حتى لو كان ذلك على حساب الجماعة الأكبر.
ثانيا/ قانون الغاب وثقافة "البقاء للأقوى فمع في غياب مؤسسات الردع والضبط للنظام، أصبح يسود المجتمع عقلية "كل مين في يده له "، وهذا جعل كل الأفراد يرى أن الحصول على المساعدة هو فرصة يجب انتهازها بأي ثمن، بغض النظر عن الوسائل، ويتصرف بها وفق مصالحة أحيانا يبيعها بأسعار مجنونة ويحرم أسرته الصغيرة منها، ويصرف عوائدها على مزاجه الخاص...
ثالثا/ تطور في مفهوم الحق والاستحقاق، حيث نلاحظ بان البعض من مرتكبي هذه الفوضى بأنهم يبرر البعض سرقة المساعدات بأنهم حق لهم ويستحقونها بجدارة أكثر من غيرهم، أو أن النظام غير عادل في توزيعها، مما يمنحهم شعورًا بالتبرير لسلوكهم وعدم المبالاة للنداءات والدعوات لحماية المساعدات وبانها حق للجميع، وان ما يحدث هو تعدي على حقوق الغير.
رابعا/ تفاقم المعيارية (حالة الانمي)، حيث تحدث اللامعيارية وفق رؤية عالم الاجتماع إميل دوركهايم، عندما يفقد الأفراد إحساسهم بالهدف أو المعايير الاجتماعية التي توجه سلوكهم في ظل الفوضى الشديدة، وقد تختلط المفاهيم الأخلاقية، ويصبح من الصعب التمييز بين الصواب والخطأ، خاصة عندما تكون الحاجة ملحة، وهو ما يحتاج للتوجيه والتصوب وضبط التفاعلات الاجتماعية وسلوكيات الافراد في المجتمع من خلال عمليات الضبط الغير رسمي.
أهمية الضبط الاجتماعي غير الرسمي:
مع ضعف وغياب الضبط الاجتماعي الرسمي، من الطبيعي أن تتحرك مؤسسات الاجتماعية لتحصين وحماية المجتمع، ولعب دور الضبط الاجتماعي غير الرسمي، وهو ما يفسر التحركات التي تقوم بها العائلات، المخاتير، الوجهاء، والشخصيات الاعتبارية والمؤسسات الاهلية وقوي وفئات المجتمع المؤثرة في المجتمع، فهم يمثلون بقايا الهيكل الاجتماعي القادر على فرض نوع من النظام والضبط الاجتماعي من خلال التالي:
• تستطيع العائلات والمخاتير التأكيد على القيم الإيجابية والأعراف الاجتماعية والعمل عليها وتعزيزها بالقدوة والنموذج الحسن من خلال التذكير بالقيم الإنسانية كالأمانة، التضامن، والإيثار، وتوجيه الأفراد بأن هذه السلوكيات ضرورية لبقاء المجتمع والحفاظ على ثقافته وهويته وتحصينه من الامراض الاجتماعية.
• تستطيع العائلات ممارسة الضغط على أبنائها للامتثال للمعايير الأخلاقية، وشرح عواقب السرقة ليس فقط على الضحايا بل على سمعة العائلة والمجتمع ككل.
• تستطيع القوى المجتمعية ان تلعب دور فعال في إعادة تنظيم حماية المساعدات بشكل شعبي، من خلا تشكيل فرق شعبية، والانتشار في كل الأماكن، ضمن تجمعات منظمة وتعزيز هذه اللجان الشعبية وفعالياتها، وفضح اللصوص علانية، وذلك بممارسة أحد أشكال الضبط والمتابعة، بمبدأ الثواب والعقاب وهو ما يضبط ويثبط السلوكيات غير المقبولة.
• تدخلات العائلات وقوى المجتمع في مواجهة هذه الظاهرة يساهم في بناء وتعزيز الثقة في المجتمع من خلال ممارسة هذه الإجراءات، ويمكن إعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمع، فهي ضرورية لأي محاولة للتعافي والتنظيم المستقبلي.
تحليل الاجتماعي لظاهرة بيع المساعدات ببعدها الاقتصادي:
تعكس ظاهرة بيع المساعدات بأسعار خيالية تحولًا مأساويًا في القيم، من خلال تحويل الحاجة الإنسانية إلى سلعة للربح والانتفاع وهو ما يسمى باقتصاد الأزمة، وهو أن يستغل بعض الفئات كالتجار الفاسدون، أو حتى الأفراد مستفيدة من ندرة الموارد لإنشاء سوق سوداء، وبيع السلع الغذائية المسروقة بأسعار خيالية واحتكارها بين جماعات متناغمة بالمصالح، وهو ما يعرض المجتمع للاستغلال الاجتماعي، حيث يُستغل مافيا الحرب صاحب الحاجة والضعف لتحقيق مكاسب شخصية، مما يزيد من الفوارق الاجتماعية ويقود إلى مزيد من الإقصاء لمن هم أشد حاجة، وهو ما يسبب ضعف التضامن فبدل من أن تكون المساعدات رمزًا للتضامن الإنساني، تتحول إلى مصدر للنزاع والانقسام والقرصنة والزعرنة والبلطجة، وهو ما سجل اكثر من مرة بتثبيت حاملي المساعدات بالسلاح وهم عائدين من مراكز التوزيع وسرقتها منهم تحت التهديد، وهو ما يساهم في زعزعة الاستقرار والأمان الاجتماعي وله انعكاساته مستقبلا على بنية المجتمع ونسيجه الاجتماعي وظهور عصابات منظمة.
أخيرا: إن استعادة النظام الاجتماعي وحماية المساعدات يتطلب جهدًا جماعيًا وشاملًا، من كل المؤسسات الاجتماعية بدأ من حجر الزاوية الاسرة والعائلة وصولا للفئات والقوى الاجتماعي، فلا يجوز الصم ولا يمكن أن يتم ذلك بالقوة وحدها، بل يتطلب إعادة بناء الوعي المجتمعي، وتعزيز القيم الأخلاقية، وتمكين قوى الضبط الاجتماعي غير الرسمي، والأمل الوحيد لتجاوز هذه المحنة هو بالتعاون والتكاتف وأن تقوم العائلات بقوة تأثيرها على أفرادها بالقرابة وروابط الدم، للمساهمة في اصلاح النظام الاجتماعي بما افسدته الحرب وتداعياتها ، فغياب وضعف النظام الاجتماعي لا يضر بالضحايا فقط، بل يفتت المجتمع من الداخل ويقوض قدرته على الصمود والتعافي، ويدمر ما تبقى من الجبهة الداخلية وكرامة الانسان الفلسطيني في غزة، لنعمل ونجتهد من اجل مستقبل أبنائنا وحمايته من تواليها....
#سلامه_ابو_زعيتر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟