أحمد غانم عبد الجليل
الحوار المتمدن-العدد: 8364 - 2025 / 6 / 5 - 16:00
المحور:
الادب والفن
أنظرُ من خلف الشُباك إلى الشارع الطويل المُمتد أمامي، كما لو كان يصر أن يخبرني أن دربي جِد طويل، وربما ما له من نهاية، بعد كل ما عانيتُ من انهيار داخل بلادي، ومن ثم تشبُثي وولدي بحلم السفر حتى تم قبول اللجوء، تجاوبًا مع حالته النفسية على الأكثر، إثر انفجار أودى بحياة والده أمام عينيه.
وضعُه لم يتحسَن، كما كنت آمل، بل ازداد اضطرابه بصورة غير مُتوَقعة، وفي النهاية اضطررتُ أن أودعه مصَحًا نفسيًا، بعد أن فشلتُ في السيطرة عليه، خاصةً مع وصوله مرحلة المُراهقة التي وهيت جسده ضَخامة عصية على الاحتواء، واصرار العودة إلى العراق يكاد لا يفارقه من أجل البحث عن والده الذي أجبرتُه على فراقه ومن ثم أوهمته أنه صارَ أشلاءً تحت الأنقاض.
ساعات الليل تمضي شديدة الوحشة، كما لو أني في مدينتي تحت وطأة القصف، فلا أجد ما أفعله غير الخروج إلى الشارع كي اضيع الوقت في السير حتى يهدُني الإجهاد وأنام دون أن أمتلك القدرة على التفكير بشيء، بينما يظل الموبايل مُستقرًا في كَفي، عسى أن تأتي اللحظة التي يكلمني فيها ولدي كي يخبرُني عما فعل في يومه، فقد نصحنَي الدكتور المسؤول ألا أتصل أنا وأترك القرار له، في انتظار أن تواتيه الرغبة من أجل أن يحدِثني دون أن يشعر بأي ضغط من قبَلي... وإلى آخره من تحليل أكاد لا أفهمُه مهما حاولت التركيز في طَلاسم الكلام، فما أن أدخل المصَح وأتشَبع بكآبة جدرانه، رغم نظافة طِلائها، حتى يتشتت ذهني بالكامل، وأهجس كما لو كنت قد انفصلت عن العالم. أكاد أهرع إلى ابني الحبيب فأتوَسل إليه أن يغالبُ شروده ويستمع إليَ جيدًا، علَه يدرك كم أحتاج أن يكون إلى جانبي، أن أفرح بعودته إلى صفوف الدراسة كي يعوِض ما فاته قدر المستطاع، أو حتى يكتفي بما تعلمَ ويُمارس أي شيء يريده بكامل حريته، المُهم أن يبقى أمام عينيّ دومًا.
أسيرُ وحدي، دون رغبة في العودة، وكأني مجرد امرأة تبحث عن اللهو وترجو الضياع في شوارع إحدى مدن الغرب التي تغري بالركض زهوًا بفرحة الحياة، وربما بالرقص بكل عنفوان يدبُ الحيوية في الجسد الشاب دومًا، حتى وإن أدرك الثمانين من العمر، إلا أن ابنة الشرق المُتعب باستمرار سرعان ما ينتابها الإنهاك، فأجلس على أقرب مَصطبة مني على جانبٍ من الطريق.
ذات المَصطبة التي جلستُ عليها وسَليم مرات عديدة، ولوقت لا ندرك سرعة مضيه ونحن نواصل الكلام دون توقف تقريبًا، كل منا حَكى أكثر مما توَقع أن يُفضفض به أمام شخص بالكاد يعرفه. لا أدري أن كانت تلك اللقاءات الطويلة سلسلة من الصُدف التي علينا تصديقها، أم أن كلًا منا قد قررَ تكرار لقائنا الأول في مطعم صديقتنا المشتركة، والتي سبقتنا إلى دروب الغربة بنحو عقد من الزمان.
في البداية لم أنتبه إلى عينيه اللتين ظلتا مُصَوبتين نحوي، كما لو أن ملامح وجهي تذَكره بأخرى لم أشغل بالي بمحاولة سؤاله من تكون، فقد انتفضتْ سريعًا وكأنه يحاول التحرُش بي.
انتبهَ بدَوره لِما شابَ نظراتي المُحدِقة به من انزعاج، فارتبك، ثم اقترب مني كي يخبرني أنه رآني أكثر من مرة في ذات الشارع الذي يقطنُ شقة في إحدى عماراته، على مَقربة من مسكني، ثم عرفتُ أن صديقتنا الثرثار أخبرَته الكثير عني، وبأكبر قدر من التفاصيل.
أنا أيضًا عرفتُ عنه أمورًا كثيرة، بدافع الفضول لا أكثر بالتأكيد؛ أنه شارك في غزو الكويت، ومن ثم حرب الخليج الثانية، ورغم تعرُضه للموت المُحقَق عدة مرات إلا أنه خرجَ اسمًا على مُسمى، كما يُقال، سَليمًا مُعافى.
أمام معرض بيع الأثاث المستعمل يطول بي وقت الصَمت، وأنا أتذكر ما بعتُ من مُقتنيات منزلي قبل السفر، مُترجيةً من الله أن تجلبُ أكبر قدر ممكن من المال كي يعينُني على تدبر مصاريف رحلة طويلة لا أدري أين سوف ينتهي بها المَطاف.
لم أرَه منذ عدة أيام، ولم أعرف أن وجوده يمكن أن يكون له مثل هذا الأثر في نفسي، تمامًا كما كانت تنتابني مشاعر الأنثى المضطربة كلما حاول زوجي الراحل أن يحتويني بذراعيه، عندها أردعه بحزم، رغم اقتراب مَوعد العرس.
بالتأكيد أحببتُه، وأحببته كثيرًا، لذا صرتُ أستسلم بسرعة لقراراته، المُتحكِمة أكثر الوقت، مهما أدركتُ أنها على خطأ يتوارى خلف عَجرفة الرجل المعهودة في بلادنا، فإذا بي أجدُ نفسي بمفردي تمامًا في بلاد الغربة، ومسؤولة عن ولد يعاني من اضطرابات نفسية تتفاقم حينًا بعد حين، وفي ذات الوقت أجد الحرية التي طالما حُرِمت منها مُطَعمة بأعباء توغل داخلي المزيد من مرارة الغربة.
ربما وجود سَليم في الأونة الأخيرة أحدثَ شيئًا من التغيير في رتابة الأيام المتعاقبة التي تمضي بلا غاية محددة، وإن اقتصر ذلك الوجود بعِدة جلسات في أوقات لا نتفق عليها، ما دُمنا نقطنُ في ذات الشارع. كل مرة ألمحُ في عينيه وَمض شوقٍ قديم لحبيبة فقدَها منذ سنوات والتقاها على حين غفلة من جديد، بعيدًا عن نوبات الانكسار التي تعتريني كل حين ووحشة حياتي شُبه المُنفصلة عن ولد ظلت ذاكرته تغور بين ركام تفجير تبددَ سريعًا في زحمة الأخبار وماعاد يثير اهتمام أحد ممَن يبحثون عن الجديد باستمرار، وكلما قررتُ ألا أوليه اهتمامًا مُبالغًا به، فهو في النهاية واحد من ضمن الكثيرين الذين ألتقيهم على قارعة ترحال يتجدد إثر كل حرب، أجده لا يفَوِت فرصة دون أن يخبرني، بصورةٍ أو بأخرى، عن مدى حاجته لقائي دون كل مَن يعرف من اللاجئين، أو ربما يكون هذا من ضمن هواجس المراهَقة التي عزمتْ أن تجتاحني كوسيلة للفرار من كل ما أعانيه ضمن غربة مُرَكبة لا أبصرُ لها نهاية، أم أني قد جننتُ ويجب عليَ الانضمام إلى ولدي في ذات المصَح الذي يسدلُ السِتار على أهم جانب مني منذ سنوات سرعان ما سوف تصير عمرًا جديدًا أبقى سَجينة أنفاسه المُحتجِبة عن كل ما ألفتُ قبل حدوث انفجار ظل يتشظى حطامه في ثنايا دنيا وطدتُ نفسي على العيش فيها بأكبر قدرٍ من السلام.
مرَ الوقت سريعًا دون أن أشعر به، لا بد لي من النهوض نحو الشقة الغارقة في الصمت، لألقي بجسدي المُثقل بلعناتِ شَتى فوق الفراش، أستنجدُ بالنوم أن يواتيني بسرعة، دون أحلام أغادرها على أمل أن أستطيع رؤية ولدي ولو لعدة دقائق، فأضمه إليّ، عسى أن يُنسيني دفء حُضنه كل هذيانٍ يعصفُ بي في ليالٍ أخشى ألا أدركُ لها نهاية.
أخذتني الدهشة لدى رؤية سليم على الجانب الآخر من الشارع، تتأبطُ ذراعه فتاة شديدة الإثارة، تبدو في العشرينات من عمرها، واضح أنها عشيقته، لا أعتقد أنها أكثر من ذلك، ولعلي أردت إقناع نفسي بهذا الظن كي لا أواجه حقيقة أني لم أكن بالنسبة له أكثر من امرأة يستأنس بالحديث معها كلما خالجه الحنين إلى بلاده البعيدة كي نتبادل بعض مواويل الاغتراب التي لا تنتهي، لكني أيضًا لم أحتمل أن أراه مع أخرى أيًا كانت طبيعة علاقته بها، وإن أمضت معه ليلة واحدة فقط، كما لو أني زوجته واكتشفت غدر خيانته فجأة، فانتفضتُ لكرامتي، وآلام كل المآسي التي اجتاحت حياتي مثل عصف ريح عاتية كادت تدفعني إلى عبور الشارع، دون مبالاة للسيارات المارقة في سرعة خاطفة، كي أتشاجر معه، وقد تقودني ثورة الغضب إلى ضربها على مرأى من المارة، وإن قامت بتقديم بلاغ للشرطة ضد لاجئة لم تستطع التكيف مع دنياها الجديدة ببقائها رهينة أفكار بلادها المبتلاة بإرث دمار الحروب.
لم أتزحزح عن مكاني خطوة واحدة، وكأن ساقيّ جمدتا لعدة دقائق حتى بدأ الموبايل بالرنين، أخرجته من جيب المعطف وحدَقتُ بالشاشة كي أقرأ اسم الدكتور المسؤول عن حالة ولدي، أجبتُ متلهفة لسؤاله عن سبب الاتصال، فأخبرني متأسفًا أن المريض قد حاول الانتحار.
ركضتُ ودقات قلبي المتسارعة تصرخ بما يشبه الأنين نحو الجانب الآخر من الشارع كي أوقف سيارة أجرة، دون أن أنتبه أني سوف أكون في مواجهته تمامًا، أمام مبنى العمارة التي يسكن إحدى شققها. ترك ذراع عشيقته الرشيقة ذات رشاقة قوامها وأقبلَ نحوي كي يسألني عن سبب اضطرابي ونظرات الذعر المتطايرة من عينيّ مثل شرر النار في غير اتجاه محدد، كما أخذ جسدي بالارتجاف، كأني أوشك على التهاوي من شدة الوهن.
دون أن أجد القدرة على الرد بكلمة أوقفَ سيارة أجرة وركبها معي. أخبرتُ السائق بعنوان المصح النفسي، فطلب بدَوره القيادة بسرعة، فيما ظلت الشابة الحسناء ترمقُنا بنظرات تشوبها الدهشة من تصرُفنا الغريب غرابة كل أحداث بلادنا في الجانب الآخر من العالم.
أثناء الطريق ظل ممسكًا يدي بحرارة ولهفة عاشق وجد مبتغاه، فيما كنت أجهش بالبكاء، وأنا أشعر بأني المسؤولة عن محاولة الانتحار لمجرد تفكيري بشخصٍ آخر غير ولدي المزداد شقاءً حمَله فوق كاهله من أرضٍ توهَب للنيران كل حين.
كما لو أنه استرق السمع لما خطرَ في ذهني، فأخذ يهمس لي أني أنقذته من حماقةٍ كان على وشك أن يقوم بها مع أول فتاة التقاها، فقط كي يحاول التخلص من اختناقٍ يكابده كل فترة، كما لو أن نيران الحرب تحوطه من كل جهة، وأنه كاد يتصل بي كي يراني، مثل طفل يرجو الأمان من والدته، ثم صمتَ في ارتباك كاد ينسيني حزني وما يتملكني من قنوط، قبل أن يستأنف كلامه: "سوف يكون بخير، سليمًا من ركام الماضي وآثار كل حرب"
لا أدري كيف حطت قبلاته فوق خدي بانسيابية من اعتاد مواساة حبيبته منذ عمر سبق رحيلي عن البلاد، دون أن أحاول إبعاد وجهي عنه، بينما صار ذراعه تحيط ظهري، والسيارة تسير على بعد أمتار من بوابة المصح في أطراف المدينة، عندما بدأ رنين الموبايل يقرع في قلبي وسائر أوصالي، وأنا أتخوف من الرد، أو حتى النظر في الشاشة الصغيرة، وكأني أحاول التواري عن فاجعةٍ تلقيني في وحشة الفقدان من جديد.
#أحمد_غانم_عبد_الجليل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟