أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سليم سوزه - مثقَّفو -التوجيه السياسي- ودولة الميليشيا العراقية















المزيد.....

مثقَّفو -التوجيه السياسي- ودولة الميليشيا العراقية


سليم سوزه

الحوار المتمدن-العدد: 8377 - 2025 / 6 / 18 - 11:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


دخلَ العراق عصراً ميليشياوياً مظلماً منذ اللحظة التي انتصرتْ فيها البنادق على الجماجم في واقعة تشرين الاحتجاجية عام ٢٠١٩. هيمنتْ الميليشيات على مفاصل الدولة وصارت تتحكم بالفضاء العام والخاص، بعد أن كانت تسوّق نفسها على أنها فصائل تحارب الإرهاب تحت راية الدولة فحسب، ولا علاقة لها بالسياسة. ثمّة تواطؤ واضح بين نخب السياسة وزعماء تلك الميليشيات مع بعض المحسوبين على المشهد الثقافي لتسويق الفكرة الميليشياوية بوصفها ضرورة للحفاظ على النظام ومكتسباته "الديمقراطية" في دولة يتربّص بها الداعشيون والبعثيون على الدوام. أنتجتْ هذه الفكرة مثقّفها الذي تخلّى عن دوره النقدي ليصبح "مثقّفَ توجيهٍ سياسيٍّ" فحسب.

في الأنظمة الديمقراطية، حتى الهشّة منها، ونتيجة حق الفرد في الانتخاب وإمكانية تغيير الطبقة السياسية كل أربعة أعوام أو أكثر عبر صناديق الاقتراع، ليس أمام السياسي إلّا التحالف مع قوى ونخب اجتماعية وثقافية مختلفة، وهو تحالف مفهوم ومُبرَّر حين يكون على أساس القيم والمبادئ والأفكار والتوجهّات السياسية. تحالف مثل هذا تحكمه القيم السياسية، لكن هناك تحالفاً من نوع آخر، وهو تخادم وليس تحالفاً، لأنه لا يشترط الاتفاق على قيمٍ ما، بل على مصالح ضيّقة يحافظ فيها كل طرف على حظوته وسلطته بعيداً عن مهاجمة الآخر.
في مثل هذا التخادم، تفهم الأطراف مساحاتها وحدودها وتخدم بعضها بعضاً ولو عن بعد. تُبدي هذه الأطراف قدراً معيناً من الاستقلالية في المظهر، وربما تنتقد بعضها بعضاً بشيءٍ من الخجل، ولكنها في الجوهر تتفق على هدفٍ واحد، وهو التبرير للنظام والدفاع عنه، ولو بصورة غير مباشرة، من خلال "توجيه" أنظار الناس "سياسياً" إلى قضايا هامشية ليست ذا صلة بشؤون بلدهم المهمّة. تتفق مثل هذه الأطراف على حماية النظام، حتى لو كان نظاماً لصوصياً وطائفياً ورجعياً، من خطر الانهيار، لأنّ في مثل هذا الانهيار انهياراً لكل الأطراف المتخادمة سوية. وإنْ كان السياسي لا يجيد لعبة تسويق النظام وتجميله في أعين الجمهور، نتيجة قصور أدواته وضعف خطابه أو منجزه، فالثقافي بارع في هذا الدور ويمتلك القدرة، خطاباً وبلاغة، لتحويل الفشل في أذهان الناس إلى نجاح، والطائفية إلى حق، والفساد إلى جزئية هامشية فحسب. إنها لعبة البلاغة التي يجيدها المثقَّف، "المثقّف الميليشياوي" حصراً، تلك التي باستطاعتها تسطيح الوعي وتزييف الحقائق لتغدو المعركة معركة أناس بسطاء ضد عدوٍّ متربّص بهم وبتجربتهم، لا معركة مصالح بين قوى الطوائف وكارتلات الفساد.
هذه هي طبيعة النظام الميليشياوي في العراق، ولا أقصد بالنظام هنا حكومةً وسلطةً سياسية فحسب، بل استعير مفهوم ڤيبر له والذي يُعرِّفه على أنه مجموعة قرارات قانونية "عقلانية" أكبر من السلطة، وُضِعَتْ بالتخادم مع أطرافٍ عدّة لحكم الدولة والمجتمع. يتخادم في مثل هذا النظام القانوني والسياسي والثقافي والاجتماعي (ومن ورائهما الديني أحياناً) ليُشكِّلوا بمجملهم نظامَ حكمٍ صارم يصعب مقاومته أو تجاوزه.

لقد وصل تخادم السياسي والثقافي في العراق، على سبيل المثال، إلى ذروته هذه الأيام ونحن نشهد حرباً عنيفة بين إيران وإسرائيل، وصار الإثنان محضَ تجلٍّ لثقافة ميليشياوية بائسة ليس لها شغل سوى قراءة تاريخ العراق بعينٍ طائفية، وأَسْلَمَة ماضيه وحاضره ومستقبله، لا غير. صار عدد من الشعراء والكتّاب والروائيين والمسرحيين والتشكيليين صدى لخطاب ميليشياوي فحسب، وأمسوا كأنهم ضبّاط "توجيه سياسي"، أولئك الذين يروّجون لخطاب السلطة ويسفّهون ما عداه. أصبحوا "موضوعاً" طائفياً، لا "ذاتاً" حرّة تفكّر خارج منطق الجماعة وروحها الغوغائي. يكتبون ما لا يزعج السلطة، ويمشون على أطراف الأصابع أمام سرديّاتها، لكنهم بارعون في استجواب سرديّات الآخرين وتفكيكها. وبدلاً من ممارسة دورهم النقدي في مواجهة الجهل والخرافة في المجتمع، صاروا يغازلوها ويستثمرون في البلاغة لتأصيلها وتبريرها خشيةً من العوام أو تملّقاً لهم وللسلطة التي تحيا بجهلهم.

إنّهم مثل ذاك الذي اشترى قنديلاً، وبدلاً من أن يُضيء به الدرب، أطفأه وخبّأه خشية أن يتركه الآخرون ويقتدوا بنور ذلك القنديل.

في الحرب القائمة اليوم بين إيران وإسرائيل، على سبيل المثال، لا يكتفِ مثقّفو التوجيه السياسي هؤلاء بتخوين مَن يخالف رأيهم ورأي السلطة التي تختبئ تحت طي ألسنتهم، بل يحاكموا صمت الآخرين ويطالبوهم بموقفٍ واضح، وهو ما تعوّدوا فعله كلما سخنتْ الأحداث في المنطقة. يمارسون "مكارثية" تافهة محمية من أصحاب السلاح تجاه مَن لا يحميه شيءٌ سوى صمته. في الحقيقة، مثقّفو التوجيه السياسي المسلَّحون بثقافة الميليشيا والمتنعّمون بعطاياها والمحميون بسلاحها لا يريدون موقفاً، لأن الصمت موقفٌ والانحياز لجهة غير جهتهم موقفٌ أيضاً. إنّهم يريدون مزاميرَ، تعزف وتُطبِّل للطرف الذي يساندونه، وتُقدِّم الأوهام والأماني عوضاً عن التحليل القائم على وقائع الأرض ومعطياته. الويل لمَن لا يكتب شعراً في "القادسية" الجديدة، إذ يتحوّل إلى كبشٍ جديد في محرقة أبناء إبراهيم الحالية.

قد يبدو الأمر غريباً، إلّا أنّ اجتماع الثقافة والميليشيا حاصل على أرض الواقع، فالثقافة ليست قراءةً واطلّاعاً، ولا شعراً ومعرفة، أو عيناً مُدَرَّبة على فهم أعمال الكبار فحسب، بل هي في تعريفها الأنثروبولوجي نمط حياة أيضاً، أنتجتها طبيعة العيش في بيئة ترث خصائصها وطبائعها وسلوكياتها الأجيال أبّاً عن جد، وتلعب السياسة دوراً في ترسيخ بعضها ونبذ ما لا تريده منها. وبما أن فكرة الدولة في العراق قد هُزِمَتْ على يد الميليشيا، وصارت الأخيرة أمراً واقعاً بحكم السلاح والتلقين والترسيخ، أمستْ الثقافة المهيمنة ثقافة ميليشياوية، وأصبح نقدها خيانة وعمالة. من هنا، باتتْ لدينا حكومة ميليشياوية، وسياسة ميليشياوية، واقتصاد ميليشياوي، وأمن ميليشياوي، ودين ميليشياوي، وثقافة ميليشياوية صنعتْ مثقفيين ميليشياويين، أو مثقفين متصالحين مع النظام الميليشياوي مادام هذا النظام ليس خطراً عليهم ولا عائقاً لهم في طريقهم نحو المجد والشهرة. "المثقف الميليشياوي" هو ذلك المثقف الذي كيّفَ حياته ونمَّطَها على "الفكرة" الميليشياوية، وصار يُسخّر ما يقرؤه لتبرير تلك الفكرة. بمعنى أنه قد يكون مثقفاً حقّاً، قارئاً ومنتجاً ومبدعاً للنصوص والنظريات، لكنه ميليشياوي في نمط حياته وسلوكه. وعبر دوره في "التوجيه السياسي"، يتخادم هذا المثقف الميليشياوي مع النظام فيعيد إنتاج كلٌّ منهما الآخر في دورة تشبه دورة "الدجاجة والبيضة".

إنّها مشكلة حقّاً أن تخضع مصائرنا إلى معضلة "البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة"، تلك المعضلة التي لطالما أرَّقَتْ الفلسفة ورسمتْ خطّاً فاصلاً بين البنيوية وما بعد البنيوية عند الحديث عن الظواهر الاجتماعية واللغوية والثقافية بشكل عام. يرى البنيويون أن البنى الاجتماعية واللغوية حاكمة على تصرّفات الأفراد ومنتجة لسلوكياتهم مهما ادّعوا الحريّة، فيما يعارض ما بعد البنيويين هذه الفرضية بالقول إن الممارسات والأفعال الفردية هي التي تعيد انتاج تلك البنى الفوقية وتعطيها معانيها باستمرار، ولولا هذه الممارسات والأفعال الفردية ما وُجِدَت تلك البنى من الأساس. بمعنى أن تلك البنى الاجتماعية واللغوية والثقافية الفوقية ليست بنى جامدة وقدراً لا مفرَّ منه، بل هي بنى سائلة ومُشكَّلة اجتماعياً بفعل تداخل انساني وفعل فردي يتأثّر ويؤثر في محيطه ليعيد صناعة تلك البنى ووظيفتها حسبما تقتضيه الظروف والمصلحة البشرية الخالصة.

بهذا المعنى وباختصار مفرط، يمكننا القول إن البنيويين أقرب لفكرة الدجاجة أولاً ثم البيضة (من الأعلى إلى الأسفل)، فيما ما بعد البنيويين مع فكرة البيضة أولاً (من الأسفل إلى الأعلى).

"الدجاجة"، إنْ جازتْ الرمزية هنا، هي هذا النظام الفوقي الذي عماده التخادم وأساسه الريع، متى ما زال الثاني انهار الأول، فيما البيضة هي الفرد العراقي بأفعاله وسلوكياته وتجاربه اليومية، تلك التجارب التي هي ليست بمعزل عن محيطها الثقافي والسياسي قطعاً، لكنها ليست بالضرورة انعكاساً تامّاً لها، إذ ثمّة هامش من المناورة والمقاومة لا بأس به يمتلكه كل فرد منّا بوصفه عاملاً فاعلاً في المجتمع، وليس عنصراً خاملاً فيه. يُراد لهذا الهامش أن يضمحل تماماً وينتهي وسط الهستيريا الميليشياوية السائدة التي تُروِّج لها الطبقة السياسية ومعها حفنة من مثقّفي التوجيه السياسي.

ما تبدو وكأنها دجاجة لا تُقْهَر، ليست سوى بيضة فقَّسَها هذا النظام، وليس هناك حاجة إلّا إلى "مثقّف توجيه سياسي" يروِّض ويُدجِّن الناس على الطاعة والاستسلام، ويُضعِف فرص مقاومتهم عبر تسخيف صراعهم الأساس مع السلطة ومَرْكَزَة صراع آخر هامشي ووهمي مع عدوٍّ محليٍّ باقٍ في المخيّلة إلى الأبد، يظهر مرّة في صورة مكوّنٍ أو عرقٍ خائنٍ لنظام ما بعد ٢٠٠٣، ومرة أخرى في صورة شريحة عراقية صامتة وجبَ صلبها ومحاكمة نواياها لمجرد أنها لا تشترك في حفلة التطبيل القائمة من حولها. بهذه الطريقة فحسب، يحجز مثقّف التوجيه السياسي هذا موقعه في دولة الميليشا العراقية، ويبلغ مِذْوَدُه في الناس ما لا يبلغه فيهم سيف النظام.



#سليم_سوزه (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -تريوعة- الماعز
- -باربي- والوجودية النسوية
- في نقد الخطاب الإسلامي ح 6: سبي النساء .. سياق مختلف أم فكرة ...
- المشكلة الكردية في العراق
- في نقد الخطاب الإسلامي ح 5 .. إشكالية الدين والمجتمع
- أنثروبولوجيا الشعائر الحسينية
- ظاهرة التيار الصدري
- السيستاني والدولة العراقية .. جدل الشرعيّة والمشروعيّة
- في نقد الخطاب الإسلامي ح 4 .. التفسير ، التأويل ، الإعجاز ال ...
- في نقد الخطاب الإسلامي ح 3 .. القرآن ليس كلام الله
- في نقد الخطاب الإسلامي ح ٢-;-
- في نقد الخطاب الإسلامي - ح ١-;-
- مجلس محافظة بغداد وتقنيات السرقة الذكية
- عن معركة الموصل وتشابك اللُحى وأحلام الهاشميين
- عملية دادي
- إمكانية عالية ومحتوى بائس
- عن شارل ايبدو وإساءاتها
- حوار كاثوليكي
- اللعب مع الأفعى
- موقف عابر للطائفية Trans-Sectarian Action


المزيد.....




- ثوران بركان في إندونيسيا يتسبب بإلغاء عشرات الرحلات إلى بالي ...
- -كل اللي فات إشاعات-.. محمد رمضان يعلن عن الصلح بين نجله وزم ...
- وفاة الطاهية والشخصية التلفزيونية الشهيرة آن بوريل عن عمر 55 ...
- السعودية.. حرب بين قرود أبها والطائف!
- ناطق باسم الجيش الإسرائيلي يرد على أنباء مقتله بفيديو: -لست ...
- بسبب ترامب.. -الغارديان-: زيلينسكي قد يغيب عن قمة -الناتو- ا ...
- دول الترويكا الأوروبية تعرب عن استعدادها لمواصلة المفاوضات م ...
- غروسي: تلوث إشعاعي في منشأة -نطنز- النووية
- كنايسل: التصعيد بين واشنطن وطهران لم يصل إلى مواجهة شاملة وا ...
- ما هي مخاطر الإشعاع النووي على إيران ومنطقة الخليج؟


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سليم سوزه - مثقَّفو -التوجيه السياسي- ودولة الميليشيا العراقية