لؤي الخليفة
الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 21:16
المحور:
الادب والفن
:
حين تهمس الأزقة، فإنها لا تروي فقط ما مرّ بها، بل تبوح بما اختزنته جدرانها من آهات وذكريات ومواويل منسية.، تحكي عن الأرواح التي مشت على بلاط المدينة وخلّفت وراءها شذىً من زمن لم يعد، وزمن لا يريد أن يأتي.
كانت الأزقة كأنها أنفاسٌ تتردد في صدر المدينة. لا صخب فيها ولا سكون مطلق، بل همس يشبه بكاء طفلٍ اختبأ تحت ستارة الوقت. يمشي
، كريم، متلمسًا ما تبقى من روائح الخبز وقهقهات الجيران، باحثًا عن ظلّ جدته التي كانت تروي له الحكايا عند أول زقاق بني في المدينة..
في عمق السوق القديم، ثمة مقهى لا يعرفه إلا من كُتب له أن يضيع. جلس فيه كريم متأملاً الوجوه، فمرّت عليه أطيافٌ من زمن الطفولة، مقاعد خشبية تئن، وصوت فيروز يخرج من مذياع مغبر. هناك التقى بالحاج عمران، حارس الذاكرة، الذي همس له بجملة واحدة: "بعض الأزقة لا تُهتدى، بل تهتدي هي إلينا".
وجد كريم صندوقًا صغيرًا خلف جدار منهار. كان يحوي دفاتر قديمة خطّت بخط نسائي ناعم، رسائل لم تُرسل، وخواطر هجينة بين الشعر والنثر. من خلالها عرف حكاية نرجس، الفتاة التي أحبت ثم اختفت. وكلما قرأ أكثر، كلما شعر بأن الدفاتر تكتبه، لا هو من يكتبها.
تتبدّل المدينة في الليل. تطل الأرواح من شقوق الأرصفة، وتتناثر الهمسات من النوافذ المغلقة. كريم، وقد التبس عليه الحاضر بالماضي، صار يسمع أسماءً يعرفها ولا يعرفها، وأزقة تتفرع في عقله كأنها خريطة للضياع. لكن في الضياع شيء من الهداية، كما قال الحاج عمران.
في مساء خريفي، تُطفأ فوانيس الأزقة واحدًا تلو الآخر. المدينة تغفو، وكريم يمشي آخر مرة نحو الزقاق الأول، حيث بدأت الحكاية. هناك، يجد مرآة صغيرة معلّقة على جدار، يرى فيها نفسه طفلاً، وجدته تبتسم خلفه، وتقول: "كل الأزقة تؤدي إلى قلبك، إن تجرأتَ على الإصغاء".
همسات الأزقة ليست ماضٍ يُروى، بل ذاكرة مستترة تنبض فينا، تنتظر من ينصت، لا من يسأل. انه نداء المدينة لمن نسيها، ولمن ظنّ أن الذاكرة تَشيخ.
#لؤي_الخليفة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟