|
رواية باولا... السيرة الذاتية المرَكَبة والبعد الإنساني ما بين الحقيقي والخيالي والعجائبي
أحمد غانم عبد الجليل
الحوار المتمدن-العدد: 7819 - 2023 / 12 / 8 - 18:34
المحور:
الادب والفن
فقدان الوعي قد يكون وسيلة لاسترسال الذاكرة من أجل البحث عن بصمات ذات دلالة ضمن عقود مضت كما حدث لدى كتابة رواية "باولا" للكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي، إذ جعلها رقاد ابنتها في غيبوبة لا تدري متى تفيق منها تروي لها أكثر المحطات بروزًا في حياتها، علَ ذلك يعمل على تنشيط خلايا الدماغ ويحفزها على معاودة عملها بصورة طبيعية. "لا أكاد أتعرف عليك، فجسدك تبدل وعقلك غارق في الظلام، ماذا أصاب ذهنك؟ حدثيني عن وحدتك وخوفك، عن الرؤى المشوهة، عن آلام عظامك الثقيلة كالحجارة، عن الظلال المتوعدة التي تنحني على سريرك، وعن الأصوات، والهمسات، والأضواء... لا مغزى لأي شيء بالنسبة إليك؛ أعرف أنك تسمعين لأنك ترتعشين لدى صدور صوت من أداة معدنية، ولكني لست إذا ما كنت تدركين. هل تريدين الموت؟ ربما بدات الموت. ما معنى أيامك الآن؟ لقد رجعت إلى موقع البراءة التامة، رجعت إلى ماء بطني، مثل السمكة التي كنتها قبل أن تولدي... استيقظي يا ابنتي، أرجوك أن تستيقظي" ص 42 تسترسل الذكريات بطريقة تقليدية، منذ أولى سنوات الوعي في مرحلة الطفولة، حتى تأتي سنة الإطاحة بحكم سيلفادور الليندي، قريب الكاتبة من جهة الأب، بما تمثِل من مفترق طرق في حياة الأسرة، والراوية بشكلٍ خاص، حياة متعددة المحاور ومتباينة المراحل، يتتبعها القارئ من خلال سرد أرادت له التسلل إلى دماغ الابنة، وبذات الإيقاع الهادئ والبعيد عن التكلف، متضمنًا الكثير من تفاصيل لم تشأ أن تغفل شيئًا منها، رغم التباعد الزمني والمكاني، وما فرضته من تداعيات انعكست بعد ذلك على سلسلة كتاباتها ما بين قصة ورواية، ابتداءً من اختفاء الوالد في ظروف غامضة، ثم زواج الأم من دبلوماسي، تنقلت الذاكرة من خلال وظيفته إلى بلاد الشرق، وبالتحديد لبنان عام 1958 وما شهدته من ذكريات عن الأجواء هناك، خاصةً لدى رسو الأسطول السادس الأمريكي عند سواحل بيروت، وما خلَفه من مخاوف واضطراب، متناولة جانب من الأحداث السياسية التي تظل دومًا تلقي بظلالها على كل شيء، بشكلٍ أو بآخر، لكنها في الرواية (حياة إيزابيل الليندي) تبقى محدودة، ولو نسبيًا، حتى وإن استعرضت بعض ما حدث لدى وصول سيلفادور الليندي إلى سدة الحكم، وما ساد البلاد من اضطراب إزاء الإجراءات الاشتراكية المتخَذة من قبَل سلطة جديدة لم تأتِ عبر انقلاب عسكري يفرض سطوته على الجميع، كما حدث في العديد من البلدان التي دخلت دوامة الانقلابات العسكرية. مارست الكاتبة في تلك الفترة العمل الصحفي، وكانت المسؤولة أحيانًا عن كتابة الأبراج بما يخطر لها كتابته، بالإضافة إلى إعداد وتقديم البرامج في التلفزيون، وعندما قامت بإجراء حوار صحفي مع بابلو نيرودا كتبت بمنتهى التلقائية أنها لم تكن مؤهلة لمثل ذلك اللقاء، تلك التلقائية ظلت ترافقها إزاء أسئلة الصحفيين والنقاد، وقد شابها الغموض بالنسبة لامرأة بسيطة لم تعتد على الأضواء الإعلامية بعد نشر روايتها الأولى وسطوع اسمها ككاتبة تشيلية مقيمة في فنزويلا.
فنزويلا محطة الكتابة الأولى
في شقة صغيرة هناك، وبعد نوم الابنيْن الصغيريْن كانت تتفرغ إيزابيل الليندي للكتابة بصورة يومية، في المطبخ حيث تجلس إلى طاولة تضع عليها آلة كاتبة قديمة، وكأن هناك من يطلب منها ذلك العمل دون تأخير، رغم أنها لم تكن تعلم أنها تكتب رواية متكاملة إلا بعد الانتهاء من الكتابة. حبكات مرَكَبة يطرحها السرد، خاصة عند الإتيان على مفارقات الكتابة ورسم الشخصيات وترتيب الأحداث التي بدت أول الأمر مرتبكة ومحيِرة، استلهمتها من وحي القصص والحكايات التي كانت ذات أثر كبير في تحديد مسار العائلة جيلاً بعد جيل، كما يعتقد الكثيرون، بما تتضمن من غرائبية ساعدتها أن تنتهج مسار (الواقعية السحرية) الذي سبقها إليه غابرييل غارسيا ماركيز وكتّاب آخرون، وتميز به أدب أمريكا اللاتينية عمومًا. جسدَت الرواية الأولى ما حدث في مرحلة سطوع نجم الاشتراكية وتهاويه بسرعة إثر الانقلاب العسكري المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، ليتم وأد أول تجربة ديمقراطية شهدتها البلاد، وعبر سبر الأحداث نجد أن شخصية شقيق الوالدة في الحقيقة قد انشطرت إلى شخصيتين متنابنتين إلى حد التناقض في رواية "بيت الأرواح" وكذلك كانت شخصية الأم حاضرة في الرواية، وشيئًا من ملامح شخصية الأب المختفي وما خلَفه اسمه في الأذهان من أقاويل هنا وهناك، وأيضًا بعض ملامح بابلو نيرودا، الشاعر المجنون الذي كان يستجلب مشاعر العطف والتعاطف من قبَل نساء الطبقة المخملية، مضفية الكثير من لمسات الخيال التي ينتقيها الكاتب ليمضي قدمًا ضمن نصه المكتوب، وهنا تقص على ابنتها الغائبة عن الوعي ما جاء في روايتها من أخطاء كثيرة على مختلف المستويات، وتقنيات الكتابة بشكلٍ عام، أيضًا بكل عفوية وصراحة، كما لو كان رقود ابنتها أرضخها للجلوس على كرسي اعتراف من نوعٍ خاص، قلّما تتسنى لنا فرصة الركون إلى ما يستدعي من جرأة على مواجهة مرايا انفسنا الخفية عن العيون، كما حكت عما لاقت من ردود أفعال الناشرين، منهم من كان يسخر من الرواية، وآخر يرد ردًا قاسيًا على ثرثرة لا تستحق عناء القراءة، والذي لا يرد، والذي يغلق سماعة الهاتف في وجهها. "الساعات تمضي وأنا أكتب بجوارك. وزوج إلفيرا يأتيني بالقهوة ويسألني لماذا أنهمك إلى هذا الحد في كتابة هذه الرسالة اللانهائية التي لا تستطيعين قراءتها، ستقرأئينها يوماً، أنا واثقة من ذلك، وستسخرين مني بذلك المكر الذي تستخدمينه عادة لتقويض ميولي العاطفية. أنظر إلى الوراء مجمل حياتي، وبشيء من الحظ سأجد مغزى للإنسان الذي أكونه. لقد مضيت طوال حياتي مجذفة بعكس التيار بجهد وحشي، وأنا الآن متعبة، أريد أن ألتف نصف دورة وأترك التيار يحملني برفق إلى البحر" ص 185 أخيرُأ تفاجأت بوكيلة أدبية وناشرة إسبانية تفتح أمامها بابًا ما توقعت مثله من قبل، وقد عاشت العديد من الخيبات، منها طلاقها من زوجها الأول، وما مرت به من مغامرات عاطفية، كانت لديها أشبه بالتشتت الذي ينتابها عند بداية الكتابة، كي تنتظم حياتها بعد ذلك من خلال زواج ثانٍ والاستقرار في أمريكا، إذ تستطيع التكيف مع إيقاع يومي جديد يمَكنها من التشبث بعالم السرد أكثر فأكثر. تستمر إيزابيل الليندي في اقتناص الذكريات كما لو كانت فراشات تحوم من حولها كي تجسد حياة كاملة عبر صفحات الرواية، ورغم أن دافع كتابتها كان جد حزين وباعث على القنوط، إلا أنها ومن خلال تلك المأساة عرفت كيف تنتصر للحياة/ الكتابة، ذلك ما أرادت أن تهديه إلى روح ابنتها بعد الموت، فالكتابة في أحيان كثيرة تكون مثل المناجاة شديدة الخصوصية بالنسبة للكاتب، مناجاة تتجدد كل حين، مع دفق الكلمات، ومع بدء وهج فكرة كل نص جديد، مما يهب سمة الخلود. "أنا الفراغ، وأنا كل ما هو موجود, إني في كل ورقة من أوراق الغابة، في كل قطرة طلِّ، في كل ذرة رماد يجرفها الماء، إنني باولا وإنني أنا نفسي أيضاً، أنا لا شيء وكل شيء في هذه الحياة وكل الحيوات الأخرى، أنا خالدة. وداعاً يا باولا المرأة، أهلاً يا باولا الروح" ص 374
#أحمد_غانم_عبد_الجليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دلالات السخرية في رواية -اعترافات كاتم صوت-
-
عيون مستورَدة
-
حبكة هوليودية
-
صوَر بوجهٍ آخر (باب الغرفة)
-
صورة بوجهٍ آخر (التلويح الأخير)
-
راقص الجبهات
-
رواية -لفائف كيسليف-... ما بين تعدد ووحدة الهوية
-
مسافات حلم
-
صور بوجه آخر (أولى سنوات العصف)
المزيد.....
-
شاهد: معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
-
السفير الإيراني في دمشق: ثقافة سيد نصرالله هي ثقافة الجهاد و
...
-
الجزائر.. قضية الفنانة جميلة وسلاح -المادة 87 مكرر-
-
بمشاركة قطرية.. افتتاح منتدى BRICS+ Fashion Summit الدولي لل
...
-
معرض الرياض للكتاب يناقش إشكالات المؤلفين وهمومهم
-
الرئيس الايراني: نأمل ان نشهد تعزيز العلاقات الثقافية والسيا
...
-
-الآداب المرتحلة- في الرباط بمشاركة 40 كاتبا من 16 دولة
-
جوامع الجزائر.. فن معماري وإرث ديني خالد
-
-قيامة ليّام تقترب-.. الصور الأولى من الفيلم السعودي -هوبال-
...
-
الدوحة.. إسدال الستار على ملتقى السرد الخليجي الخامس وتكريم
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|