معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
الحوار المتمدن-العدد: 8369 - 2025 / 6 / 10 - 13:06
المحور:
القضية الفلسطينية
■ من عاشوا مع مراد، منذ الأيام الأولى لإنخراطه في عالم السياسة، ولإنخراطه في النضال، تحت راية الجبهة الديمقراطية، وحتى اللحظات الأخيرة من حياته شهيداً في ميدان المعركة، تحفل ذاكرتهم بالعديد من الوقائع والمشاهد، تعكس حالة التطور التي عاشها مراد، وسرعة النضوج، والقدرة على تولي المسؤوليات.
من أولى الذكريات كيف نجحنا في إفتتاح مكتب للجبهة الديمقراطية في مخيم عين الحلوة، رغم التوتر السياسي الذي رافق ولادتها.
كان في المخيم «براكس» من مخلفات الجيش الإنكليزي، يملكه صديق من أبناء صيدا، أغلقه لعدم القدرة على إستثماره، توجه إليه مراد مع بعض الرفاق، زائراً في منزله، طالباً منه الإذن بتحويل الـ«براكس» إلى مكتب للجبهة مجاناً، لعدم القدرة على دفع أي إيجار، أعجب صاحب الـ«براكس» وإسمه أبو طاللب، بالإقتراح، وأثنى على ضيوفه شباباً وطنيين، خاصة وأن منهم رفاقاً لبنانيين.
فتحت ورشة تهيئة المقر الجديد للجبهة الديمقراطية، تنظيفاً وترميماً، بجهد الرفاق ومن كان منهم موظفاً أسهم في شراء المواد، إستكمالاً للروح التطوعية، تم تخصيص إحدى زوايا الـ«البركس» لتكون غرفة الإجتماعات الحزبية، أما القسم الأكبر من الـ«براكس»، فقد صار قاعة للندوات السياسية، وهو ما إستلزم تأمين الكراسي، لم نتردد، وتجولنا في سوق النجارين حيث تصنع الكراسي، ونجحنا في جمع أكثر من 50 كرسياً، عززه بعض الرفاق بإحضار طاولة وشراشف وحاجات المطبخ من أدوات صنع الشاي والقهوة، وتحضير الطعام للرفاق المناوبين، حيث إعتمد نظام المناوبة والحراسة الدائمة، وهكذا تم في الأيام الأولى للإنطلاقة، تجهز مقر بكل حاجاته مجاناً، وبالإعتماد على أعضاء الجبهة، كان هذا من تقاليد العمل في السنوات الأولى للإنطلاقة■
تأمين السلاح
■ شكل وجود الجبهة الديمقراطية في مخيم عين الحلوة حدثاً مهماً، وإضافة نوعية في عداد الفصائل آنذاك، إمتاز معظم أعضاء الجبهة بأنهم من الشباب المتعلم (المثقف)، لكن الثقافة وحدها لا توفر الحماية الأمنية للمقر الجديد، خاصة وأن الأجواء التي سادت الأيام الأولى لولادة الجبهة، فرضت علينا الحذر الدائم.
المقر القيادي في بيروت لم يستطع أن يوفر لمكتب عين الحلوة السلاح المطلوب، كما أن حركة فتح إمتنعت عن مد المكتب بأي سلاح، قام مراد ومعه بعض الرفاق بزيارة مكتب الصاعقة، وبعد نقاش إستمر لساعتين، نجحنا في إستعارة 6 بنادق تشيكية، نصف آلية، عملنا على تزييتها، وتأمين ذخائر إضافية لها، من بعض الأصدقاء، وبذلك نظمت الحراسات الليلية والنهارية للمكتب الجديد، حيث رفعت راية فلسطين وراية الجبهة بنجمتها الحمراء، وسنبلة القمح وغضن الزيتون، إلى أن توفرت للجبهة دفعة من السلاح، بنادق صينية، أطلق عليها اسم «ماو» من النوع القديم، تستعمل بالتلقيم اليدوي عند إطلاقها ■
الدوريات المسلحة على غرار الفيتكونغ
■ كانت الطلائع الأولى في الجبهة الديمقراطية، شديدة الإعجاب بتجربة تشي غيفارا، وتجارب الفيتكونغ، والجيش الأحمر في الصين قبل النصر، وحاولت مجموعات الجبهة الديمقراطية في عين الحلوة، نقل هذه التجربة إلى الثورة الفلسطينية، خاصة وأن الجبهة كانت بحاجة ماسة لشرح مواقفها الجديدة للرأي العام، وتقديم نفسها بإعتبارها صيغة وتجربة جديدتين لا تقدس السلاح، كما حاول البعض أن يختصر القضية بشعار «هويتي بندقيتي»، فالبندقية دون فكر ووعي سياسي، قد تتحول إلى قاطعة طريق، عاجزة عن التمييز بين العدو والصديق، كانت الدوريات المسلحة ببنادق «ماو» الصينية، تجوب المخيم ليلاً، تطرق أبواب المقاهي، حيث تعقد الندوات العفوية دون دعوات مسبقة، أثارت إهتمامات صف واسع من المعلمين والفئات المتلهفة للمعرفة، كما طرقت الدوريات أبواب الأحياء، عبر رجالها الكبار الذين يجمعون حولهم أبناء العائلة، ويمكن التأكيد هنا أن آراء الجبهة الديمقراطية كانت مثار نقاش جاد وساخن في كل مكان، خاصة في الدعوة إلى ضرورات المراجعة للفكر القومي، وتجربة عبد الناصر شخصياً والذي كانت تلتف حوله شرائح واسعة وواسعة جداً من أبناء المخيمات، لا شك أن بعض دورياتنا السياسية ذهبت في نقد تجربة عبد الناصر، والأنظمة العربية المهزومة في حرب حزيران، أبعد مما يجب، كما ذهبت أبعد مما يجب في تحليلها الطبقي للثورة وغير ذلك، ثم جرى تصويب كل تلك الأفكار بعد مراجعة نقدية جدية■
يوم تولينا «أخطر» المواقع في المخيم
■ ثمة واقعة عاشتها الجبهة الديمقراطية في مخيم عين الحلوة، بقيادة الشهيد مراد، إذ تقرر في اللجنة الشعبية العسكرية للفصائل الفلسطينية في المخيم، والتي كانت تعقد إجتماعاتها في مقر «الكفاح المسلح» أن تتوزع الفصائل على مواقع عسكرية، تحسباً لخطر الإنزالات الإسرائيلية وتسللها إلى المخيم، جاء ذلك بعدما تكررت الأعمال العدوانية الإسرائيلية على المخيمات والقواعد الأمامية لفصائل المقاومة.
بعد اجتماع سريع عقدته قيادة الجبهة الديمقراطية في عين الحلوة، برئاسة الشهيد مراد، قررنا من موقع الإصرار على إبراز دور الجبهة وإستعدادها النضالي، أن نطلب تولي أكثر المواقع خطورة للدفاع عن المخيم، وعن مدخله الجنوبي، حيث الفراغ السكاني كان واسعاً، ما يوفر لأي متسلل أن يتسلل إلى المخيم دون رقيب، وأن يفعل فعله ويعود أدراجه.
غير أن تولي حماية المدخل الجنوبي للمخيم، أمر يتطلب إحتياجاته من السلاح، ونحن في أحسن الأحوال لم نملك سوى بضعة بنادق «ماو» الصينية وأخرى آلية تشيكية، بينما يملك الآخرون بنادق كلاشن، الذي يعد في ذلك الزمان السلاح الأكثر إثارة للإعجاب.
بزيارة خاطفة إلى بيروت، إلتقينا الشهيد أبو عدنان (عبد الكريم قيس حمد) أمين الإقليم آنذاك، وكنا على صلات شخصية معه، قبل ولادة الجبهة، وبعد ما ضغطنا عليه، ولأن عين الحلوة تحتل في وعي ومشاعر أبو عدنان موقعاً مميزاً، وصرف لنا رشاشاً إنكليزياً من نوع «برن» بطلقاته المميزة وقدرته على الرماية السريعة ولمسافات تكفي لإغلاق مدخل المخيم من فوق التلة التي إخترناها موقعاً للمكتب في الإجتماع القيادي لفصائل المقاومة في مقر الكفاح المسلح، طلبنا أن نتولى حماية المدخل الجنوبي للمخيم، طلبنا هذا، ما أثار إستغراب الجميع، ومما قاله ضابط الكفاح المسلح آنذاك (وما زلت أذكر إسمه «النقيب البحيصي») أنا أثق كثيراً بشباب الديمقراطية، بينما الموقع يحتاج سلاحاً نوعياً لا تكفي بنادق «ماو»، هنا وبطريقة مسرحية كشفنا ورقتنا الرابحة، وأبلغنا الحاضرين بوجود رشاش آلي دهش الكثيرون، واستسلم المعارضون الذين كانوا يرون في نمو الجبهة الديمقراطي خطراً عليهم.
ومنذ تلك الليلة، بات حراسة المدخل الجنوبي للمخيم واجباً مقدساً، حفرنا في إحدى التلال المشرفة على المدخل حفراً متتالية، وأحطنا الرشاش بأكياس الرمل، وكنا عند العودة فجراً إلى المقر نعمل فوراً على تنظيمه وتغطيته بالبطانيات، وحفظه في الغرفة المغلقة.
وكثيراً ما تمنينا ونحن في أهبة الحراسة، أن يدخل الإسرائيليون المنطقة، وحلمنا أن نرديهم قتلى ونصادر أسلحتهم، ونسلم جثثهم إلى الشهيد أبو عدنان أمين الإقليم ■
سهرات مع لينين وماركس على ضوء مصباح الكاز
■ لا بد من إعادة التأكيد على مدى إهتمامنا في الأيام الأولى على القراءة والتثقيف الداخلي، وكانت معظم جلساتنا نقاشات ساخنة، تتناول الأحداث خاصة الأردن ومصر، والمضمون الطبقي للثورة ودور الطبقة الكادحة، وتذبذب البرجوازية الصغيرة، وإستعدادها للإنحراف وعلى حساب مصالح الفقراء ومصالح العمال والفلاحين والمسحوقين.
وتطرقنا في السياق نفسه إلى «دور المثقف الثوري» في نقل الفكر الثوري إلى العمال والفلاحين، ونقل برنامجه الوطني لتؤيده الجماهير، والمقصود هنا الثورة المسلحة بإعتبارها الطريق السليم لتحرير الوطن.
دار ابن سينا، كانت تهبنا مئات الكتب مجاناً، لكنها تنحصر في أدبيات الثورة الصينية، ومؤلفات ماوتسي لونغ ومختاراته، وكتباً لستالين، وهي كانت محظورة في موسكو للأسباب المعروفة.
بالمقابل، لم يكن موزعو الكتب السوڤييتية والروسية يوزعون هذه المطبوعات مجاناً، وعلينا أن نشتريها من الجبهة الديمقراطية والتطوع هنا، هو الإلتزام الحديدي بالقرار، وليس الوقوف على الهامش. جمعنا ما أمكن تجميعه من المال، واشترينا مختارات لينين (ذات الغلاف الأخضر) وأكثر من نسخة من «البيان» الشيوعي، ونظمنا برامج الإستعارة والقراءة، وكنا نعقد سهرات طويلة تمتد حتى الفجر، متحلقين حول مائدة الطعام مستديرة، لا ترتفع عن الأرض سوى بضع بوصات، هي في الأساس لتحضير العجين في البيت، نضع في وسطها قنديل الكاز، ويبدأ النقاش بيننا، وقد إحتضن كل واحد بندقيته، وهي عادة لم تفارقنا إلا بعد وقت طويل.
كان يشاركنا في بعض الجلسات الدكتور عصام حداد حتى الفجر، تنتهي بإفطار باكر من الفول والحمص والبصل والمخللات، أحياناً كان يدعونا إلى المقر المركزي في بيروت، نواصل النقاش طوال الليل، ينتهي بإفطار دسم من لحم رأس الغنم وما يشبهها في المطاعم الشعبية المنتشرة في شارع التياترو الكبير في بيروت، أما كيف فهمنا لينين، والبيان الشيوعي، وباقي الكتب المهمة الأخرى، فهذا كان رهناً بتراكم الخبرة، وتطور الوعي، وإن أية مقارنة بين وعينا الآن لمبادئ الإشتراكية العلمية، ومفهوم الدولة ومفهوم الثورة، وتجربة كومونة باريس، والبيان الشيوعي بعد التوغل أكثر في قراءة تجارب حركات اليسار في أوروبا، وفي المنطقة العربية، لوجدنا أنفسنا وكأننا كنا في عالم آخر.
إلى مثواه الأخير
■ حين شيعناه إلى مثواه الأخير، كانت صيدا تخضع لحصار من الجهة الشرقية، حيث نصبت مدافع وراجمات 107 لا تتوقف عن إستهداف المدنيين بطريقة عشوائية، وعقاباً لها على ما ألحقته بقوات الغزو من إذلال.
ومع ذلك قررنا أن نشيع مراد إلى مثواه الأخير، بكل المراسم الضرورية حشدنا الحضور، وركبنا السيارات نرفع الأعلام الفلسطينية واللبنانية، وتطل بنادقنا من نوافذ السيارات ترافقنا المحمولات. جالت الجنازة في شوارع المدينة، وتوقفت في المكان الذي استشهد فيه تحت ظلال قلعة صيدا البرية، ثم إلى المقبرة، حيث حملنا نعشه وواريناه الثرى إلى جانب شقيقه الأصغر، الذي سبقه إلى الشهادة بأربعة أشهر، ودعناه بأعين تدمع بصمت في وداع رفيق وصديق وشريك صبى وشباب، عشنا معاً، جنباً إلى جنب، معاً وسنبقى معاً، نسجنا الكثير من الأحلام الثورية، وإذا كان لبعضنا أن يواصل العمل لتحقيق حلمه، فذلك إكراماً لصديق ما زالت أحلامه تحيا، تحقق بعضها، وما زال أمامنا الكثير لنقوم به ■
#معتصم_حمادة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟