أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد غانم عبد الجليل - إلى أقصى حد














المزيد.....

إلى أقصى حد


أحمد غانم عبد الجليل

الحوار المتمدن-العدد: 8033 - 2024 / 7 / 9 - 14:44
المحور: الادب والفن
    


أتلفتُ من حولي، لعلي أرى من أشعر بوجوده الخفي على مقربة مني، كأنه يهم بالانقضاض على لهاث أنفاسي التي أحاول التكتم عليها خشية أن تفشي سر خوفي، رغم كل ما تملكني من صلابة قبل سماع هشيم الزجاج.
المدينة بدت لي كما لو أني وصلتُها للتو، لا أعرف فيها مكانًا، لم أمشِ في شارع من شوارعها من قبل، ولم أتجول في أحيائها منذ سنوات، حتى صرت أحد مواطنيها.
مضى عمر على تتابع خطواتي الأولى هنا، خطوات تائهة لا تدري وجهتها بالتحديد، بعد أن نجوت من معتقلات بلادي بالفرار.
لم أدرِ أي تهمة تم توجيهها لي بالتحديد، إلا أنني لم أكن يومًا على صلة بالسياسة، لا من قريب ولا من بعيد، كل ما هنالك أني انجرفتُ وراء خوفي من الله، وانسقتُ نحو تعاليم الدين وكأنني أمام عصف تيار أردتُ أن أسَلمُ له نفسي بالكامل كي أتمكن من التحليق في فضاء جناته الأبدية وانعتق من كل ما عانيت وحُرمت منه في عمر بدأ وعيه على يتم أولى الحروب.
هربتُ ونجوتُ بحياتي، وحريتي، في الأرض الغريبة، وعشت كما يعيش الكثير من اللاجئين هنا وهناك في أرجاء البلاد التي تبيح كل شيء إلا ما يعَرضُ أمنها وسلامتها للخطر.
تقوقعتُ أكثر بين جموع المسلمين، أداوم على الفروض، وانكب على دروس الدين ما استطعت، لكن…
الغربة حفرت داخلي خوفًا جديدًا غير مترامِ الحدود، إلا أنه هذه المرة لم يكن خوفًا من عقاب الآخرة، إنما من الترحيل إلى بلاد الجحيم، ولم أكن قد حصلتُ على الجنسية بعد، فقد تمَ وضع اسمي ضمن قائمة (الإسلاميين) المشتبه بهم إثر حدوث تفجيرات ذات بصمة تنظيمية تحرص على إطالة اللحى وارتداء الجلابيب القصيرة.
لزمتُ أقصى درجات الحذر، وتراجعت خطوة إثر أخرى، ثم طلَقتُ زوجتي المنتقبة إثر إصرارها على الرحيل من أجل الجهاد ورفع الراية الخفاقة منذ قرون، بينما لم أنجح يومًا في رفع راية وجودي على أي أرض.
احترقتْ بلادي بنيرانٍ أخرى، ومن ثم شُرِعت الكثير من المنابر، كنتُ أتوق لارتقاء أحدها، إلا أن الزحام كان جد شديد، فتلاشت حماستي من هَول ما وصلني من أخبار موت ودمار، باِسم الدين الذي تغربتُ لأجله إلى آخر أصقاع الأرض، وشيئًا فشيئًا صرت أجد نفسي للإلحاد أقرب.
نزعتُ ثوب الدين عني بالكامل مع توالِ الانفجارات وتزايد عدد رجال الدين وزعيق شيوخ الزعامات.
كلام كثير، وجدل صار لديّ أشبه بالنهيق، أو بتأوهات أول عاهرة أعلنتُ تمردي في أحضانها، وكأنني أرمي عن كاهلي أعباء حمل ثقيل لا أدري لماذا أنهكتُ به نفسي من الأساس.
نبذتُ عني كل صلة تربطني بالدين، حتى استجمعتُ شجاعتي وجاهرت كل من عرفت من قبل بهويتي الجديدة، غير المنتمية إلى فكرٍ أو عقيدة، أو وطن.
الإلحاد صار موطني وهويتي التي لا أريد التخلي عنها أبدًا، وبقدر تطرفي القديم احتواني تطرف جديد انسقتُ إليه بهرولة من يخشى العودة إلى وحشة أسره مرةً أخرى.
أنهكتُ عقلي، وجسدي، في الحياة التي اخترتُ، ودخلت معارك شرسة مع كثير من المخدوعين بسحر الحكايات القديمة، مرددًا ما أحفظه من هنا وهناك، وما أقرأه في كتب ومواقع رحتُ أتباهى بمدى معرفتها وعمق إدراكها لكل ما غفلتُ وتغافلتُ عنه سابقًا، وكم سخرت من كل ما ألفت ووطدتُ عليه نفسي طوال عقود عمري المنصرمة حتى ظننته سبب وجودي في الدنيا.
صرت، دون قصدٍ مني، وِجهة العديد من سهام المتطرفين، وصل بهم هوَس (الببغاوات) درجة الجنون، كما كنت أفعل، بلا فهم ولا وعي، فأخذت تتوالى رسائل التهديد بإقامة الحَد، بعد أن تم إعلان هَدر دمي، وما عليّ إلا انتظار لحظة التنفيذ…
لم أركن إلى الخوف وأختبئ عن العيون، كما توقعوا بالتأكيد، إنما قهقهتُ عاليًا، كما لو أني أستعد لرقصة الموت صاخبة الإيقاع، أو أني أعدُ نفسي لمجابهة أخيرة مع الحياة التي تطوحتُ في دروبها طويلًا، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
رحتُ أسرف في الشراب والعهر وأنا أتباهى باِلحادي في كل مكان أكون فيه، كما أخذتُ انغمس في مراهنات تسببت لي بالكثير من الخسارة والدخول في شجار كان أشبه بمغامرات تلك الحروب التي خضتها في سوح المجادلات الدينية، متلفعًا بالجنون، كأني أردته أن يكون بمثابة درع تحدي ضد تهور مجنون من نوعٍ آخر يستولي على العقول من أجل جنة يحتكرها كبار رجال الدين ويوزعونها على أتباعهم مثل إقطاعية توارثوها جيلًا بعد جيل، مع بقاء سطوة الحكم في قبضات أيديهم (المباركة) كي لا تفلت الأمور عن نصابها، أما أنا فقد فلتُ من كل القيود، ولن أعود إليها ثانيةً.
في النهاية تحققَ ما كنتُ أنتظر وصدقَ الوعيد لمّا اخترقت رصاصة نافذةَ شقتي، ففررتُ من جدران صارت لدي مثل وحشة قبر نحو ساعات من التجوال، بدأتْ قرابة منتصف الليل واسترسل بي تسكُعها حتى الآن، وقت أذان الفجر.
من الغريب أني ما زلتُ أعرف مواعيد الصلاة، دون سماع مُنبه هاتف، ومن الغريب أيضًا أن كل هذا الخوف كامنٌ داخلي، وأنا لا أدري أي طرف يريد قتلي بالتحديد، إحدى جماعات إقامة الحَد، أم أحد الأشقياء الذين خضتُ معهم سباقات مقامرة ساقَني صخب حماقتها إلى أقصى حد، كانت بالنسبة لي بمثابة صراع من أجل البقاء، أثقلتْ كاهلي بالكثير من الديون، مهما اختبأتُ لن أستطيع التهرُب منها للأبد.
في الحالتين قد أموت وأُهمَل في أحد الأزقة المتوارية عن الأنظار، دون أن يتعرف على جثتي أحد، وبلا أن أعرف مَن أكون، وقد تاهت مني سُبل السلام.



#أحمد_غانم_عبد_الجليل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية باولا... السيرة الذاتية المرَكَبة والبعد الإنساني ما ب ...
- دلالات السخرية في رواية -اعترافات كاتم صوت-
- عيون مستورَدة
- حبكة هوليودية
- صوَر بوجهٍ آخر (باب الغرفة)
- صورة بوجهٍ آخر (التلويح الأخير)
- راقص الجبهات
- رواية -لفائف كيسليف-... ما بين تعدد ووحدة الهوية
- مسافات حلم
- صور بوجه آخر (أولى سنوات العصف)


المزيد.....




- المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي.. سيرة البحث عن إشراق الم ...
- ترامب: ضجيج بناء قاعة الرقص في البيت الأبيض -موسيقى تُطرب أذ ...
- لقطات نادرة بعدسة الأميرة البريطانية أليس... هل هذه أول صورة ...
- -أعتذر عن إزعاجكم-.. إبراهيم عيسى يثير قضية منع عرض فيلم -ال ...
- مخرجا فيلم -لا أرض أخرى- يتحدثان لـCNN عن واقع الحياة تحت ال ...
- قبل اللوفر… سرقات ضخمة طالت متاحف عالمية بالعقود الأخيرة
- إطلاق الإعلان الترويجي الأوّل لفيلم -أسد- من بطولة محمد رمضا ...
- محسن الوكيلي: -الرواية لعبة خطرة تعيد ترتيب الأشياء-
- من الأحلام إلى اللاوعي: كيف صوّرت السينما ما يدور داخل عقل ا ...
- موهبتان من الشتات تمثلان فلسطين بالفنون القتالية المختلطة في ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد غانم عبد الجليل - إلى أقصى حد