سلامه ابو زعيتر
الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 16:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
د. سلامه أبو زعيتر
إن استمرار العدوان لأكثر من 18 شهراً، وما يصاحبه من دمار ونزوح وفقدان ونقص في الموارد الصحية والغذائية، وخسائر اقتصادية فاقت كل التصورات، كان له انعكاسات عميقة على الأفراد والمجتمع، فقد ساهم ذلك بشكل مباشر في تمزيق النسيج الاجتماعي من جوانب عدة، ولكي نتمكن من الوقوف على آثار هذه الحرب، يجب الإجابة على تساؤل مفاده: ما هي انعكاسات الحرب المستمرة على البنية الاجتماعية في قطاع غزة؟ للإجابة بوضوح ودقة، سيتناول هذا المقال تحليلاً معمقاً لذلك.
المشاكل الاجتماعية في قطاع غزة عميقة ومتشابكة، وقد تفاقمت بشكل كبير مع تجدد العدوان ومنع دخول المساعدات، مما تسبب في أزمة إنسانية وتدهور حاد في الظروف المعيشية، حيث بلغت نسبة البطالة في القطاع حوالي 80%، وازدادت معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي بشكل كبير، حيث يعتمد 85% من السكان على المساعدات، وتشير تقارير إلى وجود سوء تغذية حاد لدى الأطفال، مع إنذار بوصول المجاعة لمراحل متقدمة، ويضاف إلى ذلك النقص الحاد في الكهرباء والوقود، والتدمير الهائل للبنية التحتية مثل شبكات المياه والصرف الصحي والنظافة، مما يهدد بمزيد من المخاطر والأوبئة والأمراض المنقولة بالمياه.
لقد نزح داخلياً أكثر من 1.9 مليون شخص (حوالي 85% من السكان)، وأصبحوا يعيشون في مساحات ضيقة وظروف صعبة ضمن مخيمات ومراكز إيواء مؤقتة لا تصلح للحياة الآدمية وتمس بالكرامة الإنسانية. يتزامن ذلك مع:
• الاستهداف المباشر للقطاع الصحي، وتدمير سيارات الإسعاف والمرافق الصحية، وصعوبة إجلاء المرضى الذين يحتاجون رعاية عاجلة خارج غزة. هذا ما تسبب في انهيار المنظومة الصحية؛ فالمستشفيات تعاني نقصاً حاداً في المعدات والأدوية والوقود، وخرجت 34 منها عن الخدمة وأغلقت أبوابها. كما فقدت الأطقم الطبية 1402 شهيداً، وحوالي 3500 جريح، واعتقل 360 منهم وهم على رأس عملهم.
• التدمير الواسع للمرافق التعليمية، مما أدى إلى تدهور المنظومة التعليمية. أصبحت أعداد كبيرة من الطلاب والأطفال خارج المدارس، مع غياب الخطط والبرامج المناسبة لاستعادة التعليم.
• الارتفاع الكبير في الأزمات النفسية بين النازحين، مثل الانعزال، الانطواء، وتعاطي الممنوعات. كما تصاعدت ممارسة العنف والاضطراب الاجتماعي، وزادت النزاعات داخل المجتمع، بما في ذلك العنف القائم على النوع الاجتماعي، واستخدام الأسلحة النارية.
إن ما يحدث في غزة الآن هو عملية هدم ممنهجة للبنية الاجتماعية، وليس مجرد تأثيرات طارئة أو مؤقتة تزول بزوال الأسباب، فإن تأثيرها على الإنسان والمجتمع عميق، والتدخلات اللازمة لمعالجتها تحتاج إلى خطة وفق إطار زمني واضح وإمكانيات واستقرار، فالبنية الاجتماعية لأي مجتمع تقوم على أركان أساسية مثل: الأسرة، الروابط المجتمعية، المؤسسات (التعليمية، الصحية، الدينية)، القيم والأعراف، الهوية والاقتصاد والثقافة ..... وجميعها تتعرض لضغوط هائلة مع استمرار العدوان، مما يؤدي إلى تشوهات وتغيرات جذرية ومباشرة، منها:
1. تفكك وتشتت الأسرة، وهي وحدة البناء الأساسية للمجتمع:
- فقدان الأحبة حيث فقدت آلاف الأسر أفرادها بالكامل أو جزءاً كبيراً منهم، مما ترك أطفالاً أيتاماً وكباراً في السن بلا معيل، وهذا يدمر النسيج العائلي، حيث كانت الأسرة في غزة تمثل شبكة الأمان الأولى.
- النزوح القسري والمتكرر شتت العائلات الممتدة التي كانت تشكل دعماً اجتماعياً واقتصادياً قوياً لبعضها.
- تعيش الأسر في ظروف لا إنسانية ضمن مخيمات ومراكز إيواء مكتظة، مما أفقدها خصوصيتها، وزاد من الضغوط النفسية والعصبية التي أدت إلى مزيد من التوترات داخل الأسر، وأثرت على ديناميكيات العلاقة بين الوالدين والأطفال.
- زادت الأعباء والمسؤوليات على النساء مع فقدان الرجال أو إصابتهم، حيث يتحملن أعباء مضاعفة في رعاية الأسر وتأمين احتياجاتها في ظل ظروف بالغة الصعوبة.
- آلاف الأطفال أصبحوا بلا مأوى أو فقدوا أهلهم، ويواجهون الاستغلال والعنف، مما يهدد مستقبل جيل كامل، كل هذا يؤثر على الأسر كوحدة اجتماعية، وهي حجر الزاوية الذي يقوم عليه البناء الاجتماعي للمجتمع.
2. تراجع الروابط المجتمعية والتضامن والتكافل بين أفراد المجتمع بسبب:
- الصراع على الموارد ندرة المساعدات الأساسية (الغذاء، الماء، الوقود) زادت من الصراعات والتوترات داخل المجتمع، مما أضعف روابط التكافل الاجتماعي التقليدية، وفرض –قانون الغاب- الذي أصبح هو السائد في بعض الأحيان بسبب اليأس وغياب النظام والقانون.
- انعدام الثقة والخوف في الأجواء المحمومة والنزوح المستمر، زرعت بذور الشك وعدم الثقة بين الأفراد، سواء في مخيمات اللجوء ومراكز الإيواء أو داخل التجمعات أينما تواجدوا في المجتمع الواحد.
- تدمير البنى التحتية كالمدارس، المساجد، المراكز الصحية، والأسواق، وهي جميعها أماكن كانت تشكل نقاط التقاء وتفاعل اجتماعي، يساهم في عزل الأفراد عن بعضهم البعض ويفكك النسيج واللحمة الاجتماعية.
- ظهور سلوكيات سلبية مثل: السرقة، السطو، العنف، والانعزال الاجتماعي، وفي بعض الحالات، اللجوء إلى وسائل غير قانونية لتأمين البقاء، في ظل الشعور بالإحباط وحالة اليأس مما يؤثر على القيم الاجتماعية.
3. تدمير وانهيار المؤسسات الأساسية للخدمات:
- تدمير المدارس وحرمان آلاف الأطفال من التعليم يؤثر على مستقبل الأجيال القادمة، ويقلل من فرص التنشئة الاجتماعية السليمة التي توفرها المدارس.
- انهيار المستشفيات والمراكز الصحية لا يؤثر على الصحة الجسدية فحسب، بل يزيد من الضغوط النفسية، ويقلل من القدرة على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي المطلوب.
- تدمير المؤسسات الدينية والمواقع الثقافية يمس هذا بالهوية الجماعية ويضعف الروابط الروحية والثقافية للمجتمع.
- انهيار سوق العمل والاقتصاد فاقم هذا مشكلتي البطالة والفقر، ويمس بكرامة الأفراد ويجعلهم عاجزين عن إعالة أنفسهم وأسرهم، مما يؤدي إلى يأس جماعي.
4. تغيرات في القيم والأعراف الاجتماعية:
- تزايد وصمة العار المرتبطة بالمشاكل النفسية أو بطلب المساعدة، مما يمنع الناس من التحدث عن معاناتهم، ويقلل التفاعل والتضامن الاجتماعي.
- التكيف القاسي حيث تتغير أولويات وقيم الناس ليصبح البقاء على قيد الحياة هو الأهم، وهذا يؤثر على بعض الأعراف الاجتماعية التقليدية التي تتعلق بالكرم، حسن الضيافة، أو التخطيط للمستقبل.
- فقدان الأمان الشعور الدائم بالخطر يؤدي إلى حالة من اليقظة المفرطة والخوف المستمر، وهذا يغير من طبيعة التفاعلات الاجتماعية ويجعلها أكثر توتراً وحذراً.
من خلال ما سبق، نعتقد أن البنية الاجتماعية في قطاع غزة تتعرض لتفكك غير مسبوق. فما يحدث ليست مجرد أزمة إنسانية، بل هي أزمة وجودية تهدد بتدمير المجتمع من الداخل. يتطلب الأمر تقديم دعم شامل ومستدام يركز على الاحتياجات المادية والإغاثية، ويعمل على إعادة بناء الروابط الاجتماعية والنفسية لحماية المجتمع من انعكاسات هذه الحرب الدموية والمجنونة التي تهدد البقاء، بما يرتكب فيها من مخاطر وإبادة جماعية ومحاولات للتهجير قسراً أو طوعاً.
أخيراً، إن الجهد المطلوب من كل مكونات المجتمع الفلسطيني، أفراداً ومؤسسات، يجب أن يقوم على مواجهة تداعيات هذه الحرب الاجتماعية وانعكاساتها لتحصين المجتمع واتقاء شرها. وذلك يكون بتعزيز البكاء على النسيج الاجتماعي عبر تعزيز التكافل والتضامن والتكاتف بين أفراد المجتمع، والتشجيع على التعاون وتحسين الأخلاق والقيم الإيجابية، لتصبح ثقافة للصمود ومواجهة المؤامرات التي تستهدف المشروع الوطني.
#د. سلامه ابو زعيتر
استاذ علم الاجتماع المساعد
#سلامه_ابو_زعيتر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟