|
مسافات حلم
أحمد غانم عبد الجليل
الحوار المتمدن-العدد: 7392 - 2022 / 10 / 5 - 18:23
المحور:
الادب والفن
مَسافات حلم قصة قصيرة
منذ صغري كنت أتمنى ركوب قطار، كلما توقفت سيارة والدي أمام السكة الحديدية حتى مروق آخر العربات ورفع الحاجز ببطء، فيما تترامى نظراتي نحو مساره المستقيم، أغبط الراكبين على سفرهم من مدينة لأخرى حتى يصل كل منهم إلى محطته في نشوة من قام بنزهة على مدى ساعات دون التحرك من مكانه، مستمتعًا بمختلف المناظر التي تعبرها النوافذ الصغيرة في لمح البصر، ولم أكن أعرف أنني سأمضي سنوات ما بين ذهاب وإياب إلى الجبهة في رحلات لا تفسح المجال لأي متعة إلا كنوع من الهروب مما تم فرضه على الجنود متقلبي الأمزجة بسرعة غريبة ومقلقة من أي شجار يبدأ بشراسة ثم سرعان ما ينتهي دون معرفة سبب شتائمه الزاعقة في أذنيّ كدوي القذائف في الخطوط الأمامية. في كل رحلة تمضي بي سريعًا نحو أطراف الحدود أتساءل إن كانت تلك الرحلة الأخيرة من رحلات الطفولة والصبا الحالمة، والمزدادة بعدًا عني إثر كل طريق سفر تطول مسافته مرة تلو الأخرى في خاطري، بلا أن تتخللها لمسة حب تشبه ولو بعض ما تتضمنه أفلامٍ كنت أحرص على مشاهدتها، فترتسم أمامي أطيافٌ تلهب جذوات الغرام في صدري، مستبقة سن المراهقة وزهو الشباب. أحلام كثيرة راودتني، مع نجمات السينما أحيانًا، لكنها لم تبدد شيئًا من رائحة الموت التي اعتدت استنشاقها ما أن أركب إحدى تلك العربات الجامحة في عدوٍ لم أكن أظن إنه سيتوقف أبدأ. انتهت الحرب، وحروب أخر، هشمت سنيني كفتات الخبز لمّا يدركه اليباس. بعد أن استنزفت من العمر عقودًا، خلفتني عند مفترق مسارات تربط بين أصقاعٍ عدة، تمرق قُطراتها من أمام مسكني المطل على سكك حديد تمتد على جانبٍ من ضاحية المدينة الصغيرة التي قذفني إليها اللجوء. منذ سنوات لم أغادرها، كما لو كنت هاربًا من جريمة أو تنفيذ حكم مؤبد لا يحق لي استئنافه، وأخشى أن يُكتشف أمري إن هجرت عالمي المغلق، رغم وجود العديد من المعارف، من جيران وأصحاب المحال القريبة وسائقي الباصات التي اعتدت ركوبها لأتنقل ما بين حلقة محدودة من الأماكن انحسرتْ داخلها أيامي المتوالية ضمن نمط لا يتغير أبدًا، بالإضافة إلى زملاء العمل الذي اعتدت تأديته مثل آلةٍ لا تعرف الكلل أو السآمة. ربما لأن عملي لا يستلزم أية فطنة، يكفي أن أتعلم كيفية تصفيف الأقمصة القطنية ووضعها داخل أكياس النايلون الخاصة بها، ومن ثم رصها داخل الصناديق الكرتونية، تُنقل بعد ذلك إلى أحواض سيارات النقل الكبيرة، وأحيانًا أشرف على ماكنة طباعة الرسوم والألوان الباقية على ذات التصميم من قبل أن تلمس يدي الزناد وتتلطخ بزتي العسكرية بالدماء، أو أي عمل آخر لا يستدعي أي مهارة في المصنع الصغير والبعيد عن صخب المدن الصناعية المعروفة. عمل بالكاد يسد كفاف العيش، لكنه يبقى أفضل من سواه هنا وهناك، المهم أنه لا يضطرني لمغادرة المدينة، فلا أتوجس الضياع إن تخطيت حدود الشوارع التي ألفت كل شجرة فيها، تذكرني أحيانًا بالأشجار وارفة الظلال التي كانت تحوط أطراف حديقة بيتنا النائي عني، حيث ولدتُ وكبرت، ثم تغربت لأبصر جدرانه تتناثر ما بين المدن الغريبة التي عبرتها، ومعها أحلام كثيرة لم أعد أتذكر أغلبها. انزويتُ داخل شرنقة أمنتُ عزلتها، لا عن أخبار بلدي وحروبه المتجددة حينًا بعد حين فحسب، إنما ما يحدث ولو على بعد ميل واحد أو أقل، حتى أنني صرت لا أرحِب بأية علاقة وثيقة تخضعني من جديد إلى رهبة القلق وتوتر الاضطراب، متوجسًا من تجرع دفقة أخرى من سم الفقدان. نظراتي ترصد حركة القطارات التي لا تقف سوى في محطاتها البعيدة عني، حركة مستمرة، أكاد أحفظ مواقيتها، في المساء خاصة، ما أن أدخل شقتي المكونة من غرفة واحدة مقَسَمة إلى مكانٍ للنوم ومطبخ وحمام بجدران من البناء الجاهز، كثيرًا ما أشعر أنني أقيم في استديو من استديوهات المسلسلات متغيِرة الديكور لدى كل مشهد، فتعاودني أطياف كنت أظن إنها تهاوت من رأسي هي الأخرى. قصة حب تجوب المدن التي يجتازها القطار سريعًا، بذات سرعة إيقاع نغماتنا المنداحة نحو البرية الخضراء التي تحوطنا من الجانبين، كما لو كنا نمضي في درب طويل يخترق البلاد، دون أن ندب خطوة واحدة داخل إحدى العربات المهتزة من تحت أقدامنا مثل سرير عروسين في ليلة الزفاف، أو مثل عاشقين هاربين من كل ما يمكن أن يفرقهما ويهدد بمحق أحلامهما المتجددة مع مغادرة القطار كل محطة لا يرغبان بالنزول فيها لئلا تحتجز صلابة الأرض تحليقهما الحر في سماء مترامية الأطراف، فيصيران مجرد شخصين ذائبين في الزحام، يسلب الواقع خصوصيتهما خطوةً فأخرى. كم من الأحلام ظلت كامنة داخلي، تستعيد عنفوانها حينًا بعد حين وأنا في مثل هذا العمر، ورغم كل من رافقت وعاشرت، آخرهن كانت زميلتي في العمل، أغريتها أول مرة بمتعة مشاهدة سير القطارات من شرفة شقتي التي يمكن أن تكفي وقوفنا معًا ونحن متحاضنين، فهي مثلي، تهوى القطارات، وتتمنى أن تركب أحدها ليجول بها كل القارة، لا البلاد فحسب، ولتكن مغامرة العمر التي لا تتمنى بعدها شيئًا. راحت تدخر لأجل ذلك المال منذ أن كانت في المرحلة الثانوية، إلا أنها كانت تُسرق كل مرة، من قبل والدها السكير، وشقيقها قبل أن يهجر البيت والمدينة إلى حيث لا تعرف ، وحبيب رافقها إلى فراشها بعد أن أمضيا ساعات من شبق الرقص المخمور تحت وهج أنوار سهرةٍ صاخبة، لم تدرِ أنها تحتفي بآخر جنون لياليهما... احتضنها بقوة، أخذت ألثم دمعها الهاطل فوق خديها دون أن أبالي إن كانت تقول الحقيقة أم تختلق تلك القصة لمجرد الثرثرة والمزيد من التشويق، كذبة من أكاذيب فراش جمع بين رجل وامرأة عبث السأم في حياة كلٍ منهما ما شاء وسرعان ما تتبدد في أفق النسيان، بمجرد استلامنا للنوم بعد إجهاد جسدين انتفضا على خمول محيطهما الضيق، وقد حققت هدفها من الإثارة مع شيء من التسلية المتلاعبة بمشاعر الطرف الآخر. تفاجأت بعد فترة برحيلها مع شاب في مثل عمرها، لا في مثل سنواتي الوامضة نحو الخمسين بسرعة قطار خاطفة لا ترضى أن تخفف من حدتها ولو قليلًا عند أي محطة، مع ذلك أظن إن أكثر ما ميَّزه لديها هو غناه الظاهر بجلاء في أناقة ثيابه الغالية وسيارته الرياضية الفارهة، قادها من مكان بعيد قاصدًا المعمل ليتفق على طلبية تخص فروع متاجر والده المنتشرة في عموم البلاد. لم تكن بيننا قصة الحب التي تجعلني أتجرع مر خيبتها بعد غدرها بي، مع ذلك شعرت بوخزة حادة في الصدر لدى رحيلها المباغت، كما كان ولوجها حياتي، إلا أنني أيضًا تخفغت من عبء ارتباط العاشقين الذي خفت أن أنقاد إليه تحت وطأة عنفوان أنوثتها المستميل رجل في عمري، يعيش وحيدًا دون غاية محددة يرتجيها من دنيا سلبت ذخائر أمنياته تيهًا إثر تيه. يومها وقفت طويلًا كالتمثال في الشرفة، يعدو أمامي قطار تلو الأخر، كل واحد يقلني إلى جبهة يتجدد في سوحها الحطام مع كل شهقة وليد، يشاكس أخيلة وحشية خلفتها شظايا قذيفة كادت تجعل موتي محققًا لولا أن القدر أراد أن يهبني إلى حياةٍ أمضي فيها بمسارات مستلَبة، حتى وجدت نفسي مناسبًا فقط لتغليف الثياب وتعبئتها في صناديق الشحن عبر طرقات لا أجرؤ على المضي فيها، فنفرتْ مني صديقتي التواقة للرحيل قبل نفوري منها، واختارت المغادرة في سيارة تسابق القطارات بسرعتها الفائقة، تمر من أمامي مثل أطيافي القديمة، دون أن تواتيني القدرة على اقتفاء أثرها وأنا أشعر بثقل تتمادى وطأته داخل جسدي يومًا تلو الآخر. لعلي أحظى بأحلامٍ أخرى يستطيع ذهني انتزاعها من صرامة الحروب والقتل المخبول بلا أي منطق قبل المضي الأخير في قطار يصل دومًا نحو وجهة واحدة دون رجوع. وربما أتمكن ذات يوم من نبذ مخاوفي وهواجسي واضطراباتي العصبية فأتحفز لركوب عربة قطار من جديد، دون أن أبالي أين سيتجه بي، عسى أن أعثر على مسارٍ لم أهتدِ إليه بعد.
~~~~~~~~~~~~ 2 ـ 8 ـ 2022 عمّان
كاتب عراقي
#أحمد_غانم_عبد_الجليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صور بوجه آخر (أولى سنوات العصف)
المزيد.....
-
بمشاركة قطرية.. افتتاح منتدى BRICS+ Fashion Summit الدولي لل
...
-
معرض الرياض للكتاب يناقش إشكالات المؤلفين وهمومهم
-
الرئيس الايراني: نأمل ان نشهد تعزيز العلاقات الثقافية والسيا
...
-
-الآداب المرتحلة- في الرباط بمشاركة 40 كاتبا من 16 دولة
-
جوامع الجزائر.. فن معماري وإرث ديني خالد
-
-قيامة ليّام تقترب-.. الصور الأولى من الفيلم السعودي -هوبال-
...
-
الدوحة.. إسدال الستار على ملتقى السرد الخليجي الخامس وتكريم
...
-
فنانون عرب يطلقون مبادرات لدعم اللبنانيين المتضررين من العدو
...
-
عمرو دياب يعلن اعتزال الغناء في الأفراح بعد أشهر من واقعة -ا
...
-
-جيل الصابرا-.. كيف تنبأ عالم مصري بمستقبل نتنياهو وإسرائيل
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|