أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - البصرة: قصيدة الجنوب التي لا تنتهي














المزيد.....

البصرة: قصيدة الجنوب التي لا تنتهي


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 12:59
المحور: قضايا ثقافية
    


البصرة ليست بقعةً على الخارطة، بل نبوءةٌ تشكّلت من ماء وملح وكتاب. هي الحبر حين يشتد عطشه، والموج حين يحلم أن يكون صوتًا. إن ذكرتَها، سال في قلبك نخلٌ ونسيمٌ ومرارة عتيقة، كأنها من المدن التي لا تُكتب، بل تُتلى، كما تُتلى المزامير على قارعة الدهر، وكأنها وُجدت لتكون جسرًا بين السماء والأرض، بين الشرق القديم والروح العربية التي تتعطش دومًا للمعنى.وُلدت البصرة لا كما تُولد المدن. لم تنبثق من حجر ولا من طينٍ خام، بل من رؤيا عسكرية قادها عتبة بن غزوان، لكنها لم تكتفِ بأن تكون ثغرًا دفاعيًا، بل تحوّلت سريعًا إلى منارة للعقل، وواحة تُنبت الفكرة كما تُنبت الأرض حنطتها. كانت الأرض مهيّأة للدهشة، فصار الاسم ذاته نغمةً بيضاء في الحنجرة العربية، يُرجَّح أنها تعني "الأرض الصلبة البيضاء"، ويُروى أنها كانت "الخريبة"، مدينة خرِبة نفضت عنها الغبار ونهضت من ركام النسيان، كما ينهض المعنى من الحرف الأول في القصيدة.
منذ فجرها الأول، أدركت البصرة أن للمجد أبوابًا تُفتح بالعقل، لا بالسيوف. حين كان الناس ينسجون خيامهم على حواف الغزوات، كانت البصرة تفتح ذراعيها للغة، تؤسس مأوى للقول المستقيم، ومحرابًا يُصلى فيه للكلمة الطاهرة. هناك، في ظل النخل ووهج الشمس، جلس سيبويه يخطّ للغة قوانينها، ويؤثث لعلم النحو أبجديته الخالدة. وعلى مرمى بصر منه، كان الخليل بن أحمد يُنقّب عن أوزان الشعر كما يُنقّب العاشق عن تنهيدة في صدر القصيدة، ويجمع صوت العرب في معجمٍ ما زال يُفتح كأنه مصحفُ البيان، ديوان العرب الذي لا يشيخ.
وفي زوايا المجالس، وتحت سقوف تتدلى منها قناديل المعرفة، سكن الأصمعي ذاكرة العرب، وجعل من ألسنتهم مادة خالدة. كان يسير في البوادي، يلتقط الألفاظ كما تلتقط الطيور حبّاتها، ويدوّنها كما تُدوّن الأسرار في دفاتر العارفين. كانت البصرة إذ ذاك كلّها: مدرسة مفتوحة على السماء، ومسجدًا للبلاغة، وورشةً للخلق اللغوي. فيها كان للكلمة طعم التمر، ووزن الرمل، ورائحة الشطّ.ومن قلبها خرج الشعراء الذين لا يُشبهون أحدًا. بشار بن برد، ذلك الأعمى الذي أبصر الشعر كما لم يبصره المبصرون، جعل من لغته قنابل ضاحكة، تسخر وتبكي، تُهيّج وتُطفئ، وكأنما وُلد من رحم النار والماء معًا. ومن بين الضحك والحنين، خرج الجاحظ، ابن البصرة ومجنونها الجميل، يقضم التفاحة بفكرٍ ساخر، ويكتب عن البخلاء كما يكتب الفلاسفة عن الحياة، ويحوّل الورقة إلى مرآة يرى فيها الإنسان نفسه كما هو: هشًا، طامحًا، ساخرًا، وحيًّا.
ولم تكن البصرة بيتًا للأدب وحده، بل كانت جامعةً للفقهاء والمحدثين، موئلًا للسختياني، ومنارةً تُشعل للباحثين عن حديث النبي كما تُشعل القناديل في ليالي المساجد. كانت مكتباتها أشبه بمراصد فكرية، تتجاور فيها الكتب كما تتجاور النجوم في سماء الفجر، وكل مجلدٍ فيها كان نجمًا يُهتدى به في ظلام السؤال.
هنالك، حيث يمرّ شط العرب كشريان أزليّ، كانت جيكور تنام على خاصرته، تنبت في حلمها قصيدة، وفي جذرها شاعرٌ اسمه بدر شاكر السيّاب. هناك نشأت التفعيلة من أنين الجنوب، ومن حنينٍ لميناء لا يعود، وحبيبةٍ لا تأتي، وشتاءٍ لا ينقضي. كانت البصرة للسيّاب الأم الثالثة، والحب الأول، والحنين المتجدد، وكانت قصائده قطرات مطرٍ تنزل على أرضٍ لا تنسى.
الفن كذلك لم يغفل عن البصرة، فقد انسكب بين نخلها وطرقاتها، في صوت العود، وفي تواشيح المقامات، وفي ملامح الرسامين الذين استلهموا ضوء الجنوب وظلّه معًا. أخرجت المدينة فنّانيها دون ضوضاء، كأنهم رسائل بحرية، ممهورة بعطر الملح والتمر، تحملها الأمواج إلى كل من يعرف أن الجمال قد يسكن الموانئ كما يسكن المعابد.والعابر في البصرة لا يرى إلا مدينة تعانق نفسها. في جسورها، في معمارها، في أسواقها العتيقة كالعشار، في بيوتٍ تعبق بخشب السنديان والرائحة الشرقية، وفي المقاهي التي لا تزال تحتفظ بنكهة الزمن العثماني والعباسي والحديث في آنٍ واحد. أما مساجدها، فتعانق السماء كما تعانق القصائد صدر المآذن، تحكي بصمتها ما لا تقوله الخطابات، وتهمس بأن الله يمرّ من هنا، من حيث عبر الأولياء والعارفون.البصرة، في جوهرها، ليست موقعًا جغرافيًا يُشار إليه في الأطلس، بل فكرة تمشي على الأرض، مدينة تسكن في الوجدان قبل أن تُسكن في الأرض. إنها حكايةٌ مفتوحة لا تنتهي، وجملةٌ بلا نقطة، في قصيدةٍ لا آخر لبحرها. هي مدينة إن غبت عنها، اشتقت إليها كما يُشتاق لأول بيت في القصيدة.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيرة -رجل من خيال الزمان... في دروب الحرف ومرافئ الروح-
- -أمل دنقل... نايُ الجنوب الذي عزف للكرامة على وتر الوجع-
- رحلة في جحيم -1984- حيث الحبر دم والحرية وهم.
- حين يتعطر الوجع بالورد
- -حين أكل الأمير لحم جسده.. أكل الملوك كرامتهم: صرخة في زمن ا ...


المزيد.....




- ظبي بأنف غريب.. ما حكاية السايغا الذي نجا بأعجوبة من الانقرا ...
- مصدر إسرائيلي يكشف لـCNN تطورات مفاوضات وقف إطلاق النار في غ ...
- حسام أبو صفية لمحاميته: هل ما زال أحد يذكرني؟
- -إكس- و-واتساب- في قلب جدل جديد: تحقيق يرصد حسابات يمنية ترو ...
- الوحدة الشعبية: استهداف سورية العربية حلقة لاستكمال مشروع ال ...
- مبادرة -صنع في ألمانيا-: أكثر من 60 شركة ألمانية تتعهد باستث ...
- لماذا لم تكشف بغداد عن هوية المتورطين بهجمات المسيرات؟
- بدء خروج العائلات المحتجزة من السويداء -حتى ضمان عودتها-
- عاجل| وسائل إعلام إسرائيلية: سلاح الجو يهاجم أهدافا للحوثيين ...
- شاهد.. مطاردة مثيرة وثقتها كاميرا من داخل دورية الشرطة تعبر ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - البصرة: قصيدة الجنوب التي لا تنتهي