محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)
الحوار المتمدن-العدد: 8369 - 2025 / 6 / 10 - 19:44
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ارث العبودية وتداعياته الماثلة في العالم
بالرغم من تداعى نظام العبودية القديم، الا أن الإرث التي تركه ظل يلقى بظلاله على الحياة في كثير من دول العالم. ونتيجة للغياب البائن للتحليل المبنى على العلاقات الاجتماعية/الاقتصادية، فان ارث العبودية في كثير من المجتمعات أدى لظهور حركات تنظر للسياسات ذات التحيز العنصري على انها تفويض ذاتي (self-authorization) للهيمنة الثقافية والاقتصادية والعسكرية (العنف) عوضا عن اعتبارها ظاهرة تتعلق بالمستوى السائد للعلاقات الاجتماعية/الاقتصادية في المجتمع.
ورغما عن صحة أن ارث العبودية اوجد سياسات عنصرية في بعض المجتمعات، الا أنه من منطلق التغيير، فان تشكيل النظام الاجتماعي/الاقتصادي وتطوره في المجتمعات المعاصرة (المتقدمة والمتخلفة) لم تحدثه السياسات العنصرية. فالصراع السياسي الذى ظل يحدد تشكيل وتوجه الدولة لا توجهه انحيازات عنصرية مع التأكيد على أن اللجوء لاستخدام تلك النزعات لتكريس الأوضاع القائمة لا يمكن انكاره؛ ولهذا لا يمكن التقليل من انتقاد مظاهر النزعات العنصرية المرئية (visible) في المجتمع، ولكن لا يجوز الاكتفاء بهذا النقد الذى ينغمس في النظر الى النزعات العنصرية بتجريد منعزل عن الظروف المادية الحقيقية السائدة في المجتمع. وهذا النقد الغير متجذر في العلاقات الاجتماعية/الاقتصادية الواقعية في المجتمع، يعبر عن مثالية (فلسفية) يدفعها التأمل للاكتفاء بتفسير مظاهر الواقع ولبس تغييره.
كما ان الاكتفاء بنقد مظاهر النزعات الاثنية والعنصرية بالتركيز على المواقف الفردية ليس له إضافة في مضمار التغيير. فبدلا من الانغماس في النقد المتعلق بهذا الموضوع بتكهنات وتصورات تحقق الرضا الشخصي (self-satisfaction) لأصحابها راضين لفعالية أفكارهم المتسربلة بالهوية الدينية أو المناطقية أو العرقية في اثارة الجماهير، الأجدى القيام بدراسات على الصعيد الثقافي لكشف الى أي مدى يجرى استنساخ (replication) أساليب العبودية القديمة في حياة بعض المجتمعات المعاصرة. فمثلا من هذه الاساليب العبودية الموروثة من تاريخ الدول العربية حيث ان النظام العبودي الذى منحه الإسلام الشرعية، كرسته الخلافة الإسلامية وظل قائما حتى نهاية الخلافة العثمانية. وبعد تقسيم المنطقة العربية لعدة دول، سيطر عليها الاستعمار المباشر الذى تلاه الاستعمار بصورة غير مباشرة بالاعتماد على برجوازيات كمبرادورية ظلت تدير دولها بأنظمة عسكرية وتمارس أساليبا اقطاعية شديدة القسوة من أجل حماية اسيادها المستعمرين. وظلت الأنظمة العسكرية تفرض احتكارها لإدارة الدولة بالتحالف مع تيارات ممعنة في أفكار رجعية وظلامية كالوهابية أو الحركة الاسلامية في السودان او زمر عسكرية حاكمة ترفع شعارات يسارية واشتراكية زائفة كالناصرية والبعثية. والملاحظ هو أن هذه الأنظمة العسكرية وحلفائها المدنيين ظلت تحكم بأذرع امنية تنتهج أشرس الأساليب عسفا وتحكم بأنظمة تقوم على أساس تراتبية استبدادية تماثل فيها الرتبة الأعلى صورة السيد مالك العبيد الذى يجب أن تخضع له الرتب الأدنى وباقي أفراد الشعب بانصياع تام.
ان الدراسات الثقافية التي يمكن أن تستجلي كيف تم استنساخ ممارسات العبودية القديمة في لحظة معينة من التاريخ باستكشاف طرق ربط الظروف المادية للحياة في الماضي- المؤسسة على أساس العرق مثلا- بالكتابات الأدبية والاعمال الفنية عموما وظروف الحياة في الوقت الحاضر، تكون لها جدوى في استجلاء دور الديناميكيات العرقية في التأثير على القوانين التي تحكم تطور المجتمعات.
إن البديهة التي تثبتها الملاحظة الامبريقية هي أن الصراعات الدائرة في كلا الدول المتقدمة والمتخلفة تؤججها بشكل (أساسي) العلاقات الاجتماعية/الاقتصادية، لهذا فان ميل النقد لإضفاء صفة الاثنية عليها يقود مباشرة الى طريق مسدود (dead-end) يتصف به مستنقع النقد الذى تتسم به سياسات الهوية. والنقد على أساس الهوية، وهو ما يطلق عليه صفة (النقد غير نقدى- uncritical criticism)، رغم ادعائه الراديكالية والثورية، يميل الى التجريد المنفصل عن الظروف المادية الحقيقية للمجتمع، وينعزل عن النضالات السياسية/ والاجتماعية الملموسة التي تتناول قضايا تهم أو يشترك فيها كل المواطنين وليس اثنية بعينها. فمثلا الدعوة ل "مواطنة جديدة" التي جاءت كرد فعل لخيبة الامل من "المواطنة" التي تتصدر الدساتير في أنظمة الدول المتخلفة التابعة، اشتملت للمفارقة على نفس التجريد الذى صاحب المفهوم بصورته السائدة.
ان المجتمعات المتخلفة التابعة تسودها صراعات سياسية خطيرة مبعثها وجود تناقضات حادة (irreconcilable) بين قوى اجتماعية تدفعها مصالحها الاقتصادية للقيام بدور الوكيل المنصاع للهيمنة الأجنبية وبين طبقات شعبية ترزح تحت ظروف الفقر والحرمان والاضطهاد؛ ولهذا فان الحديث، الذى تمارسه الطبقات الحاكمة، عن المواطنة المبنية على الحرية والمساواة والاخاء ينضوي على النفاق. كما ان الحديث الحالم عن ايجاد مواطنة جديدة في هذه البنية الاجتماعية/ الاقتصادية مصيره اخفاء الطبيعة الحقيقية الطبقية للصراع.
ان الصراع السياسي لا يمكن عرضه كمشكلة أكاديمية وساحة لتبادل الآراء. فيخطئ الفهم من يسعي لتحويل الصراع السياسي لقضية أكاديمية وبالتالي إحالة مسالة التغيير، لساحة للتنظير وتبادل الآراء بين الخبراء والاكاديميين "الثقات". ان التغيير لا يحدث منطقيا، بمعنى مجرد القيام بمجرد عرض وجهة نظر جديدة تشتمل على تخيل الصورة التي يكون عليها الواقع؛ ولان الواقع يتطور ويتبدل بشكل موضوعي، لهذا فان البديل المنشود (النقيض-antithesis) ليس صورة ذهنية خالصة توضع في لباس منطقي، بل يبرز للوجود بشكل موضوعي. وادراك هذه الضرورة الموضوعية هي ما يساعد على تغيير الواقع وليس إعادة تفسيره (reinterpretation). وهكذا، فان التغيير ليس مشكلة اكاديمية بل التصدي عمليا ومباشرة (head-on) لحل قضايا يعج بها واقع ماثل في المجتمعات المتخلفة؛ والطريق لحل هذه القضايا عملية يضئ طريقها العمل النظري، الذى يحدد طبيعة المرحلة التاريخية وتوجهات تطورها وخصائص المجتمع وقواه صاحبة الأهلية او الاستحقاق على إحداث التغيير.
وهكذا، فان الانطلاق من الهوية بعدم تجذرها في التناقضات الرئيسة في المجتمع (الصراع الطبقي) كمفتاح لإتاحة التغيير، لا يقود الا الى تكريس الواقع. ففي الدول المتقدمة أدت سياسات الهوية، التي تستقطب الشعوب وتقسمهم لفرق مختلفة على أساس العرق أو الإثنية أو الدين أو النوع، الى إعاقة وعيها وحرف أنظارها عن حقائق الواقع الملموسة ( الجذور الرأسمالية الكامنة وراء كل اضطهاد) وبالتالي تفتيت نضالهم المفترض ان يقوم على اساس جماعي متخطيا الخطوط العرقية والدينية والجنسية الخ.
أما في الدول المتخلفة اجتماعيا واقتصاديا، حيث يكثر فيها التعدد والتنوع القبلي والإثني والثقافي والديني، فان نشدان التغيير المبنى على أساس الهوية يعتبر من اكبر معوقات النضال الوطني الديمقراطي بتقويض وحدة شعوب هذه الدول في مواجهة عدو مشترك شديد الشراسة ( الاستعمار) تدعمه فئات كمبرادورية تهمين على الحكم بصورة مطلقة بعزل الشعوب عن أي ضرب من المشاركة.
كما لا يفوتنا أن نشير الى أن محاولات وضع منهجية تزاوج بين بين القضايا ذات الطابع القومي أو الإثني وبين صراع الطبقات، هي تخليط لمفهومين والنتيجة فكرة مُلتبسة (ambiguous) لا نفع لها. إن المنهج الصحيح (العلمي) الذى ينطلق من التحليل الطبقي يحدد توجه الحركات القومية بين توجه رجعى، وتوجه يلتزم الجانب التقدمي للتاريخ ويضعها في خارطة التحرر الوطني. فالقومية لا يمكن فهمها الا بالنظر اليها على أنها ذات طابع تاريخي. ففي العصر الحالي، فإن القضايا المركزية للقوميات تتعلق بالتحرر الوطني الهادف لإزالة هيمنة الدول الإمبريالية على الدول الطرفية وتحويلها لوحدات ملحقة (peripherals). وهكذا، فان نضال حركات التحرر الوطني أصبح جزءاً لا يتجزأ من النضال العالمي لإسقاط نمط الإنتاج الرأسمالي العالمي الذى، كضرورة لبقائه، ينزع الى السيطرة على الدول الفقيرة لتحقيق مصالحه الاقتصادية والسياسية.
وهكذا فإن فكرة المزواجة بين مفاهيم مثل القومية والاثنية وبين الصراع الطبقي لا معنى لها من وجهة النظر الماركسية (ولا حتى في بعض التصورات الليبرالية) إذ أن فكر التحرر الوطني يقع بين نهجين مختلفين، فالماركسيون لا ينظرون لهذين المفهومين باعتبارهما مفصولين عن بعضهما البعض حتى تُطبق عليهما المزاوجة بشكل ميكانيكي، بينما تنادى البرجوازية، للحفاظ على مصالحها وإطراح الصراع الطبقي، بشعار الوحدة القومية وتصوير مصالحها كمصالح جميع الطبقات.
#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)
Mahmoud_Yassin#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟